روح القانون

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
الأستشارات القانونيه نقدمها مجانا لجمهور الزائرين في قسم الاستشارات ونرد عليها في الحال من نخبه محامين المنتدي .. او الأتصال بنا مباشره موبايل : 01001553651 _ 01144457144 _  01288112251

    عبقرية الاصلاح فى رحاب القضاء بقلم رجائى عطيه المحامى

    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    عبقرية الاصلاح فى رحاب القضاء بقلم رجائى عطيه المحامى Empty عبقرية الاصلاح فى رحاب القضاء بقلم رجائى عطيه المحامى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود السبت يوليو 11, 2009 12:38 am

    حين ولد الأستاذ الإمام محمد عبده في قرية محلة نصر من أعمال مديرية الغربية في عام 1849، لم يكن أحد يعرف أن ميلاده في هذا الزمن القفر من موافقات المقادير، ولا كان أحد يمكن أن يتنبأ بأن هذا الوليد سوف يملأ الدنيا ويشغل الناس بعد زمن وجيز، وأنه مقدور أن يحمل شعلة الإصلاح لينشر النور والضياء في ربوع مصر والشرق بعد ظلام ليل طويل من الجهالة والجمود، ومع ذلك فإن الأستاذ الإمام لم يكن من عظماء الفرصة، وإنما كانت عظمته مستمدة من "القدرة الخالصة" التي تحمل مقوماتها وتعبر عن نفسها في كل وقت وعصر.. نعم كان العصر عصر إظلام يتحرق شوقا للخروج من متاهات الجهل والجمود، وقيض له في الأستاذ الإمام وأترابه أن يحملوا شعلة الاستنارة ويقودوا حملة الإصلاح، إلا أن عبقرية محمد عبده الإصلاحية عبقرية عريضة عميقة، لا تنحبس انتظارا لفرصة تسنح للتعبير عن نفسها، وإنما في نسيجها وبصيرتها ما يهيئ لها تهيئة الظروف وتذليل الصعاب وتعبيد الوهاد وخلق فرص التقدم خلقا قوامه هذه العبقرية الإصلاحية بفطرتها وصفاتها وسجاياها.. كان الأستاذ الإمام أعظم من أنجبته القرية المصرية ونهض برسالة الأزهر في عصره، وكان ينبوع قوة روحانية تطوي عوارض الزمن وصغائر الدنيا فيما تفيض به من حياة إنسانية متعددة الجوانب، لم تدع مجالا إلا طرقته ببصيرتها المفطورة، ونظرتها العميقة، وعقلانيتها الفياضة التي بعثت الحياة بعثا جديدا في عصر بأكمله.. من المحال أن نقرأ لأحد من أعلام التنوير من أواخر القرن التاسع عشر وحتى الآن، دون أن نجد الأستاذ الإمام حاضرا في كتاباته، مؤثرا في نسيجه وتكوينه.. عن أثره العميق فيه وفي جيله أشار عميد الأدب العربي خريج الأزهر والجامعة ـ الدكتور طه حسين في كتابه الأيام، وعن أثره في سنوات التكوين تحدث الأستاذ العقاد حتى قال فيمن تمنى أن يكتب عنهم ـ إنه لم يتيسر له أن يكتب عن الأستاذ الإمام محمد عبده خليفة الغزالي أحب المفكرين الإسلاميين إليه وأقدرهم تفكيرا على الإطلاق، إلا بعد أن أجمع أمره على إطراح التردد الطويل الذي يلازمه عند الكتابة عن أحب الشخصيات وأقربهم إليه، وجاهد نفسه للاكتفاء بثلاثمائة صفحة في كتابة ترجمة كانت ألف صفحة دون الكفاية عنده لموضوعها وجلال قدر الأستاذ الإمام وعظمة دوره ورسالته الإصلاحية التي تركت أثرا بالغا في عصره، شمل من تسامعوا به فضلا عمن تلقوا مباشرة عنه.

    كان الأستاذ الإمام مطبوعا على عبقرية الإصلاح وعبقرية التعليم، مدركا إدراكا عميقا أن الإصلاح لا يتأتى إلا بالتعليم، وأن إنارة العقول لاكتساب القدرة على الفهم واختيار سبل الإصلاح لا تكون إلا بالتعليم ودربة العقل على النظر والتفكير.. هذه العبقرية الإصلاحية يلمسها المتتبع لسيرة الأستاذ الإمام في كل مجال طرقه أو عرض له، في الفقه والشرع، وفي التعليم والترشيد، وفي السياسة والوطنية، وفي التربية والاجتماع، وفي الصحافة والكتابة والتأليف، وفي القضاء، وفي الأعمال الخيرية.. لم تفارقه هذه النظرة الإصلاحية قط، حتى عندما دفع به النفي الإجباري إلى خارج البلاد، في أعقاب الثورة العرابية، فيأبى أن يفارق بيروت إلا بعد أن أودع آراءه في إصلاح الأمة الإسلامية بالتعليم والتربية في رسالتين (لائحتين) أرسل إحداهما إلى شيخ الإسلام بالآستانة، وأرسل الثانية إلى بيروت، يشرح فيهما ما اهتدى إليه أثناء مقامه في منفاه من وسائل إصلاح البلاد عن طريق التعليم والتربية .. هذا النابغة ـ الريفي الأزهري ـ عرف بالسليقة والفطرة، وبالعلم والتأمل والخبرة ـ بل آمن إيمان الدين المتين أن "التقدم العصري" رهين بعلوم لنا أهملناها وهجرناها، وعلوم للمعتدين علينا سبقونا إليها ولم نلحقهم في غير القليل منها، فيقول للناس في مقال له في صحيفة الأهرام:

    "ليت شعري إذا كان هذا حالنا بالنسبة إلى علوم أرضعت ثدي الإسلام وغذيت بلبانه وتربت في حجره وتقلدت إيوانه منذ زمن يزيد على ألف سنة. فما حالنا بالنسبة إلى علوم مفيدة هي من لوازم حياتنا في هذه الأزمان.. لا بد لنا من اكتسابها وبذل الجهود في طلبها".

    في القضاء

    أرادوا إبعاده عن السياسة والتعليم فصار إليه إصلاح القضاء!

    من موافقات المقادير، أن تعيين الأستاذ الإمام بالقضاء عام 1888، لم يكن خاليا من الغرض، فردت المقادير على المغرضين غرضهم!.. كانت عبقرية الإمام الإصلاحية قد أقضت مضاجع، وكانت روحه الوطنية الوثابة قد أقلقت السلطات، فهو مصلح لا يهدأ ولا يدع أحدا يهدأ أو يستنيم، فكانت حوادث الثورة العرابية سنة 1881 التكئة التي اتخذت ذريعة لنفيه وإبعاده عن البلاد، ولكنه بعد أن أمضى السنوات الثلاث في الشام التي اختارها مقاما لنفيه المرهون نهوه بإذن من الخديوي، شد الرحال إلى باريس ليلحق بأستاذه جمال الدين الأفغاني، وليصدرا معا جريدة "العروة الوثقى" التي منعت الحكومة المصرية دخولها للبلاد، وانتهت سنوات النفي والتغريب بعودته إلى مصر سنة 1887، فتلاقى توجس السلطات من استئناف نشاطه مع احتياج نظارة الحقانية إليه في وظيفة القضاء الذي كان يعاني معاناة مرة وفي حاجة إلى إصلاحه وتطعيمه بذوي العلم والفقه والكفاءة.. كان أمل الأستاذ الإمام فيما يبدو ـ أن يستأنف حين عاد مسيرته الإصلاحية في التعليم، وربما كانت أنسب الأماكن آنذاك لعطائه ـ معهد دار العلوم الذي يجمع بين ثقافة الأزهر وعلوم العصر الحديث، إلا أن ولاة الأمر أوجسوا ـ على ما يظهر ـ من إسناد وظيفة التدريس في دار العلوم إليه تحسبا لتمكنه واقتداره على بث القوة التي لديه في نفوس الناشئة من معلمي المستقبل على امتداد البلاد، فأرادوا من ثمّ إبعاده عن التعليم، وتلاقت هذه الرغبة مع احتياجات القضاء ونظارة الحقانية إلى وظائف ريم أن يتوفر في شاغليها العلم بالشريعة والفقه، مع النزاهة والكفاية للحكم الصالح. ولقد أوشك الأستاذ الإمام أن يرفض الوظيفة المختارة له التي رأى أن اختياره لها لم يراع رغبته ولا كفايته للإصلاح عن طريق التربية والتعليم، ولأنه ـ كما قال ـ "جرب عمله في التعليم وعلم أنه قد خلق له، وأنه لم يخلق ليقول حكمت على هذا وحكمت لذاك..." .

