روح القانون

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
الأستشارات القانونيه نقدمها مجانا لجمهور الزائرين في قسم الاستشارات ونرد عليها في الحال من نخبه محامين المنتدي .. او الأتصال بنا مباشره موبايل : 01001553651 _ 01144457144 _  01288112251

    أسماء بارزة في تاريخ المحاماة بفرنسا

    رمضان الغندور
    رمضان الغندور
    مؤسس ومصمم المنتدي والدعم الفني
    مؤسس ومصمم المنتدي والدعم الفني


    عدد المساهمات : 7758
    نقاط : 21567
    السٌّمعَة : 16
    تاريخ التسجيل : 31/05/2009
    العمر : 67
    العمل/الترفيه : محامي حر

    أسماء بارزة في تاريخ المحاماة بفرنسا Empty أسماء بارزة في تاريخ المحاماة بفرنسا

    مُساهمة من طرف رمضان الغندور الإثنين سبتمبر 28, 2009 3:21 am

    مجلة المحاماة - العدد الأول والثاني والثالث والتاسع والعاشر
    السنة الرابعة والعشرون - سبتمبر وأكتوبر ونوفمبر سنة 1943
    أسماء بارزة في تاريخ المحاماة بفرنسا
    محاضرة ألقاها الأستاذ محمود كامل المحامي بنادي المحامين في مساء يوم 26 مايو سنة 1944

    المحاماة ضرورة تحتمها فكرة العدالة - نظرة الفقه والقضاء في فرنسا إلى المحامين - بيريه - نافر - لابوري - بريسون - فيفاني - هنري روبير - ميليران - اقتراحات في سبيل المحاماة بمصر.
    يقول النقيب فرناندباين Fernand Payen والأستاذ جاستون دوفو gaston Duveau في كتابهما (مهنة المحامي وتقاليد المحاماة) La profession de l’Avocat et les usages du Barreau.
    (لقد وجد المحامون منذ حرم على الناس أن يفضوا الخلافات التي بينهم بالقوة وسواء كانت القوانين مسهبة مفصلة أو موجزة مقتضية فإنها - في الواقع - تبدو دائمًا غامضة وناقصة فلا يمكن أن تكفي بعض صيغ تصاغ فيها مواد قانون لحل الخلافات التي لا حصر لها والتي يحتمل أن تنشب بين الناس، بل كيف يمكن للشارع أن يتنبأ بكل أنواع تلك الخلافات لكي يواجهها بتشريعه ؟ ففي كل مكان حيث يوجد نص من نصوص القانون يجب أن يوجد أولاً قاضٍ لتفسيره وتطبيقه على الحقائق، وحيث يوجد القاضي يجب أن يوجد إلى جانبه - على الأقل - محاميان.
    وكل متقاضٍ يخلط بين مصلحته وحقه وبين حقه الذي يطالب به والحق الذي يقره القانون نفسه وأكثر المتقاضين تمسكًا بأحكام الضمير لا يتورع عن تضحية كل الاعتبارات ما دام في ذلك تمكينًا له من الوصول إلى حقه الذي يقره القانون.
    ولذلك اتضحت فائدة اتخاذ بعض وسائل الحيطة لحماية القضاة - بقدر الإمكان - من الوقوع في الخطأ، ولكي يظل المتقاضون - رضوا أو كرهوا - ملتزمين حدود العدل في خصوماتهم، ولم يجدوا لتحقيق ذلك أصلح من أن يوسطوا بينهم وبين القضاة رجالاً يحترفون مهنة الدفاع عن المصالح العادلة، ويتخذون أساسًا لحرفتهم الحرص على قواعد العدل والخلق القويم.
    هذا سبب أول من أسباب وجود المحامين، ولكنه ليس السبب الوحيد، فحتى لو راعى المتقاضون ضمائرهم فإن وجود المحامين يظل ضرورة حتمية.
    وإذا سأل أحدهم عن السبب فيكفي أن يستمع في مكتب محامٍ إلى صاحب قضية وهو يعرض قضيته على محاميه، ثم يستمع إلى نفس القضية بعد ذلك من المحامي في ساحة المحكمة وهو يعرضها ويناقش وجهات النظر فيها.
    أي عمل شاق قام به المحامي في تلك الفترة !
    فهم ما قاله صاحب القضية، والتنبؤ بما سكت عنه واستخلاص المهم، ونبذ التافه، واستنباط تاريخ الدعوى من واقع مستنداتها، وشرح الأسباب، وإبداء الدوافع، وتبرير الأخطاء، كل ذلك يقوم به المحامي أثناء عرض الوقائع، وإيضاح النقط الغامضة، وسد الثغرات الناقصة، والتوفيق أحيانًا بين طرفي الخصومة، يقوم به المحامي أثناء تفسيره للعقود المحررة بين المتقاضين، وتحليل المبادئ القانونية والبحث عن الأحكام السابقة التي قررت نفس المبادئ فيما مضى والتعليق عليها، والتوفيق بينها وتطبيقها على النزاع المعروض، يقوم به المحامي عند مناقشة الناحية القانونية من القضية.
    آه ! كم يُعاني القضاة لو تركوا وجهًا لوجه مع المتقاضين:
    ولكن هذا ليس كل شيء، فحتى لو وهب القضاة القدرة على معرفة كل شيء فإن وجود المحامي تحتمه - مع ذلك - ضرورة نفسية عميقة، فإن الله يعرف كل شيء ومع ذلك فإن بينه تعالى وبين الناس وسطاء، وإلى هؤلاء الوسطاء القديسين يتوجه الناس بما يريدون لا إلى الله تعالى مباشرةً، فيجب أن يكون أمام المتقاضين شخص يطمئنون إلى الاعتراف له بدخيلة نفوسهم رجل مثلهم، رجل يختارونه هم، ينصت إليهم دون أن يكون شريكًا لهم في آثامهم أو أخطائهم ولكن في رفق ودعة، إن النفوس المتأثرة بالنظريات الهندسية، والنفوس الفقيرة الساذجة لا تستطيع أن تهضم كل ذلك إلا بصعوبة، فإذا كانت تقتنع بالنظر إلى المرئيات فإنني على استعداد لأن أضع أمامها لوحة فنية رمزية قديمة موضوعة في أحد متاحف إيطاليا، ففي الوسط جلباب العدالة وفي يدها سيف وميزان وفي طيات ثوبها لعب صغيرة ترمز إلى القضايا، حقيبة نقود وقطيع من الماشية، ومنزل، وقلب، ومن كل جهة أقبل المتقاضون وقد أعمتهم مصالحهم، وتقلصت أصابعهم على عقود ورسائل، وصفحات من كتب القانون وشهادات وإقرارات ونشرات مطبوعة.. مساكين.. فهل يعلم أكثرهم دراية قيمة ما بيده وقيمة ما يقدمه إلى الآلهة ؟ ولكن بين العدالة والمتقاضي يرى في الصورة رجل آخر هادئ لا مصلحة شخصية له، وهو أول من يصلح لكي يدرس ويقدر كل تلك الأوراق المبعثرة، وهو الذي سينبذ ما يثير الشك وما ينم عن التلفيق، وهو الذي سيضع في كفة الميزان ما له وزن صحيح، ومن يدري ؟ ربما التقط من تحت قدمي موكله ورقة قاطعة في الدعوى ألقاها الموكل جهلاً منه مع أن عليها تتوقف ثروته وشرفه وحياته).
