روح القانون

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
الأستشارات القانونيه نقدمها مجانا لجمهور الزائرين في قسم الاستشارات ونرد عليها في الحال من نخبه محامين المنتدي .. او الأتصال بنا مباشره موبايل : 01001553651 _ 01144457144 _  01288112251

    الحكم بعدم الدستورية بين الأثر الكاشف والأثر المباشر

    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    الحكم بعدم الدستورية بين الأثر الكاشف والأثر المباشر Empty الحكم بعدم الدستورية بين الأثر الكاشف والأثر المباشر

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الأحد أكتوبر 06, 2013 2:30 am



    الحكم بعدم الدستورية بين الأثر الكاشف والأثر المباشر

    تمهيد وتقسيم :

    أثارت مشكلة أثر الحكم الصادرعن المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية نص غير جنائي خلافاً حاداً في الفقه ، فذهب اتجاه فقهي الى القول بالأثر المباشر أوالأثر المنشئ للحكم بعدم الدستورية وذهب اتجاه آخر الى القول بالأثر الرجعي أو الأثر الكاشف ، وتفرعت عن هذه المشكلة مشكلة أخرى هي مشكلة إعمال الأثر المترتب على صدور الحكم بعدم الدستورية في الطعون المدنية المنظورة أمام محكمة النقض ، فذهب بعض أحكام القضاء الى إعمال أثر ذلك الحكم على الطعون المنظورة أمام محكمة النقض ، بينما ذهبت أحكام أخرى الى عدم إعماله ، والحقيقة أن المشكلتين الرئيسية والفرعية نتجتا عن خلط في الفقه والقضاء بين معانٍ وأفكارٍ قانونية مختلفة ، فهناك خلط بين الحجية المطلقة والقوة الملزمة ، وخلط بين آثار الحكم الدستوري وآثار الحكم الموضوعي ، وخلط بين تاريخ العمل بالحكم بعدم الدستورية ونطاق سريانه ، وخلط بين مسائل التطبيق ومسائل التقدير,وخلط بين الدفع الدستورى كدفاع موضوعى والدفع الدستورى كدفع موضوعى . وهذا البحث هو محاولة منّا للفصل بين المعاني والأفكار القانونية المختلفة وحل التناقضات من أجل وضع النقط فوق الحروف .

    وقد رأينا أن نقسم هذا البحث الى ثلاثة مباحث ، نخصص المبحث الأول منها للمشكلة الفرعية ، وهي مشكلة إعمال الأثر المترتب على صدور الحكم بعدم الدستورية في الطعون المدنية المنظورة أمام محكمة النقض ، وكان الترتيب المنطقي أن نبدأ – أولاً – بالبحث في المشكلة الرئيسية وهي مشكلة أثر الحكم بعدم الدستورية ، ثم نتطرق بعد ذلك للمشكلة الفرعية ، ولكن لأن هذه المشكلة الفرعية ظلت قائمة كما هي بعد تعديل قانون المحكمة الدستورية العليا ، الأمر الذي يعطي دلالة كبيرة على أن المشكلة الرئيسية وهي الخاصة بأثر الحكم بعدم الدستورية ، لم تكن تكمن في غموض نصوص القانون قبل تعديله ، ولكن في أننا لم نبذل الجهد الكافي لفهم تلك النصوص قبل القيام بتعديل القانون ، كما أن حل هذه المشكلة الفرعية ربما يسهم في حل المشكلة الرئيسية .
    ثم نخصص المبحث الثاني للمشكلة الأساسية وهي أثر الحكم بعدم الدستورية ، لنجيب على التساؤل الذي يثير الخلاف دائماً : هل للحكم بعدم الدستورية أثر مباشر أو منشئ أم له أثر رجعي أو كاشف ؟
    ثم نخصص المبحث الثالث للحديث عن تعديل قانون المحكمة الدستورية العليا بالقرار بقانون رقم 168 لسنة 1998 وتعليقنا على حكم المحكمة الدستورية العليا الصادر بدستورية هذا القرار بقانون ورفض الدعوى الدستورية للطعن عليه بعدم الدستورية .

    المبحث الأول : إعمال الأثر المترتب على صدور الحكم بعدم الدستورية

    في الطعون المدنية المنظورة أمام محكمة النقض
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    من المشكلات القانونية التي أثارت خلافاً في القضاء مشكلة إعمال الأثر المترتب على صدور حكم بعدم دستورية نص لازم للفصل في الطعون المدنية المنظورة أمام محكمة النقض ، وذلك على التفصيل التالي :

    أولاً : الاتجاه القديم للمحكمة الدستورية العليا ومحكمة النقض

    ذهب هذا الاتجاه الى أن الأثر المترتب على صدور حكم بعدم دستورية نص لازم للفصل في الطعون المدنية المنظورة أمام محكمة النقض لا ينسحب الى المراكز القانونية التي استقرت بموجب حكم نهائي حائز لقوة الأمر المقضي أو بانقضاء مدة تقادم .

    1- قضاء المحكمة الدستورية العليا :
    استندت المحكمة الدستورية في هذه المسألة الى ما جاء بالمذكرة الإيضاحية لقانون المحكمة وقررت " أن القانون تناول أثر الحكم بعدم دستورية نص في قانون أو لائحة ، فنص على عدم جواز تطبيقه من اليوم التالي لنشر الحكم ، وهو نص ورد في بعض القوانين المقارنة ، واستقر الفقه والقضاء على أن مؤداه هو عدم تطبيق النص ليس في المستقبل فحسب ، وإنما بالنسبة الى الوقائع والعلاقات السابقة على صدور الحكم بعدم دستورية النص ، على أن يستثنى من هذا الأثر الرجعي الحقوق والمراكز التي تكون قد استقرت عند صدوره بحكم حاز قوة الأمر المقضي أو بانقضاء مدة تقادم " . (1)

    2- قضاء محكمة النقض :
    سار قضاء محكمة النقض على ذات نهج قضاء المحكمة الدستورية العليا ، حيث قضت بأن " .. ويترتب على الحكم بعدم دستورية نص في قانون أو لائحة عدم جواز تطبيقه من اليوم التالي لنشر الحكم ، إلا أن عدم تطبيق النص وعلى ما ورد بالمذكرة الإيضاحية لقانون المحكمة الدستورية العليا لا ينصرف الى المستقبل فحسب ، وإنما ينسحب على الوقائع والعلاقات السابقة على صدور الحكم بعدم دستورية النص ، على أن يستثنى من هذا الأثر الرجعي الحقوق والمراكز التي تكون قد استقرت عند صدوره بحكم حاز قوة الأمر المقضي أو بانقضاء مدة التقادم " . (2)



    الاتجاه الحديث لقضاء المحكمة الدستورية العليا وقضاء محكمة النقض

    1- قضاء المحكمة الدستورية العليا

    ذهبت المحكمة الدستورية في حكم حديث لها الى قصر الاستثناء من الأثر الرجعي للحكم بعدم الدستورية في حالة واحدة فقط وهي حالة الحقوق والمراكز التي استقرت بحكم قضائي بات ( وليس حكماً نهائياً ) ، وفي ذلك قررت المحكمة الدستورية أنه " وحيث أن قانون المحكمة الدستورية العليا – ضماناً لصون الحرية الشخصية التي كفلها الدستور واعتبرها من الحقوق الطبيعية التي لا يجوز الإخلال بها عدواناً – قد نص في المادة ( 49 ) منه ، على أنه إذا كان الحكم بعدم الدستورية متعلقاً بنص جنائي ، فإن أحكام الإدانة الصادرة استناداًً إليه ، تعتبر كأن لم تكن ، وهو ما يعني سقوطها بكل آثارها ، ولو صار الطعن فيها ممتنعاً لتفارقها قوة الأمر المقضي التي قارنتها . وتلك هي الرجعية الكاملة التي أثبتها قانون المحكمة الدستورية العليا لأحكامها الصادرة بإبطال النصوص العقابية ، وهي بعد رجعية لا قيد عليها ولا عاصم منها ، بل يكون أثرها جارفاً لكل عائق على خلافها ولو كان حكماً باتاً فإذا كان قضاؤها مبطلاً لنص غير جنائي ، فإن أثره الرجعي يظل جارياً ، ومنسحباً الى الأوضاع والعلائق التي اتصل بها مؤثراً فيها حتى ما كان منها سابقاً على نشره في الجريدة الرسمية ، ما لم تكن الحقوق والمراكز التي ترتبط بها قد استقر أمرها بناء على حكم قضائي توافر فيه شرطان ، أولهما : أن يكون باتاً وذلك باستنفاده لطرق الطعن جميعها ، وثانيهما : أن يكون صادراً قبل قضاء المحكمة الدستورية العليا ، ومحمولاً على النصوص القانونية عينها التي قضى ببطلانها " (3)

    حكم الدستورية العليا في القضية رقم 37 لسنة 9 ق " دستورية " بجلسة 19/5/1990 وفي نفس المعنى حكمها الصادر في القضية رقم 16 لسنة 3 ق " دستورية " بجلسة 5/6/1982 ، وحكمها الصادر في القضية رقم 48 لسنة 3 ق " دستورية " بجلسة 11/6/1983 .

    حكم النقض الصادر في القضية رقم 1348 لسنة 50 ق جلسة 29/4/1984 .

    حكم النقض الصادر في الطعن رقم 1980 لسنة 52 ق جلسة 31/1/1993 .

    حكم النقض في الطعن رقم 368 لسنة 58 ق جلسة 3/12/1993 .
    (3) حكم المحكمة الدستورية العليا بجلسة 30/11/1996 في القضية رقم (22) لسنة (18) ق " دستورية " .

    2- قضاء محكمة النقض

    بعد أن سارت المحكمة الدستورية العليا في هذا الاتجاه الجديد ، اتجهت محكمة النقض أيضاً الى اشتراط أن يكون الحكم القضائي المقيد للأثر الرجعي حكماً باتاً وليس نهائياً . وفي ذلك قررت محكمة النقض " وحيث أن من المقرر – في قضاء هذه المحكمة – أن لمحكمة النقض من تلقاء نفسها ، كما يجوز للخصوم والنيابة العامة ، إثارة الأسباب المتعلقة بالنظام العام ، ولو لم يسبق التمسك بها أمام محكمة الموضوع أو في صحيفة الطعن متى توافرت عناصر الفصل فيها من الوقائع والأوراق التي سبق عرضها على محكمة الموضوع ، ووردت هذه الأسباب على الجزء المطعون فيه من الحكم وليس على جزء آخر منه أو حكم سابق عليه لا يشمله الطعن ، وكان من المقرر أن مفاد نص المادة ( 29 ) من القانون رقم 48 لسنة 1979 بإصدار قانون المحكمة الدستورية العليا يدل على أن الشرعية الدستورية تقتضي أن تكون النصوص التشريعية الواجبة التطبيق على أي نزاع مطابقة لأحكام الدستور فلا يجوز لأية محكمة أو هيئة اختصها المشرع بالفصل في نزاع معين – أياً كان موقعها من الجهة القضائية التي تنتمي إليها – إعمال نص تشريعي لازم للفصل في النزاع المعروض عليها إذا بدا لها مصادمته للدستور ، ومن باب أولى ، إذا قضت المحكمة الدستورية العليا بعدم دستوريته ، فهذا القضاء واجب التطبيق على جميع المنازعات التي تخضع لتطبيق هذا النص القانوني ما دام الحكم بعدم دستوريته قد لحق الدعوى قبل أن يصدر فيها حكم بات ، وهذا الأمر يتعلق بالنظام العام ويتعين على محكمة النقض إعماله من تلقاء نفسها ، كما يجوز إثارته لأول مرة أمامها وذلك باعتبارها من المحاكم التي عنتها المادة ( 29 ) المشار إليها ولا يجوز التحدي في هذا الشأن بأن سلطة محكمة النقض قاصرة على مراقبة صحة تطبيق القانون ، إذ أن مطابقة النص القانوني للقواعد الدستورية هو أيضاً من مسائل القانون ، ويتعين أن تكون الشرعية الدستورية متكاملة حلقاتها ، وأن تكون لأحكام الدستور الصدارة على ما دونها في المرتبة ، إذ لا يسوغ القول بصحة تطبيق محكمة الموضوع لنص قانوني وهو مخالف للدستور سيما إذا كانت المحكمة الدستورية العليا قد قضت بعدم دستوريته والمقرر – وعلى ما جرى به قضاء المحكمة الدستورية العليا – أن مفاد نص المادة ( 49) من قانون هذه المحكمة ، أن الأحكام الصادرة في المسائل الدستورية لا تنحصر حجيتها في خصوم الدعوى الدستورية ، بل تمتد الى الدولة بكافة أفرعها وتنظيماتها ويتم إعمال أثرها على الناس كافة دون تمييز ، فلا يجوز تطبيق النصوص الدستورية المحكوم بعدم دستوريتها اعتباراً من اليوم التالي لنشر الأحكام الصادرة بشأنها في الجريدة الرسمية ، ولا يعني هذا أن لهذه الأحكام أثراً مباشراً لا تتعداه ، خاصة إذا كان قضاؤها مبطلاً لنص غير جنائي ، بل إن أثره الرجعي يظل جارياً ومنسحباً الى الأوضاع والعلائق التي اتصل بها ، مؤثراً فيها حتى ما كان منها سابقاً على نشره في الجريدة الرسمية ، بافتراض أن النص الباطل منعدم ابتداءً لا انتهاءً ، فلا يكون قابلاً للتطبيق أصلاً منذ أن نشأ معيباً ما لم تكن الحقوق والمراكز التي ترتبط بها قد استقر أمرها بناء على حكم قضائي توافر فيه شرطان : أولهما : أن يكون باتاً ، وذلك باستنفاده لطرق الطعن جميعها ، وثانيهما : أن يكون صادراً قبل قضاء المحكمة الدستورية العليا ومحمولاً على النصوص القانونية عينها التي قضى ببطلانها " . *

    * نقض مدني بجلسة 29/5/1997 ، الطعن رقم 2489 لسنة 56 ق .
    * نقض مدني بجلسة 4/4/1999 ، الطعن رقم 3141 لسنة 64 ق .
    * نقض مدني بجلسة 23/5/1999 ، الطعن رقم 3264 لسنة 64 ق .




