مجلة المحاماة – العدد الأول
السنة الخامسة - أكتوبر سنة 1924
تأثير اعتماد خط التنظيم في الملكية
بحث في قانون التنظيم ولائحته
مسألة مهمة ومشكلة من مشاكل القانون العديدة التي تُعرض في كل يوم على المحاكم فتقضي فيها كل محكمة بحسب ما تتوجه إليه فكرتها ويوحيه إليها ضميرها.
وكثيرًا ما رأينا المحاكم تتخبط في آرائها ورأينا من العباد شكوى مرّة من قسوة أحكامها، وكم قُدم للمحاكمة شخص متهم بترميم منزل له خارج عن خط تنظيم اعتُمد بديكريتو ولم تُتخذ الإجراءات اللازمة لنزع ملكيته، فيقف المخالف أمام المحكمة مكتوف اليدين أمام قسوة المشرع الذي سن قوانين التنظيم ولوائحه، وقسوة القاضي الذي يتشدد في تطبيق حرفيات النصوص، ولا حيلة له في نقض أقوال الإدارة لحجية محاضر المخالفات، ولا سبيل إلى ذلك إلا بندب خبير قد يتقاضى أجرًا باهظًا، وكثيرًا ما ترفض المحاكم ندبه وبعد ذلك كله يُقضَى عليه بالعقوبة، وليتها الغرامة فقط بل تشفعها المحكمة بإزالة ما حصل من الترميم البسيط إزالة قد تؤدي إلى تلف المنزل وخرابه.
والقاعدة العامة أن الملكية وهي أثبت الحقوق وأهمها وأوسعها نطاقًا حق من أهم صفاته صفة الإطلاق، فهي حق مطلق يجيز للمالك الانتفاع والتصرف بكافة أوجههما.
ولكن المشرع في جميع الأزمان وفي جميع القوانين رأى أن يقيد هذا الإطلاق بقيود، منها ما وضعه للمنفعة العامة التي تستلزمها مصالح البلاد، ومنها ما هو للمنفعة الخاصة وهي منفعة الأفراد مستنيرًا في ذلك بنور التطورات العمرانية والتقلبات المختلفة التي تؤول إليها حال البلاد من وقتٍ لآخر، على أن القاعدة العامة هي أن ما ورد على خلاف القياس فلا يقاس عليه، فهذه القيود التي قيد بها الشارع حق الملكية قيود استثنائية وردت على خلاف القياس فلا يقاس عليها غيرها بل يجب التحرز وعدم التوسع في تطبيقها متخذين في ذلك العدالة إمامًا والرحمة سبيلاً.
نصت المادة الأولى من الأمر العالي الصادر في 26 أغسطس سنة 1889 على أنه (لا يجوز مطلقًا لأحد أن يبني في المدن والقرى منازل أو عمارات أو أسوار أو بلكونات أو سلالم خارجة مكشوفة أو غير ذلك من الأبنية التي تقام على جانبي الطريق العمومية ولا يسوغ أيضًا توسيع تلك الأبنية أو تعليتها أو تقويتها أو ترميمها أو هدمها بأي صفة كانت أو في أي حد كان من الحدود إلا بعد حصوله من مصلحة التنظيم على الرخصة وخط التنظيم) وجاء في المادة العاشرة من اللائحة الصادرة من وزارة الأشغال في 8 سبتمبر سنة 1889 بتنفيذ الأمر العالي المذكور أن (مجرد الإقرار على رسم خط التنظيم من ناظر الأشغال العمومية وصدور أمر عالٍ باعتماده يسوغان للحكومة أن تنزع شيئًا فشيئًا وبالطريقة القانونية الأراضي المبينة بالرسم لزومها لإنشاء الشوارع المعمول عنها الرسم المذكور، ومن تاريخ صدور الأمر العالي المشار إليه لا يجوز إقامة أي بناء على الأراضي اللازم نزع ملكيتها)، والذي يؤخذ من هاتين المادتين ثلاثة أحكام وهي:
أولاً: يجب لإجراء أي عمل من أعمال البناء أو الترميم أو التعديل أو الزيادة أو النقصان في بناء مجاور للطريق العمومي الحصول على رخصة ومراعاة خط التنظيم.