    ولقد هضم الفرنسيون الذين أخذنا عنهم مجموعة قوانيننا كما أخذنا عنهم أنظمتنا القضائية بما فيها نظام نقابتنا هذه الفكرة الرائعة عن المحاماة وسأقتصر هنا على إعطاء حضراتكم مثلاً واحدًا عن مدى تقديرهم للمحامي… مثلاً عمليًا ناطقًا، رأيته عند زيارتي لسراي محكمة الاستئناف بباريس أو (سراي العدل)، كما يسميها الفرنسيون إذ لفت نظري تماثل بيريه Berryer النقيب الفرنسي وقد نحته المثال شابو Chapu ليقام في تلك المحكمة وهو يمثله مرتديًا ثوب المحاماة وقد اعتمد بيده اليسرى على منصة ووضع يده اليمنى على قلبه، وقد علمت أن هذا التمثال يلعب دورًا فعالاً في حياة المحامين الذين يترددون على محكمة باريس، فقد جرت العادة على أن يحدد المحامون وموثقو العقود وكتبتهم مواعيدهم أمام ذلك التمثال الذي يذكرهم بالرجل الذي كان مجده مجدًا للمهنة التي يتشرفون بالانتساب إليها.
    وأثارت زيارتي لسراي العدل في باريس في نفسي الطلعة إلى معرفة الكثير عن (بيربيه) فاتضح لي أن ذلك التماثل المقام له في داخل محكمة باريس ليس هو الوحيد، إذ أن له تمثالاً آخر من البرونز نحته المثال (بار) Barre أقيم في مارسيليا أمام سراي العدل عام 1875 يمثله واقفًا وقد اعتمد بيده اليسرى على منصة الخطابة.
    ولم يقتصر الأمر لتخليد ذكرى كبار المحامين في فرنسا على إقامة التماثيل بل إن الأجيال الحديثة من رجال القانون قد اشتركت في ذلك التخليد بوضع رسائل الدكتوراة عن أولئك المحامين، فقد نشرت إحدى تلك الرسائل التي كانت معدة لتقديمها إلى جامعة فرنسية عن (آراء بيرييه) Les Idées de Berryer وواضعها هو لويس مارشان Louis Marchand وكاتب مقدمتها هو شارل مورا Charles Murras المفكر الفرنسي الكبير.
    استعراض حياة كبار المحامين إذن، كيف تكونوا، كيف نجحوا ماذا فعلوا لمهنتهم ولوطنهم، طريقتهم في التفكير، وسائلهم في العمل - هذا الاستعراض (البيوجرافي) يكفي لإعطائنا فكرة موجزة سريعة عن الذروة التي وصلت إليها المحاماة في فرنسا وعن الأثر الإيجابي الذي أحدثته في المدنية الفرنسية بكافة مظاهرها، قضائية، أو اقتصادية، أو أدبية، أو سياسية، وسأكتفي في هذه باستعراض حياة عشرة من كبار المحامين الفرنسيين الذين برزت أسماؤهم في تاريخ المحاماة بفرنسا، بل في العالم، والذين أهلتهم المحاماة لكي يلعبوا على مسرح الحياة الدولية أدوارًا هامة تثبت بالدليل القاطع أن تكوين المحامي تكوينًا علميًا وخلقيًا سليمًا هو خير ذخيرة يدخرها الوطن لوقت شدته.
    بيير بيرييه Pierre Berryer
    ولد بيير بيرييه في باريس عام 1790 وتوفي عام 1868، ورغم ميوله الملكية الكاثوليكية - في مستهل حياته - فإنه تولى الدفاع عن أنصار الجمهورية بعد أن عادت الملكية إلى فرنسا للمرة الثانية، شهرته تعود إلى القضايا التي تولى فيها الدفاع عن حرية الصحافة وفي عام 1826 تولى الدفاع عن لامنيه Lamennais الذي حوكم بسبب نشره كتاب (الدين وعلاقته بالنظام السياسي والمدني) De la religion consideree dans ses rapports avec l’ordre politique et civil.
    وفي عام 1830 تقدم إلى الانتخابات العامة كملكي متطرف فانتخب نائبًا ولما عرض عليه بوبشياك polignac الاشتراك معه في الوزارة رفض.
    وقد أوفده ملكيو باريس المناصرون لأسرة بوربون ضد أسرة أورليان عام 1832 إلى دوقة بيري Berry ليحاول أن يثنيها عن عزمها الجنوني وهو الهرب إلى غرب فرنسا ولكنه خاب في تلك المحاولة وقبض عليه وقدم إلى محكمة الجنايات إلا أن النيابة العامة تنازلت عن اتهامه وصدر الحكم ببراءته بإجماع الآراء..، ولم يكد يبرأ حتى تولى الدفاع عن شاتو بريان وأيد الالتماسات التي قدمت للإفراج عن دوقة بيري.
    ويبدو من مجموعة خطب بيرييه أنه وإن كان ملكيًا يؤمن بحق أسرة بوربون في الحكم إلا أنه كان نصيرًا للآراء الحرة الديموقراطية، وهي آراء أوذي أصدقاؤه بسببها.