    موقف الهيئة العامة للمواد المدنية والتجارية بمحكمة النقض

    أخذت الهيئة العامة للمواد المدنية والتجارية بالاتجاه الحديث للمحكمة الدستورية العليا وليس الاتجاه القديم ، فقررت " وحيث إن الدائرة المختصة رأت بجلستها المعقودة بتاريخ 10 / 12 / 1998 إحالة الطعن الى الهيئة العامة للمواد المدنية والتجارية عملاً بنص الفقرة الثانية من المادة الرابعة من قانون السلطة القضائية رقم 46 لسنة 1972 لتضارب الأحكام في شأن إعمال الأثر المترتب على صدور حكم من المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية نص لازم للفصل في الطعون المنظورة أمام محكمة النقض إذ ذهبت بعض الأحكام الى أن هذا الأثر لا ينسحب إلى الحقوق والمراكز القانونية التي ترتبت بموجب حكم نهائي سابق في صدوره على نشر الحكم بعدم الدستورية ، ولو أدرك هذا الحكم الأخير النزاع أمام محكمة النقض ، بينما ذهبت أحكام أخرى الى إعمال أثر ذلك الحكم على الطعون المنظورة أمام محكمة النقض .. وحيث أن النص في المادة ( 49 ) من قانون المحكمة الدستورية العليا الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979 ، المعدلة بقرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 168 لسنة 1998 على أنه : ( أحكام المحكمة في الدعاوى الدستورية وقراراتها بالتفسير ملزمة لجميع سلطات الدولة والكافة .. ويترتب على الحكم بعدم دستورية نص في قانون أو لائحة عدم جواز تطبيقه من اليوم التالي لنشر الحكم ، ما لم يحدد الحكم لذلك تاريخاً آخر ، على أن الحكم بعدم دستورية نص ضريبي لا يكون له في جميع الأحوال إلا أثر مباشر ) . يدل على أنه يترتب على صدور الحكم من المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية نص في قانون غير ضريبي أو لائحة ، عدم جواز تطبيقه اعتباراً من اليوم التالي لنشر هذا الحكم في الجريدة الرسمية ، وهذا الحكم ملزم لجميع سلطات الدولة وللكافة ، ويتعين على المحاكم باختلاف أنواعها ودرجاتها أن تمتنع عن تطبيقه على الوقائع والمراكز القانونية المطروحة عليها ، حتى ولو كانت سابقة على صدور هذا الحكم بعدم الدستورية باعتباره قضاءً كاشفاً عن عيب لحق النص منذ نشأته ، بما ينفي صلاحيته لترتيب أي أثر من تاريخ نفاذ النص ، ولازم ذلك أن الحكم بعدم دستورية نص في القانون من اليوم التالي لنشره لا يجوز تطبيقه ما دام قد أدرك الدعوى أثناء نظر الطعن أمام محكمة النقض ، وهو أمر متعلق بالنظام العام تعمله محكمة النقض من تلقاء نفسها لما كان ذلك ، وكانت بعض أحكام هذه المحكمة قد ذهبت الى عدم تطبيق الحكم بعدم دستورية نص لازم للفصل في النزاع ، إذا صدر بعد صدور الحكم المطعون فيه ، فإنه يتعين العدول عن هذا الرأي والأخذ بالرأي الأول ، وإعمال ذلك الحكم اعتباراً من اليوم التالي لنشره في الجريدة الرسمية على الطعون المنظورة أمام محكمة النقض ".(*)

    موقف الفقه من إعمال أثر الحكم بعدم دستورية نص على الطعون المدنية المنظورة أمام محكمة النقض

    لم يحدد الفقه موقفه بوضوح من هذه المسـألة ، ولا نكاد نرى أمامنا إلا رأياً واحداً واضحاً ومحدداً في هذه المسألة ، وقد ذهب هذا الرأي الى رفض الاتجاه الحديث للقضاء وتأييد الاتجاه القديم معللاً ذلك بالأسباب الآتية :
    أولاً : أن المحكمة الدستورية العليا ومحكمة النقض قد ركنتا الى المذكرة الإيضاحية لقانون المحكمة الدستورية في تحديد القيود التي ترد على الأثر الرجعي لحكم المحكمة الدستورية ، فالمذكرة الإيضاحية هي المرجع الأول والأخير في تحديد ما يستثنى من سريان الأثر الرجعي للحكم الصادر بعدم الدستورية لا سيما أن نصوص القانون قد خلت من ذلك ، وإذا كانت المذكرة الإيضاحية قد وصفت الحكم المقيد للأثر الرجعي بأنه الذي يحوز قوة الأمر المقضي ولم تقل الحكم ( البات ) فيجب الالتزام بذلك .

    (*) حكم الهيئة العامة للمواد المدنية والتجارية والأحوال الشخصية بمحكمة النقض بجلسة 18/5/1999 – الطعن رقم 777 لسنة 61 " هيئة عامة " .

    م

    ثانياً : أن الطعن بالنقض نظام لا يسري على جميع الأحكام ، بل هو طعن لم يجزه القانون في الأحكام الانتهائية الحائزة لقوة الأمر المقضي إلا لأسباب بينها بيان حصر في المادتين ( 248 ) و ( 249 ) من قانون المرافعات ، ومن ثم فإن سريان الأثر الرجعي على الحكم القضائي النهائي – المطعون عليه بالنقض – يؤدي فضلاً عن زعزعة الاستقرار الى إهدار مبدأ المساواة بين أصحاب المراكز القانونية المتماثلة ، إذ أن تطلب الحكم البات يجعل صاحب الشأن الذي طعن بالنقض على حكم نهائي صادر من محكمة استئنافية في مركز أسوأ من صاحب الشأن الذي صدر له حكم نهائي من محكمة ابتدائية بهيئة استئنافية ولم يطعن عليه لعدم قابلية الحكم الأخير للطعن بالنقض .

    ثالثاً : أن هذا الاتجاه الأخير قد يثير صعوبات عملية شديدة ومعقدة لأنه يؤدي الى إطالة أمد وجود المراكز القانونية في وضع غير مستقر حتى مع وجود الحكم القضائي الحائز لقوة الأمر المقضي الذي تنحسم به المراكز القانونية وتستقر (*).

    وما ذهب اليه هذا الرأي في – أولاً – مردود عليه : بأن المذكرة الإيضاحية استندت الى آراء الفقه وأحكام القضاء ومن ثم فلا مانع من الاجتهاد في تفسير النصوص على خلاف ما قررته المذكرة الإيضاحية .

    وما ذهب إليه في – ثانياً – مردود عليه : بأنه لو كان هناك تماثل في المراكز القانونية بين صاحب الشأن الذي طعن بالنقض على حكم نهائي صادر من محكمة استئنافية وصاحب الشأن الذي صدر له حكم نهائي من محكمة ابتدائية بهيئة استئنافية ، لكان قابلية الطعن بالنقض في الحالة الأولى ، وعدم تلك القابلية في الحالة الثانية يمثل – في حد ذاته – مخالفة دستورية للإخلال بمبدأ المساواة بصرف النظر عن أثر الحكم بعدم الدستورية على صاحب المركز القانوني في هذه الحالة أو تلك .

    وما ذهب إليه في – ثالثاً – مردود عليه : بأن القول إن الاتجاه الجديد للقضاء يؤدي الى إطالة أمد وجود المراكز القانونية في وضع غير مستقر ، إن كان يصدق على إعمال أثر الحكم بعدم الدستورية على الحكم القضائي النهائي الحائز لقوة الأمر المقضي فهو يصدق أيضاً بالنسبة لكافة أسباب الطعن بالنقض على الأحكام النهائية ، ومن ثم لا يصلح هذا السبب لرفض الاتجاه الحديث للقضاء .

    رأينا في الموضوع الحقيقة أن حل هذا الخلاف أبسط بكثير مما يتصور الفقه والقضاء ، ومن العجيب أن يجتهد الفقه والقضاء في هذا الخلاف بالبحث عن حلول قانونية خارج إطار النصوص ، مع أن المشرع ناطق بإرادة صريحة وحاضر بإرادة ضمنية .
    أولاً : بالنسبة للإرادة الصريحة

    تنص المادة ( 49 / 3 ) على أنه : ويترتب على الحكم بعدم دستورية نص في قانون أو لائحة عدم جواز تطبيقه من اليوم التالي لنشر الحكم ...
    وتنص المادة ( 49 / 4 ) على أنه : إذا كان الحكم بعدم الدستورية متعلقاً بنص جنائي ، تعتبر الأحكام التي صدرت بالإدانة استناداً الى ذلك النص كأن لم تكن .

    ومن ثم نحاول البحث عن حكم القانون في تلك المشكلة من خلال هذين النصين ، وذلك عن طريق البحث – أولاً – في حكم القانون بالنسبة للطعون الجنائية المنظورة أمام محكمة النقض .

    (*) مستشار .د . عبد العزيز محمد سالمان – مؤلفه : الآثار القانونية لأحكام المحكمة الدستورية والمشكلات العملية التي تثيرها ص 403 – 405 .

    1- حكم القانون بالنسبة للطعون الجنائية المنظورة أمام محكمة النقض

    ذهبت محكمة النقض الى تطبيق قاعدة القانون الأصلح للمتهم ، إذا صدر حكم بعدم دستورية نص جنائي متعلق بواقعة التجريم في الطعون الجنائية المنظورة أمامها . وسوف نستعرض بعض الأمثلة على ذلك .
    القضية الأولى : وفيها قررت محكمة النقض " أنه لما كانت المحكمة الدستورية العليا ، قد قضت بتاريخ الأول من فبراير لسنة 1997 في الدعوى رقم 59 لسنة 18 قضائية " دستورية " بعدم دستورية ما نصت عليه الفقرة الأولى من المادة 195 من قانون العقوبات وكذلك بسقوط الفقرة الثانية منها والتي كانت تتضمن معاقبة رئيس التحرير أو المحرر المسئول عن القسم الذي حصل فيه النشر ... لما كان ذلك فإن الفعل المسند الى الطاعن قد أضحى بمنأى عن التأثيم إذ أنه لم يكن فاعلاً أصلياً في الجريمة المدعى بارتكابها ، وإنما ادعى المطعون ضده ( المدعي بالحقوق المدنية ) مسئوليته الجنائية عنها باعتباره رئيساً لتحرير الجريدة ارتكاناً الى نص المادة 195 من قانون العقوبات ، وهو ما قضت المحكمة الدستورية بعدم دستوريته في الدعوى الدستورية سالفة البيان ، بما مفاده بطريق اللزوم أنه لا جريمة يمكن اسناد فعلها إليه بما يستوجب مسئوليته عنها ، لما كان ذلك وكان قضاء المحكمة الدستورية سالف الإشارة إليه واجب التطبيق على الطاعن باعتباره أصلح له ، ما دامت الدعوى الجنائية المرفوعة عليه لم يفصل فيها بحكم بات عملاً بنص الفقرة الثانية من المادة الخامسة من قانون العقوبات ، ولما كانت الدعوى حسبما حصلها الحكم المطعون فيه لا يوجد فيها من دليل قبل الطاعن سوى مسئوليته المفترضة ، فإنه يتعين نقض الحكم المطعون فيه والقضاء بإلغاء الحكم المستأنف وبراءة الطاعن عملاً بالفقرة الأولى من المادة 39 من قانون حالات وإجراءات الطعن أمام محكمة النقض الصادر بالقانون رقم 57 لسنة 1959 – لما كان ذلك ، وكان الفعل المسند الى الطاعن قد انحسر عنه التأثيم فإن لازم ذلك أن تكون المحكمة الجنائية غير مختصة بالفصل في الدعوى المدنية ، وهو ما تقضي به هذه المحكمة (1)

    القضية الثانية : وفيها قررت محكمة النقض " لما كانت الدعوى الجنائية قد أقيمت على الطاعن بوصف أنه عرض للبيع شيئاً من أغذية الإنسان ( لحوماً ) مغشوشاً مع علمه بذلك ، وكان نص الفقرة الثانية من البند الأول من المادة الثانية من القانون 48 لسنة 1941 بقمع الغش المنطبقة على واقعة الدعوى يفترض قرينة تحكمية هي واقعة علم المتهم بغش الأغذية التي يعرضها للبيع أو يبيعها إذا كان من المشتغلين بالتجارة ، ونقل عبء نفيها الى المتهم خروجا على الأصل العام من افتراض براءته الى أن تقيم النيابة العامة الدليل على إدانته في محاكمة علنية توفر له فيها الضمانات الضرورية لدفاعه وكان البين من مدونات الحكم المطعون فيه أنه أقام قضاءه على مجرد قيام القرينة التحكمية الواردة في النص القانوني سالف البيان لكون الطاعن من المشتغلين بالتجارة وكان قد صدر حكم المحكمة الدستورية العليا بتاريخ 20 من مايو سنة 1995 في القضية رقم 31 لستة 16 ق " دستورية " الذي قضى بعدم دستورية البند الأول من المادة الثانية من القانون رقم 48 لسنة 1941 المشار إليه . وكان قضاء المحكمة الدستورية سالف الذكر واجب التطبيق على وقائع الدعوى عملاً بنص المادة 49 من القانون 48 لسنة 1979 من اليوم التالي لنشر الحكم ، كما أن هذا القضاء الدستوري يعتبر في حكم القانون الأصلح للمتهم ما دامت الدعوى الجنائية لم يفصل فيها بحكم بات عملاً بنص الفقرة الثانية من المادة الخامسة من قانون العقوبات ، وكان الحكم المطعون فيه على النحو المار ذكره قد أقام إدانته للطاعن على مجرد القرينة سالفة الإشارة ، دون أن يستظهر القصد الجنائي في حقه وأدلة الثبوت على ذلك . فإنه يتعين نقض الحكم المطعون فيه والإعادة كيما تتاح محاكمته من جديد على هدي من قضاء المحكمة الدستورية سالف الذكر " (2) .

    نقض جنائي – الطعن رقم 10103 لسنة 60 ق بجلسة 19 من فبراير سنة 1998 .
    نقض جنائي – الطعن رقم 14536 لسنة 64 ق بجلسة 23 من مارس سنة 2000 .

    القضية الثالثة وفيها قررت محكمة النقض " أنه لما كانت الفقرة الثانية من المادة الخامسة من قانون العقوبات تقضي بأنه " إذا صدر بعد وقوع الفعل وقبل الحكم فيه نهائياً قانون أصلح للمتهم فهو الذي يتبع دون غيره . وإذ كان قضاء المحكمة الدستورية بعدم دستورية الفقرة الأخيرة من المادة (155) من قانون الزراعة رقم 53 لسة 1966 قد أعاد للقاضي سلطة وقف تنفيذ العقوبة المنصوص عليها في المادة ( 155 ) من قانون الزراعة المذكور طبقاً للقواعد العامة المنصوص عليها في المادتين 55 و56 من قانون العقوبات ومن ثم فإنه يكون في حكم القانون الأصلح في تطبيق المادة الخامسة من قانون العقوبات إذ أنه ينشئ له وضعاً أصلح ، وذلك بأنه أصبح من حق القاضي أن يأمر بوقف تنفيذ العقوبة في الجريمة المسندة الى الطاعن . لما كان ذلك ، وكان لهذه المحكمة – محكمة النقض – طبقاً لنص الفقرة الثانية من المادة 35 من قانون حالات وإجراءات الطعن أمام محكمة النقض الصادر بالقانون رقم 57 لسنة 1959 أن تنقض الحكم لمصلحة المتهم من تلقاء نفسها ، إذا صدر بعد الحكم المطعون فيه قانون أصلح يسري على واقعة الدعوى ، فإنه يتعين نقض الحكم المطعون فيه ، ولما كان الأمر بوقف تنفيذ العقوبة هو كتقديرها من صميم عمل قاضي الموضوع إذ أن وقف تنفيذ العقوبة من العناصر التي تلحظها المحكمة عند تقدير العقوبة ، وهوما يوجب إعادة النظر أمام محكمة الموضوع في العقوبة التي يحكم بها ، مما يتعين معه أن يكون مع النقض الإعادة ، وذلك دون حاجة لبحث أوجه الطعن المقدمة من الطاعن " (1) .

    وقد أيد الفقه بصورة ضمنية قضاء محكمة النقض في تطبيق قاعدة القانون الأصلح للمتهم في حالة صدور حكم من المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية نص جنائي تم تطبيقه على وقائع النزاع المنظور أمام محكمة النقض . أى تطبيق المادة ( 5/2 ) عقوبات
    كما قرر الفقه أنه بالنسبة للحكم بالتعويض الذي استند الى حكم الإدانة فإنه يزول بأثر رجعي ويستوي في ذلك أن تكون المحكمة الجنائية هي التي قضت بالتعويض أو أن تكون المحكمة المدنية هي التي قضت به استناداً الى الحكم الجنائي وذلك تطبيقاً للمادة ( 451 ) إجراءات جنائية التي تنص على أنه " يترتب على إلغاء الحكم المطعون فيه سقوط الحكم بالتعويضات ووجوب رد ما نفذ به منها " . (2)
    رأي مخالف لقضاء محكمة النقض المدعوم برأي الفقه

    نحن من جانبنا نرى أن محكمة النقض أخطأت في تطبيق قاعدة القانون الأصلح للمتهم في هذه الحالة ، لأن الحكم بعدم الدستورية وإن كان يشبه القانون من حيث المضمون إلا أنه ليس قانوناً بمعنى الكلمة ، وبالتالي فإن ما قامت به محكمة النقض هو نوع من أنواع القياس ، بقياس حالة الحكم بعدم دستورية نص جنائي على حالة القانون الأصلح للمتهم والقياس كوسيلة من وسائل تفسير النصوص القانونية لا يجوز اللجوء إليه إلا في حالة غموض النص أو غياب الإرادة الصريحة والضمنية للمشرع معاً ، حتى ولو كان هذا التفسير لصالح المتهم ونص المادة ( 49/4 ) من قانون المحكمة الدستورية واضح وصريح وكذلك نص المادة ( 5 / 2 ) عقوبات ، ومن ثم فلا محل على الإطلاق لقياس حكم هذا على حكم ذاك أو العكس ، فالمشرع حاضر بإرادة صريحة في المادة ( 49/4 ) من قانون المحكمة الدستورية ، وهذه الإرادة تخالف إرادته الصريحة في حالة تطبيق قاعدة القانون الأصلح للمتهم . ( 5 /2 ) عقوبات .
    فالتطبيق الصحيح لقاعدة القانون الأصلح للمتهم على الطعون الجنائية المنظورة أمام محكمة النقض هو أن تنقض المحكمة الحكم لمصلحة المتهم من تلقاء نفسها إذا صدر بعد الحكم المطعون فيه قانون أصلح يسري على واقعة الدعوى طبقاً لنص الفقرة الثانية من المادة 35 من قانون حالات وإجراءات الطعن أمام محكمة النقض الصادر بالقانون رقم 57 لسنة 1959 .