    وقد قلنا إن تعيين الأستاذ الإمام بالقضاء كان من موافقات المقادير؛ لأن هذا التعيين ـ وعلى غير توقع من أرادوا التخلص والإبعاد! ـ أضاف إلى كل من القضاء وإلى تاريخ الأستاذ الإمام، أضاف إلى القضاء نضج التجربة التي خاضها الأستاذ الإمام بروحه الوثابة وعلمه العريض وإخلاصه الهائل وعبقريته الإصلاحية، فكان على المنصة مثالا جديدا لم يسبقه إليه أحد، وكان في كتابة الأحكام أحد أضلاع استحداث لغة جديدة في الحيثيات جمعت بين الفقه والشرع والقانون، وبين متانة العبارة وجلاء المعنى والبعد عن التقعر والنطاعة، وأضاف هذا العطاء إلى تاريخ الأستاذ الإمام صفحات جديدة لم يكن ليسطرها لولا أن أتيحت له فرصة العمل في القضاء الذي تجلت فيه جوانب جديدة في هذه العبقرية الإصلاحية التي لا يحدها حد، ولا تنطوي في مجال دون مجال.

    ".
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    عبقرية الاصلاح فى رحاب القضاء بقلم رجائى عطيه المحامى Empty رد: عبقرية الاصلاح فى رحاب القضاء بقلم رجائى عطيه المحامى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود السبت يوليو 11, 2009 12:38 am

    شهد النبهاء للأستاذ الإمام أنه كان معلما في أحكامه، وأنه كان من لوازمه التأمل والتدبر ومراجعة الفكر قبل أن ينتهي إلى الحكم الذي يقرن النطق به بأداء واجبه في الإرشاد والتنوير والنصح والتوجيه، حتى ليبدو المحكوم عليه مقتنعا بما حكم ضده به.

    في القضاء عمل الأستاذ الإمام قاضيا ببنها سنة 1888، ثم بالمنصورة، ثم نقل منها إلى الزقازيق، ثم رقي إلى الدرجة الأولى بالقاهرة سنة 1892، ثم عين مستشارا في الاستئناف سنة 1895 لنراه عضو اليسار في دائرة باسيلى بك تادرس سنة 1896 وفي دائرة سعد بك زغلول سنة 1897، فكانت جهوده آية على إخلاص جدير بالأستاذ الإمام جعله في المقدمة في كل ما اضطلع به .

    العالم الجليل لا يترفع عن الاستعداد لولاية القضاء

    لم يمارس الأستاذ الإمام وظيفة القضاء ممارسة العاديين أو الأوساط القانعين بأداء المطلوب وكفى، فلم تكن هذه شخصية الأستاذ الإمام، ولا كانت هذه نظرته للحياة التي أدرك أنها كانت بانتظار خطواته الإصلاحية المخلصة.. قد عرف منذ عُيِّن في القضاء أن قاعدته الشرعية تضعه في المقدمة في هذا المضمار بين رجال القضاء، ولكنه نظر فرأى بين القضاة من نالوا بعثات في باريس، وتخصصوا في الفقه الفرنسي الذي تعرض له المحاكم في تطبيق ما نقل عنه أو استمد بعض جذوره منه، وأدرك بطموحه وإيمانه بقيمة المعرفة أنه لا معدى عن الرجوع إلى مصادر هذا الفقه بلغته الأصلية لمن يريد أن يملك زمام الأمر فيه، فبادر الأستاذ الإمام ـ وهو العالم الجليل في مجاله ـ إلى استحضار ما كان قد ألم به من مبادئ الفرنسية فترة النفي في باريس بعد أن كان قد بدأ شوطه معها إبان الثورة العرابية وهو في الرابعة والأربعين، فواصل المجاهدة مع الصبر ليسبر أغوار هذه اللغة ليحسن الإلمام وفهم ما يتعين على القاضي العالم الفقيه أن يلم به ليفهم وليحكم بالعدل الذي هو مهجة القضاء وغايته.. نسمع إليه يحكى هذه التجربة فيقول:

    "بدأت بتعلم اللغة الفرنساوية عندما كانت سني أربعا وأربعين سنة. ولكن ميلي إلى تعلم لغة أجنبية ابتدأ في أثناء الحوادث العرابية فتعلمت الهجاء ثم تركته ونسيته تقريبا، وعندما سافرت إلى فرنسا أول مرة أقمت هناك عشرة أشهر.. ولم أتعلم شيئا من الفرنساوية.. أما بعد عودتي من النفي إلى مصر واشتغالي بالقضاء.. خصوصا في الجنايات على أصول القوانين الفرنساوية وجلوسي بين قضاة يغلب عليهم العلم بتلك القوانين في لغتها، فقد تقوى عندي الميل إلى تعلم اللغة الفرنساوية حتى لا أكون في معرفة القوانين أضعف ممن أجلس معهم مجلس القضاء.. فوجدت أستاذا لا بأس به جاءني حاملا كتاب نحو في يده (كرامير) فسألته ما هذا؟ فقال كتاب نحو فقلت له: "لا وقت عندي لأن ابتدئ، وإنما عندي زمن لأن أنتهي" ثم ناولته قصة من تأليف "إسكندر ديماس"، وقلت له: أنا أقرأ وأنت تصلح.. سافرت بعد ذلك إلى فرنسا وسويسرا عدة مرات في أيام العطلة، وكنت أحضر دروس العطلة في كلية جنيف".. ثم أضاف يقول: "ثم إن الذي زادني تعلقا بتعلم لغة أجنبية هو أني وجدت أنه لا يمكن لأحد أن يدعي أنه على شيء من العلم يتمكن به من خدمة أمته ويقدر على الدفاع عن مصالحها كما ينبغي إلا إذا كان يعرف لغة أوربية. كيف لا وقد أصبحت مصالح المسلمين مشتبكة مع الأوربيين في جميع أقطار الأرض؟ وهل يمكن مع ذلك لمن لا يعرف لغتهم أن يشتغل للاستفادة من خيرهم للخلاص من شر الشرار منهم"؟!.

    لقد صار هذا النظر جزءا لا يتجزأ من رؤية الأستاذ الإمام لوجوب اتساع دائرة تحصيل العالم في منابعه المختلفة، ترى هذا في تفسيره رحمة الله لسورة العصر حين يقول:

    "لو قضى الزمان بأن يكون من وسائل التمكن من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، واشتغال الناس بالحق عن الباطل، والطيب من الخبيث ـ أن يضرب الإنسان في الأرض، ويمسحها بالطول والعرض، وأن يتعلم اللغات الأجنبية، ليقف على ما فيها مما ينفعه فيستعمله وما يخشى ضرره على قومه فيدفعه ـ لوجب على أهل العلم أن يأخذوا من ذلك بما يستطيعون، ولهم في سلف الأمة من القرن الأول إلى نهاية القرن الرابع من الهجرة أحسن الأسوة، وأفضل قدوة".

    يقول الدكتور عثمان أمين في كتابه عن الأستاذ الإمام من سلسلة أعلام الإسلام:

    "لقد أجمع أصحاب الأستاذ الإمام وخاصته على أنه أتقن اللغة الفرنساوية تحدثا وقراءة وفهما على الرغم من قرب عهده بتعلمها. وهذا ما شهد به أخيرا الأستاذ لطفي السيد (باشا) حين ذكر أن الشيخ محمد عبده هو الذي كان يجلو لإخوانه المصريين ما غمض من عبارات الفيلسوف الفرنساوي "تين": في كتابه المشهور عن الذهن، ونحن نعلم من جهة أخرى أن الأستاذ الإمام قد أملى في مرض موته فصلا بالفرنساوية نشره المسيو دي جرفيل في كتابه عن مصر الحديثة بعنوان: وصية سياسة للمرحوم المفتي الشيخ محمد عبده، كما نعلم أن الشيخ قد ترجم عن الفرنساوية كتاب التربية للفيلسوف الإنجليزي "هربت سبنسر" ترجمة تدل على تمكنه من تلك اللغة...
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    عبقرية الاصلاح فى رحاب القضاء بقلم رجائى عطيه المحامى Empty رد: عبقرية الاصلاح فى رحاب القضاء بقلم رجائى عطيه المحامى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود السبت يوليو 11, 2009 12:39 am