ثانيًا: إذا عُين خط تنظيم جديد لطريق من الطرق العمومية وأقرته وزارة الأشغال وصدر أمر عالٍ باعتماده ودخلت بعض المباني أو الأراضي التي على جانبي الطريق في هذا الخط جاز للإدارة أن تنزع ملكيتها شيئًا فشيئًا بغير حاجة إلى اتباع نصوص قانون نزع الملكية الصادر في سنة 1906.
ثالثًا: إذا كان الحال كما في الحالة السابقة فلا تجوز إقامة أي بناء على الأراضي المراد نزع ملكيتها.
والذي يهمنا وما هو محل بحثنا هو الحكم الثالث الذي قاسى منه الناس كثيرًا بلا رحمة ولا شفقة.
ويحسن بنا للاهتداء في هذا البحث أن نُرجع البصر إلى مأخذ تشريعنا الذي أخذنا ولا نزال نأخذ عنه قوانيننا وهو التشريع الفرنسي، ثم نعود إلى ما عليه تشريعنا المصري وبعد ذلك نفحص أقوال الشراح والمحاكم ونرد حججهم وأقوالهم ثم نبدي رأينا الخاص.
الشراح والمحاكم في فرنسا
لقد اختلف الشراح والمحاكم في فرنسا في آرائهم ولكن يمكن حصر هذا الاختلاف في رأيين:
الرأي الأول:
يرى أصحاب هذا الرأي من الشراح والمحاكم أنه منذ صدور الدكريتو باعتماد خط التنظيم لا يجوز إقامة مبانٍ على الأرض المعدة لنزع ملكيتها ولا يجوز ترميم أو تقوية أو تعديل الأبنية القائمة على هذه الأرض.
ومن الشراح الذين ذهبوا هذا المذهب (بلانيول) في شرحه للقانون المدني جزء أول بند (2334) و(كولان) و(كابتان) جزء أول صـ (745) و(فيجييه) في شرحه للقانون المدني جزء أول صـ (531)، ومما قاله (بلانيول) عن ذلك في صحيفة (720) بند (2334) أنه إذا دخل جزء من البناء في خط التنظيم ولو لم تُنزع ملكيته بالطرق المعتادة أصبح هذا الجزء خاصًا لشبه حق ارتفاق لمصلحة الطريق العام، فلا يمكن إقامة مبانٍ جديدة عليه ولا ترميم المباني القائمة من قبل حتى لا تدفع الإدارة إلا قيمة الأرض المجردة.
ومن المحاكم الفرنسية التي أخذت بهذا الرأي محاكم جزئية كثيرة أهم أحكامها الحكم الوارد في (مجلة سيري 93 – 3 – 97)، وفي ذلك حكم من محكمة النقض الفرنسية صادر في 7 إبريل 1911 منشور في (مجلة سيري 1912 – 1 – 179)، واستندت هذه الأحكام إلى أن إباحة البناء والترميم ينتفي معها الغرض من تعيين خط التنظيم ويعوق سرعة إنشاء الطرق بإقامة المباني وترميمها وتقويتها.
الرأي الثاني:
أما أصحاب هذا الرأي من الشراح والمحاكم فيوجهون إلى الرأي السابق من النقد أشده ويرى أصحابه أن اعتماد خط التنظيم لا يؤثر في ملكية المالك ولا يحرمه من حق البناء على الأرض المراد نزع ملكيتها أو ترميم ما عليها من الأبنية أو تقويتها حتى تنزع ملكيتها بالطرق القانونية، ويرون أن اعتماد خط التنظيم لا يكون إلا بمثابة مشروع لا يحرم الملاك من الانتفاع بملكهم حتى تُنزع ملكيتهم. وأهم أنصار هذا الرأي مسيو (هيريو) وهو رئيس الوزارة الفرنسية الآن، فلقد وجه إلى الرأي القائل بعدم جواز الترميم والبناء والتقوية نقدًا مرًا في تعليقه على حكم منشور في (مجلة سيري 1903 -3 - 97) ولقد بيّن هذا العالم مخاطر خط التنظيم ومضاره وانتقد جمود المحاكم في الأخذ بمباني النصوص دون مقاصدها.
ومن الشراح الذين أخذوا بهذا الرأي أيضًا (أوبري) و(رو) في شرحهما للقانون المدني جزء (4) صـ (47)، و(لوران) جزء (6) صـ (47)، و(داللوز) في موسوعاته جزء (23) صـ (16).