    نقض جنائي – الطعن رقم 4441 لسنة 61 ق – بجلسة 28 من أكتوبر سنة 1998 .
    د. محمود نجيب حسني – مؤلفه : شرح قانون الإجراءات الجنائية 1988 – طبعة نادي القضاة ص 1333 .

    د. عبد العزيز محمد سالمان – مؤلفه : الآثار القانونية لأحكام المحكمة الدستورية العليا والمشكلات العملية التي تثيرها من ص 317 الى ص 324 .
    د. أحمد فتحي سرور – مؤلفه : الحماية الدستورية للحقوق والحريات – طبعة دار الشروق 1999 ص 333 .

    وهذا يعني أنه إذا قـُضى– بعد نقض الحكم – ببراءة المتهم ، فسوف يقضى في الدعوى المدنية التبعية المرفوعة على المتهم برفضها ، ويترتب على ذلك أيضاً رفض أية دعوى مدنية أخرى ناشئة عن الجريمة مرفوعة على المتهم أمام القضاء المدني ، لأن المشرع حين استعمل في المادة (35/2 ) من قانون حالات وإجراءات الطعن أمام محكمة النقض صياغة " نقض الحكم " أطلق لفظ " الحكم " على عمومه ولم يخصصه بأنه" حكم الإدانة" ، وبالتالي فإن الحكم ينقض بجميع آثاره ، أي ينقض في الشق الجنائي والمدني معاً ، أما المادة ( 49 /4 ) من قانون المحكمة الدستورية العليا المتعلقة بإعمال أثر الحكم بعدم دستورية نص جنائي ، فهي خطاب تشريعي موجه إلى قاضي النقض الجنائي – وحده دون غيره – من القضاة ، يلزمه بألا يتصل بموضوع خصومة النقض ، وأن يقضي باعتبار خصومة النقض منتهية لأنها أصبحت واردة على غير محل ( والمحل هنا هو حكم الإدانة ) ، أي الشق الجنائي فقط من الحكم ، وسواء كان سبب زوال هذا المحل متعلقاً بالركن المادي أم بالركن المعنوي للجريمة ، ومن ثم فإن أي حكم نهائي صادر في الدعوى المدنية التبعية أو أية دعوى مدنية أخرى ناشئة عن الجريمة يظل منتجاً لآثاره.

    ولا ينال من صحة ما تقدم – بل على العكس يدعمه ويؤكده – القول بأن قاضي الجنح المستأنفة هو أيضاً من بين المخاطبين بالمادة ( 49/4 ) ، لأن لفظة " الأحكام " الواردة بها جاء عاماً مطلقاً ، فيشمل أيضاً إلى جانب الأحكام النهائية أحكام محكمة أول درجة ، فمن المسلم أن محل خصومة النقض هو الحكم النهائي أما خصومة الجنح المستأنفة فمحلها هو موضوع قضية أول درجة ، أي أن قاضي الجنح المستأنفة مخاطب بالمادة ( 49/3 )، أما قاضي النقض الجنائي – فهو وحده – المخاطب بالمادة (49/4).
    -----------------------------------------------------------------------------------------------
    يلاحظ أن محكمة النقض جانبها الصواب في أحكامها الثلاثة المشار إليها آنفاً:
    ففي القضية الأولى أخطأت المحكمة حتى في تطبيق قاعدة القانون الأصلح للمتهم حين قضت بنقض الحكم المطعون فيه والقضاء بإلغاء الحكم المستأنف وببراءة الطاعن عملاً بالفقرة الأولى من المادة 39 من قانون حالات وإجراءات الطعن أمام محكمة النقض الصادر بالقانون رقم 57 لسنة 1959 ، والتطبيق الصحيح لقاعدة القانون الأصلح للمتهم – على فرض صحة تطبيقها في هذا الطعن – هو القضاء بالإعادة إلى محكمة الموضوع ، لا أن تقضي محكمة النقض ببراءة الطاعن لأن حكم المادة ( 39/1 ) من قانون حالات وإجراءات الطعن أمام محكمة النقض بعد ربطه بحكم المادة ( 30/1 ) من نفس القانون لا يؤدي إلى أن تقضي المحكمة – محكمة النقض – في الموضوع ( ببراءة المتهم ) ، لأن الحكم المطعون فيه ليس مبنياً على مخالفة القانون أو على خطأ في تطبيقه أو في تأويله، ومن المقرر أنه لا اجتهاد مع صريح النص .

    أما التطبيق الصحيح – عندنا – لنص المادة ( 49/4 ) من قانون المحكمة الدستورية في مثل هذه القضية ، هو أن تحكم المحكمة باعتبار خصومة النقض منتهية لأنها أصبحت واردة على غير محل ( والمحل هنا هو سند التجريم المتعلق بالركن المادي للجريمة ) ومن ثم يظل أي حكم نهائي صادر في الدعوى المدنية التبعية منتجاً لآثاره .

    وفي القضية الثانية : طبقت محكمة النقض قاعدة القانون الأصلح للمتهم ، فقضت بنقض الحكم والإعادة إلى محكمة الموضوع لتبحث من جديد في ثبوت القصد الجنائي من عدمه لدى المتهم ( الركن المعنوي للجريمة ) ، أما التطبيق الصحيح للقانون في مثل هذه القضية – عندنا – هو أن تحكم المحكمة باعتبار خصومة النقض منتهية ، لأنها أصبحت واردة على غير محل ( والمحل هنا هو سند التجريم المتعلق بالركن المعنوي للجريمة ) ، ومن ثم يظل أي حكم نهائي صادر في الدعوى المدنية التبعية منتجاً لآثاره .

    وفي القضية الثالثة : طبقت محكمة النقض قاعدة القانون الأصلح للمتهم فقضت بنقض الحكم والإعادة إلى محكمة الموضوع لتبحث في وقف تنفيذ العقوبة من عدمه ، والصحيح – عندنا – هو ألا تنقض محكمة النقض الحكم لصدور حكم الدستورية العليا بعدم دستورية النص الذي يمنع القاضي من سلطة وقف تنفيذ العقوبة ، لأن هذا الحكم وإن كان في مضمونه تشريعاً إلا أنه ليس تشريعاً بمعنى الكلمة ، ومن ثم فهو ليس القانون الذي تقصده المادة الخامسة عقوبات ، كما أننا نرى أنه ينبغي على محكمة النقض – في مثل هذه القضية – ألا تطبق حكم المادة ( 49/4 ) من قانون المحكمة الدستورية العليا ، وذلك لعدم زوال سند التجريم لا في ركنه المادي ولا في ركنه المعنوي.
    حكم القانون بالنسبة للطعون المدنية المنظورة أمام محكمة النقض
    يتضح مما تقدم أن قاضي النقض الجنائي ليس من بين المخاطبين بالمادة ( 49 / 3 ) ، والقول بعكس ذلك يعني أن ثمة تناقضاً بين إرادة المشرع في المادة (49/3 ) وإرادته في المادة (49/4) ، الأمر الذي ينبغي تنزيه المشرع عن قصد التردي فيه .

    وإذا كان قاضي النقض الجنائي ليس من بين المخاطبين بالمادة (49/3) ، فمن البدهي أن قاضي النقض المدني هو أيضاً ليس من بين المخاطبين بالمادة ( 49/3 ) ، سواء كانت الطعون المنظورة أمامه متعلقة بحقوق مدنية ناشئة عن جريمة أم حقوق مدنية غير ناشئة عن جريمة ، والقول بغير ذلك ، إنما يعني أن المشرع يقيم تمييزاً غير مبرر بين فئتين تماثلت مراكزهما القانونية بالنسبة للحقوق المدنية .

    كما أن القول بأن قاضي النقض المدني هو من بين المخاطبين بالمادة ( 49/3 ) يؤدي إلى تمييز غير مبرر بين اثنين من ذوي الحقوق المدنية الناشئة عن جريمة واحدة ، سلك أحدهما الطريق المدني بينما آثر الآخر الطريق الجنائي ، والتمييز الأول و الثاني – أحدهما أو كلاهما – يوقع القاعدة التشريعية التي تقيم هذا التمييز في حومة المخالفة الدستورية لمبدأ المساواة .

    وفضلاً عما تقدم ، فإن المادة ( 49/3 ) من قانون المحكمة الدستورية تنص على: "ويترتب على الحكم بعدم دستورية نص في قانون أو لائحة عدم جواز تطبيقه ..."
    وتطبيق النص – لغة أو اصطلاحاً – إنما يعني إحداث التطابق بين عناصر المركز القانوني وعناصر المركز الواقعي ، ولا يتصور أن يقع ذلك إلا من خلال قضاء الإلزام الموضوعي ، وقضاء محكمة النقض سواء برفض النقض أو بنقض الحكم المطعون عليه ، لا يتصور إلا أن يكون قضاءً تقريرياً أو قضاءً منشئاً .

    وإذا استعرضنا بالفعل العديد من أحكام المحكمة الدستورية لوجدنا أن جميع هذه الأحكام تفرعت الدعوى الدستورية فيها من دعوى إلزام موضوعية ، باستثناء بعض الحالات النادرة التي كانت فيها الدعوى الموضوعية هي دعوى مستعجلة ، ونحن نري عدم جواز إثارة الدفع الدستوري أمام القضاء المستعجل.

    ثانياً : بالنسبة للإرادة الضمنية :

    المادة (29) من قانون المحكمة الدستورية العليا تتحدث عن الحق في الدعوى الدستورية
    right of action ، والمادة ( 49/3 ) تتحدث عن الحق الموضوعي محل الحماية
    objective right ، مما يقتضي منا البحث – أولاً – عن الحق في الدعوى الدستورية أمام محكمة النقض ، فربما ينتفي الحق في الدعوى الدستورية فينتفي من باب أولى الحق الموضوعي المراد اقتضاؤه من الدعوى الدستورية ، إذ كيف يسوغ القول أن تمنع محكمة النقض الخصوم الوسيلة للحصول على الحق الموضوعي كأثر لحجية نسبية للحكم الدستوري بين خصوم الدعوى ، وهي الأصل في حجية الأحكام ، ثم تمنحهم هذا الحق كأثر للحجية المطلقة والقوة الملزمة للحكم بعد الدستورية ، وهما استثناء من هذا الأصل ؟ !

    * تفصيل ذلك في بحثنا: الدعوى الدستورية بين القضاء المستعجل والمحكمة الدستورية العليا.

    فهل يجوز إثارة الدفع الدستوري أمام محكمة النقض ؟

    تضاربت أحكام محكمة النقض بالنسبة لمسألة جواز إثارة الدفع الدستوري أمامها .
    فذهبت محكمة النقض – كما رأينا في الأحكام المشار إليها آنفاً – إلى جواز إثارة الدفع الدستوري أمامها من الخصوم وسواء أكان الخصم قد سبق له التمسك بالدفع الدستوري أمام محكمة الموضوع أم لم يسبق له ذلك ، وللمحكمة أيضاً أن تعرض للمسألة الدستورية من تلقاء نفسها .
    بينما ذهبت محكمة النقض في أحكام أخرى لها إلى "أن الدفع بعدم دستورية القوانين غير متعلق بالنظام العام ومن ثم لا يجوز إثارته لأول مرة أمام محكمة النقض ، ولا يجوز للمحكمة أن تعرض للمسألة الدستورية من تلقاء نفسها".(1)

    أما قضاء المحكمة الدستورية العليا فقد اطرد على جواز إثارة الدفع الدستوري أمام محكمة النقض ، فقررت المحكمة الدستورية " أنه لا يجوز لأية محكمة أو هيئة اختصها الدستور أو المشرع بالفصل في خصومة قضائية – وأياً كان موقعها من الجهة أو الهيئة القضائية التي تنتمي إليها – أن تقف من النصوص القانونية التي يبدو لها – من وجهة نظر مبدئية – تعارضها مع الدستور موقفاً سلبياً ، بل عليها إما أن تحيل ما ترتئيه منها مخالفاً للدستور الى المحكمة الدستورية العليا التي اختصها الدستور دون غيرها بالفصل في المسائل الدستورية ، لا استثناء من هذه القاعدة ، بل يكون سريانها لازما في شأن المحاكم جميعها بما فيها محكمة النقض ، ذلك أن مراقبتها صحة تطبيق القانون على وقائع النزاع التي استخلصتها محكمة الموضوع ، يقتضيها أن تنزل عليها صحيح حكم القانون ، ويفترض ذلك ابتداءً اتفاق القاعدة القانونية الواجبة التطبيق مع الدستور مما يقتضي عرضها على المحكمة الدستورية العليا – عند الطعن على صحتها – باعتبار أن الفصل في هذه الصعوبة من مسائل القانون التي لا يخالطها واقع وهو ما جرى عليه قضاء محكمة النقض ذاتها". (2)

    وقررت المحكمة الدستورية أيضاً " أن الدفع بعدم الدستورية ليس من قبيل الدفوع الشكلية أو الإجرائية ، بل يتغيا في مضمونه ومرماه مقابلة النصوص التشريعية المطعون عليها بأحكام الدستور ترجيحاً لها على ما عداها وتوكيداً لصلتها الوثقى بالنظام العام ، وهي أجدر قواعده وأولاها بالإعمال ، بما مؤداه جواز إثارة هذا الدفع في أية حالة تكون عليها الدعوى وأمام أية محكمة أياً كان موقعها من التنظيم القضائي الذي يضمها". (3)
    رأينا الخاص في مدى جواز إثارة الدفع الدستوري أمام محكمة النقض

    نحن من جانبنا نرى أنه لا يجوز إثارة الدفع الدستوري أمام محكمة النقض ، وسواء أثاره الخصم لأول مرة أم سبق له التمسك به أمام محكمة الموضوع ، ولا يجوز للمحكمة أن تعرض للمسألة الدستورية من تلقاء نفسها ، وذلك للأسباب الآتية :
    أولاً : بالنسبة لحالة سبق التمسك بالدفع الدستوري من الخصوم أمام محكمة الموضوع
    إذا أثار خصم دفعاً دستورياً أمام محكمة الموضوع وقدرت عدم جديته ، فليس لهذا الخصم أن يطعن أمام محكمة النقض على حكم محكمة الموضوع استناداً الى ذلك ، للأسباب الآتية :
    1- أن محكمة النقض لا تراقب حكم محكمة الموضوع إلا من خلال أسبابه ، والمشرع لم يلزم محكمة الموضوع بتسبيب حكمها بعدم جدية الدفع الدستوري ، فضلاً عن أن هذا الحكم يتعلق بمسألة من مسائل التقدير assessment issues ولا يتعلق بمسألة من مسائل التطبيق enforcement issues ، وما ذهبت إليه محكمة النقض والمحكمة الدستورية العليا من القول بأن إثارة الدفع الدستوري في أية حالة تكون عليها الدعوى وأمام أية محكمة ، هو أمر تقتضيه الشرعية الدستورية ، مردود عليه : بأن احترام محكمة النقض للسلطة التقديرية لمحكمة الموضوع هو أمر متعلق بمبدأ الفصل بين الهيئات ، وهو فرع من مبدأ الفصل بين السلطات ، وهو أيضاًً أمر تقتضيه الشرعية الدستورية ولا سيما إذا وافقت تلك السلطة التقديرية قرينة الدستورية للنص التشريعي المطعون عليه ، أي إذا وافق حكم محكمة الموضوع إرادة المشرع .