    ومن اللافت في شخصية الأستاذ الإمام أنه يقول ويفعل، ولا ينفصم الفعل عنده عن الكلام، فرأيناه في إعداد تقرير إصلاح القضاء الشرعي يجوب البلاد المصرية طولا وعرضا، وشمالا وجنوبا، ولا يجمع المراد في مكتبه أو يطلب الناس للقائه بمقره، وإنما يطلب المعرفة الحقيقية في مظانها المختلفة لتجيء تعبيرا عن الواقع الحاصل، فيأتي تقريره شاملا إلى عمق النظرة ـ إلماما واسعا وتشريحا عريضا لحقائق الأحوال والمثالب الجارية في ذلك الأوان.. ورأيناه لا يستنكف من شد الرحال وقطع الأسفار طلبا لتعلم اللغة في مواطنها، ولا يجد غضاضة وهو الأستاذ الجليل من أن يجلس مجلس التلميذ إلى من يتلقى عنهم لغة لا يعرفها أو لا يجيدها، ثم يخلص في طلبها حتى بلغ حد الإتقان فيها، وحتى ترجم منها وإليها، وكتب بها بحثا بالفرنسية نشره "دي جرفيل" في كتابه: "مصر الحديثة" الصادر سنة 1905، والذي فيه ـ في هذا البحث ـ جعل يناقش الفقه المقارن مناقشة العارف الملم بعيوبه ومحاسنه، وليخرج بزاد معارفه بالفقه الشرعي ـ بنتيجة يستخلصها بتمكن اقتدار أن شرع الله تبارك وتعالى هو الأحكم ضبطا وسدادا وهداية ورشادا من كل ما وضعته أو استنته قرائح الناس .

    الأستاذ الإمام على منصة القضاء

    يقولون في الأمثال التي تجرى مجرى الأوابد بين رجال القضاء والمحاماة، إن المحامي هو مرآة القاضي، لأنه يرى فيه ما لا يستطيع القاضي أن يراه في نفسه، ويلمس من المحيط الذي يتعامل فيه القاضي ردود أفعال الناس وإحساسهم به.. لذلك لم يكن غريبا أن يتقدم الصفوف يوم الاحتفال بإنشاء محكمة النقض والإبرام عام 1931ـ شيخ المحامين الأستاذ الكبير إبراهيم الهلباوي ليتحدث عن القضاة الراحلين، وليكون أول حديثه عن الأستاذ الإمام محمد عبده.. يذكر للإمام رحمه الله أن تربيته كانت أزهرية بحتة تعده لأن يكون من عظماء رجال الدين وأئمته، ولكن ما إن عين الأستاذ الإمام في يونيو سنة 1888م بوظيفة نائب قاض بمحكمة بنها، حتى تكشفت في الإمام جوانب لم يتوقعها أحد، ولم يدر بخلد أحد أن إمام الدين سوف يكون إماما صاحب مدرسة جديدة في القضاء.. سبقه إلى منصة القضاء دوره في رئاسة تحرير الوقائع المصرية الذي استحدث في تحريرها نشر الأحكام المهمة التي أصدرتها المجالس الملغاة، وقرن النشر بتعقيب عليها بما يقتضيه الحال من نقد أو ملاحظات، فإذا ما شاءت المقادير ـ أو رغبات إبعاده!! ـ تعيينه في القضاء، شف عن عبقريته الإصلاحية التي لا يحاصرها شيء.. انتقل من قاضي بنها ليكون قاضي المنصورة، ثم نقل في 7 يناير 1892م قاضيا من الدرجة الأولى في محكمة مصر، فاحتك به الأستاذ الهلباوي احتكاك عمل، وعاينه قاضيا في محكمة عابدين أهم محاكم القاهرة، ويعقب الهلباوي تعقيب خبير شاهد عيان فيقول عن الأستاذ الإمام:

    "لا أذكر أن كرسي القضاء فيها جلس عليه رجل كان موضع إعجاب جميع الطبقات من متقاضين ومن صحفيين وسواهم مثل المرحوم الشيخ محمد عبده أولا والمرحوم عبد الخالق ثروت باشا من بعده، فلقد كان الوقار والجلال والهيبة تفيض جميعا في أفق هذه المحكمة. كان محمد عبده يصدر الحكم ويشفعه أو يسبقه أحيانا بدروس ومواعظ يلقيها على المحكوم عليه والجمهور إلقاء يشعر الجماهير والمحكوم عليه نفسه أنهم في حضرة أب ومصلح كبير. ولقد كنا نتحدث في مجالسنا بهذا ونعجب لهذه النتائج التي يحصل عليها هذا المعلم المفطور بطبيعته بين سامعيه أو متقاضيه إذ لم يحصل ـ إلا نادرا ـ أن عاد إليه متهم أو خصم بمثل ما حكم عليه به من قبل. رقي بعد ذلك نائب مستشار بمحكمة الاستئناف في 21 نوفمبر سنة 1895 وبقي بها إلى 5 يونيو سنة 1899 يوم اختير مفتيا للديار المصرية مع اشتراطه على الحكومة أنه لو أقيل ـ بل ولو استقال ـ من تلك الوظيفة كان له أن يعود لمركزه في محكمة الاستئناف كما كان ".

    لغة وصياغة الأحكام

    كانت اللغة العربية مهيضة في بلدها، تفسح المجال في المحاكم للإنجليزية والفرنسية والإيطالية والتركية، ويعدو الترك والكرد والشركس والأرناءوط وأسرى إبراهيم باشا من بلاد "المورة" "وكريت" "والأناضول" الذين فك اعتناقهم الإسلام أسرهم ـ على أهل البلاد، فصاروا حكاما يترفعون على أهل مصر وعلى لغتها، فتراجعت اللغة العربية في المرافعات والأحكام، ومن يرجع إلى سجلات وأحكام المحاكم الشرعية في ذلك الزمان يجد العجب العجاب في تردي لغة الأحكام ومصطلحاتها وسيادة التركية التي كانت لغة البلاد الرسمية، وتشويه النقل إلى اللغة العربية، مع تواضع وضعف وركاكة كتابة المذكرات والأحكام، ولعل بداية نهضة اللغة العربية في المحررات القضائية الرسمية يرجع إلى البناءين العظام في باقة رائعة كان منها الأستاذ شفيق بك منصور وإسماعيل باشا صبري والأستاذ الإمام محمد عبده وسعد باشا زغلول وأمين باشا فكري وعبد العزيز باشا فهمي ومحمد باشا فخري وأحمد فتحي باشا زغلول وقاسم بك أمين ومحمد بك صالح وحفني بك ناصف وغيرهم.. هؤلاء الذين حملوا الشعلة، وانتقلوا نقلة ملحوظة بأسلوب كتابة الأحكام وتطعيمها بمبادئ الشرع والقانون .
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    عبقرية الاصلاح فى رحاب القضاء بقلم رجائى عطيه المحامى Empty رد: عبقرية الاصلاح فى رحاب القضاء بقلم رجائى عطيه المحامى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود السبت يوليو 11, 2009 12:40 am

    في حيثيات حكم للأستاذ الإمام محمد عبده صادر بمحكمة عابدين بالقاهرة في 5 أكتوبر 1894 كتب يقول:

    من حيث إن الأصل العام الذي أسست عليه جميع أحكام الشرائع في إلزام شخص بتأدية شيء إلى آخر هو أن يكون الأداء على قدر العرض حاصلا كان أو مؤملا فيه عند العقد.. وليس من الجائز أن يؤدي شخص شيئا لم ينتفع به أو لم يأمل الانتفاع به. لأن هذا هو الظلم بعينه. ولكن ضرورة اتساع المعاملات وضعف الثقة أحيانا بالذمة الواحدة ألجأت إلى ضم ذمة إلى ذمة أخرى في الالتزام بالأداء وإن لم ينتفع صاحب الأولى بشيء مما يلتزم بأدائه أو أداء عوضه... فالتزام الضامن أمر جاء على خلاف الأصل وقررته الشرائع باقتضاء الضرورات، فلا يجوز التوسع في القياس لأن ما سوغ بضرورة قدر بقدرها.