    ولما سقطت الملكية في فرنسا عام 1848 أصبح الخطيب العظيم الذي ناصرها من مؤيدي الجمهورية، فانتخب نقيبًا للمحامين وفي العام التالي انتخب عضوًا في (الأكاديمي فرانسيز) وأعفاه الإمبراطور من التقليد القديم الذي كان يقضي بأن يتوجه العضو الجديد لزيارة رئيس الدولة، وفي عام 1863 اجتمعت نقابات المحامين الفرعية واحتفلت به احتفالاً رائعًا بمناسبة مضي خمسين سنة على اشتغاله بالمحاماة، وقد ظل خلال الأعوام الخمسة الأخيرة من حياته عضوًا في المجلس التشريعي نائبًا عن مارسيليا.
    كان بيرييه خطيبًا مفوهًا امتاز بصوت حبيب إلى آذان المستمعين له رنين مؤثر كما امتاز بخيال لامع وذكاء تسمو به بديهة حاضرة نادرة المثال، وقد جمعت خطبه البرلمانية ومرافعاته في كتاب باسم (مؤلفات بيرييه) Oeuvres de Berryer نشر عام 1868.
    ولقد شرح لويس مارشان Louis Marchand في رسالة الدكتوراة التي أعدها عن (آراء بيريه) كيف كان ذلك المحامي العظيم يتقدم العصر الذي عاش فيه باعتناقه لآراء تخالف الآراء السائدة إذ ذاك فإن آراء جان جاك روسو الفلسفية والاجتماعية عن الفردية l’individualisme والتي بسطها في إعلانه لحقوق الإنسان Droits de l’homme قد سيطرت على أفكار الناس في القرن التاسع عشر كما أنها أوحت بكل التشريعات الفرنسية ولكن بيرييه خالف رجال عصره ونهض للدفاع عن حق (الجماعة) التي كان يعدها الهدف الحقيقي لكل إصلاح، فالفرد يجب أن يكون تابعًا للمجموع الذي يعيش فيه وللنوع الذي ينتمي إليه والذي لا يمكن النظر إليه منفصلاً عنه، وفي رأي بيرييه أن الفرد يجب أن يوضع وسط الحياة الصحيحة التي يعيشها، وسط حياته العائلية، أو الريفية أو البلدية أو الصناعية حيث يتجلى بكامل قيمته.
    وكان بيرييه خصمًا عنيدًا لكل طغيان ولذلك عارض الفكرة التي كانت سائدة في عصره عن وجوب إحاطة الأسرة بهالة مقدسة، فكان يرى - مع المحافظة على الحقوق العائلية ومع معارضة فكرة الطلاق - أن العلاقة بين الابن وأبيه يجب أن تكون على أساس من الصداقة والود المتبادل وكان يسمح بأن يخالف أحد أبناء الأسرة آراء غيره من أعضائها وكثيرًا ما أعلن بيريه آراء سياسية تخالف آراء أبيه.
    ومن آرائه التي تضمنتها رسالة الدكتوراة التي وضعها مارشان والتي أعلنها عام 1831 (في أثناء حياة الشعب الطويلة تتكون مبادئ دستوره الثابتة)، وبعد عشرين عامًا أصر على ذلك الرأي وفسره قائلاً (عندما يتضح أن مبدأ ما قد حمى الشعب وثبتت صلاحيته له وأن ذلك الشعب قد تقدم في ظل قانون ما فإن الواجب احترام ذلك المبدأ المنقذ وعدم تعريضه للمناقشة).
    جول فافر Jules Favre
    قيد جول فافر اسمه بجدول المحامين بليون عام 1831 وعاش حياة سياسية صاخبة جللها موريس لو كلو Mourice Leclus في كتابه Essai de Biographie Historique et morale المطبوع في باريس عام 1912، وقد قدم للمحاكمة عام 1834 لأنه غالى في نقد حكم أصدرته محكمة ليون بإدانة طالب حر النزعة، ولما دافع عن المتهمين في (قضية إبريل سنة 1835)، وجد من الجمهوريين - أنصاره - من ظنوا أنه ما حضر إلى باريس إلا للبحث عن مسرح أجدر بعرض مقدرته الخطابية الرائعة من ليون ! وقد ذاعت هذه الفكرة عنه وطاردته طول حياته فكان يوصف بأنه (المحامي الذي لا قلب له ولا إيمان له والفصيح بلا مثل أعلى ولا اقتناع الذي يسخر موهبته العظيمة لخدمة الأحقاد والمطامع الشخصية).
    ولكن هذا الرأي القاسي إنما كان وليد الفورة الوقتية وتأثر خصومه السياسيين باعتبارات الوقت الراهنة إذ أن جول فافر قد اشتغل إلى جانب المحاماة بالسياسة والصحافة اشتغالاً آثار اهتمام الرأي العام به فكان ينشر مقالاته الداعية إلى تحبيذ الحكم الجمهوري في جريدة Le precurseur بليون، ولكن اشتغاله بالسياسة وبروزه فيها لم يمنعاه يومًا عن أداء واجبه كمحامٍ حتى ولو أغضب رجال حزبه، ولعل أكبر شاهد على ذلك مرافعته الخالدة في القضية المعروفة باسم (قضية إبريل سنة 1835)، فإن أحد رجال بوليس باريس واسمه (باسكييه) خالف القانون ففرض على بعض المتهمين في قضية سياسية محامين معينين ومنعهم من اختيار محامين من أصحاب الآراء السياسية الحرة، وقد تناقش الجمهوريون - الذين كان جول فافر أحد أقطابهم - فيما إذا كان المحامون منهم يتولون الدفاع عن أولئك المتهمين وانتهوا إلى قرار بالامتناع عن ذلك ولكن جول فافر كان الوحيد الذي رأى أن تسخر كل موارد الفصاحة القضائية لخدمة أولئك المتهمين، وغادر ليون إلى باريس وتولى الدفاع عنهم باعتبار أن أداء ذلك الواجب احترام لمبدأ لا يمكن المساس به وهو مبدأ إسمي من كل اعتبار من اعتبارات الخطط الحزبية السياسية، ورغم المجهود الجبار الذي بذله من أجل أولئك المتهمين وسخر فيه نبوغه فقد حكم بإدانتهم ووقع بعد القضية صريع المرض.
    ومن آرائه السياسية التي كان يتخذ مرافعاته وسيلة لإعلانها قوله أثناء مرافعته في قضية (أورسيني).