    (1) نقض مدني – الطعن رقم 2034 لسنة 56 ق بجلسة 26 من مارس سنة 1989 .

    نقض مدني – الطعن رقم 2257 لسنة 56 ق بجلسة 24 من مايو سنة 1992 .
    (2) دستورية عليا بتاريخ 7 فبراير سنة 1998 – القضية رقم 137 لسنة 18 ق " دستورية " .
    (3) دستورية عليا بتاريخ 12 فبراير سنة 1994 – القضية رقم 23 لسنة 14 ق " دستورية " .
    وفضلاً عما تقدم ، فإن القول بمراقبة محكمة النقض لقضاء محكمة الموضوع بعدم جدية الدفع الدستوري أمر يأباه المنطق القانوني السليم ، إذ كيف يسوغ القول بمراقبة محكمة النقض لقضاء محكمة الموضوع في مسألة ليست هي صاحبة القول الفصل فيها ، لو أنها اتصلت بالدعوى كمحكمة موضوع، وسواء تعلقت هذه المسألة بالقانون أو بالواقع ؟ ! فمحكمة النقض ليست هي صاحبة القول الفصل في دستورية أو عدم دستورية النص المطعون عليه أمامها .

    2- أن القول بمراقبة محكمة النقض لقضاء محكمة الموضوع بعدم جدية الدفع الدستوري ، يؤدي إلى نتيجة في غاية الخطورة ، فلو افترضنا أن محكمة الموضوع قدرت عدم جدية الدفع الدستوري من المدعي الدستوري ، ولكن قدرت محكمة النقض جديته وصرحت للمدعي الدستوري برفع دعواه الدستورية ، ثم أصدرت المحكمة الدستورية العليا حكمها برفض الدعوى الدستورية ، أفلا يعني هذا أن محكمة الموضوع هي التي أصابت التقدير بينما محكمة النقض هي التي أخطأت التقدير؟ ألأمر الذي ينال من مكانتها أمام محاكم الموضوع !

    3- أن ما ذهبت إليه محكمة النقض – وأيدتها فيه المحكمة الدستورية العليا – من القول بأنه " لا يجوز التحدي في هذا الشأن بأن سلطة محكمة النقض قاصرة على مراقبة صحة تطبيق القوانين ، إذ أن مطابقة النص القانوني للقواعد الدستورية هو أيضاً من مسائل القانون " ، مردود عليه : بأنه من مسائل القانون التي تختص بها المحكمة الدستورية العليا دون غيرها ، والحقيقة أن محكمة النقض والمحكمة الدستورية العليا معاً قد خلطتا في هذا الصدد بين مسألتين مختلفتين وهما : تطبيق الدستور على القواعد القانونية وتطبيق الدستور على وقائع النزاع الموضوعي ، فالمسألة الأولى تختص بها المحكمة الدستورية العليا دون غيرها ، أما الثانية فتختص بها محكمة الموضوع تحت رقابة محكمة النقض ، وذلك في حالة عدم وجود نص تشريعي أو لائحي يحكم واقعة النزاع الموضوعي ، وهو فرض نادر أن يحدث عملاً لأن معظم المبادئ الدستورية قد أفرغها المشرع في صورة نصوص تشريعية أو لائحية .

    4- أن حكم محكمة الموضوع يجب أن يظل حائزاً لقوة الأمر المقضي إلى أن ينقض ، والقول بغير ذلك يؤدي الى نتيجة في غاية الغرابة ، فحين تصرح محكمة النقض – وهي تعمل كمحكمة قانون – للمدعي الدستوري برفع دعواه الدستورية ، فهذا قضاء ضمني منها بنقض الحكم المطعون عليه ، فإذا ما صدر بعد ذلك حكم من المحكمة الدستورية العليا برفض الدعوى الدستورية ، فإن محكمة النقض سوف تصدر حكماً برفض النقض موضوعاً ، أي أنها ستعبر – ابتداءً – بقضاء ضمني بنقض الحكم المطعون عليه ، ثم ستعبر – انتهاءً – بقضاء صريح برفض النقض ، وهما قضاءان متناقضان لا يتصور أن يجتمعا على محل واحد.
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    الحكم بعدم الدستورية بين الأثر الكاشف والأثر المباشر Empty رد: الحكم بعدم الدستورية بين الأثر الكاشف والأثر المباشر

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الأحد أكتوبر 06, 2013 2:32 am

    ثانياً : بالنسبة لحالة عدم سبق التمسك بالدفع الدستوري أمام محكمة الموضوع

    رأينا أنه لا يجوز إثارة الدفع الدستوري أمام محكمة النقض لمن سبق له التمسك به أمام محكمة الموضوع ، ومن ثم فلا يجوز من باب أولى للخصوم – طبقاً للقواعد العامة – إثارة الدفع الدستوري لأول مرة أمام محكمة النقض ، والقول بغير ذلك يعد إخلالاً بمبدأ المساواة بين فئتين من الخصوم تماثلت مراكزهم القانونية في حق التقاضي بالنسبة للمسألة الدستورية ، بتسويء مركز الخصم الذي تمسك بالدفع الدستوري أمام محكمة الموضوع عن مركز الخصم الذي يثيره لأول مرة أمام محكمة النقض بجعل الأخير في مركز قانوني أفضل من الأول ، وهو أمر يأباه المنطق القانوني السليم ، فمن البدهي أن يكون من تمسك بالدفع الدستوري أمام محكمة الموضوع في مركز قانوني أفضل أو على الأقل مساوٍ للخصم الذي يثيره لأول مرة أمام محكمة النقض .
    وإذا كان لا يجوز للخصوم إثارة الدفع الدستوري أمام محكمة النقض ، فهذا يعني من باب أولى أنه لا يجوز للمحكمة أن تعرض للمسألة الدستورية من تلقاء نفسها.

    ونود أن نؤكد – هنا – على ما سبق ذكره في موضع آخر (1) من أن قرار الإحالة من محكمة الموضوع إلى المحكمة الدستورية العليا ( المادة 29 / أ ) هو اختصاص ولائيjurisdiction gracious لمحكمة الموضوع وليس اختصاصاً قضائياً ، وأن محكمة الموضوع ترفع الدعوى إلى المحكمة الدستورية كنائبة عن الخصوم وليس كنائبة عن الهيئة الاجتماعية . فإذا كان لا يجوز للخصوم إثارة المسألة الدستورية أمام محكمة النقض ، فمن باب أولى أنه لا يجوز ذلك للمحكمة نفسها.
    وقد قررت المحكمة الدستورية العليا " أن الدفع بعدم الدستورية ليس من قبيل الدفوع الشكلية أو الإجرائية بما مؤداه جواز إثارة هذا الدفع في أية حالة تكون عليها الدعوى وأمام أية محكمة " (2) .

    والحقيقة أن المحكمة الدستورية أصابت في القاعدة ، لكنها أخطأت في التطبيق ، فالدفع بعدم الدستورية هو دفع موضوعي وليس دفعاً شكلياً ، أي أنه دعوى تقرير فرعية ، وبالتالي لا يجوز أن تبدأ خصومة ما أولى مراحلها أمام محكمة النقض إلا إذا كانت تعمل كمحكمة موضوع .

    ويجدر التنويه هنا إلى ما ذكرناه في موضع أخر(3) إلى أن ثمة فارقا بين أمرين في هذه المسألة يخلط الفقه والقضاء بينهما هما : الدفع الدستوري كدفاع موضوعي ، والدفع الدستوري كدفع موضوعي ، وهذا الخلط هو الذي يؤدى إلى تضارب الأحكام ، فذهبت بعض الأحكام إلي القول بأن الدفع بعدم الدستورية متعلق بالنظام العام ، ومن ثم يمكن إثارته في أية حالة تكون عليها الدعوى و أمام أية محكمة، بينما ذهبت أحكام أخرى إلى القول بأنه غير متعلق بالنظام العام .
    والصحيح –عندنا- أن القواعد الدستورية هي أسمى القواعد الآمرة ، ومن ثم فان تطبيق تلك القواعد على القواعد القانونية هو أمر متعلق بالنظام العام ، فالمحكمة تقضى به من تلقاء نفسها ، لكنها – فقط – المحكمة المختصة بهذا القضاء ، وهى المحكمة الدستورية العليا ، وليست محكمة الموضوع .
    وبعبارة أخرى ، فان الدفع الدستوري أمام المحكمة الدستورية العليا هو دفع موضوعي بالمعنى الواسع أي دفاع موضوعي ، أما الدفع الدستوري أمام محكمة الموضوع فهو دفع موضوعي بالمعنى الدقيق ، أي دعوى تقرير فرعية ، ومن ثم فلا يجوز لمحكمة الموضوع إثارته من تلقاء نفسها ، وإلا كان ذلك منها بمثابة خلط بين وظيفتي الادعاء والحكم ، وهو الأمر المحظور دستوريا .

    ونود أن نؤكد هنا، أنه لا استثناء على الإطلاق من قاعدة "عدم جواز إثارة الدفع الدستوري أمام محكمة النقض وهي تعمل كمحكمة قانون"، وقد ذهبت محكمة النقض في أحد أحكامها إلى " أنه لا يجوز إثارة الدفع بعدم دستورية القوانين لأول مرة أمام محكمة النقض إلا أن ذلك مشروط بألا يكون هذا الدفع قد انصب على الإجراءات والقواعد التي تحكم نظر الطعن في الأحكام أمام محكمة النقض ، إذ لا يتصور أن يكون الدفع من أحد خصوم الطعن على أي من هذه النصوص إلا أمام محكمة النقض ، مثال ذلك : عدم جواز الطعن بعدم دستورية المادة 248 مرافعات إلا أمام محكمة النقض " (4) .

    ونحن من جانبنا نرى أن هذه الحالة لا تعد استثناءً من القاعدة سالفة الذكر ، لأن الدفع بعدم الدستورية في هذه الحالة تمت إثارته أمام محكمة النقض ، لا بوصفها محكمة قانون ، ولكن بوصفها محكمة موضوع ، ولكن الموضوع الذي تفصل فيه في هذه الحالة هو – فقط – موضوع خصومة الشكل لخصومة النقض المطروحة عليها ، وليس الحق الموضوعي محل النزاع الأصلي بين الخصوم.



    بحثنا: حالة التصدي في قانون المحكمة الدستورية العليا بين النص والتطبيق.
    دستورية عليا بتاريخ 12 فبراير 1994 في القضية رقم 23 لسنة 14 قضائية " دستورية " .
    بحثنا: حالة التصدي في قانون المحكمة الدستورية العليا بين النص والتطبيق.
    نقض مدني : الطعن رقم 1095 لسنة 61 ق بجلسة 12 من مايو سنة 2002 .

    خلاصة القول ، إنه لا يجوز إثارة الدفع الدستوري أمام محكمة النقض – وهي تعمل كمحكمة قانون – ولا يجوز لمحكمة النقض أن تعرض للمسألة الدستورية من تلقاء نفسها ، أي أن محكمة النقض لا تندرج في عداد المحاكم التي عنتها المادة (29) من قانون المحكمة الدستورية .
    وإذا كانت المادة (29) تتحدث عن الحق في الدعوى الدستورية والمادة ( 49/3 ) تتحدث عن الحق الموضوعي محل الحماية ، فإذا انتفى الأول انتفى من باب أولى الثاني ، أي أن محكمة النقض – كمحكمة قانون – لا تندرج أيضاً في عداد المحاكم التي عنتها المادة ( 49/3 ) من قانون المحكمة الدستورية العليا .

    ويجدر التنويه – هنا – إلى أن المحكمة الإدارية العليا بالرغم من أنها تختص بنظر طعون ضد أحكام حائزة لقوة الأمر المقضي ، شأنها في ذلك شأن محكمة النقض تماماً ، إلا أن المحكمة الإدارية العليا – باعتبارها محكمة موضوع – تندرج في عداد المحاكم التي عنتها المادة (29) من قانون المحكمة الدستورية ، كما تندرج أيضاً في عداد المحاكم التي عنتها المادة ( 49/3 ) ، أي أنه إذا صدر حكم بعدم دستورية نص لازم للفصل في الطعون المنظورة أمامها ، فإنه لزام عليها أن تمتنع عن تطبيق هذا النص على وقائع النزاع .

    وقبل أن نختم هذا المبحث ، يجدر بنا الوقوف عند نقطة هامة للغاية ، يثيرها الفقه أحياناً ، وهي أن منح محكمة الموضوع سلطة تقديرية للفصل في جدية الدفع الدستوري من عدمه ، يعد إخلالاً بمبدأ المساواة بين الخصوم المتماثلى المراكز القانونية ، فقد تقدر محكمة الموضوع جدية دفع بعدم دستورية نص تشريعي ما ، بينما تقدر محكمة موضوع أخرى عدم جدية الدفع الدستوري بالنسبة لنفس النص ، وربما يؤدي هذا التباين في التقدير إلى مغايرة في النتيجة النهائية للنزاع الموضوعي ، بما يعد إخلالاً بمبدأ المساواة .

    والحقيقة أنه إذا كان من المقرر أنه قد تم الأخذ بنظام المركزية في الرقابة القضائية على دستورية القوانين ، من أجل توحيد حكم الدستور على المراكز القانونية المتماثلة تحقيقاً لمبدأ المساواة أمام القانون، إلا أن من المقرر أيضاً ، أن هذا التماثل في المراكز القانونية لا يتصور القول بتحققه من عدمه، بمعزل عن أي قيد زمني ، بل لا يتصور النظر إليه إلا عند نقطة زمنية محددة ، ولا شك أن هذه النقطة هي لحظة استقرار المراكز القانونية .

    وبناءً على ما تقدم ، فإنه إذا ما دفع مدع دستوري بعدم دستورية نص لازم للفصل في نزاعه الموضوعي ورأت محكمة الموضوع عدم جدية هذا الدفع ، في حين رأت محكمة موضوع أخرى جدية الدفع بعدم دستورية نفس النص ، فهنا نكون بصدد أحد احتمالين :

    الاحتمال الأول : أن يصدر حكم من المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية النص التشريعي قبل الفصل في النزاع الموضوعي :
    فلا شك – هنا – أن المدعي الدستوري الذي قدرت محكمة الموضوع عدم جدية دفعه سوف يستفيد من حكم المحكمة الدستورية ، شأنه في ذلك شأن المدعي الدستوري الذي قدرت محكمة الموضوع جدية دفعه نظراً لما لحكم المحكمة الدستورية من قوة ملزمة وحجية مطلقة في مواجهة الكافة .

    الاحتمال الثاني : ألا يصدر حكم من المحكمة الدستورية العليا بشأن المسألة الدستورية المثارة قبل الفصل في النزاع الموضوعي الخاص بالمدعي الذي قدرت محكمة الموضوع عدم جدية دفعه الدستوري

    وهنا نكون بصدد أحد احتمالين :

    أولاً : أن تكون المحكمة الدستورية العليا قد اتصلت بالخصومة الدستورية قبل صدور حكم في النزاع الموضوعي
    في هذه الحالة ، إذا قدرت محكمة الموضوع عدم جدية الدفع الدستوري بالرغم من إنتاجيته ، أي كونه منتجاً في النزاع الموضوعي ، فيمكن للمدعي الدستوري رفع دعواه الدستورية إلى المحكمة الدستورية العليا عن طريق التدخل الانضمامي- طبقاً للمادة (126) مرافعات - إلى جانب المدعي الدستوري الآخر الذي قدرت محكمة الموضوع جدية دفعه الدستوري ، وتكون المحكمة الدستورية –في هذه الحالة – قد اتصلت بدعواه الدستورية اتصالاً صحيحاً ، وتلتزم محكمة الموضوع بوقف الدعوى الموضوعية حتى تفصل المحكمة الدستورية العليا في الدعوى الدستورية .