    ومن حيث إن الشرائع الصحيحة قد قسمت الضمان إلى قسمين: كفالة تضامن وكفالة لا تضامن فيها. فالأولى ما التزم فيها الضامن أن يكون بمنزلة المضمون في الالتزام بالأداء في جميع الأحوال بنص في عقد الضمان أو نص في القانون. والثانية ما شرط فيها الالتزام بعجز المضمون أو امتناعه عن الأداء عند وجوبه أو نحو ذلك أو سكت فيها عن التعميم والتخصيص. وحكم القسم الأول من الكفالة انشغال ذمة الضامن مع المضمون وأن للدائن أن يتبع أيهما يشاء. وكل ما صح إجراؤه مع أحدهما صح إجراؤه مع الآخر وكل عمل رسمي جرى مع أحدهما يعتبر جاريا مع الآخر ولكن لكون هذا الحكم جاء على خلاف الأصل المعقول رأى أهل الشرع وجوب التصريح به. وجرى على ذلك القانون المصري في المادة 110 حيث قال إن مطالبة المدينين المتضامنين مطالبة رسمية وإقامة الدعوى عليه بالدين يسريان على باقي المدينين. والكفلاء المتضامنون مع المدين الأصلي يعتبرون مدينين. فالتصريح بأن إقامة الدعوى على أحد المتضامنين تسرى على الباقين تصريح بأنها لا تسري على غير من أقيمت عليه الدعوى إذا لم يكونوا متضامنين.

    ومن حيث إن عقد الكفالة في هذه القضية قد صرح باشتراط تأخير المستأجر عن أداء الإيجار فهي ضمانة لا تضامن فيها؛ فالدعوى التي أقيمت من المالية على المستأجر لا تسري على المتضامن. فإذا لم تسر عليه لم يوقف بالضرورة مضي المدة التي يسقط الحق بمضيها.

    ومن حيث إن نظارة المالية متمسكة بالحكم الصادر من محكمة الأزبكية وهي إنما تطالب الآن بالمحكوم به في ذلك الحكم.

    ومن حيث إن ذمة الضامن قد اشتغلت بالدين من يوم عجز المستأجر عن الأداء وظهور ذلك لنظارة المالية فيكون الدين قد لزم ذمته في 5 مارس سنة 1888.

    ومن حيث إن صدور الحكم بالمبلغ لا يغير الدين ولا ينقله عن صفته فهو لم يزل إلى الآن أجرة لأن استبدال الدين بغيره مقيد بطرق فصلت في المادة 187 وليس الحكم من تلك الطرق. على أنه لو فرض أن الدين استبدل بآخر فقد صرحت المادة 190 مدني بأنه لا يصح في أي حال من الأحوال نقل التأمينات الشخصية كالكفالة والتضامن إلا برضاه الكفلاء والمتضامنين.

    ومن حيث إن المادة 211 مدني صريحة في أن ما استحق دفعه سنويا أو بمواعيد أقل من سنة يسقط حق المطالب به بمضي خمس سنوات.

    وفي حكم آخر صادر عن القسيمين الأستاذ الإمام محمد عبده وسعد زغلول، صيرا أسباب حكم في قضية استئناف عادية إلى أسباب غير عادية، فيلحظ القارئ في كتابتهما للأسباب إخلاص هؤلاء الرواد الأوائل لقضاة مصر وامتيازهم إذا قورنوا بالقضاة الأجانب في المحاكم المختلطة، وكانت دولهم تختار قانونيين عالميين لتمثيلها في القضاء المختلط ـ وفي الحكم الصادر جلسة 19 أكتوبر 1897 ـ وكان الشيخ محمد عبده عضو اليسار تظهر آثار النحو العربي والفرنسي جميعا وإحاطة الإمام وتلميذه ـ والرئيس ـ بالفقه الفرنسي، وقد جاء بحيثيات الحكم:

    وحيث إنه فيما يتعلق بتطبيق العقوبة فإنه يشترط لوجود الجنحة المدونة في المادة 219 ـ الآن 241 ـ جملة شروط منها وجود الجرح أو الضربات ماديا وأن ينشأ عنها مرض أو عجز أو عن الأشغال الشخصية أزيد من عشرين يوما. وحيث إن هذين الشرطين مستفادان صريحا من نفس المادة المذكورة. فلزوم وجودهما واجتماعها وترتب إحداهما على الآخر مما لا يقبل بحال من الأحوال.

    وحيث إنه ينتج من ذلك حتما أنه لا يصح اعتبار مجرد الجروح أو الضربات مرضا لأن القانون اعتبرهما أمرين مختلفين مستقلين في وجودهما واشترط اجتماعهما معا وأن يكون أحدهما علة ومنشأ للآخر.

    وحيث إن عدم استطاعة الأعمال الشخصية هو المعنى الملحوظ للقانون من المرض وهو الجهة التي نظر إليها فيه، ولذلك عطف عليها (عجز) الذي هو نص صريح في هذا المعنى، بيانا له بعبارة أخرى.

    وحيث إن عبارة الطبعة الفرنساوية تشير إلى هذا المراد. لأن حرف ( أو) في الفرنساوية يأتي لتوضيح معنى سابق بعبارة أخرى ولأن أداة التنكير لم تتكرر فيها مع كلمة عجز. وهو دليل على أن هذه الكلمات جاءت توضيحا لمعنى سابق لا تعبيرا عن معنى جديد وعبارة الطبعة العربية لا تأبى هذا المعنى. لأن حرف "أو" يصح أن يكون ما بعده بيانا للمعطوف عليه أو تعميما لمعناه كما يصح استعماله لأغراض أخرى.

    وحيث إنه يتحصل من ذلك أن قصد القانون من المرض أو العجز يرجع إلى شيء واحد وهو الحرمان من الأعمال الشخصية مدة أزيد من عشرين يوما وهو المعول عليه في تحقيق الشرط الثاني لتطبيق المادة 219 عقوبات.

    وحيث إنه في الحقيقة لا يمكن التعويل على غيره في الاستدلال على جسامة الجروح أو الضربات وفي قياس درجة خطورتها لأنه هو الأثر الذي ينتج عنها وحقيقته ليست متنوعة مختلفة بل هي حقيقة واحدة لا تختلف باختلاف الأحوال والأشخاص ولذلك يتعين أن يكون هو الضابط الوحيد لجسامة هذه الإصابات والقياس الصحيح الذي لا يصح التعويل على غيره في تقدير العقوبة المناسبة لها.

    وحيث إن الأحكام الصادرة من المحاكم الفرنساوية في موضوع المادة 309 من القانون الفرنساوي وهي التي نقلت عنها حرفيا عبارة المادة 219 صريحة كلها في المعاني التي قدمناها ولم تختلف عنها دلالة وصراحة عبارات مشاهير العلماء الذين شرحوا هذه المادة مثل دالوز وفستن هيلى وبواثار وجاروه وبريانددى شويه. بل كل عباراتهم ناطقة بها كأنها من القضايا البديهية المسلمة التي لا خلاف فيها وإنما اختلفت كلمتهم في تعيين معنى المراد من الحرمان من الأعمال الشخصية....

    همة في الإصلاح ماضية، رغم الدسائس والمؤامرات!.

    لم يكن الأستاذ الإمام يباشر مهامه الإصلاحية في يسر وسهولة، ففضلا عن جمود الجامدين، فإن الدسائس لم تدعه وما يريده من خير لدينه ووطنه.. فلاحقته المؤامرات والدسائس في تواصل غريب مدهش ومؤسف!.. يروى جانبا من ذلك أحمد شفيق باشا الذي شغل رئاسة الديوان الخديوي لفترات طويلة، وعاصر الأحداث عن قرب فيورد بمذكراته في أحداث سنة 1901 ( جـ 3، 34 ـ 40 ) ـ أن الدسائس قد تكاثرت للنيل من مفتى الديار المصرية الأستاذ الإمام محمد عبده، وأن المؤامرات نجحت في إيغار صدر الخديوي عباس حلمي الثاني عليه، وأنه سمع الخديوي يتوعد ويلوح بالانتقام منه، وزادت الدسائس حتى استحسن الأستاذ الإمام محمد عبده أن يتقدم باستقالته فلم يقبلها الخديوي ـ وأن البعض بلغ به الكيد حد تلفيق صورة شمسية للأستاذ الإمام مع بعض نساء الإفرنج وحملوها إلى اللورد كرومر موعزين بوجوب استقالته لأن هذا إزراء بالشيخ ومنصبه، ولكن الحيلة لم تنطل على اللورد الإنجليزي العجوز، وزاد التلفيق افتضاحا حين نشرت الصورة (الملفقة) في بعض الجرائد المشبوهة (حمارة منيتي ـ البابا جللو المصري ـ الأرنب)، فغضب العقلاء لهذا التجني السافر المشبوه على مقام الأستاذ الإمام! وكشف شفيق باشا في أحداث سنة 1906 عن ضيق الخديوي وعدم ارتياحه لتعيين سعد زغلول ناظرا للمعارف بسبب "كثرة اختلاطه" بالأستاذ الإمام محمد عبده وأن الخديوي لم يكن يخفي ضيقه له لصلته بالأستاذ الإمام حتى بعد وفاته، وبلغ به الأمر أن قال لأحمد فتحي زغلول رئيس المحكمة المخصوصة لقضية دنشواي: "إني أنتقد عليك قبل كل شيء أنك من حزب الشيخ محمد عبده" ()!!!.
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    عبقرية الاصلاح فى رحاب القضاء بقلم رجائى عطيه المحامى Empty رد: عبقرية الاصلاح فى رحاب القضاء بقلم رجائى عطيه المحامى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود السبت يوليو 11, 2009 12:41 am