ومن المحاكم الفرنسية التي أخذت بهذا الرأي محكمة النقض في حكمها الصادر بدوائرها المجتمعة في 24 نوفمبر 1837 بعدم توقيع العقوبة على من بنى داخل خط التنظيم قبل نزع ملكيته ودفع التعويض له. وحكم آخر من هذه المحكمة في 30 إبريل 1886 يقضي بإباحة البناء في الأرض المعدة لنزع ملكيتها وترميم ذلك البناء وتقويته.
الشراح والمحاكم في مصر
أما الشراح في مصر فلم نجد منهم من حلل النصوص القانونية في هذا الصدد تحليلاً يسير مع التطورات العمرانية مراعيًا في ذلك مصالح العدد الكثير من الملاك الفقراء الذين تدخل بيوتهم ضمن خط التنظيم، وأول هؤلاء الشراح (مسيو لامبا) فقد قال في كتابه في القانون الإداري المصري 474، 475 (بعد أن عرّف خط التنظيم في صـ (473) بأنه تعبير يراد به الحد المجاور) إنه منذ صدور الأمر العالي يحرم البناء على الأرض المعدة لنزع ملكيتها، ولا يشترط في ذلك أن يكون الطريق قد وُجد فعلاً بل يكفي أن يكون هناك تصميم اعتُمد بدكريتو حتى يصبح خط التنظيم إلزاميًا وإن اعتماد خط التنظيم هو قيد لا يسمح للملاك المجاورين أن يعدلوا أو يزيدوا في حالة أملاكهم الخارجة عن هذا الخط.
كذلك قال الدكتور محمد كامل مرسي بك (الآن السكرتير الثاني للسفارة المصرية بلندن) في رسالته التي قدمها في الدكتوراة القانونية المسماة (نطاق حق الملكية في مصر) صـ (180) إنه لا يجوز إجراء عمل من أعمال الترميم والصيانة في البناء القائم على الأرض المراد نزع ملكيتها للطريق العمومي متى اعتُمد خط التنظيم، وما ذلك الحظر إلا لئلا يطول أمد المباني القائمة على الأرض حتى إذا أُهملت تداعت من نفسها ولا تدفع الإدارة إلا ثمن الأرض.
أما المحاكم المصرية: فنوعان المختلطة والأهلية.
أما المحاكم المختلطة فمنها ما يميل إلى إباحة البناء وتقويته وربما كان ذلك الميل الأغلب منها، وفي ذلك أحكام كثيرة من محكمة الاستئناف المختلطة أهمها حكم صادر في 25 إبريل 1894 مجموعة التشريع والأحكام س (6) صـ (321) وأول مارس 1905 المجموعة المذكورة س (17) صـ (139).
ولكن من المحاكم المختلطة ما قضى بعكس ذلك وحظر البناء والترميم وفي ذلك أحكام قليلة من محكمة الاستئناف المختلطة وأهمها حكم 11 يناير 1891 المجموعة المذكورة س (6) صـ (108)، 2 فبراير 1906 المجموعة المذكورة س (14) صـ (125)، 15 نوفمبر 1893 المجموعة المذكورة س (6) صـ (43)، 4 ديسمبر 1890 المجموعة المذكورة س (3) صـ (45).
أما القضاء الأهلي وعلى رأسه محكمة الاستئناف الأهلية فقد خطا خطوة حسنة في تحليل النصوص القانونية. وتنحصر آراء المحاكم الأهلية في ثلاثة آراء:
الرأي الأول:
يرى هذا الرأي أغلب المحاكم الجزئية ومحكمة الاستئناف في بعض أحكامها، ومقتضى هذا الرأي هو حظر البناء في الأراضي المعدة لنزع ملكيتها أو ترميم البناء القائم عليها أو تقويته متى اعتمد خط التنظيم، ومن الأحكام الصادرة في هذا الصدد (وجميعها لم تُنشر) الحكم الصادر من محكمة مخالفات مصر في 5 يناير 1914 (وألغاه حكم الاستئناف الصادر في 5 إبريل 1914) وكذلك الحكم الصادر من محكمة مخالفات المنصورة في 20 أغسطس 1916 (وألغاه الحكم الصادر من الاستئناف في 21 نوفمبر سنة 1916) وحكم محكمة العطف في 24 مارس 1924.
وأهم أحكام محكمة الاستئناف في هذا الصدد الحكم الصادر في 26 مارس سنة 1917 (المجموعة الرسمية س (18) عدد (32) صـ (52)) ومجموعة الأحكام لحمدي بك السيد (القسم المدني) صـ (99).