    ثانياً: أن تكون المحكمة الدستورية قد اتصلت بالخصومة الدستورية بعد صدور حكم في النزاع الموضوعي
    وفي هذه الحالة ، إذا انتهت المحكمة الدستورية العليا إلى الحكم بعدم دستورية النص التشريعي المطعون عليه ، فليس ثمة إخلال بمبدأ المساواة بين المدعي الدستوري الذي قدرت محكمة الموضوع جدية دفعه ، والآخر الذي رأت عدم جدية دفعه ، لأن المدعي الدستوري الأخير الذي لن يستفيد من الحكم بعدم الدستورية قد استقر مركزه القانوني قبل صدور الحكم بعدم الدستورية بحكم حائز لقوة الأمر المقضي، في حين أن المدعي الدستوري المستفيد من الحكم بعدم الدستورية لم يستقر بعد مركزه القانوني ، وبالتالي فليس ثمة إخلال بينهما بمبدأ المساواة أمام القانون ، لأنه ليس ثمة تماثل بينهما في المراكز القانونية.





















    المبحث الثاني : أثر الحكم بعـدم الدستورية

    السؤال الذي أثار خلافاً حاداً في الفقه ولا يزال قائماً هو : هل للحكم بعدم الدستورية أثر مباشر أو منشئ؟ أم له أثر رجعي أو كاشف ؟
    بالإضافة الى ما سبق ذكره في المبحث الأول عن موقف المحكمة الدستورية العليا ومحكمة النقض من تقرير الأثر الرجعي للحكم بعدم الدستورية ، إلا أننا رأينا أن نبين في هذا المبحث موقف المحكمة الدستورية العليا في هذا الصدد بصورة أكثر وضوحاً من خلال الإشارة الى ما جاء بحيثيات بعض أحكامها .

    موقف المحكمة الدستورية العليا من أثر الحكم بعدم الدستورية

    استقر قضاء المحكمة الدستورية العليا على أن للحكم بعدم الدستورية أثراً رجعياً كنتيجة حتمية لطبيعته الكاشفة فقررت في أحد أحكامها " إن الأصل في الأحكام القضائية أنها كاشفة وليست منشئة ، إذ هي لا تستحدث جديداً ولا تنشئ مراكزاً أو أوضاعاً لم تكن موجودة من قبل ، بل هي تكشف عن حكم الدستور أو القانون في المنازعات المطروحة على القضاء وترده الى مفهومه الصحيح الذي يلازمه منذ صدوره الأمر الذي يستتبع أن يكون للحكم بعدم الدستورية أثر رجعي كنتيجة حتمية لطبيعته الكاشفة بياناً لوجه الصواب في دستورية النص التشريعي المطعون عليه منذ صدوره ، وما إذا كان هذا النص قد جاء موافقاً للدستور ، وفي حدوده المقررة شكلاً وموضوعاً فتتأكد للنص شرعيته الدستورية ، ويستمر نفاذه ، أم أنه صدر متعارضاً مع الدستور ، فينسلخ عنه وصفه وتنعدم قيمته بأثر ينسحب الى يوم صدوره ... وذلك يؤكد قصد المشرع في تقرير الأثر الرجعي للحكم بعدم الدستورية ويؤيد انسحابه على ما سبقه من علاقات وأوضاع نشأت في ظل القانون الذي قضي بعدم دستوريته " (1)

    وذهبت المحكمة الدستورية في حكم آخر لها " وحيث أن ما نصت عليه المادة (49) من قانون هذه المحكمة من أن النصوص المحكوم بعدم دستوريتها لا يجوز تطبيقها اعتباراً من اليوم التالي لنشر الأحكام الصادرة بشأنها في الجريدة الرسمية ، لا يعني أن لهذه الأحكام أثراً مباشراً لا تتعداه وأنها بذلك لا ترتد الى الأوضاع والعلائق السابقة عليها ، ذلك أن كل ما قصد إليه هذا القانون بنص المادة 49 المشار إليها لا يعدو تجريداً لنصوص القانون التي قضي بعدم دستوريتها من قوة نفاذها التي صاحبتها عند إقرارها أو إصدارها لتفقد بالتالي خاصية الإلزام التي تتسم بها القواعد القانونية جميعها . فلا يقوم من بعد ثمة مجال لتطبيقها ..... ذلك أن إبطال هذه المحكمة للنصوص القانونية المخالفة للدستور ، يعتبر تقريراً لزوالها نافياً وجودها منذ ميلادها ، وقضاؤها بصحتها يؤكد استمرار نفاذها تبعاً لخلوها من كل عوار يدينها . وليس مفهوماً أن تكون واقعة نشر الأحكام الصادرة بعدم دستورية بعض النصوص القانونية – في ذاتها – حداً زمنياً فاصلاً بين صحتها وبطلانها ، فلا يكون النص الباطل منعدماً إلا اعتباراً من اليوم التالي لهذا النشر والقول بذلك مؤداه أن يكون التقاضي جهداً ضائعاً وعملاً عبثياً وأن للنص القانوني الواحد مجالين زمنيين يكون صحيحاً في أحدهما وباطلاً في ثانيهما حال أن بطلان النصوص القانونية لا يتجزأ ويستحيل أن ينقلب العدم وجوداً ولا أن يكون مداه متفاوتاً أو متدرجاً فالساقط لا يعود أبداً . "(2)

    موقف الفقه من أثر الحكم بعـدم الدستورية
    انقسم الفقه من هذه المسألة الى فريقين : فريق ينادي بالأثر الرجعي أو الأثر الكاشف وهو الرأي الغالب وفريق آخر ينادي بالأثر المباشر أو الأثر المنشئ .



    دستورية عليا بجلسة 19 من مايو 1990 في القضية رقم 37 لسنة 9 ق " دستورية " .
    دستورية عليا بجلسة 30/11/1996 في القضية رقم 22 لسنة 18 ق " دستورية " .





    الفريق الأول
    يذهب هذا الاتجاه الفقهي الى أن الأثر الرجعي للأحكام الصادرة بعدم الدستورية يفرضه المنطق القانوني وتفرضه اعتبارات الفعالية ، فالنص غير الدستوري ولد مخالفاً للدستور ، فيكون باطلاً منذ صدوره ، فالنص المشوب بعيب عدم الدستورية يلحقه هذا العيب من أول يوم . ويرى هذا الاتجاه الفقهي أن الفاحص لنص المادة (49) من قانون المحكمة الدستورية العليا وما ورد بالمذكرة الإيضاحية فحصاً دقيقاً يجد أن هذا التعارض ما هو إلا تعارض ظاهري فحسب ، إذا ما فسر على ضوء ما يقابل هذا النص في القانون المقارن ، فهذا النص يجد مصدره التاريخي في نص المادة (30) من القانون الإيطالي رقم 87 لسنة 1953 والمستقر عليه في الفقه والقضاء في إيطاليا أن النصوص التي يقضى بعدم دستوريتها تعتبر غير صالحة للتطبيق من اليوم التالي لنشر الحكم ولا يقتصر عدم التطبيق على الوقائع والمراكز القانونية التي تتكون بعد نشر الحكم بعدم الدستورية وإنما يمتد ذلك الى ما حدث من وقائع وأنشئ من مراكز قانونية قبل الحكم .
    ومن خلال ما تقدم ، يذهب الرأي الغالب في الفقه الى أن ما ورد بالمذكرة الإيضاحية هو المعول عليه باعتباره التفسير الصحيح لنصوص القانون ، كما أنه يتفق مع طبيعة الأحكام القضائية وكونها كاشفة وليست منشئة ، وفضلاً عن ذلك ، فإن الأثر المباشر للحكم يعني عدم استفادة رافع الدعوى الدستورية في دعواه الموضوعية من الحكم الصادر بعدم دستورية النص الذي يحكم دعواه ، والذي دفع بعدم دستوريته أمام محكمة الموضوع وبذلك تنتفي الفائدة العملية من الحكم بعدم الدستورية . (1)
    الفريق الثاني
    اتجه جانب فقهي آخر الى القول بالأثر المباشر أو الأثر المنشئ للحكم بعدم الدستورية .
    فقد ذهب رأي فقهي – في معرض حديثه عن تعديل قانون المحكمة الدستورية العليا – الى أن نص المادة ( 49/3 ) من قانون المحكمة الدستورية العليا كان يقضي قبل التعديل بأن " يترتب على الحكم بعدم دستورية نص في قانون أو لائحة عدم جواز تطبيقه من اليوم التالي لنشر الحكم " . وهذا يعني أن أثر الحكم بعدم دستورية نص معين يتمثل في تعطيل هذا النص مستقبلاً وابتداء من تاريخ محدد هو تاريخ نشر الحكم ، أي أنه يقرر الأثر المباشر للحكم ولو كان المشرع يريد إقرار الأثر الرجعي للحكم لاكتفى بعبارة " يترتب على الحكم بعدم دستورية نص في قانون أو لائحة عدم جواز تطبيقه " دون أن يحدد لترتيب هذا الأثر تاريخاً معيناً هو تاريخ النشر ، إذ عندئذ فقط كان يمكن القول إن المشرع يرتب على الحكم تعطيل تطبيق النص بصورة مطلقة أي سواء في المستقبل أو في الماضي .
    وأضاف هذا الرأي : أنه عند التعارض بين نص صريح واضح وبين المذكرة الإيضاحية فيجب تغليب النص وفقاً لقواعد التفسير المستقرة ، والمذكرة الإيضاحية قد شابها التناقض عندما أقرت الأثر الرجعي للحكم بعدم الدستورية ، ثم استثنت منه الحقوق والمراكز التي تكون قد استقرت عند صدوره إما بحكم حاز قوة الأمر المقضي أو بانقضاء مدة التقادم ، ومظهر التناقض أنها اعتبرت النص غير دستوري منذ صدوره ، ومع ذلك فإن ما ترتب عليه من حقوق ومراكز يكون صحيحاً ، ومن غير المفهوم أن يكون صحيحاً ما يترتب على نص باطل . وأضاف هذا الرأي : أن المشرع لم يترك تحديد آثار الحكم الدستوري للقواعد العامة حتى يمكن الاستناد الى طبيعة الحكم فقد يقال إن الأحكام القضائية كاشفة لوجه الحق وليست منشئة له ، ومن ثم يكون أثرها رجعياً وهذه حقيقة لو أراد المشرع التسليم بها فيما يتعلق بالحكم بعدم الدستورية لترك الأمر للقواعد العامة في تحديد آثار الحكم القضائي ، ولكن المشرع لاحظ أن الحكم بعدم دستورية نص له طبيعة خاصة ، إذ يتصف بالعمومية فهو ملزم لجميع سلطات الدولة وللكافة . ومن ناحية أخرى فإن الحكم بعدم الدستورية قد يتراخى عن صدور القانون المطعون فيه بعشرات السنين ، فهل يتصور القول بأن الحكم بعدم دستورية هذا النص ينفذ بأثر رجعي فيعتبر النص باطلاً منذ صدوره ، وتنهار كل الأوضاع والحقوق والمراكز التي نشأت عنه أو بنيت عليه عبر عشرات السنين (2) .



    د . عبد العزيز سالمان – د . محمود عاطف البنا – د . محمد عبد اللطيف – د . طعيمة الجرف – د . علي فاضل حسن . د . حاتم علي لبيب جبر .
    د . فوزية عبد الستار – مقال بعنوان : حول تعديل قانون المحكمة الدستورية العليا – منشور بجريدة الأهرام بتاريخ 3/8/1998 .

    وذهب رأي آخر في نفس هذا الاتجاه الى القول بأن قانون المحكمة الدستورية قبل تعديله فرق بين القوانين الجنائية والقوانين غير الجنائية ، وجعل عدم دستورية النص الجنائي يسري بأثر رجعي وعدم دستورية سائر النصوص الأخرى تسري بأثر مباشر ، غير أن المذكرة الإيضاحية للقانون هي التي أثارت الشك حول صحة هذا التفسير ، فذهب الرأي الغالب في الفقه الى أن الحكم بعدم الدستورية يسري بأثر رجعي حتى في النصوص غير الجنائية ، وقد قاس أنصار هذا الرأي الحكم بعدم الدستورية على الحكم بإلغاء القرارات الإدارية ، وانتهوا الى أنه ما دام الحكم بإلغاء القرار الإداري يعدم القرار الإداري من لحظة صدوره ، لذلك يكون للحكم بعدم الدستورية ذات الأثر ، فيعدم القانون من لحظة صدوره وليس من لحظة الحكم بعدم الدستورية ، وقياس الحكم بعدم دستورية قانون على الحكم بإلغاء قرار إداري هو قياس فاسد كما يقول الفقهاء الشرعيون ففي الرقابة على دستورية القوانين يكون الباب مفتوحاً للطعن بعدم الدسنورية دون التقيد بميعاد محدد والأمر ليس كذلك في دعوى الإلغاء إذ يتحصن القرار الإداري المعيب بعد ستين يوماً من صدوره أو العلم به ، أضف الى ذلك أن القانون يسن بواسطة سلطة تشريعية منتخبة من الشعب ومكونة من مجموعة كبيرة من الأعضاء ، في حين أن القرار الإداري يصدر عن السلطة التنفيذية الخاضعة لهيمنة السلطة التشريعية ويصدر غالباً من رئيس إداري فرد ، ومجلس الشعب يسمو على غيره من سلطات ولا يشاركه في سلطة التشريع إلا من نص عليهم الدستور في حين أن الأمر ليس كذلك بالنسبة للسلطة الإدارية حال إصدارها القرارات الإدارية . ومن أجل هذه الأسباب لا يجوز الادعاء بأن الحكم بعدم الدستورية هو حكم كاشف لعدم الدستورية ، بل هو في الحقيقة منشئ لتلك الحالة .
    وأضاف هذا الرأي : أن الحكم بعدم الدستورية يعدم النص المخالف للدستور من تاريخ صدوره لا يتفق وصحيح القانون . فالحكم بعدم الدستورية لا يعدم النص المخالف للدستور ولكن يقضي على قوة نفاذه ، أما إعدام النص فليس من سلطة المحكمة الدستورية ولكنه اختصاص محجوز للمشرع وحده . (1)
    وذهب رأي آخر في هذا الاتجاه الفقهي الى أن المحكمة الدستورية العليا خلقت لنفسها اختصاصاً ليس موجوداً في الدستور أو في قانون المحكمة الدستورية العليا ، وهو أن أحكامها كاشفة للحق وليست منشئة وبالتالي فإن أحكامها تصدر بأثر رجعي منذ صدور القانون المحكوم بعدم دستوريته . (2)

    رأينا الخاص في الموضوع

    بعد أن استعرضنا الاتجاهات المختلفة للقضاء و للفقه ، يمكننا أن نجتهد برأينا في الموضوع فنقول إن القضاء والفقه قد خلطا بين أمرين مختلفين تماماً هما : حجية الحكم القضائى ، والقوة الملزمة أو التنفيذية للحكم القضائى . فالأمر الأول يتعلق بحكم القانون بشأن حقيقة المسألة المتنازع عليها بين أطرافها ، أما الأمر الثانى فيتعلق بالإلزام القانونى أو المادى الذى يقرره الحكم ، أى يتعلق بالتغيير الذى يمكن أن يحدثه الحكم على المراكز القانونية أو الواقعية للأشخاص ومن ثم فإن القول بأن لحكم قضائي أثراً كاشفاً أو أثراً منشئاً هو أمر يتعلق بحجية الحكم ، أما القول بأن لحكم قضائي أثراً مباشراً أو أثراً رجعياً ، فهو أمر يتعلق بالقوة الملزمة أو القوة التنفيذية للحكم .
    وفي فقه المرافعات ، نجد أنه ليس ثمة تلازم على الإطلاق بين الأثر الكاشف والأثر الرجعي ، أو بين الأثر المنشئ والأثر المباشر .
    وعلى سبيل المثال ، الحكم بفسخ عقد وإعادة الحال الى ما كان عليه قبل التعاقد إن أمكن ، إذا كان الفسخ قضائياً ، له أثر منشئ .