    الأستاذ الإمام وإصلاح القضاء الشرعي

    من ترتيب أو موافقات المقادير، أنْ تقَّلبَ الأستاذ الإمام في وظائف القضاء عدة سنوات قبل أن يوكل إليه دراسة وكتابة تقريره الضافي عن إصلاح حال القضاء الشرعي في مصر، فعلى مدار قرابة عشر سنوات تقلد فيها الأستاذ الإمام عدة مواقع في القضاء ما بين بنها والزقازيق والمنصورة والقاهرة، وما بين المحاكم الأهلية الابتدائية ومحكمة الاستئناف العالي ـ أضاف الأستاذ الإمام إلى علمه الواسع بعلوم الدين وبالشريعة الإسلامية، رصيدا عريضا عن أحوال القضاء وشجونه وهمومه ومتاعبه وقضاياه، فامتزجت لديه منظومة متكاملة تتيح له أن ينظر إلى أحوال القضاء الشرعي بعين العالم الإسلامي، وفقيه الدين، وبعين القاضي الخبير بأحوال البشر ومسالك ومتاعب الأقضيات وسبل الحكم بالعدل الواجب بين الناس.

    هذه القاعدة المعرفية العريضة التي دانت للأستاذ الإمام، قد التأمت بعبقريته الإصلاحية، وهمته العالية وعزمه الذي لا يلين، وإخلاصه العميق لكل ما خاضه فيه أو اضطلع به، وتقريره الضافي عن إصلاح حال القضاء الشرعي هو دليل الأدلة على تلاحم هذه الصفات التي أتاحت لصاحبها هذا الغوص العميق في أحوال القضاء الشرعي، والاستشراف النابه المتفطن إلى سبل إصلاحه الواجبة، وفي مقدمتها إنشاء مدرسة للقضاء الشرعي.

    كان من رأي الأستاذ الإمام الذي بثه بمقالاته وأحاديثه، إلى جوار تقريره ـ أن يتلقى طلاب مدرسة القضاء الشرعي ـ العلوم العصرية، وأن يلموا بها إلى جانب العلوم الدينية، فيتعلمون إلى جوار الفقه والأحكام والمعاملات وآداب الدين ـ الحساب والتاريخ وتقويم البلدان والمعارف القضائية التي تتعدد منابعها ولا غناء للقاضي الشرعي عنها، وقد استقبلت جريدة الأهرام القاهرية نظر الأستاذ الإمام بالترحيب، فكتبت عام 1904 تقول إن إنشاء مدرسة القضاء الشرعي التي يتبناها الإمام تذكر بإنشاء دار العلوم في عهد على باشا مبارك وما لقيه إدخالها في أوانه من مقاومة شديدة قبل أن يستبين للمقاومة المتشددة قدر وجلال وفائدة ما أضافته مناهجها إلى الدراسات الدينية التي ظلت محل رعاية واهتمام

    تقرير إصلاح القضاء الشرعي

    كان الأستاذ الإمام قد أنفق في مواقع القضاء قرابة عشر سنوات منذ 1888 م حين عين في 3 يونيه 1899 مفتيا للديار المصرية، وعلم خلال تجربته من شجون القضاء ما حرك كل عبقريته الإصلاحية ليدلى بدلوه في إصلاح القضاء الشرعي الذي رآه أحوج فروع القضاء إلى الرعاية والإصلاح، فهذا عبقري إصلاحي لا يهدأ، ولا يدع أحدا يهدأ.. ظنوا حين عينوه في القضاء أنهم سوف ينحون الصوت الذي أقض المضاجع طلبا للإصلاح في التعليم والسياسة والوطنية، فإذا به ينهج بأسلوبه في القضاء نهجا لم يسبق إليه أحد، وإذا به يحول منصة الحكم إلى منصبة هداية وتقويم وإصلاح وإرشاد، وإذا به وقد عينوه مفتيا للديار المصرية لا يخلد إلى الدار الجليلة ويدبر منها النظر في شئون الإفتاء، وإنما يبادر إلى وزير الحقانية (العدل الآن) فيثير معه أحوال القضاء الشرعي وليل الجمود والظلام الطويل الذي ران عليه، ويحرك رياح التغيير والإصلاح، ويتخذ من "المبادرة" ما لا يتخذه إلا ذوو العزائم والهمم، ويتخذ فترة الأجازة الصيفية التي يخلد الموظفون فيها إلى الراحة والتنعم ـ فترة للعمل والمجاهدة والمكابدة، فلا يرتاح له جنب، ويأبى إلا أن يطلب المعرفة الحقيقية الواقعية في مظانها المختلفة، فيقطع البلاد المصرية طولا وعرضا، ويقوم بزيارات "ميدانية" (بلغة عصرنا) إلى المحاكم الشرعية في ريف مصر وحواضرها، ويقابل العديد من قضاتها، ويطلع بنفسه على سجلات المحاكم وأقلام الكتاب ومضابطها، ويستخلص من واقع دراسته العريضة العميقة الشاملة ـ مواطن الداء وأسباب الفساد والركاكة، ويتأمل فيما رأى ليداركه بالعلاج بنظرٍ ثاقبٍ يضمنه تقريرا ضافيا ومطولا ينبه فيه إلى مواطن العجز والخلل والجمود والتراجع، ويستشرف سبل التغيير والإصلاح والنهوض، ويضع في مقدمة الحلول المرجوة إنشاء مدرسة القضاء الشرعي التي تبناها.

    في مقدمة هذا التقرير المكتوب في نوفمبر 1899م بعد رحلة التفتيش الطويلة التي بدأت في أول صيف 1899م والذي أعاد طبعه السيد محمد رشيد رضا منشئ مجلة المنار ـ كتب الأستاذ الإمام يقول لناظر الحقانية :

    "علمت عقب تعييني في وظيفة إفتاء الديار المصرية أن سأكون عضوا في اللجنة التي عزمت الحكومة الخديوية أن تكل إليها النظر فيما يجب إدخاله على المحاكم الشرعية من الإصلاح الشرعي والنظامي، فرأيت من الواجب عليّ أن أكون على بصيرة من الأمر العظيم الذي سأدعى إلى البحث فيه، وأنه لا يتم لي ذلك إلا بالإطلاع على ما هو جار في هذه المحاكم والبحث في العلل التي عم الكلام فيها وما يجب أن يوضع لها من الدواء، مع الحرص على قواعد الشرع وأصوله، ومراعاة مصالح العامة والآخذين بأحكام الشريعة المطهرة في عقائدهم ومعاملاتهم، وإزالة ما عمت منه شكواهم مما ينسب إلى عمال المحاكم أو العوائد المتبعة في سير أعمالها، ورأت نظارة الحقانية ما رأيت، فسألتني أن أمرّ على المحاكم مدة الصيف الماضي وأنظر في أعمالها وأقدّم لها نتيجة ما يتيسر لي من البحث في أحوالها، فطفت على كثير من محاكم الوجه البحري واطلعت على ما أمكن الاطلاع عليه من سجلات ومضابط ومرافعات وسير في الأعمال، وعرضت ذلك على ما تقرر من أحكام الشريعة الغراء وما وضع من اللوائح للمحاكم الشرعية، واستخلصت مجموع آراء أقدمها بين يدي سعادتكم، وأرجو أن تكون موضوع نظر يأتي بالفائدة إن شاء الله، وسألم في تقريري هذا بأهم ما يجب النظر فيه الآن وأدع ما دون ذلك إلى المستقبل".