الرأي الثاني:
قضت أحكام عديدة من المحاكم الجزئية ومن محكمة الاستئناف بعكس الرأي السابق وإباحة البناء على الأرض اللازم نزع ملكيتها وجواز تقوية البناء القائم عليها وترميمه كما يشاء المالك (حكم محكمة أسيوط الجزئية 17 مايو 1915 المجموعة الرسمية س (16) صـ (118) عدد (103)) وحكم لم يُنشر صادر من محكمة فوه في 20 يناير 1922 في القضية نمرة (231) سنة 1922، ولقد استأنفت النيابة هذا الحكم فأيدته محكمة الاستئناف في 18 يونية 1922 في القضية نمرة (2132) سنة 39 قضائية. وحكم محكمة سنورس (الذي لم يُنشر) في 6 فبراير 1917.
الرأي الثالث:
يفرق أصحاب هذا الرأي من المحاكم بين حالتين:
الأولى: إذا كان المراد إجراؤه بناءً جديدًا أو ترميمًا يزيد من قيمة الأبنية القائمة.
الثانية: إذا كان ما أُجري ترميمًا أريد به الانتفاع بالبناء القائم واستعماله.
فإن كان من النوع الأول فلا يجوز إجراؤه وإن كان من الثاني جاز.
ومن هذا الرأي محكمة الاستئناف في حكمها الصادر في 15 إبريل 1914 المجموعة الرسمية س (18) صـ (53) عدد (20) وآخر في 21 نوفمبر 1916 المجموعة الرسمية س (18) صـ (55) عدد (31). مجموعة الأحكام لحمدي بك السيد صـ (99) (القسم المدني).
خلاصة حجج الآراء السابقة
1 - الرأي القائل بالحظر:
تتلخص حجج الرأي القائل بحظر البناء والتقوية والترميم متى اعتُمد خط التنظيم فيما يأتي:
أولاً: نصت المادة الأولى من الأمر العالي الصادر في 26 أغسطس 1886 على أنه لا يجوز بناء منازل أو عمارات أو سلالم أو بلكونات أو سلالم خارجة مكشوفة أو غير ذلك من الأبنية القائمة على جانبي الطريق العمومي، ولا يسوغ أيضًا توسيع تلك الأبنية أو تعليتها أو تقويتها أو ترميمها أو هدمها بأي صفة كانت أو في أي حد من الحدود إلا بعد الحصول من مصلحة التنظيم على الرخصة وخط التنظيم.
ونصت الفقرة الأولى من المادة (11) من الأمر العالي المذكور على أن إجراء أعمال بدون رخصة خارج خط التنظيم يستوجب توقيع العقوبة المدونة بالمادة (328)، وذلك فضلاً عن هدم الأعمال المذكورة على مصاريف المخالف.
وهذه الحجة قوية في ظاهرها إذا أُخذت بمفردها، ولكنها إذا فُسرت مع بقية النصوص الأخرى الواردة في هذا الصدد وجد أنه لا يصح الأخذ بها على إطلاقها لأنها من القيود المقيدة للملكية الواردة على خلاف القياس فيجب تضييق تفسيرها حتى تلاءم مصالح العباد.
ولكن محكمة الاستئناف في حكمها الصادر في 26 مارس 1917 أبت إلا أن تقول إن حكم هذه المادة عام ويشمل المباني والأعمال الخاصة بها من ترميم ونحوه سواء كانت هذه المباني واقعة على خط التنظيم أو على غير خط التنظيم، على أن في هذا الحكم مطعنين:
1 - إذا راجعنا هذا القول وجدنا الشطر الأول منه مبهمًا لأننا لو راجعنا المادة العاشرة من لائحة التنفيذ الصادرة من وزارة الأشغال عقب صدور الأمر العالي المذكور وجدنا أنها لا تمنع إلا البناء ولم تتكلم عن الترميم أو التقوية الواردين بالمادة الأولى من الأمر العالي وهذا النقص ووجوب تضييق التفسير يقضيان بالقول بإباحة ترميم الأبنية القائمة وتقويتها.
2 - وقد أجمع المحاكم والشراح على أن الأعمال التي تُجرَى في البناء الداخل عن خط التنظيم لا تستلزم رخصة (انظر نطاق حق الملكية لكامل مرسي بك صـ (179) وحكم محكمة الاستئناف المختلطة 25 إبريل 1894 مجموعة التشريع والأحكام (6) صـ (321) و17 إبريل 1895 المجموعة المذكورة (7) صـ (229) و11 مارس 1896 المجموعة المذكورة ( صـ (163)).