    (1) د . محمد محمد بدران – مقال بعنوان : القرار خطوة على الطريق الصحيح – منشور بجريدة الأهرام بتاريخ 27/7/1998 .
    (2) د . نبيل لوقا بباوي – مقال بعنوان : الأثر الرجعي للأحكام الدستورية باطل – منشور بجريدة الأهرام بتاريخ 5/8/1998 .







    وإذا كان الفسخ اتفاقياً ، ( واضطرالدائن للالتجاء الى القضاء للحصول على الحكم به ) ، له أثر كاشف أو أثر مقرر ، وفي كلتا الحالتين ، فالأصل أن للفسخ أثراً رجعياً يرتد الى تاريخ إبرام العقد بين المتعاقدين ولكن قد يكون للفسخ أثر مباشر ، إذا كان العقد من عقود المدة كعقد الإيجار .
    ومن ثم نكون بصدد أربعة احتمالات لآثار حكم الفسخ :
    حكم بفسخ عقد ، له أثر كاشف وأثر رجعي .
    وحكم بفسخ عقد له أثر كاشف وأثر مباشر .
    وحكم بفسخ عقد له أثر منشئ وأثر رجعي .
    وحكم بفسخ عقد له أثر منشئ وأثر مباشر.
    وبناءً على ما تقدم ، فإن القول بأن للحكم بعدم الدستورية أثراً كاشفاً أو أثراً منشئاً ، هو أمر يتعلق بالحجية المطلقة للحكم ، أما القول بأن للحكم بعدم الدستورية أثراً رجعياً أو أثراً مباشراً فهو أمر يتعلق بالقوة الملزمة للحكم .
    ومن ثم يجب أن نبحث في التساؤلين كل على حدة.

    فنتساءل أولاً : هل للحكم بعدم الدستورية أثر كاشف Declarative effect
    أم أثر منشئ Constitutive Effect
    ذهبت بعض الآراء الفقهية التي تنادي بالأثر المباشر للحكم بعدم الدستورية الى تبرير ذلك بالقول بأن للحكم بعدم الدستورية أثراً منشئاً وليس أثراً كاشفاً(1).
    وقد تعرض جانب من الفقه الى الحكم الشهير للمحكمة الدستورية العليا الصادر بتاريخ 19/5/1990 ، والذي قضت فيه ببطلان تشكيل مجلس الشعب ، فذهب رأي (2) الى القول " ويرى أستاذنا الدكتور أحمد فتحي سرور ، وبحق ، أن المحكمة الدستورية لم تطبق في هذا الحكم الأثر الكاشف للحكم بعدم الدستورية ، وإنما طبقت حكمها بأثر منشئ وذلك مراعاة للاستقرار وعدم إحداث هزات وعدم إحداث فراغ تشريعي " .

    ونحن من جانبنا نرى أن للحكم بعدم الدستورية دائماً وأبداً أثراً كاشفاً ، ولا يتصور على الإطلاق أن يكون له أثر منشئ . فالحكم الدستوري يكشف عن حكم الدستور بالنسبة للنص التشريعي المطعون عليه ، وما إذا كان قد صدر موافقاً للدستور أم متعارضاً معه ، أما القول بأن للحكم بعدم الدستورية أثراً منشئاً ، فإنما يعني أن بطلان النص المطعون عليه قد تقرر بحكم القاضي الدستورى لا بحكم الدستور ، فالنص كان صحيحاً ومتفقاً مع الدستور شكلاً وموضوعاً حتى اللحظة الأخيرة قبل النطق بالحكم بعدم دستوريته . تماماً كما نقول ، في فقه المرافعات ، إن للحكم بإبطال عقد أثراً منشئاً ، فهذا يعني أن العقد قبل النطق بإبطاله كان صحيحاً ، ولكنه – فقط – قابل للإبطال ، وأن الإبطال هنا تقرر بحكم القاضي لا بحكم القانون .

    وبالنسبة للحكم بعدم دستورية النص التشريعي المنظم لانتخابات مجلس الشعب ، والذي ذهب جانب من الفقه الى القول بأن المحكمة طبقت حكمها فيه بأثر منشئ ، فنحن نري أن ما جاء بحيثيات هذا الحكم من " أن مؤدى هذا الحكم ولازمه أن تكوين مجلس الشعب يكون باطلاً منذ انتخابه " . لم يكن إلا تزيداً من المحكمة ، ولا تثبت له قوة ملزمة أو حجية مطلقة .



    د . محمد محمد بدران – مرجع سابق ، د . نبيل لوقا بباوي – مرجع سابق .
    د . يسري محمد العصار – بحث بعنوان : الحماية الدستورية للأمن القانوني في قضاء المحكمة الدستورية – مجلة الدستورية – العدد الثالث – السنة الأولى .







    ويبقى التساؤل الآخر : هل للحكم بعدم الدستورية أثر رجعي أم أثر مباشر ؟ Retroactive effect or Direct effect

    ذهبت المحكمة الدستورية العليا ومعها الرأي الغالب في الفقه الى القول بأن للحكم بعدم الدستورية أثراً رجعياً كنتيجة حتمية لطبيعته الكاشفة ، وقد رأينا أنه ليس ثمة تلازم على الإطلاق بين الأثر الكاشف للحكم والأثر الرجعي ، وما قررته المحكمة الدستورية بقولها " وليس مفهوماً أن تكون واقعة نشر الأحكام الصادرة بعدم دستورية بعض النصوص القانونية – في ذاتها – حداً زمنياً فاصلاً بين صحتها وبطلانها ، فلا يكون النص باطلاً منعدماً إلا اعتباراً من اليوم التالي لهذا النشر " .
    واضح تماماً – على ضوء ما ذكرناه آنفاً – ما في هذا القول من خلط بين الحجية المطلقة للحكم بعدم الدستورية والقوة الملزمة له absolute authority and obliging force ، فواقعة نشر الأحكام الصادرة بعدم الدستورية ليست حداً زمنياً فاصلاً بين دستورية النص وعدم دستوريته ، ولكنها حد زمني فاصل بين إنتاج الحكم بعدم الدستورية أثره وعدم إنتاجه هذا الأثر ، هذا الأثر الذي يتمثل في القوة الملزمة للحكم بعدم الدستورية ، هذه القوة الملزمة التي تعني التزام قاضي الموضوع بالامتناع عن تطبيق النص المقضي بعدم دستوريته على الوقائع المطروحة عليه ، والتزام قاضي النقض الجنائي بتجريد حكم الإدانة النهائي من قوته التنفيذية ، وذلك بأن يقضي باعتبار خصومة النقض منتهية لأنها أصبحت واردة على غير محل، والتزام النائب العام بتجريد حكم الإدانة البات من قوته التنفيذية ( الشق الجنائي فقط ) .
    وما ذهب إليه رأي فقهي بأن للحكم بعدم الدستورية أثراً مباشراً ، معللاً ذلك بأن نص المادة ( 49/3 ) قبل تعديله كان يقضي بتعطيل النص المقضي بعدم دستوريته في المستقبل وابتداءً من تاريخ محدد هو تاريخ نشر الحكم ، أي أنه يقرر الأثر المباشر للحكم ، ولو كان المشرع يريد إقرار الأثر الرجعي للحكم لاكتفى بعبارة " يترتب على الحكم بعدم دستورية نص في قانون أو لائحة عدم جواز تطبيقه " ، دون أن يحدد لترتيب هذا الأثر تاريخاً معيناً هو تاريخ النشر . إذ عندئذ فقط كان يمكن القول إن المشرع يرتب على الحكم تعطيل تطبيق النص بصورة مطلقة ، أي سواء في المستقبل أو الماضي . (1)

    ونحن نرى أن ما ذهب إليه هذا الرأي مردود عليه بما ذكره رأي فقهي آخر من وجوب التمييز بين تاريخ العمل بالحكم بعدم الدستورية وبين نطاق سريانه ، فقد ذهب هذا الرأي الى القول " فبالنسبة الى القانون يجب التمييز بين تاريخ العمل به وبين نطاق سريانه، فمن حيث تاريخ العمل بالقانون تكفلت المادة 188 من الدستور فنصت على أن " يعمل بالقوانين بعد شهر من اليوم التالي لتاريخ نشرها إلا إذا حددت لذلك ميعاداً آخر . ومن حيث نطاق سريان القانون ، نصت المادة 187/1 من الدستور على أنه لا تسري أحكام القوانين إلا على ما يقع من تاريخ العمل بها ، ولا يترتب عليها أثر فيما وقع قبلها . وفي ضوء ذلك نقول بأن ما نصت عليه المادة 49/3 من قانون المحكمة الدستورية العليا بشأن الحكم ينصرف الى تاريخ العمل بالحكم الصادر بعدم الدستورية أما نطاق سريانه ، فإن له شأناً آخر ، عبرت عنه المحكمة الدستورية العليا في قضائها المستقر وهو الأثر " الرجعي " أي الأثر الكاشف لكي يمتد الى جميع الوقائع التي حدثت بعد العمل بالنص المحكوم بعدم دستوريته والسابقة على هذا الحكم .. " (2)

    ونحن بالطبع لا نؤيد صاحب الرأي الأخير في القول بأن الأثر الرجعي يعني الأثر الكاشف للأسباب المشار إليها آنفاً ، ولكننا مع ذلك نؤيده في هذه التفرقة والتمييز بين تاريخ العمل بالحكم بعدم الدستورية وبين نطاق سريانه ، فهو قول سديد واجتهاد في محله ، وهو ما يصلح للرد على ما ذكره الرأي الأول من أن المشرع يعطل تطبيق النص المقضي بعدم دستوريته في المستقبل فحسب .



    د . فوزية عبد الستار – مرجع سابق .
    د . أحمد فتحي سرور – مؤلفه : الحماية الدستورية للحقوق والحريات – الناشر دار الشروق ص 316 – 317 .



    وما ذهب إليه الفقه من القول بأن الحكم بعدم الدستورية قد يتراخى عن صدور القانون المطعون فيه بعشرات السنين ، فهل يتصور أن ينفذ الحكم بأثر رجعي فيعتبر نص القانون باطلاً منذ صدوره ، وتنهار كل الأوضاع والحقوق والمراكز التي بنيت عليه عبر عشرات السنين ؟! هذا القول بالإضافة الى ما فيه من خلط – كما قلنا آنفاً – بين الحجية المطلقة للحكم والقوة الملزمة له، إلا أنه كذلك لا يصلح سنداً لتبرير القول بأن للحكم بعدم الدستورية أثراً مباشراً – وهو من منظور هذا الاتجاه تعطيل تطبيق النص في المستقبل فحسب – وعلة ذلك أن هذا القول لا يتصور حدوثه طبقاً للمجرى العادي للأمور ، والذي جعل البعض من الفقه يتصور تراخي صدور الحكم بعدم دستورية قانون عن تاريخ صدور ذلك القانون بعشرات السنين هو نظرتهم الى تجارب الدول التي تأخر فيها الأخذ بنظام المركزية في الرقابة القضائية على دستورية القوانين – من خلال إنشاء محكمة دستورية متخصصة – عن صدور معظم القوانين الحيوية التي تحكم جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فيها ، ومثال ذلك التجربة المصرية وما ترتب على ذلك من تأخر الوعي بالثقافة الدستورية بين العامة ، وعدم نضج الفن القضائي بين رجال القانون بالنسبة للدعوى الدستورية ، سواء من ناحية جوانبها الإجرائية أو الموضوعية .
    أما الدول التي بها تجربة مكتملة النمو بالنسبة للرقابة القضائية على دستورية القوانين ، فلا يتصور أن يتراخى صدور الحكم بعدم دستورية نص عن تاريخ صدور النص نفسه بعشرات السنين ، لأنه طالما أن هذا النص فاعل ومؤثر في محيط العلائق القانونية ، فلا بد أن يصيبه شخص أو أكثر بسهام الطعن بعدم الدستورية ليحيله عدماً ، سواء كان شخصاً طبيعياً أو اعتبارياً ، ولا سيما في عصر تزايد فيه إنشاء المنظمات التي تعمل في مجال العمل الجمعي وترعى مصالح أعضائها .

    وما ذهب إليه رأي فقهي ، بأن قياس الحكم بعدم دستورية قانون على الحكم بإلغاء قرار إداري هو قياس فاسد وأن ثمة أسباباً – ذكرها – للقول بأن للحكم في دعوى الإلغاء أثراً رجعياً ، في حين أن للحكم في الدعوى الدستورية أثراً مباشراً (1) ، والحقيقة أن هذا الرأي فاته أن القرارات اللائحية هي قاسم مشترك في كل من دعوى الإلغاء والدعوى الدستورية ، فهل يقبل القول بأن اللائحة إذا صدرت مخالفة للقانون تلغى بأثر رجعي وإذا صدرت مخالفة للدستور يقف نفاذها بأثر مباشر ، أي في المستقبل فحسب ؟!
    وما ذهب إليه هذا الرأي من القول بأن الحكم بعدم الدستورية لا يعدم النص المخالف للدستور ، ولكن يقضي على قوة نفاذه ، أما إعدام النص فهو اختصاص محجوز للمشرع وحده ، وبالرغم من أننا نرى أن هذا القول قول صائب إلا أنه لم يذكر على وجه التحديد ، ما المقصود بعبارة يقضي على قوة نفاذه ، من حيث محلها ؟ أي لم يقدم تبريراً كافياً للقول بالأثر المباشر للحكم بعدم الدستورية ، وهو من منظور الاتجاه الفقهي المنادى به إنما يعني تعطيل تطبيق النص المقضي بعدم دستوريته في المستقبل فحسب.

    ويظل التساؤل قائماً : هل للحكم بعدم دستورية نص تشريعي أثر رجعي أم أثر مباشر ؟

    يجمع القضاء والرأي الغالب في الفقه – كما رأينا آنفاً – على أن مفاد نص المادة ( 49/3 ) من قانون المحكمة الدستورية العليا هو عدم تطبيق النص المقضي بعدم دستوريته ليس في المستقبل فحسب ، ولكن أيضاً على الوقائع السابقة على صدور الحكم بعدم الدستورية ، بينما يذهب عدد قليل في الفقه الى أن مفاد نص المادة ( 49/3 ) هو عدم تطبيق النص المقضي بعدم دستوريته في المستقبل فحسب ، أي – فقط – على الوقائع اللاحقة لليوم التالي لتاريخ نشر الحكم بعدم الدستورية .
    وقد أكدت المحكمة الدستورية العليا موقفها في أحكامها الحديثة فقررت " وحيث إن مقتضى حكم المادة (49) من قانون المحكمة الدستورية العليا – بعد تعديلها بقرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 168 لسنة 1998 – هو عدم تطبيق النص المقضي بعدم دستوريته على الوقائع اللاحقة لليوم التالي لتاريخ نشر الحكم الصادر بذلك ، وكذلك على الوقائع السابقة على هذا النشر ، إلا إذا حدد الحكم الصادر بعدم الدستورية تاريخاً آخر لسريانه "(2) .



    د . محمد محمد بدران – مرجع سابق .
    دستورية عليا في القضية رقم 70 لسنة 18 ق " دستورية " بجلسة 3 نوفمبر سنة 2002 .

    دستورية عليا في القضية رقم 154 لسنة 21 ق " دستورية " بجلسة 16 مارس سنة 2003 .
    دستورية عليا في القضية رقم 4 لسنة 23 ق " دستورية " بجلسة 13 أبريل سنة 2003 .