    لقد استغرق هذا التقرير، في طبعة "المنار" المحفوظة بدار الكتب المصرية، ثلاثا وثمانين صفحة استعرض فيها الأستاذ الإمام أحوال القضاء الشرعي من جميع نواحيه، موضوعا وشكلا وإجراء، فلم يدع جانبا من جوانبه إلا درسه ومحصه وتمعن فيه بواسع علمه وعريض خبرته وثاقب نظره وسديد رأيه، بدأ تقريره عن الحاجة إلى المحاكم الشرعية ووظائفها، فأوضح أهمية الروابط الأسرية التي تتصدى لها هذه المحاكم، وكيف ودع أغلب الطبقة الدنيا وغير قليلين من الطبقتين الوسطى والعليا ـ عواطف الصهر والقرابة، ولجئوا في علاقاتهم البيئية إلى المحاكم الشرعية، ودواعي التوسيع أو التضييق من دوائر اختصاص هذه المحاكم، وما يثار من اختلافات في النظر في شأن اللائحة بين النظارة وبعض المشايخ، وشكوى الناس من صعوبة المعاملة مع الكتبة، وطول زمن نظر القضايا، وخفاء طرق المرافعات حتى على العارفين بأحكام الشريعة فضلا عن سائر الناس، وهوى القاضي أو ضعف يقظته، وشكوى القضاة من رداءة مقامهم والتقتير في مرتباتهم وشئون نفقاتهم!!!.

    ولأن الأستاذ الإمام جال وانتقل وجاب الآفاق، وخاض في الريف والحضر ليرى على الطبيعة، فقد أضناه حال: "أماكن المحاكم"، وكيف خصصت لها أردأ الأمكنة، وفي محلات لا تسع عمالها ودفاترها فضلا عن إدارة العمل والجلسات فيها، وتواضع المكاتب والأثاثات حتى ليعز إيجاد المقاعد للقضاة أنفسهم، مدركا ببصيرته أن مكان الأداء فرع من عناصر القدرة على حسن القيام به، مثله مثل العناصر الإدارية التي تؤثر بالضرورة على "الخدمة القضائية"، فلاحظ الأستاذ الإمام من واقع الطبيعة والعمل أن "الكتبة" هم أظهر عضو في جسم المحكمة، وعلاقاتهم بالمتخاصمين وغيرهم تتقدم على صلتهم أو تعاملهم مع القاضي، وأن معظم الشكاية إنما تأتي من طائفة الكتبة التي يقترن ضعف معارفهم بزيادة وتفشي دورهم ونفوذهم! مع ضعف رواتبهم وما أسلس إليه ذلك من امتداد أيديهم ومتاجرتهم بأعمالهم، وحتى اختلط الكتبة بأرباب الحاجات اختلاطا يكاد يستحيل معه الإصلاح الذي يستلزم حسن الانتقاء وشروط التعيين مع وجوب التأهيل ووضع قواعد لترقية وإثابة وزيادة مرتبات الأكفاء في تدرج محسوب، مع وضع ضوابط بتخصيص "نوافذ" محددة للتعامل مع الجمهور لمحاصرة الاختلاط الذي أفسد أسلوب التعامل بين الكتبة وأرباب الحاجات!.

    أما القضاة، فقد لاحظ الأستاذ الإمام أن مشكلتهم كبيرة، وأن سوء الحال لا يقتصر على المحاكم الشرعية، وإنما غابت الكفاءة عن كثيرين من القضاة بالمحاكم الأهلية، وحتى تبدت ضآلة علمهم ومعارفهم، وتفشى تواضع المعرفة بين القضاة الشرعيين حتى يلجأ الحاذق منهم إلى تلمس الصلح تجنبا للحكم الذي ينكشف فيه أخطاء القاضي وتتبدى ضحالة الكثرة الذين يعولون في تطبيق اللوائح على الكتبة المبتلين أصلا بالجهالة وضيق الأفق وخراب الذمة! ـ الأمر الذي يستوجب المزيد من الضوابط لانتخاب القضاة واختيارهم وترقيهم، وإضافة طائفة من المعارف إلى "شهادة العالمية" الواجب الإبقاء عليها كما هي في اللائحة، وإنما يجب أن يزاد على ما تقر ر في نيل هذه الشهادة أن يتلقى الطالب كتابا من كتب الفقه على الطريقة العملية في أبواب القضاء والمعاملات وأن يمتحن في الفقه بهذا الاعتبار، وأن تكون له معرفة بالحساب وبالكتابة والتحرير وبنظام المحاكم الشرعية، وعلم كاف بالآداب الدينية، وشيء من التاريخ وتقويم البلدان مما يزيد الرجل بصيرة في الناس وأحوالهم.. وأن يكون من حسن الخط بحيث يمكن قراءة ما يكتبه، وهذا أمر ميسور متى فرض ذلك على كل من يطلب وظائف القضاء والإفتاء من طلبة الجامع الأزهر وما ألحق به، فإن لم يكن ذلك ممكنا اليوم فليضرب له أجل أربع سنوات لا يقبل بعده في هذه الوظائف إلا من عرف تحصيله لهذه المعارف، وعلى أن تبحث مشيخة الأزهر ومجلس إدارته إن كان لم يوظف في جهة أخرى، ويتم السؤال عنه لدى شيخ علماء جهته إن كان من طلبة غير الجامع الأزهر ولكنه داخل نظامه، وبعد هذا وذلك يعين ويرجى منه الخير لعمله إن شاء الله.. أما اليوم ـ يضيف الأستاذ الإمام ـ فيقدم من هو على شيء من هذه المعارف على غيره.. ثم لا يفوت الأستاذ الإمام أن يصرح بما يعالج به تعصب بعض أهل الأثرة لمذاهبهم، وكيف تتحقق المحافظة على قوام الإسلام ودرء البدع والتعصب للمذاهب عنه، وتوسيع دائرة التعيين لاختيار الأصلح والأقدر بغض النظر عن التقيد بمذهب يضيق دائرة الاختيار ويفوت فرصة انتخاب كثيرين من أهل الاستقامة والدراية!.
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    عبقرية الاصلاح فى رحاب القضاء بقلم رجائى عطيه المحامى Empty رد: عبقرية الاصلاح فى رحاب القضاء بقلم رجائى عطيه المحامى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود السبت يوليو 11, 2009 12:43 am

    وإنه ليأخذك العجب حين ترى الأستاذ الإمام يعرج في تقريره على "الحجاب، والأعمال الكتابية والدفاتر"، فلا يستنكف ولا يجد أي مفارقة ـ لأن الجميع في خدمة العدالة ـ من أن يقف بعد بحث أحوال القضاة، بالتصدي للحجاب والأعمال الكتابية والدفاتر، فينبه إلى أنه ينبغي في الحجاب أن يكونوا على إلمام بالقراءة والكتابة، وعلى مقدرة ما على حفظ النظام في الجلسات، ثم لا يهمل قطاعا كبيرا من الأعمال الكتابية تتم في القضاء الشرعي، فيحصي منها العقود والإشهادات وما يتبعها، وينبه إلى سلبيات شيوع ألفاظ معينة وأساليب معتلة مكررة تكرارا باردا يعسر معه الفهم ويسأم الذهن وكيف عمت منه الشكوى حتى من جميع القضاة أنفسهم، وكيف وقر في جهل الكتبة أن تلك الألفاظ والأساليب "السمجة" لا بد منها شرعا ولا يصح العقد أو الإشهاد بدونها، وكيف يؤدي هذا الأسلوب إلى مخاطر ومحاذير تهدد العمل وتقوض الغاية وتضطر الشاهد إلى الكذب باختراع أسماء لمسايرة هذه الأساليب العقيمة وإرضاء جهل الكاتب والتخلص من حمقه! ثم لا يفارق الأستاذ الإمام هذه الملاحظات الثاقبة قبل أن يقترح لجنة لتطهير المحاكم من العقم والسخافات التي يتبرأ منها الشرع ولغته، مع وجوب الالتزام بضوابط وقواعد لسرعة إنهاء العمل، والتخفف من دفاتر كثيرة جدا رأى أنها زائدة عن الحاجة وتغرق العمل وتكبله في شكليات عقيمة معوقة!.