    (إن الحكومات تسقط بسبب الأخطاء التي ترتكبها هي نفسها، والله - الذي يحصى ساعاتها في سر حكمته - يعد لأولئك الذين لا يعترفون بقوانينه الأبدية نكبات لا يتوقعونها).
    وكان معتزًا بكفاءته إلى حد أنهم عندما طلبوا إليه أن يخطب جماهير الناخبين للإدلاء ببرنامجه السياسي أبى وأجاب.
    (إن على الناخبين أن يعرفوا إذا كانوا في حاجة إلي).
    فرناند لابوري Fernand Labori
    ولد فرناند لابوري بمدينة (ريمس) في 18 إبريل سنة 1860 ومات في باريس عام 1917، وقيد اسمه في جدول المحامين في 11 نوفمبر سنة 1884، وعين عام 1888 سكرتيرًا لمؤتمر المحامين وألقى في ذلك المؤتمر خطابًا رائعًا عن قضيته Collier، وقد كشف هذا الخطاب عن روحه النفاذة المتجردة تمامًا عن الهوى وتحقق ذلك فيما بعد عند مرافعته عن Vaillant في قضية اتهامه بإهانة مجلس النواب عام 1894 وقضية الشريف عبد الحكيم ضد وزارة الخارجية الفرنسية عام 1904، وقضية الشيخ شارل هومبير ضد جريدة (الماتان) عام 1908، وقضية مدام Caillaux التي اتهمت بقتل رئيس تحرير جريدة (الفيجارو) عام 1914، وقد انتخب نقيبًا للمحامين من عام 1911 إلى عام 1913، وقد دعي إلى إنجلترا عام 1901، ورأس المحامي الإنجليزي Mathews - بصفته رئيس جمعية المحامين الإنجليز المعروفة باسم The Hardwick Society - الحفلة التي أقيمت لتكريمه فلما مات (لابوري) قال (ماتيوز) عنه:
    (إن لابوري بالجرأة المزهوة والوفاء لعمله كمحامٍ يحتل مكانة عالية في قائمة أكبر محامي العالم، أن اسمه وشهرته لا يمكن أن يزولا بل سيعيشان طويلاً، ما دام نظام المحامين قائمًا على الأرض)، وكتب عنه النقيب Chenu الذي كان محامي الخصوم في قضية مدام كابو.
    (إن قامته العالية المستقيمة، وصدره العريض، وكتفيه اللتين تشبهان أكتاف المصارعين - كل ذلك في تجانسه وانسجامه ينم عن قوة لا يمكن قهرها، وقسمات وجهه الجميلة المنتظمة كانت تتفجر حياة في حدة الصراع، كما كانت عيناه ترسلان شررًا وكانت عاطفته المهتاجة تنشر الشحوب على وجهه، وإذا بصوته يرتفع وينتفخ ويدوي منفجرًا كصوت الرعد).
    Sa stature haute et droite, sa large poitrine, ses epaules athlethiques donnaient l’impression d’une force irrisistible en son harmonie, Ses beaux traits reguliers s’animaient at souffle du combat, ses yeux lancaient des flames, L’emotion repandait la paleur sur son visage, La voix grandissait, s’enflait, grondait dans un fracas de tonnere.
    ولا شك أن مرافعة لابوري في قضية الضابط دريفوس وفي قضية أميل زولا تعتبر عملاً تاريخيًا ارتفع بذلك المحامي العبقري إلى أسمى مراتب البطولة في الانتصار لفكرة العدل ومقاومة الظلم وتثبيت دعائم حرية الرأي إذ أنه لما أدين الضابط دريفوس، واقتنع الكاتب الفرنسي الخالد أميل زولا أن المجلس العسكري الذي أدانه قد تجنب سبيل العدل نشر مقاله المعروف بعنوان (إني أتهم J’accuse) في جريدة الفجر L’aurore فقدم إلى محكمة جنايات السين بتهمة إهانة المجلس العسكري بباريس وتولى لابوري الدفاع عنه وظل يترافع من 7 إلى 23 فبراير 1893، ورغم ذلك حكم بإدانة زولا وكان الحكم يقضي بحبسه سنة وغرامة ثلاثة آلاف فرنك واضطر زولا بعد ذلك إلى هجرة وطنه كمدًا لأنه كان لا يزال يؤمن بأن العدل لم يجرِ مجراه السليم في محاكمة دريفوس ولم يعد إلى فرنسا إلا لما تقررت إعادة المحاكمة أمام المجلس العسكري بمدينة (رين)، وعاد لابوري إلى المرافعة عن الضابط دريفوس أمام ذلك المجلس العسكري واستمرت مرافعته من 7 أغسطس إلى 9 سبتمبر سنة 1899 وفي أثناء هذه المرافعة أطلق عليه رصاص مسدس كاد يرديه قتيلاً فلما حضر جلسة 22 أغسطس سنة 1899 امتنع عن المرافعة ونشر أسباب امتناعه وهذه الأسباب تعود إلى الخلافات السياسية الشديدة بين أحزاب فرنسا التي اتخذت قضية دريفوس ذريعة لتحقيق مآرب شخصية كان يرى المحامي الخالد أن العدالة يجب أن تكون بمنأى عنها.
    وكان لابوري يصدر مجلة (المجلة الكبيرة La Grande Revne )، وقد نشر فيها مذكراته عن قضية دريفوس.