    رأي مخالف لإجماع الفقه والقضاء

    ليس صحيحاً – عندنا – ما ذهب إليه الفقه والقضاء من أن الحكم بعدم دستورية نص مؤداه طبقاً للمادة (49/3) عدم تطبيق النص على الوقائع اللاحقة لليوم التالي لتاريخ نشره ، وكذلك على الوقائع السابقة على هذا التاريخ .
    ومن العجيب ، بل البالغ في العجب ، أن يجمع الفقه والقضاء على أن مفاد نص المادة ( 49/3 ) هو عدم تطبيق النص المقضي بعدم دستوريته على الوقائع اللاحقة لليوم التالي لتاريخ نشر الحكم ، ويثور الخلاف – فقط – على عدم تطبيق النص على الوقائع السابقة على تاريخ نشر الحكم ، مع أن الوقائع اللاحقة هي التي لا يتصور على الإطلاق أن تكون محلاً تنصبّ عليه القوة الملزمة للحكم بعدم الدستورية الواردة بالمادة (49/3) ، لأن النص ( القاعدة التشريعية ) المقضي بعدم دستوريته لم يعد ثمة وجود له في النظام القانوني للدولة من اليوم التالي لتاريخ نشر الحكم ، كأثر للحجية المطلقة وليس كأثر للقوة الملزمة له .

    صحيح أن الحجية المطلقة للحكم بعدم الدستورية تثبت من القوة الملزمة له الواردة بالمادة (49) ، أي تثبت كأثر للحكم التقريري الكامن في طيات حكم الإلزام ، لكن الأثر المترتب على هذه الحجية المطلقة هو زوال النص من محيط العلائق القانونية من اليوم التالي لتاريخ نشره بالجريدة الرسمية ، ومن ثم فلا يتصور – هنا - الحديث عن تطبيق النص على الوقائع أو عدم تطبيقه .

    وفضلاً عن ذلك ، فإن الحجية المطلقة للحكم بعدم الدستورية ، كما تثبت من المادة (49) ، فإنها تثبت – أيضاً – بتضافر المادتين (27) و (48) معاً * ، أي أن النص المقضي بعدم دستوريته سوف يزول من محيط العلائق القانونية من اليوم التالي لتاريخ نشره بالجريدة الرسمية ، حتى ولو أغفل المشرع تقريره للمادة (49) تماماً ، أي حتى لو وقف المشرع بالحكم بعدم الدستورية عند كونه حكماً تقريرياً فقط ، ولم يتعداه ليجعل منه حكم إلزام ، وهذا جائز له بالطبع وفقاً للمادة (178/2) من الدستور.
    كما أن نشر الحكم بعدم الدستورية بالجريدة الرسمية هو أمر وجوبي على السلطة التنفيذية طبقاً للمادة (178/1) من الدستور ولو أغفل المشرع العادي تقريره .

    أي أن قاضي الموضوع ، عند نظره وقائع دعوى لاحقة لليوم التالي لتاريخ نشر الحكم بعدم الدستورية، فإنه حين يقوم بتحديد عناصر المركز القانوني للخصوم ليبحث في مدى تطابقها مع عناصر المركز الواقعي ، فإن قاضي الموضوع لن يضع هذا النص المقضي بعدم دستوريته – بداءة – ضمن عناصر المركز القانوني .
    وإذا كان يصعب تصور قولنا هذا ، إذا كانت وقائع الدعوى التي ينظرها قاضي الموضوع لاحقة لتاريخ نشر الحكم بعدم الدستورية بفترة زمنية وجيزة ، فإنه قد يسهل جداً تصور ذلك إذا كان تاريخ نشر الحكم بعدم الدستورية ووقائع الدعوى اللاحقة التي ينظرها قاضي الموضوع يفصل بينهما أمد بعيد ، لأنه في هذه الحالة الأخيرة ، لا يتصور على الإطلاق القول بأن قاضي الموضوع سوف يمتنع عن تطبيق النص المقضي بعدم دستوريته التزاما ًمنه بحكم المادة ( 49/3 ) ، لأن هذا النص المقضي بعدم دستوريته ، والحكم الدستوري الذي قضى بعدم دستوريته – أحدهما أو كلاهما – قد أصبحا في طي النسيان .
    وبناء على ما تقدم ، فلا يتصور أن تنصبّ القوة الملزمة للحكم بعدم الدستورية إلا على الوقائع السابقة لتاريخ نشر الحكم وليس على الوقائع اللاحقة على هذا التاريخ .

    يؤكد هذا النظر ويعززه ، أن المحكمة الدستورية العليا حين يُعرض عليها طعن دستوري على نص تشريعي سبق أن قضت بعدم دستوريته ، فإنها لا تقضي بعدم قبول الدعوى أو عدم جواز نظرها لسبق الفصل فيها ، ولكنها تقضي باعتبار الخصومة منتهية لأنها واردة على غير محل ، والمحل هنا هو النص المطعون عليه والذي اختفى من النظام القانوني للدولة بعد سبق القضاء بعدم دستوريته .
    ويقطع في دلالة ما تقدم ، تلك الصياغة الدقيقة المحكمة لنص المادة ( 49/3 ) – قبل تعديله – فالمشرع لم يستعمل صياغة ( عدم تطبيقه ) ، ولكن استعمل صياغة ( عدم جواز تطبيقه ) ، وعلة ذلك ، أن القراءة الصحيحة لنص المادة ( 49/3 ) لا تقف عند ظاهر العبارة المكتوبة ، وإنما تتعداه لتشمل – بمفهوم المخالفة – عبارة " ويترتب على الحكم بدستورية نص في قانون أو لائحة جواز تطبيقه " .

    ولذا استعمل المشرع لفظة " جواز " ليعصم بها النص من الوقوع في حومة المخالفة الدستورية ، لأنه لو لم يستعملها واستعمل صياغة " عدم تطبيقه " ، لكان معنى ذلك أنه لزام على قاضي الموضوع تطبيق النص المقضي بدستوريته على وقائع النزاع الموضوعي بما يعد عدواناً من السلطة التشريعية على السلطة القضائية وإخلالاً بمبدأ الفصل بين السلطات ، إذ ليس ثمة التزام قانوني يقع على عاتق قاضي الموضوع بتطبيق النص المقضي بدستوريته ، فربما يعن له العدول عن إرادته السابقة ويسحبه من عناصر المركز القانوني بعد أن وضعه فيه كأحد عناصره ، وهو أمر جائز له بالطبع ، لأنه بوضعه هذا النص – بداءة – ضمن عناصر المركز القانوني لا يكون قد فصل في مسألة استنفد سلطته بالنسبة لها .
    وهذه القراءة الصحيحة لنص المادة ( 49/3 ) تعني أن المشرع يتحدث من خلالها عن المرحلة التي
    لا تزال فيها القاعدة التشريعية تهتز بين دستوريتها وعدم دستوريتها أمام عيني قاضي المحكمة الدستورية العليا ، وهي – بالطبع – المرحلة السابقة على صدور الحكم بعدم الدستورية .
    أي أن مقتضى حكم المادة ( 49/3 ) أنه خطاب تشريعي موجه إلى قاضي الموضوع بالامتناع عن تطبيق النص المقضي بعدم دستوريته على الوقائع المطروحة أمامه عند صدور الحكم بعدم الدستورية وذلك من تاريخ اليوم التالي لنشر هذا الحكم ، ومعنى الوقائع المطروحة على قاضي الموضوع ، أي الدعاوى الموضوعية التي قبلها شكلاً واتصل بها موضوعاً ، ولا يتصور أن تكون تلك الدعاوى قد قبلت شكلاً من قاضي الموضوع إلا باستيفاء شرطين معاً :
    أولهما : ألا يكون الحق الموضوعي محل الحماية قد انقضى بالتقادم .
    ثانيهما : ألا تكون الدعوى الموضوعية قد سبق الحكم فيها بحكم حائز لقوة الأمر المقضي .
    ( ويلاحظ استثناءً من ذلك ، أن المحكمة الإدارية العليا لأنها محكمة موضوع ، فهي تقبل شكلاً الدعاوى التي سبق الحكم فيها بحكم حائز لقوة الأمر المقضي من المحاكم الأدنى ) .
    أي أنه ينتج مما تقدم أن أثر الحكم بعدم دستورية نص تشريعي طبقاً للمادة (49/3) هو : عدم تطبيق النص على الوقائع السابقة على تاريخ نشر الحكم بعدم الدستورية ، على أن يستثنى من ذلك الحقوق والمراكز التي تكون قد استقرت عند صدوره بحكم حاز قوة الأمر المقضي ، أو بانقضاء مدة تقادم ، وهذا هو نطاق سريان الحكم بعدم الدستورية ، على أن يكون تاريخ العمل بهذا الحكم هو اليوم التالي لتاريخ نشره ، ويلاحظ أنه لا فارق في ذلك بين نص جنائي أو غير جنائي .
    وقد رأينا بالفعل – في المبحث السابق – أن الحكم بعدم دستورية نص ، لا يسري على الطعون المنظورة أمام محكمة النقض والحائزة لقوة الأمر المقضي ، سواء كانت طعوناً جنائية أم مدنية .

    ويبقى بعد ذلك أثر الحكم بعدم دستورية نص جنائي طبقاً للمادة ( 49/4 ) : هو التزام قاضي النقض الجنائي بتجريد حكم الإدانة النهائي من قوته التنفيذية ، وذلك بالقضاء باعتبار خصومة النقض منتهية لأنها أصبحت واردة على غير محل والتزام النائب العام بتجريد حكم الإدانة البات من قوته التنفيذية ، مع بقاء – في الحالتين – أي حكم نهائي صادر في أية دعوى مدنية تبعية ، أو في أية دعوى مدنية ناشة عن الجريمة منتجاً لآثاره .

    ويتضح مما سبق أن القوة الملزمة للحكم بعدم دستورية نص جنائي أو غير جنائي لن تمس مراكز قانونية استقرت وتحصنت ، إما بصدور حكم حائز لقوة الأمر المقضي أو بانقضاء مدة تقادم ، ومن ثم لا يتصور القول على الإطلاق إن لهذه القوة الملزمة أثراً رجعياً ، بل لها دائماً أثر مباشر ، أما الرجعية أو الفورية ، فهي ترد على القوة التنفيذية، والقوة التنفيذية تلك هي من آثار الحكم الموضوعي للدعوى الموضوعية التي تفرعت منها الدعوى الدستورية.
    والقوة التنفيذية للأحكام الموضوعية في المسائل غير الجنائية – الأصل فيها – أن يكون لها أثر رجعي دائماً، لأن التنفيذ إما أن يكون عينياً أو عن طريق التعويض إن تعذر التنفيذ العيني بأثر رجعى، أي بأثر ينسحب إلى وقت وقوع الإخلال بالتطابق بين عناصر المركز القانونى وعناصر المركز الواقعى للخصوم ، ولكن لأن من المقرر أنه لا تعويض عن الضرر الناشئ عن التشريعات غير الدستورية التي تقررها السلطة التشريعية، فهذا يعني أن القوة التنفيذية للحكم الصادر في الدعوى الموضوعية التي تفرعت منها الدعوى الدستورية سيكون له في بعض الأحيان أثر رجعي وفي أحيان أخرى أثر مباشر فقط ، لأنه قد يتعذر أحياناً التنفيذ العيني بأثر رجعي وفي الوقت نفسه لا يحصل المضرور على تعويض عما أصابه من ضرر.
    وفي المسائل الجنائية، فإن أحكام الإدانة تتجرد من قوتها التنفيذية، أي تعود المراكز الواقعية للأشخاص لتتطابق تقريباً مع مراكزهم القانونية قبل صدور أحكام الإدانة، ومن البدهي أنه لا يتصور أن يقع هذا التطابق بأثر رجعي إذا كانت العقوبة مقيدة للحرية وكان قد تم البدء في تنفيذها ، لأن ما فات من الزمن لا يتصور الرجوع فيه ، أما إذا كانت العقوبة هي الغرامة أو رد أموال أو العزل من الوظيفة، فمن المتصور أن تعود المراكز الواقعية للأشخاص لتتطابق تقريباً مع مراكزهم القانونية التي كانوا عليها قبل صدور أحكام الإدانة.
    وهكذا نري أن الحكم بعدم دستورية نص تشريعي له أحياناً أثر رجعي وأحياناً أخرى أثر مباشر بالنسبة للمراكز الواقعية للأشخاص ، لا فارق في ذلك بين نص جنائي أو غير جنائي.

    وهكذا نرى أن لفظة " الرجعي " الواردة بالمذكرة الإيضاحية للقانون لم تكن سوى مجرد خطأ في الصياغة فقط وأن القانون – قبل تعديله – كان يقرر الأثر المباشر للحكم بعدم الدستورية وليس الأثر الرجعي .
    يؤكد ذلك ما ورد بتقرير اللجنة التشريعية عن مشروع قانون إصدار قانون المحكمة الدستورية العليا في البند (18) من عبارة " ومع ذلك فإنه استثناء من القاعدة العامة التي أخذ بها المشروع بشأن الأثر المباشر للحكم بعدم الدستورية قرر بالنسبة للنصوص الجنائية أنه يبطل العمل بالنص الجنائي – سواءً كان عقابياً أم متعلقاً بالإجراءات – من التاريخ آنف الذكر على أن تعتبر الأحكام الصادرة بالإدانة استناداً الى النص الباطل دستورياً كأن لم تكن ..." .

    ويقطع في دلالة تقرير الأثر المباشر صحة ما قرره – أنصار الاتجاه الفقهي القائل به – في بعض
    النقاط ، ومنها :
    أولاً : أن الحكم بعدم الدستورية يشبه القانون من حيث موضوعيته ، إذ يسري على أطراف النزاع وغيرهم ، ومن حيث عموميته إذ يلزم جميع سلطات الدولة والكافة .

    ثانياً : أن القول بأن الحكم بعدم الدستورية يعدم النص المخالف للدستور من تاريخ صدوره لا يتفق وصحيح القانون ، فالحكم بعدم الدستورية لا يعدم النص المخالف للدستور، ولكن يقضي على قوة نفاذه ، أما إعدام النص فليس من سلطة المحكمة الدستورية العليا ولكنه اختصاص محجوز للمشرع وحده .
    أي أن خلاصة هذا
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    الحكم بعدم الدستورية بين الأثر الكاشف والأثر المباشر Empty رد: الحكم بعدم الدستورية بين الأثر الكاشف والأثر المباشر

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الأحد أكتوبر 06, 2013 2:36 am

    الرأي ، أن الحكم بعدم دستورية نص هو في مضمونه تشريع ، ومن ثم فإنه طبقاً للمادة ( 187 ) من الدستور ، فإن المشرع هو وحده صاحب الاختصاص في تقرير الرجعية لنص ما في غير المواد الجنائية وبأغلبية خاصة ولا يملك تفويض غيره في هذا الاختصاص ، وبالتالي فإنه لا يتصور أن يكون للحكم بعدم الدستورية أثر رجعي .
    ولكن هذا الاتجاه الفقهي ، أغفل أن الرجعية التي تعنيها المادة ( 187 ) من الدستور ، إنما تعني أن يمس القانون مراكز قانونية استقرت وتحصنت ليؤثر فيها منتقصاً من حقوق اكتسبها أصحابها ، والمراكز القانونية لا تستقر إلا بأحد أمرين : إما بأحكام حائزة لقوة الأمر المقضي وإما بانقضاء مدة تقادم .
    ومن ثم فإننا لو استبعدنا من عبارة المذكرة الإيضاحية للقانون لفظة " الرجعي " التي وردت في البند (10) كخطأ في الصياغة ، لوجدنا أن العبارة سليمة (*) ، وأن القانون – قبل تعديله – ومعه المذكرة الإيضاحية له يقصدان بالفعل تقرير الأثر المباشر للحكم بعدم الدستورية وليس الأثر الرجعي ، لكنه الأثر المباشر بمعناه القانوني الصحيح على النحو سالف الذكر ، وليس الأثر المباشر بالمعنى الذي ذهب إليه جانب من الفقه بالقول بتعطيل تطبيق النص المقضي بعدم دستوريته في المستقبل فحسب .

    (*) يلاحظ التحفظ الذي ذكرناه في هذه النقطة في المبحث السابق بالنسبة للمسألة الدستورية أمام المحكمة الإدارية العليا .