    ويتوقف الأستاذ الإمام في تقريره وقفه واعية متفطنة ومدركة، عند العقود التي ترد من المحاكم المختلطة إلى المحاكم الشرعية. فيرى أنها من الأعمال الشاقة التي تستغرق زمنا طويلا، والتزمت بها الحكومة إعمالا للمواد 90، 91، 92 من لائحة المحاكم الشرعية الصادرة في سنة 1880 ـ وأن المفارقة تبدو في استمرار هذه المشقة بعد انطواء علتها حين أصدرت الإدارة منشورات تمنع إعطاء الصور والشهادات إلا من المحكمة المختلطة التي سجل فيها العقد دون حاجة إلى توسيط المحاكم الشرعية، ومضى ذلك دون أن يفكر أحد في تخفيف عبء لا لزوم له على المحاكم الشرعية، أو أن يرد الأمر كله إلى القضاء الوطني إزاء القضاء المختلط، أو يخلص الأداء من "ازدواجية" لا حكمة لها ولا نفع فيها ـ أما الدفترخانات فقد أحصى التقرير كيف وجد بها خللا عظيما في أغلب محاكم المديريات التي فتش عليها الأستاذ الإمام، وكيف أخذ العمل يفتر ويتدنى ويتباطأ في هذه الدفترخانات حتى مس حاجات ومصالح الناس! ثم كيف صار قصور "الأعمال الحسابية" وتحصيل الرسوم بأنواعها مجالا للتعقيد ومدخلا للكتبة لفتح أبواب الفساد!.

    وفي تقريره، يخصص الأستاذ الإمام جانبا يتحدث فيه عن: "وجوب قيد ما يرد إلى القضاة من طلبات"، وهذا فرع على التفاتة المتفطن إلى باب خطير من أبواب الظلم وإهدار حقوق الناس، حينما لا يلتزم القاضي بقيد ما يرد أو يقدم إليه من طلبات، فيتخلص منها ويتهرب من القيام بواجبه فيها بإزاحتها على غيره دون تأشيرة تقيده أو قيد يراجع فيه ـ فاقترح الأستاذ الإمام وجوب إنشاء دفتر يقيد فيه ملخص لكل ما يرد إلى القاضي في أي شأن من الشئون وما رآه القاضي أو اتخذه فيها حتى تصان حقوق الناس ويغلق باب التهرب بغير ضابط من مهام وواجبات العدالة!.

    أما تشكيل المحاكم، واختصاصها مادة ومكانا، فيتبدى فيما تناوله التقرير في هذا الشق ـ كيف تعانق العلم الشرعي للأستاذ الإمام، مع خبرته التي جمعها من عشرة أعوام أمضاها قاضيا ومستشارا في القضاء، فهو يلفت الأنظار إلى وجوب اشتراط كفاءة القاضي لعمله، وضبط الألقاب لتتفق مع درجة علم وكفاءة رجل القضاء، فلا يستقيم إلا أن يكون "المستشار" الذي يُلجأ إليه ـ أرقى علما ومكانة ومرتبا عن القاضي اللاجئ إليه، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد تفطن إلى خطأ العادة الجارية من قيام القاضي بالنظر في قضايا سبق للقاضي أن أبدى الرأي فيها، فلاحظ الأستاذ الإمام بحق أن ذهن القاضي سوف يكون مشغولا بسابق ما ارتآه وأبداه، وأن ذلك لا تستقيم معه غاية العدالة، وأن ذلك يستوجب ـ فيما نبه إليه ـ ألا ينظر قاضٍ في أمر سبق أن أفتى أو أبدى رأيا فيه، هذا إلى مخاطر تعدد "المفتين" على مستوى المديريات، مع إمكان الاستعاضة عن تعددهم بتعديل قانون تحقيق الجنايات (الإجراءات الجنائية الآن) لتكون مراجعة أحكام "الإعدام" لمفتى الديار المصرية، وضبط وظيفة الإفتاء المبعثرة في كل المديريات بإناطتها بعدد أقل بضم المديريات المتجاورة لتتبع مفتيا واحدا تنظيما للعمل ودرءا للاختلاف!.. ثم لم يفت الأستاذ الإمام أن التغيب الطارئ لعضو أو آخر من أعضاء محكمة، يعطل سير العمل ونظر القضايا، فاقترح ما حمده سالفا لسماحة قاضي مصر من قيامه بانتداب من يتم به تشكيل المحكمة العليا إذا غاب لطارئ عضو من أعضائها، وأن دواعي التيسير ومضي العمل إلى غايته تستوجب تعديل المادة التاسعة من اللائحة التي تقصر الانتداب على سعادة ناظر الحقانية، بأن لا يلجأ إليه إلا عند الضرورة، وإباحة الانتدابات المحلية لتدارك ما قد يعرض من طوارئ وأعذار في يوم الجلسة.

    أما اختصاص المحاكم الشرعية، فقد لاحظ الأستاذ الإمام ما يلتبس على بعض القضاة ويؤدي بهم إلى الحكم بعدم الاختصاص فيما هو متعلق بالمواد الشرعية حين لا يحس القاضي التمييز بين ما هو مدني محض وما هو مرتبط بمادة شرعية لا يمكن فصله عنها، وهو ما يستوجب ـ فيما اقترح الأستاذ الإمام ـ أن ينظر القضاء الشرعي ما اتصل وارتبط بالمادة الشرعية، ثم لمس مسألة أخطأت اللائحة علاجها حين حظرت التيسير الذي كان يعطى الزوجة الحق في أن ترفع دعوى النفقة أمام المحكمة الواقع في دائرتها محل إقامتها، وهو نظر صار معمولا به الآن رعاية للظروف الاجتماعية بتخفيف المشقة والأعباء على الزوجة المتروكة بلا نفقة.

    وفي تفطن ثاقب، توقف الأستاذ الإمام عند عادة سلبية جارية في سير الخصومة بمرحلة المرافعة هي اشتراط ألا تصدر الأحكام إلا بحضور الخصمين، وما كان يصاحب ذلك من جهود ضائعة ومن حيل عابثة يلجأ إليها طرف الخصومة غير الراغب في الحكم في الدعوى بافتعال الأسباب والذرائع ـ حتى الهروب! لتفويت فرصة الحضور وصدور الحكم، يساعدهم على ذلك نص عقيم بالمادة/ 70 من اللائحة لم يكتف بما اكتفت به مجلة "الأحكام العدلية" (العثمانية) في إعذار الغائب فزادت شروطا فيما عرف بالمناداة وتبديد الجهود في العثور على "المنادى"، مكنت المتلاعبين من التلاعب وبددت أوقات القضاء وأعاقت صدور أحكام المحاكم وإضاعة حقوق عباد الله.

    وفي إيجابية محمودة توقف الأستاذ الإمام عند الغصص التي يتجرعها الناس بجمود الذين يظنون أن الشرع في المعاملات ألفاظ تحفظ دون رعاية لما أودعته المعاني والمقاصد، ودون نظر إلى ما تتحقق به مصالح الناس وإقامة العدل بينهم، بينما أحكام الشريعة بمذاهبها الأربعة ـ وكلها مذاهب إسلامية ـ وافية بسد حاجات طلاب العدل في كل زمان مع اليسر ورفع الحرج!.

    حتى في "الوكالة في الخصومة" ـ وهي في الأصل للتيسير ورفع الحرج، قلبت بحيث ترد على الشرع قصده، فصارت ـ فيما لاحظ الأستاذ الإمام ـ بابا للحيل والألاعيب لإطالة أمد التقاضي بالغلو في الشكليات وقعود القضاة أنفسهم عن التصرف العقلاني الشرعي الواجب إزاء هذه الحيل الصارخة، ودون أن يجد القضاة إجابة على ما يخالف عقائدهم إلا التذرع بما قيدتهم به المادة/ 24 من اللائحة، إلا أنها تعلة مردودة، يكشف الأستاذ الإمام تهافتها بحكمة وبصيرة استنادا إلى نص المادة/ 25 من ذات اللائحة الذي يتيح لمن لا يريد الانحباس في الجمود ـ الأخذ بما ورد بها من أن الإقرار بالكتابة كالإقرار باللسان، وهي توسعة تحاصر الظاهرة المؤسفة الجارية بشأن "التوكيلات في المخاصمات"، ومن ضروب هذه التوسعة ما ورد بمجلة "الأحكام العدلية" في باب القضاء بأن الإعلام الشرعي الخالي من شبهة التزوير المستوفي الشرائط يجب العمل به دون حاجة إلى بيّنة.