    تابع المحاضرة التي عنوانها أسماء بارزة في تاريخ المحاماة بفرنسا لحضرة الأستاذ محمود كامل المحامي والمنشورة في العدد الأول والثاني والثالث من مجلة المحاماة السنة الرابعة والعشرون
    إوجين بريسون
    Eugiéne Brisson
    ولد في Bourges في 31 يوليو سنة 1835 ومات في باريس في 13 إبريل سنة 1912 واختفى بموته منظم من أنشط منظمي الجمهورية الثالثة، وأحد المدافعين المتحمسين عن السياسة الحرة اللادينية، وقد قيد بريسون اسمه في جدول المحامين بباريس عام 1854، وساهم في تأسيس جريدة L’Avenir أول صحيفة جمهورية صدرت في الحي اللاتيني، وفي عام 1864 التحق بتحرير جريدة الـ Temps، وفي عام 1865 ساهم في تحرير الـ L’Avenir national وفي عام 1869 أسس الـ La Revue politique التي عطلتها الحكومة الإمبراطورية بعد سنة من صدورها، وفي تلك الأثناء أصبح بريسون من قادة المعارضة الجمهورية لحكم نابليون الثالث، فحشد لمعارضة الإمبراطورية نشاط المحافل الماسونية التي بدا نفوذه عليها جليًا منذ عام 1856، وقد انتخب عضوًا عن باريس في الجمعية العمومية، ونجح أكثر من مرة في إقناع تلك الجمعية بوجهات نظره في المسائل العامة، وعرف عن نائب باريس إتقانه فن الكلام، وكانت خطبه غالبًا موجزة ولكنها امتازت بالوضوح وقوة الحجة، وفصاحة اللسان، والنغم الملون والردود المفحمة القوية، فهو الذي قاوم في تلك الجمعية اقتراح Ernoul الذي كان يرمي به إلى أن تكون اللجنة الدائمة بتلك الجمعية مختصة بنظر القضايا الصحفية التي يكون المتهمون فيها قد ارتكبوا جريمة إهانة الجمعية حتى عند انتهاء دور انعقادها، وفي عام 1874 طالب بحق الدولة دون غيرها من الهيئات الدينية في منح الدرجات الجامعية، وقد انتخب بعد حل الجمعية العمومية عضوًا في مجلس النواب، ثم رئيسًا للجنة الميزانية ثم - في نوفمبر عام 1881 - رئيسًا لمجلس النواب بدلاً من جامبيتا، وكان قد أصبح في تلك الأثناء الرئيس الذي لا ينازع لحزب اليسار المتطرف وللحزب الراد يكالي وتولى الحكم مرتين إحداهما عام 1885، والأخرى عام 1898 وفي كلتا المرتين كان يدعى إلى الحكم في ظروف دقيقة، بل خطرة، ولكنه كان يضطلع بالمسؤولية في جرأة سجلها له التاريخ بالتقدير، ففي عام 1885 خلف Jules Ferry، وتولى إجراء الانتخابات فكان أول ما فعله أن نصح الموظفين بالحيدة التامة، وفي عام 1889 هدد النظام البرلماني الجمهوري بالخطر فقد قام الجنرال بولانجييه Boulanger بحركة انضم إليها الساخطون على ذلك النظام فأحيل الجنرال إلى الاستيداع وتقدم إلى الانتخابات العامة وانتخب عن دائرتين وكان من برنامجه تعديل الدستور فقدم إلى المجلس اقتراحًا بهذا المعنى، ولكنه أمام المعارضة القوية التي لقيها استقال لكي يتقدم من جديد إلى ثلاث دوائر انتخابية فانتخب عن واحدة منها ومنذ ذلك الوقت اعتبر الجمهوريون الجنرال بولانجييه خطرًا على الجمهورية وصدر أمر بالقبض عليه فهرب إلى بروكسل ولم يجد الدستور الفرنسي حصن الجمهورية الحصين محاميًا يذود عن كيانه وقتئذٍ إلا (بريسون) فألقى خطابًا حماسيًا قرر المجلس بعد الاستماع إليه طبعه ونشره.
    وقد دعي (بريسون) إلى الحكم للمرة الثانية في ظروف لا تقل دقة وحرجًا بعد أن استقالت وزارة ميلين Meline بسبب قضية دريفوس التي تولى المرافعة فيها النقيب لا بوري كما قدمنا ولما اقتنع المحامي الوزير بوجوب إعادة النظر في تلك القضية صمم على ذلك رغم معارضة وزراء الحربية الثلاث الذين كانوا يتعاونون معه وهم كافيناك Cavaignac وزير لندن Zurlinden وشانوان Chanoine وقد اضطر الأخير إلى الاستقالة أمام النواب في جلسة 25 أكتوبر سنة 1898 واضطر بريسون إل اعتزال الحكم.
    ولم يعتبر بريسون استقالته انتهاء لعمله السياسي، بل استمر يقاوم فكرة التوسع الاستعماري لأنه تبين أن وراء ذلك التوسع تختفي بعض عوامل الرجعية العسكرية التي تهدد كيان الجمهورية كما قاوم نفوذ الكنيسة.
    وقد أجمع مؤرخو هذا العصر على أن بريسون كان مثالاً لإنكار الذات، وأنه طول مدة رياسته لمجلس النواب - وقد تولى تلك الرئاسة تسع عشرة مرة وتوفي وهو رئيس للمجلس - كان نموذجًا رائعًا لها وقد امتاز بقدرته على تفادي المناقشات المجدبة وسيطرته على سير المناقشات وكانت تكفي كلمة واحدة منه لإيقاف مناقشة واحدة يرى المصلحة في إيقافها، كلمة قوية أو لاذعة… كان محايدًا حيدة مطلقة، وقد أثرت عنه كلماته التي أبان بها خصومه السياسيين عند موتهم.
    رينيه فيفياني Rene Viviani
    ولد فيفاني في 8 نوفمبر سنة 1863 وتوفي في 6 سبتمبر سنة 1925 وهو مدين بحياته السياسية إلى المحاماة فقد درس الحقوق في باريس ثم بدأ الاشتغال بالمحاماة في الجزائر ولما عاد إلى باريس اشتهر بالدفاع عن قضايا العمال والداعين إلى حركات الإضراب وكان يروج للآراء الاشتراكية في جريدة La Petite Republique وفي عام 1893 انتخب نائبًا عن الحي اللاتيني، وكان يتخذ مقعده في مجلس النواب إلى جانب جوريس Jaurès الزعيم الفرنسي الاشتراكي، وقد تولى إدارة مكتبي الأستاذين Waldeck Rousscau, Brisson المحامين الفرنسيين الذائعي الصيت نفس الوقت الذي كان يتولى أثناءه تحرير جريدة المصباح La Lanterne مع ميليران.
    وفي عام 1899 حمل مجلس النواب على إعطاء النساء حق الاشتغال بالمحاماة، وبلغ من إيمانه بقضية المرأة ومساواتها للرجل أن كان المقرر للمؤتمر النسوي الذي عقد عام 1900.