    المبحث الثالث : القرار بقانون رقم 168 لسنة 1998 بتعديل الفقرة الثالثة
    من المادة (49) من قانون المحكمة الدستورية العليا

    كانت الفقرة الثالثة من المادة (49) من قانون المحكمة الدستورية العليا تنص على " ويترتب على الحكم بعدم دستورية نص في قانون أو لائحة عدم جواز تطبيقه من اليوم التالي لنشر الحكم . "
    وبعد تعديلها بالقرار بقانون رقم 168 لسنة 1998 أصبحت تنص على " ويترتب على الحكم بعدم دستورية نص في قانون أو لائحة عدم جواز تطبيقه من اليوم التالي لنشر الحكم ما لم يحدد الحكم لذلك تاريخاً آخر على أن الحكم بعدم دستورية نص ضريبي لا يكون له في جميع الأحوال إلا أثر مباشر وذلك دون إخلال باستفادة المدعي من الحكم الصادر بعدم دستورية هذا النص " .

    موقف الفقه من تعديل قانون المحكمة الدستورية العليا

    انقسم الفقه الى اتجاهين : اتجاه مؤيد للتعديل ، واتجاه معارض له ، وسوف نعرض بإيجاز لما ذكره كل من الاتجاهين.

    أولاً : الاتجاه المؤيد للتعديل (*) يذهب هذا الاتجاه الى القول :

    أن القانون قبل تعديله كان يرتب الأثر المباشر للحكم بعدم دستورية نص غير جنائي وأن التعديل الجديد أقرب الى أن يكون تفسيراً للنص القديم منه الى إقرار حكم جديد ، وأن القرار بقانون هو خطوة على الطريق الصحيح ، وأن الأثر الرجعي لأحكام المحكمة الدستورية باطل ولا يتفق مع الدستور .

    أن إلزام الدولة برد ما حصلته من ضرائب على مدى عشرات السنين ، وهو قد يتجاوز أضعاف الموازنة العامة فهذه نتيجة غير مقبولة بل هي غير ممكنة التحقيق ، فضلاً عن أنه نوع من الجزاء المدني لا يجيز القانون للمحكمة الدستورية توقيعه .

    المحكمة الدستورية هي محكمة سياسة وقانون معاً ونصوص الدستور ليست قانوناً خالصاً ولكنها آمال وأمان سياسية أيضاً .

    أن التعديل لم يصادر على حق المحكمة الدستورية في الرقابة على دستورية القوانين واللوائح ، ذلك أن المحكمة بوسعها أن تنص في أي حكم تصدره على عدم تطبيق النص الذي رأت عدم دستوريته وذلك في اليوم التالي لتاريخ الحكم أو من يوم صدور النص ، أو من اليوم الذي تراه وتنص عليه في حكمها ، فالتعديل لم يسلب المحكمة سلطتها ولم يخالف نصوص الدستور .

    أنه ليس في ترتيب الأثر المباشر في القضايا الضريبية بقوة القانون أي مساس بمبدأ المساواة .

    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    (*) د. فوزية عبد الستار – د. محمد محمد بدران – د. نبيل لوقا بباوي – د. علي عوض حسن – د. أحمد فتحي سرور
    ثانياً : الاتجاه المعارض للتعديل ويذهب هذا الاتجاه (*) الى القول :

    إن هذا التعديل يعتبر تدخلاً في القضايا وشئون العدالة واعتداءً على استقلال المحكمة الدستورية العليا .

    إن هذا التعديل يخلق أوضاعاً شاذة وغير منطقية ، كما أنه يفتقر الى أية مبررات موضوعية ، إذ كيف يكون التشريع دستورياً في فترة من الفترات وغير دستوري في فترة أخرى ، وذلك فيما عدا التشريعات الضريبية .

    إن هذا التعديل يفرغ الرقابة الدستورية من مضمونها ، لأنه يفسح المجال للسلطة التشريعية أن تصدر تشريعات غير دستورية لفترات محدودة وتنفذ لفترة زمنية قد تطول الى أن يحكم بعدم دستوريتها فتتكاثر تبعاً لذلك التشريعات السريعة غير الدستورية .

    إن هذا التعديل يؤدي الى الإخلال بمبدأ المساواة ، فاستثناء النصوص الضريبية التي يحكم بعدم دستوريتها دون سائر القوانين ، وذلك بإعمال الأثر المباشر – دون سريانها على الماضي – بالنسبة لها فقط ، إنما هي تفرقة لا مبرر لها ، كما أن هذا التعديل يجعل لحكم المحكمة الدستورية أثراً رجعياً بالنسبة لشخص واحد فقط وهو رافع الدعوى ، أما غيره ممن يكونون في نفس الحالة فإنهم لا يستفيدون من الحكم وهذا أيضاً إخلال واضح بمبدأ المساواة .

    إن هذا التعديل حين يمنع من دفعوا ضريبة بناءً على نص غير دستوري من استردادها فإنه يمثل مصادرة للأموال دون حكم قضائي بالمخالفة لنص الدستور .

    التعديل يؤدي الى تكدس القضايا أمام المحكمة الدستورية العليا ، ويجعل من صياغة المادة

    (49) في مجملها متعارضاً بعضها مع بعض ، فالتعديل قصر حق الاستفادة من الحكم بعدم دستورية نص ضريبي على رافع الدعوى فقط ، مما يدفع الكثرة الى أن يكونوا مدعين بعد أن كانت غالبيتهم تترقب الحكم وتفيد منه بغير التجاء الى القضاء واكتفاءً بكون الخصومة عينية .

    إن مبدأ سلامة الدولة لا يحول البتة دون التزام الدولة برد الأموال المغتصبة من الأفراد نتيجة إصدار نصوص تشريعية مخالفة للدستور ، سواء في ذلك أن تكون هذه الأموال قد أنفقت أو لم تنفق في أوجه النفع العام ، فهذا هو ما يتفق مع أسس الدولة القانونية التي تقوم على مبدأي سيادة القانون وخضوع الدولة للقانون طبقاً للمادتين ( 65،64 ) من الدستور .

    منح التعديل للمحكمة الدستورية سلطة تقرير أثر غير رجعي لبعض الأحكام وهذه السلطة غير دستورية لأن الدستور خول المشرع في تحديد آثار الحكم ولا يجوز للمشرع أن يفوض المحكمة في تحديد آثار حكمها ، لأن الدستور لم يمنحه سلطة التفويض .



    (*) د. عبد العزيز محمد سالمان – د. عاطف البنا – د. حاتم علي لبيب جبر – د. عبد الحميد حسن – د. شوقي السيد - المستشار / محمد حامد الجمل – المستشار / سعيد الجمل .

    قضاء المحكمة الدستورية العليا بالنسبة للموقف الدستوري من القرار بقانون 168 لسنة 1998
    ذهبت المحكمة الدستورية العليا الى دستورية القرار بقانون 168 لسنة 1998 شكلاً وموضوعاً ورفض الدعوى بعدم دستوريته * ، وكان من أهم حيثياتها في هذا الصدد ما قضت به " أن نص الفقرة الثالثة من المادة (49) من قانون المحكمة الدستورية العليا بعد تعديلها ، جاء قاطعاً في أن الحكم بعدم دستورية أي نص ضريبي يرتب أثراً مباشراً فقط ، إلا أن النص المذكور قرن ذلك بعدم الإخلال باستفادة المدعي من الحكم الصادر بهذا الشأن ، بما مؤداه إطلاق صفة المدعي لتشمل كل من اتصلت دعواه مستوفية أوضاعها القانونية بالمحكمة الدستورية العليا وقت صدور الحكم بعدم دستورية ذلك النص ، وهو الإطلاق الذي يعصم النص من عدم الدستورية ، وبذلك يكون المشرع قد مارس حقه في المغايرة بين مراكز اختلفت أسس قيامها واتخذ ما يراه كفيلاً بدرء أخطار تهدد مقومات المجتمع الاقتصادية ، وإذا كان الدستور يؤسس النظام الضريبي على العدالة الاجتماعية وفقاً للمادة (38) ، إلا أن هذه العدالة تتوخى بمضمونها التعبير عن القيم والمصالح الاجتماعية السائدة في مجتمع معين خلال فترة زمنية محددة ، ومن ثم تتباين معانيها ومراميها تبعاً لتغير الظروف والأوضاع ويتعين بالتالي أن تتوازن علائق الأفراد ومصالحهم ، بمصالح المجتمع في مجموعه توصلاً الى عدالة حقيقية تتفاعل مع الواقع وتتجلى قوة دافعة لتقدمه ، وإذا كان العدل مهيمناً على الضريبة التي توافرت لها قوالبها الشكلية وأسسها الموضوعية ، فإن ذلك يشكل ضمانة توافر الحماية القانونية التي كفلها الدستور للمواطنين جميعاً . وينبني على ما تقدم ، أن ما اتخذه المشرع من تعديل للفقرة الثالثة من المادة (49) من قانون المحكمة الدستورية العليا كان سبيلاً للحفاظ على مصالح الجماعة ومن ثم تنتفي عنه قالة مخالفة الدستور " .

    رأينا الخاص في الموقف الدستوري للقرار بقانون 168 لسنة 1998
    انتهينا في المبحث السابق إلى أن نص الفقرة الثالثة من المادة (49) من قانون المحكمة الدستورية العليا – قبل تعديله – كان يقرر الأثر الكاشف والأثر المباشر لحكم المحكمة الدستورية بعدم دستورية نص في قانون أو لائحة .
    فأصبح النص – بعد تعديله – يقرر الأثر الرجعي كأصل عام ، ويقرر الأثر المباشر ( وبغير معناه الصحيح ) على سبيل الاستثناء ، ومن المقرر أن الأثر الرجعي للحكم بعدم الدستورية بمعناه الصحيح ، أي بمعنى أن يمس الحكم مراكز قانونية استقرت وتحصنت ، إما بصدور حكم حائز لقوة الأمر المقضي أو بانقضاء مدة تقادم ، هذا الأثر الرجعي هو أمر مخالف للدستور ، لأنه كما قلنا من قبل ، إن الحكم بعدم الدستورية هو في مضمونه تشريع ، ومن ثم فإنه طبقاً للمادة (187) من الدستور ، فإن المشرع
    – هو وحده – صاحب الاختصاص في تقرير الرجعية لنص ما في غير المواد الجنائية وبأغلبية خاصة ، ولا يملك تفويض غيره في هذا الاختصاص .

    ويلاحظ على حكم المحكمة الدستورية أنه بحث في مبدأ المساواة منظوراً إليه من خلال مبدأ العدالة الاجتماعية ، وكان لزاماً عليه أن يبحث في مبدأ المساواة منظوراً إليه من خلال مبدأ حق الملكية ، لأننا ـ هنا ـ لسنا بصدد البحث في دستورية قانون يقرر ضريبة ما ، ولكننا بصدد البحث في دستورية قانون يمس حق الملكية بالنسبة لممولي الضرائب بتقرير قيود على حقهم في استرداد الأموال التي تم تحصيلها منهم كضرائب أو عدم دفع أموال كضرائب فرضت عليهم إذا قضي بعد ذلك بعدم دستورية القانون الذي أنشأ تلك الضريبة .
    أي أنه كان لزاماً على المحكمة الدستورية أن تبحث في توافق أو تعارض القرار بقانون المطعون عليه مع المادة (40) من الدستور منظوراً إليها من خلال المادتين (32 ، 34) من الدستور ، وليس منظوراً إليها من خلال المادة (38) من الدستور.

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    * دستورية عليا بتاريخ 7 يولية سنة 2002 فى القضية رقم 76 لسنة 22 قضائية "دستورية".

    ولا ينال من هذا النظر القول إن المحكمة بحثت بعد ذلك في توافق أو تعارض النص المطعون عليه مع المادتين ( 32 ، 34 ) من الدستور، إذ أنها قامت بذلك كوجه طعن مستقل أبداه المدعي الدستوري .
    وبعبارة أخرى ، فإن المحكمة بحثت في توافق أو تعارض النص المطعون عليه مع حق الملكية ، ولم تبحث في توافق أو تعارض النص المطعون عليه مع مبدأ مساواة المراكز القانونية المتماثلة بالنسبة لحق الملكية .
    وأما فيما قرره القرار بقانون بالنسبة للنصوص الضريبية ، فالحقيقة أن القرار بقانون جاوز كل حدود العقل والمنطق ، وإذا كان حكم المحكمة الدستورية قد أيد المشرع فيما ذهب إليه بالنسبة للنصوص الضريبية ، فالحكم بهذا التأييد لم يكسب النص المطعون عليه أي قدر من الشرعية الدستورية – وعلى حد تعبير المحكمة الدستورية ذاتها – يستحيل أن ينقلب العدم وجوداً .

    والحقيقة أن التعديل الذي قرره القرار بقانون بالنسبة للنصوص الضريبية ، هو ببساطة شديدة أنه حول القوة الملزمة للحكم بعدم الدستورية من الأثر المطلق الى الأثر النسبي ، في حين أبقى لحجية الحكم بعدم الدستورية على أثرها المطلق ، وهو أمر ينحدر بالنص الجديد وبحكم المحكمة الدستورية معاً إلى أقصى درجات الانعدام ، فهل يتصور القول – مثلاً – أن تكون للقوة التنفيذية لحكم ما أثر مطلق ، في حين تظل حجية الحكم نسبية بين أطراف النزاع وحدهم ، وما ذهب إليه هذا القرار بقانون بتقرير الأثر النسبي للقوة الملزمة والأثر المطلق للحجية يؤدي إلى نتيجة شاذة وغير منطقية ، لأن هذا يعني أن الممول للضريبة المضرور من فرض الحكومة ضريبة عليه بناءً على نص ضريبي غير دستوري إذا ما بادر في اليوم التالي مباشرة لفرض تلك الضريبة عليه إلى رفع دعواه الموضوعية للمطالبة بإلغائها ، وقد انصرفت إرادته إلى الدفع بعدم دستورية النص المقرر للضريبة ، فإن سبق صدور حكم من المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية هذا النص ونشره بالجريدة الرسمية – بناءً على دعوى دستورية سبق إقامتها من ممول ثان للضريبة – سوف يحول بين الممول الأول للضريبة وبين استفادته من حكم المحكمة الدستورية العليا ، بالرغم من أنه بادر على الفور وفي اليوم التالي مباشرة لنشأة حقه في الدعوى الموضوعية لإقامتها ، في حين أن الممول الثاني للضريبة سوف يستفيد من حكم المحكمة الدستورية ، حتى ولو كان قد تراخى في رفع دعواه الموضوعية ، فلم يرفعها إلا في آخر يوم قبل انقضاء حقه فيها .

    وإذا كان الهدف من هذا القرار بقانون رقم 168 لسنة 1998 – كما يبين من المذكرة الإيضاحية له – هو مواجهة المشاكل الناجمة عن الإطلاق في تطبيق قاعدة الأثر الرجعي لأحكام المحكمة الدستورية في غير المسائل الجنائية والتي من بينها الإخلال بمراكز قانونية امتد زمن استقرارها ، وتحميل الدولة بأعباء مالية تنوء بها خزانتها بما يضعفها في مجال تحقيق مهامها التنموية والنهوض بالخدمات والمرافق العامة التي تمس مصالح المواطنين في مجموعهم ، ولذا فقد رؤى ضرورة إجراء هذا التعديل للفقرة الثالثة من المادة (49) تحقيقاً للموازنة بين متطلبات الشرعية الدستورية واعتبارات استقرار المراكز القانونية في المجتمع والحفاظ على أمنه اجتماعياً واقتصادياً .

    نقول إنه إذا كان هذا هو هدف الدولة من تعديل نص الفقرة الثالثة من المادة (49) من قانون المحكمة الدستورية العليا ، فهل كانت الدولة بحاجة الى هذا التعديل ، أم كانت بحاجة – فقط – إلى فهم صحيح لهذا النص قبل تعديله ؟ !
    هذا النص الذي كان يقرر الأثر الكاشف والأثر المباشر للحكم بعدم الدستورية ، أثر كاشف فيما يتعلق بالحجية المطلقة ، وأثر مباشر فيما يتعلق بالقوة الملزمة .





    * انظر بحثنا: حالة التصدي في قانون المحكمة الدستورية العليا بين النص والتطبيق.



    طارق محمود محمد جعفر

    باحث قانوني

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة مايو 10, 2024 1:56 am