وإذا رجعنا إلى المادة (10) من لائحة التنفيذ وجدناها تنص على حكمين:
أولهما: أن اعتماد خط التنظيم بدكريتو يسوغ للإدارة شيئًا فشيئًا أن تنزع ملكية الأراضي المبينة بالرسم بغير حاجة في ذلك لاتباع نصوص قانون نزع الملكية الصادر في 1906.
وثانيهما: أنه لا يجوز البناء على هذه الأراضي.
فيؤخذ من هذه المادة أنها وردت لتسهيل أعمال الإدارة فيما يتعلق بنزع الملكية وعدم إطالة الوقت باتباع الإجراءات المعتادة، وما لم تنزع الملكية فهي باقية وإن هذه المادة لا تسري إلا على الأراضي التي أُعدت لنزع ملكيتها وإدخالها في الطريق العام.
أما المادة الأولى من الأمر العالي والمادة (11) منه فما أريد بهما إنما هو خط التنظيم الذي يفصل طريقًا عموميًا مستعملاً بالفعل عن الأملاك المجاورة، وذلك حفظًا للطرق المستعملة من قبل واستبقاءً لرونقها ونظامها وما لم يكن الطريق مستعملاً بالفعل بأن كان لا يزال مشروعًا فلا تسري عليه المادة الأولى من الأمر العالي بل المادة (10) من لائحة التنفيذ.
ثانيًا: استندوا إلى أن الحكمة في حظر البناء والتقوية والترميم هي زوال المباني الخارجة عن خط التنظيم متى تداعت أو هدمها أصحابها، وبذلك لا تدفع الإدارة إلا ثمن الأرض مجردة والرد على ذلك هو القول بأن في ذلك اعتداءً كبيرًا على الملكية لا تبرره القوانين بل يقضي بعكسه ورود هذه المواد باعتبارها قيودًا على سبيل الاستثناء وحماية حرية الأفراد في التمتع بأملاكهم حتى تُنزع ملكيتهم قانونًا ويعطوا التعويض عن ذلك وإلا لو سلمنا بهذا الاعتداء لكان فيه حرمان الأهالي من أملاكهم حرمانًا قد يكون لأجل غير مسمى فقد يصدر الديكريتو ولا تنزع الإدارة الملكية إلا بعد خمسين أو ستين سنة من صدوره وهذا يتنافى مع العدالة التي ما شرعت القوانين إلا لحمايتها.
ثالثًا: قالوا إن إباحة البناء والترميم والتقوية تبقي المباني الخارجة عن خط التنظيم قائمة وتعوق نفاذ الطرق العمومية بالسرعة المطلوبة، ولكن هذا القول مردود على قائله لأن الإدارة إذا شرعت في نزع الملكية فلا يعوقها قيام البناء أو عدمه وكل ما هناك إنما هو النزاع في التعويض، وسنتكلم على مشكلة التعويض عند الكلام على رأينا الخاص في هذه المسألة.
2 - حجج الرأي القائل بإباحة البناء:
أولاً: قالوا إن الأراضي والمباني التي لم تُنزع ملكيتها لا تزال باقية على ملكية أصحابها ولهم حق الانتفاع بها إلى أن تُنزع هذه الملكية (حكم محكمة فوه السابق ذكره) وإن اعتماد خط التنظيم ليس إلا بمثابة إخطار للملاك بعزم الحكومة على نزع ملكية أراضيهم في المستقبل القريب أو البعيد (حكم محكمة أسيوط السابق).
ثانيًا: أن المادة العاشرة من لائحة ( سبتمبر سنة 1889 لا يمكنها أن تنشئ جرائم أو تقرر عقوبة لأن ذلك من حق السلطة التشريعية نفسها (حكم محكمة أسيوط ) ولكن لنا على ذلك الحكم اعتراض وهو أنه يتنافى مع نظام الحكومة عندنا سابقًا لأن السلطة التنفيذية عندنا كانت هي السلطة التشريعية، ولأن كثيرًا من اللوائح أصدرتها وزارات مختلفة وأتت فيها بعقوبات طبقتها المحاكم منذ صدورها، من ذلك لائحة عربات النقل في 7 يناير 1891 مادة (12)، ولائحة الفلايكية في 16 مارس 1891 مادة (46)، ولائحة المترجمين في 28 ديسمبر 1895 مادة (10) ولائحة نقاشي الأختام، ولائحة القبانية والكيالين ولائحة عربات الركوب والسيارات والكتبة العمومية… إلخ، وجميع هذه اللوائح صادرة بعقوبات أمرت بتوقيعها السلطة التنفيذية التي كانت في الواقع السلطة التشريعية.