    وينبه الأستاذ الإمام إلى أثر "العادة" التي ألفها الناس وظنوها شريعة، في هذا الإبعاد عن النظر الصحيح؛ الأمر الذي يقتضي فيما اقترحه وجوب اعتبار الأوراق الرسمية الخالية من شبهة التزوير من الأدلة الشرعية بلا استثناء.
    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    عبقرية الاصلاح فى رحاب القضاء بقلم رجائى عطيه المحامى Empty رد: عبقرية الاصلاح فى رحاب القضاء بقلم رجائى عطيه المحامى

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود السبت يوليو 11, 2009 12:44 am

    ومن المهم والواجب أن نتأمل فيما لاحظه الأستاذ الإمام ونبه إليه بشأن "الجلسات" ووجوب التزام الوقار والمهابة اللازمة لها في مكان وأسلوب عقدها وإجراءاتها ـ لنعرف الشوط البعيد الذي قطعه هذا المصلح العظيم في وضع يده على مواطن الداء، واستشراف سبل العلاج. ـ ولا يفوته وهو يتحدث عن "مجلس القضاء" الذي اهتم به الشرع الإسلامي، أن يشير إلى تعاظم دور بل وسلطة "الكتبة" وبما لا يليق بحرمة وجلال القضاء الإسلامي، والذي يتوجب لإصلاح أحواله القضاء على ما أطلق عليه "العادات المنحطة" المعروفة لنظارة الحقانية بما لا يحتاج إلى مزيد من الإطالة فيها!!.

    ولأن احترام مواعيد الجلسات، فرع على جلال مجلس القضاء، نرى الأستاذ الإمام يتوقف مطالبا بوجوب احترام هذه المواعيد مهما كلف القضاء أو الإدارة من جهد، وأن تتابع نظارة الحقانية هذه المسألة بما تستوجبه من فرض المواعيد المناسبة تبعا لفصول السنة، ومتابعة احترامها وتنفيذها والالتزام بها.

    ومن الأمراض الشائعة التي توقف عندها تقرير الأستاذ الإمام، الانحراف بالشهود وبالشهادة عن مبادئها، مع أن الإسلام قد أتى ـ قرآنا وسنة ـ بأعظم المبادئ والأصول التي تضمن شروط الشاهد وحسن اختياره وضوابط أدائه الشهادة التي نبه إليها القرآن المجيد في العديد من الآيات البينات، ومع ذلك يقع القضاء الشرعي فيما مسه الأستاذ الإمام ـ في وهدة ما يسمى "شهود المعرفة" ويغالى القضاة في اعتبارها رغم ما هو معلوم لهم من زور شأنها واستئجار المحترفين لها الذين يشهدون بما لا يعرفون تبعا لما يقال ويدفع لهم!! ـ فينادى الأستاذ الإمام بوجوب "الإسراع بمحو هذا الحرج الشديد المعطل لسير القضايا الحامل للمتقاضين على التقاط الشهود من الأزقة والشوارع ليشهدوا زورا بأنسابهم أو بأشخاصهم وهم لا يعرفونهم، فإن في بقاء ذلك إغراء بأقبح الكبائر في نظر الشريعة الإسلامية وهي الشهادة الزور"!!!.

    ومن المؤسف أننا ما زلنا للآن، وبعد مرور قرن من زمان، على حالنا الذي انتقده الأستاذ الإمام ونبه إلى عواره وقبحه، وما زلنا في غياب العقل والمنطق ـ لا نكتفي في إعلامات الوفاة والوراثة بشهادة الوفاة الرسمية وبشهادات الميلاد الرسمية والبطاقات العائلية والشخصية الرسمية ولا بإجماع الورثة على صدق هذه الشهادات الرسمية، فنرهقهم من أمرهم عسرا، وندفعهم إلى القبح والخطيئة دفعا، بأن نلزمهم بشاهدين قد يلجئون في تدبيرهما إلى العادة المقززة الجارية بالتقاط المحترفين المأجورين من على أبواب المحاكم ليشهدوا بما لا معرفة لهم به؟!!!.

    ولا يفوت الأستاذ الإمام، وقد امتلك العلم الشرعي، وخبرة القضاء 10 سنوات، أن يقترح "نظاما" للخصومة حتى لا تتكرر التأجيلات في الدعاوى الطويلة بطبيعتها كدعاوى الوقف والاستحقاق فيه وخيانة النظار وما إلى ذلك.

    ويتوقف التقرير عندما أسماه الأستاذ الإمام "تكليف بالتزوير" في شأن "الشهادات والأدلة"، كالشاهد على خيانة في وقف يكلف بذكر جميع أعيان الوقف وحدودها وسلسلة المستحقين بل وبالشهادة على أن الواقف وقف كذا وكذا ـ وهو تكليف بالتزوير قطعا، لأن الواقف كان في زمن لا يصل إليه سن الشاهد، وهذا مما لا يجوز، ولا حاجة إلى تكليف الناس بما ليس في طوقهم، فإن الشهادة بالخيانة ـ فيما يقول ـ لا تحتاج إلا إلى العلم بأن هذا وقف ولو بالإطلاع على حجته ثم بموضوع الخيانة لا غير، أما المستحقون فلا معنى لذكرهم بالمرة!! كما أن للقضاة في الشهادات على الطلاق خلف كثير تأباه الشريعة ويخشى منه على ما أوجبت الشريعة شدة الاحتياط فيه، الأمر الذي يكشف الحال المتردي الذي وصلت إليه الشهادة التي صارت بابا للتجارة والكسب الحرام، وحال الشهود أمام المحاكم بما في ذلك ما يسمى بشهود "التزكية" الذين يؤتى بهم لتزكية الشهود كالعمدة وشيخ البلد والمأذون ونحو ذلك!.

    وبعلم العالم، وخبرة القاضي، وعبقرية الإصلاح ـ يورد الأستاذ الإمام أن الرأي عنده "أن تستخلص أحكام الشهادات في جميع الأبواب من كتب الشرعية الغراء، وتودع في كتاب يضم إلى ما يستخلص في الدعوى ليكون العمل عليه". أما القسم الشرعي الذي يختص بالدعوى والأدلة بتفصيل تام فيجب "أن تنظر فيه لجنة من علماء الشريعة على المذاهب الأربعة لرفع الالتباس واستخلاص الأحكام على وجه يرفع الحرج عن المتقاضين إلى محاكم الشرعي الإسلامي الحنيف".

    أما "الأحكام" فقد كثر فيها البلاء، وعمت الشكوى، وتباعد ما كان عليه السلف الصالح، مما يوجب الفزع إلى الشريعة الإسلامية المطهرة، وتشكيل لجنة من العلماء ليستخرجوا من الأحكام الشرعية ما فيه شفاء لعلل الأمة في جميع أبواب المعاملات والأحوال الشخصية وبوضع ما يستخرجونه في كتاب شامل لكل ما تمس إليه الحاجة، ولعل موسوعة الفقه الإسلامي التي يتعاقب صدورها الآن أحد ثمار هذه الدعوة الرشيدة التي أطلقها الأستاذ الإمام من قرن من الزمان.

    ثم بعد أن يتوقف الأستاذ الإمام وقفات بصيرة متأملة عند ظاهرة تراخي تنفيذ الأحكام، وقصور التفتيش، ومسالك المحامين أمام المحاكم الشرعية، وتحرير وتوثيق عقد الزواج، وإبداء أوجه العلاج لما شاب ذلك كله من أمراض وسلبيات، يقترح جمع اللوائح المتفرقة والنظر فيها جملة لتوحيد وجمع ما تفرق في لائحة واحدة لترتيب المحاكم الشرعية، يختم تقريره ببيان أن ما أورده فيه إنما يتعلق بإصلاح المحاكم الشرعية على سبيل الإجمال، أما التفصيل فسيكون بالتدريج أثناء التدارس والمذاكرة والبحث الذي يرجو أن يكون فيه الخير لعامة وخاصة المسلمين.

    إن العارفين المتابعين ليعلمون حق العلم أن الشوط البعيد الذي قطعناه الآن في إصلاح أحوال القضاء الشرعي إنما يرجع إلى ما تفطن ونبه إليه وإلى سبل علاجه هذا المصلح العظيم.

    وبعد:

    فهذه صفحات موجزة لتاريخ عريض وبصمات فذة لا تزال مورقة حتى الآن، سبق بها الأستاذ الإمام أهل زمانه في محراب القضاء مثلما سبقهم في كل مجال خاضه طلبا للإصلاح وإزالة تراكمات الجمود الذي ران، فبث دعوة إصلاحية وقادة لا نزال نغترف من معينها ونجد الفضل في ينبوع هذه القوة الروحانية والعبقرية الإصلاحية التي طوت عوارض الزمن وصغائر الدنيا وفاضت بعطائها على الإنسانية، أمانة للعقيدة، والدين، والحق، والعقل، والفكر، والخير، والإبداع، والجمال.

      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد أبريل 28, 2024 2:07 pm