    وفي عام 1901 بدأ المناقشة في مشروع القانون الخاص بالنقابات والجمعيات بخطبة كبرى قال فيها:
    (إن الأديان السماوية تعزي الناس عن شقائهم بأن تعدهم بتعويض هذا الشقاء في الآخرة، وأنا أطلب منكم أن تعارضوا الأديان الأرضية التي تحاول هي الأخرى أن تعزي الناس عن شقائهم وذلك بأن تضمنوا لهم سعادة أبنائهم)، وفي عام 1906 استدعاه كليمنصو لكي يتولى منصب وزير العمل والتأمين الاجتماعي وقد جاء في خطاب فيفياني وهو يحمل على النظم الاجتماعية العتيقة التي كان يرمي إلى تعديلها جملته المشهورة.
    (لقد أطفأنا في السماء أنوارًا لا يمكن أن تضيء بعد).
    Nous avons eteint dans le ciel des lumieres qu’on ne rallumera pas
    وفي عام 1913 تولى وزارة المعارف العمومية في وزارة دوميرج، ولما قدم مشروع قانون التعليم الحر (اللاديني) إلى مجلس الشيوخ خطب مؤيدًا المشروع فقال مشيرًا إلى مؤلفات روسو وفولتير:
    (إن آلاف الرجال قد استجابوا لصوت فلاسفة القرن الثامن عشر الأحرار فانفصلوا عن التقاليد القديمة وأبو أن يسلموا بالعقائد التي كانت تنام بين السحب إلى جانب الخرافات، كما أبو أن يستمروا على إحناء جباههم صاغرة تحت سماء وعدتهم بمعجرات لم تضِء أبصارهم قط، واعتنقوا عقيدة جديدة، إن الإنسانية يجب أن تشتري نفسها، بشقائها وبعملها)، وهذا الرأي - وإن تضمن مهاجمة عنيفة ظالمة للأديان السماوية جميعها - إلا أنه يدل على طريقته في الخطابة ووسيلته في إحداث التأثير.
    وفي 13 يونيه سنة 1914 تولى فيفياني رئاسة الوزارة، ولما بدأت الجيوش الألمانية هجومها خطب يوم 4 أغسطس في مجلس النواب خطبة تفيض حماسة قال فيها إحدى جملة المشهورة وهي:
    (لا لوم علينا الآن ولذلك لن يتطرق الخوف إلينا فيما بعد) Nous sommes sans reproche, nous serons sans peur وعقب هذه الخطبة نهض النواب من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وهتفوا له طويلاً.
    وفي إبريل سنة 1917 عندما دخلت الولايات المتحدة الحرب مع الحلفاء ضد ألمانيا سافر مع الجنرال جوفر إلى واشنجتون وسمح له بالخطابة على منبر (الكونجرس) ومما قاله إذ ذاك:
    (سمعت أول أمس أحد خطبائكم يقول في تأثر - قسما بقبر واشنجتون ! أجل، قسمًا [(1)] أيتامًا ! قسمًابمهاد الأطفال وبالقبول ! قسمًا).
    وقد جمعت خطبه السياسية بعنوان (الجمهورية والعمل) Republique, Travail (1907) معاشات عمال المصانع والعمال الزراعيين، Les Retraites ouvrieres et paysannes (1910) البعثة الفرنسية إلى أميركا La Mission francaise en Amerique (1917)، وقد كتب بضعة فصول في كتاب جان جوريس الذي أسماه (التاريخ الاشتراكي) L’Historie socialiste.
    هنري روبير Henri Robert
    ولد هنري روبير في باريس عام 1863 وقيد في جدول المحامين أمام محكمة الاستئناف عام 1885 وبدأ حياته القضائية سكرتيرًا للنقيب (دورييه) ثم تصدر محامي محكمة الجنايات بمرافعاته الواضحة، الملتهبة المثيرة وقد جمع كل المظاهر الخارجية التي تحتاج إليها مهنة المحاماة، فله وجه معبر شديد التأثير تضيئه عينان تشعان حيوية وتنفذان بنظراتهما إلى النفس من خلف (نظارته).
    وكان يُخيل إلى الكثيرين خطأ أن دور المحامي ينحصر في الكلام ولكن عند هنري روبير رسالة أخرى هي الإصغاء، متابعة الشهود أثناء أداء شهادتهم وعدم إضاعة شيء مما يقولونه، وتسجيل جملة ما أفلتت من ممثل الاتهام للاستفادة منها عند الحاجة، وتنسيق كل هذا في ذاكرته لاستخدامه أثناء المرافعة، هذا العمل يستدعي دقة نفاذه، وقدرًا كبيرًا من السرعة في وزن الأمور، وقد جعل من ذلك كله (فنًا) نبغ فيه، فن أن يتمكن في لباقة من أرجاء التصريح بالنتيجة النهائية لمناقشة الوقائع، النتيجة التي يشوق إلى معرفتها بالتلويح لها أكثر من مرة تلميحًا يثير الطلعة وينتهي بفتنة المستمعين إليه، وبتلهفهم وهم يحبسون أنفاسهم في انتظار تلك النتيجة فإذا أبرز تلك النتيجة أخيرًا - فإن أولئك المستمعين يحسون براحة الاقتناع..، وعندئذ يكسب الموقف تمامًا.
    وقد انتخب هنري روبير نقيبًا عام 1913 ففاز على النقيب لابوري وظل نقيبًا إلى عام 1919 وأصدر كتابًا أسماه المحامي L’avocat.
    ومن أشهر القضايا التي شهدت أروع مرافعاته قضية الأومباشي جيوميه Jeomay الذي اتهم بقتل بائعة نبيذ في شارع (سان جيرمان) بباريس انتهت بالحكم على المتهم بالإعدام رغم الجهد الذي بذله هنري روبير وقضية جبرييل بومبارد Gabrielle Bompard البغي التي استدرجت محضرًا من محضري المحاكم إلى غرفة بأحد الفنادق بالاشتراك مع عشيقها ميشيل إيرو Michel Eyaurd وقتلاه خنقًا انتهت بالحكم بالإعدام على إيرو وبسجن جبرييل عشرين عامًا مع الأشغال الشاقة.
    وهنري روبير هو القائل (إن كلمة جملة لا فائدة منها يقولها المحامي أثناء مرافعته تهدد مصلحة الموكل بالخطر) Dans une plaidoirie, toute phrase inutile est dangereuse.
    وهو القائل (إننا ممثلون نلعب أدوارنا بدون إجراء تجارب سابقة عليها Nous sommes des acteurs qui ne jouent qu’en repétition générale.
    إليكساندر ميليران Alexandre Millerand
    ولد بباريس في 10 فبراير سنة 1859 وتلقى دراسة الحقوق بها ثم قيد في جدول المحامين المقبولين أمام محكمة الاستئناف، واختير - بعد بوانكاريه - ليكون سكرتيرًا لمؤتمر المحامين وسرعان ما برز اسمه في الأوساط القضائية حتى أصبح مكتبه في مقدمة المكاتب وأهمها، وفي عام 1885 تقدم إلى انتخابات مجلس النواب فلم ينجح ولكنه أعاد الكرة في الانتخابات التكميلية وانتخب نائبًا، وعندئذ اتخذ مكانه في أقصى اليسار إلى جانب كليمانصو، ورغم حداثة عهده بالحياة البرلمانية فإنه سرعان ما اشترك في بضع مناقشات سياسية كشفت عن مواهبه وساهم في التشريعات الخاصة بتعديل قانون العقوبات، وتعديل المواد الخاصة بالتفليس، ولم يكن للحزب الاشتراكي وقتئذٍ إلا عدد محدود، كما أنه كان مفتقرًا إلى التنظيم البرلماني، فامتاز ميليران من بين أعضائه بتوجيهه نشاطه إلى المسائل الاجتماعية، وبدا ذلك النشاط منذ عام 1888 في اهتمامه بتشغيل النساء والأطفال في المصانع، ولما تقدم إلى انتخابات عام 1889 كان من برنامجه الاقتصار على مجلس نيابي واحد واختيار القضاة بواسطة الانتخاب العام، وظل ميليران مدة طويلة متأثرًا بمدرسة كليما نصو السياسية، وتلميذًا له، فاقتبس عنه روح الكفاح واتخاذ موقف الهجوم العنيف، وفي عام 1893 تولى رئاسة تحرير جريدة (الجمهورية الصغيرة) La Petite Republique وهي جريدة كان قد أسسها جامبيتا وتولى تحريرها فيفياني فجعل منها ميليران لسان حال الحزب الاشتراكي في الدعوة إلى الإصلاح، وقد ألف يوم 30 مايو سنة 1896 في مؤتمر المجالس البلدية الاشتراكية خطابه التاريخي الذي دعا فيه إلى نظام الـ Collectivism وقد قال في ذلك الخطاب جملته المشهورة (إننا وإن كنا دوليين إلا أننا في نفس الوقت فرنسيون ووطنيون فلم تخطر لنا قط تلك الفكرة الكافرة المجنونة فكرة أن نبعد عنا ذلك العامل الذي لا مثيل له من عوامل التقدم المادي والأدبي الذي صهرته القرون كما يصهر الحديد، والذي يسمى الوطن الفرنسي).
    ولما تولى تحرير جريدة (المصباح) La Lanterne مع فيفياني وبريان عام 1898 دعا إلى الاشتراكية بطريقته الخاصة وهي المزج بين المثل العليا واعتبارات العقل العملية، فكان يرى أن الحزب الاشتراكي يمكنه أن يتولى السلطات العامة بابتعاده عن أعمال العنف واقترابه من الحقائق، وفي عام 1899 عهد إليه فالديك روسو - في وزارته - بمنصب وزير التجارة فاعتبر الاشتراكيون قبوله الاشتراك في وزارة (برجوازيه) خيانة لمبادئهم وعرضوا الموضوع على المؤتمر الاشتراكي الذي عقد في باريس، وبعد مناقشات حادة انتهى إلى قرار بمشروعية الموقف الذي اتخذه ميليران.
    وقد أثبت ميليران بعد ذلك في مختلف المناصب الوزارية التي تولاها كيف يستطيع المحامي أن يعمل وينتج ويفيد حتى في الوزارات (الفنية) البعيدة الصلة بالقانون، إذ أنه قبل أن يتولى وزارة الأشغال عام 1909 في وزارة بريان درس التنظيم الاقتصادي للمراكز التجارية في فرنسا فأعاد تنظيم الإدارة المركزية لتلك الوزارة، وأنشأ إدارة للمناجم، وعدل تشكيل المجلس العام للطرق والكباري واللجنة الاستشارية للسكك الحديدية، وخلق مكتب السياحة وجعل للمواني استقلالاً عن الإدارة المركزية في باريس وأدخل عدة إصلاحات على أنظمة البريد، ولما أضرب عمال السكك الحديدية أثناء توليه تلك الوزارة في أكتوبر عام 1910 لم يتردد ميليران - رغم انتمائه هو ورئيس الوزارة إلى الحزب الاشتراكي - في قمع حركة الإضراب بالشدة، كما أنه لما تولى وزارة الحرب من يناير عام 1912 إلى يناير عام 1913 في وزارة بوانكاريه امتاز بتنفيذ عدة مشروعات هامة منها استصدار القانون الخاص بالرتب العسكرية والدعوة إلى التوسع في استغلال موارد إفريقيا، وترقية معسكرات التدريب والأخذ بفكرة المدفع الخفيف في سلاح الفرسان وتشجيع سلاح الطيران وإعادة تنظيم هيئة أركان الحرب.
    وفي 18 يناير سنة 1920 عهد إلى ميليران برئاسة الوزارة بعد كليمانصو فشكل وزارته في ثماني وأربعين ساعة عقب استقالة (النمر)، واحتفظ لنفسه بوزارة الخارجية وعكف على حل المشاكل المعقدة التي أنشئت عقب السلم.
    وفي 23 سبتمبر عام 1920 انتخب رئيسًا للجمهورية الفرنسية بأغلبية 695 صوتًا من 892 وقد صرح قبل قبوله الترشيح لذلك المنصب السامي بأنه لن يقنع بسكنى (الإيليزيه) كرئيس دولة لا عمل له إلا إمضاء المراسيم بل أنه يحتفظ لنفسه بالحق في التدخل تدخلاً لم يجرؤ عليه أسلافه من رؤساء الجمهورية في توجيه السياسة الخارجية لكي يضمن استمرارها على النسق الذي وضعه لها، وقد أثار ذلك التصريح سخط بعض البرلمانيين الذين لا يوافقون على أن تكون لرئيس الجمهورية سياسة شخصية وجعله يفقد بعض الأصوات.
    وقد ظلت حياة ميليران في المحاماة حافلة بأهم القضايا التي عرضت على المحاكم الفرنسية ومن مرافعاته التي تهم المحامين المصريين مرافعته بالإسكندرية أمام محكمة الاستئناف المختلطة بجلسة 18 مارس سنة 1913 عن شركة هليوبوليس ضد الحكومة المصرية في قضية الخلاف بينهما على ضريبة المباني، فإن الشركة نازعت الحكومة حقها في اقتضاء ضريبة على تلك المباني باعتبار أنها شركة أجنبية تتمتع بامتياز عدم الخضوع للتشريع المحلي وكانت الحكومة المصرية قد حصلت على موافقة الدول صاحبة الامتيازات على فرض تلك الضريبة على مباني مدينة القاهرة فاعتبرت هليوبوليس جزء من القاهرة وأصدرت مرسومًا في 15 يونيو سنة 1909 بسريان الضريبة وحكم لصالح الشركة ابتدائيًا فاستأنفت الحكومة الحكم وترافع عنها الأستاذ جرانمولان.
    ولعل خير وصف لطريقة ميليران في مرافعاته هو ما نشره فارين Henri Varenne في مجلة Revue du Palais عام 1905 إذ قال: أرأيت أمام المنازل التي تبني تلك الآلة القوية التي ترفع الصخور إلى قمة المبنى ؟ إن حركتها بطيئة، بل ثقيلة، ولكن المحرك يدور بلا انقطاع دورات متسقة النغم، بينما ترتفع الصخرة بجهد وفي غير اهتزاز، مشدودة بالسلسلة دون أن يحدث قط أن تتوقف أثناء ارتفاعها، وفجأة تتعالى الأصوات الحديدية وتحتد، وتتجمع الأدلة وتعلو إلى الذروة وتنفصل الصخرة عن الآلة الرافعة وتدور السلسلة دورات جنونية ثم تهوي نتيجة المرافعة بكل ثقلها، موجزة مفترسة مجهزة على الخصم كتلة واحدة في سخرية ساحقة.
    اقتراحات في سبيل المحاماة بمصر
    حضرة الأستاذ النقيب - حضرات الزملاء،
    لو أنني تلوت على حضراتكم بعد هذه الصورة السريعة التي قدمتها لبعض النقباء وكبار المحامين في فرنسا ما قيل في تمجيد المهنة التي نتشرف بالانتساب إليها والسمو بها إلي ذروة أشرف المهن العقلية لما انتهيت الليلة ولكني أكتفي بأن أقول لحضراتكم بأن فولتير قد قال (إن شيشرون لم يكن قنصلاً أي أول رجل في العالم إلا لأنه كان محاميًا) Cicèron ne fut Consul, c’est à dire le premièr homme de l’Univers, que pour avoir été Avocat وإن جان ده لابرويير Jean de La Bruyére قد قال (إن مهنة المحامي شاقة، مرهقة، وتتطلب فيمن يزاولها ذخيرة غنية وموارد عدة.. إنني أجرؤ على القول إنه في نوعه يشبه في نوعهم أوائل الرجال الذين بشروا بالأديان السماوية).
    فماذا فعلنا في مصر لتدعيم كيان هذه المهنة السامية ؟
    إنني أؤمن بأن نقابتنا قد أدت معظم الواجب عليها وأن التشريعات المتوالية منذ تأسيس النقابة في عهد المحامي الزعيم سعد زغلول باشا عام 1912 أيام كان وزيرًا للحقانية إلى حين صدور القانون رقم (135) لسنة 1939 قد حققت للمحامين كثيرًا من مطالبهم وساوت بين حقوق وواجبات رجال القضاء الجالس وهم القضاة وحقوق وواجبات رجال القضاء الواقف وهم المحامون ولكنني أعتقد أن هناك أشياء أخرى يجب عملها للمحاماة في مصر وإنني أتقدم إلى الأستاذ النقيب الذي تكرم بتوجيه الدعوة إلى هذه المحاضرة بهذه الاقتراحات موجزة.
    أولاً: أن ينتدب مجلس النقابة بعضًا من المحامين في مصر والإسكندرية لإلقاء محاضرات على طلبة السنة النهائية بكليتي الحقوق بجامعتي فؤاد الأول وفاروق الأول عن تاريخ المحاماة في مصر وفرنسا وتقاليد المهنة وواجبات اللياقة بين الزملاء وحياة كبار المحامين في مصر وفرنسا مع تحليل (بيوجرافي) لهم في مختلف نواحي نشاطهم القضائي وغير القضائي وأن تكمل هذه الدراسة بنماذج تعطى لأولئك الطلبة عن الطريقة التي تولى بها كبار أبناء المهنة المرافعة في القضايا الهامة التي نظرتها المحاكم المصرية.
    ثانيًا: إقامة تمثال في بهو محكمة الاستئناف لمحامٍ مصري يجمع المحامون على أنه شرف المهنة واحترم تقاليدها وخدمها وإنني أعتقد أن هذا الإجماع سينعقد على اختيار المحامي الذي كان أول من رفعته المحاماة إلى مناصب القضاء العالي ثم إلى منصب الوزارة والذي صدر قانون النقابة في عهده وهو المغفور له سعد زغلول باشا.
    ثالثًا: مطالبة وزارة العدل بتخصيص غرفة داخل محكمة الاستئناف لنقيب المحامين على أن يتولى سكرتاريته موظف من وزارة العدل وأن تحاط هذه الغرفة بكل مظاهر التبجيل التي تحاط بها غرفة رئيس محكمة النقض وأن تتولى الدولة دفع مرتبات الحجاب والسعاة التابعين لها لا لأن النقابة عاجزة عن دفعها ولكن احترامًا للمبدأ الساري في فرنسا وفي النظام المختلط المصري والذي يقضي بأن رئيس رجال القضاء الواقف لا يقل قدرًا عن رئيس رجال القضاء الجالس وأن خير وسيلة لحسم كل خلاف يحتمل أن ينشأ بين قاضٍ ومحامٍ هو الالتجاء فورًا إلى النقيب أو من ينوب عنه عند غيابه للبت فيه على أساس الزمالة المتبادلة بين القضاءين.

      الوقت/التاريخ الآن هو السبت نوفمبر 23, 2024 11:40 am