3 - حجج الرأي القائل بجواز الترميم ومنع البناء الجديد:
وهو الرأي الثالث الذي اتخذته محكمة الاستئناف الأهلية فقالت بعدم جواز البناء الجديد وبجواز ترميم وتقوية البناء القائم من قبل لأجل استعماله، وحجج هذا الرأي تتلخص فيما يأتي:
أولاً: أن الأمر العالي الخاص بالتنظيم إنما يسري على الأراضي والمنازل الواقعة على جانبي الطريق العمومية الجاري استعمالها أما اللائحة فقاصرة على الأراضي التي قررت الحكومة نزع ملكيتها بناءً على مشروع طريق عمومية جديدة تنوي الحكومة عملها.
ثانيًا: أن نص المادة (10) من اللائحة اقتصر على منع البناء ولم ينص على شيء من الأعمال اللازمة للمحافظة على المنازل التي تقرر نزع ملكيتها.
ثالثًا: أن الملكية التي لا تزال باقية لأصحابها حتى تُنزع تستلزم انتفاع الملاك بأملاكهم وأن عكس ذلك يقضي بمنع التمتع لمدة لا تعلم نهايتها (راجع أحكام محكمة الاستئناف السابق إيرادها).
رأينا الخاص
والرأي عندي أننا إذا حللنا النصوص القانونية الواردة في ذلك وهي المادة الأولى من دكريتو التنظيم والمادة (11) منه والمادة (10) من لائحة وزارة الأشغال نجد بها الأحكام الآتية:
أولاً: أن الأمر العالي الخاص بالتنظيم لا تنطبق المادة الأولى منه إلا على الأراضي والمباني القائمة على جانبي الطريق العمومي المستعمل فعلاً، أما لائحة التنفيذ فلا تنطبق إلا على الطرق المراد إنشاؤها والمبينة بالرسم المعتمد.
ثانيًا: لا يجوز بناء أو ترميم أو تقوية أو تعديل أو زيادة أو نقصان مبانٍ على جانبي الطريق العمومي المستعمل فعلاً إلا بعد الحصول على رخصة وخط التنظيم.
ثالثًا: إذا اعتمد خط التنظيم لطريق عمومي بدكريتو ودخلت بعض المباني فيه ولم تنزع الإدارة ملكية هذه المباني لنفاذ الطريق جاز للمالك ترميم هذه المباني أو تقويتها أو إصلاحها سواء كان ذلك لأجل استعمال ملكه والانتفاع به أو لأجل الاتجار.
رابعًا: إذا دخلت بعض الأراضي المجاورة الفضاء ضمن الخط المعتمد فليس لأربابها أن يبنوا فيها بناءً جديدًا.
خامسًا: لا تدفع الإدارة عند نزع الملكية قيمة الإصلاحات أو الترميمات أو الزيادات التي يجريها المالك بل كل ما تدفعه هي قيمة الأرض والمباني القائمة وقت اعتماد الرسم المبين به خط التنظيم بدكريتو.
أما الحكم الأول والثاني فقد سبق الكلام عليهما وأما الثالث فإننا نخالف فيه محكمة الاستئناف في حكمها الصادر في 15 إبريل 1914 و21 نوفمبر 1916 (المجموعة الرسمية س (18) صـ (53) و(55)) الذي فرق بين الترميمات التي عملت بقصد استعمال المباني والتي عملت بقصد المتاجرة وقضى بإباحة الأولى ومنع الثانية ونحن نرى أنه لا أثر لمثل هذه التفرقة في لائحة التنفيذ، وكل ما هناك أن المادة العاشرة منها منعت البناء منذ صدور الدكريتو باعتماد خط التنظيم ولم تذكر شيئًا عن الترميمات وما يشابهها.
وأما فيما يتعلق بالتعويض الذي يُعطَى للملاك عند نزع ملكيتهم فإن دكريتو اعتماد خط التنظيم الذي يسوغ للإدارة نزع ملكية الأراضي والمباني اللازمة يعتبر بدلاً عن الدكريتو الذي استلزم صدوره قانون نزع الملكية الصادر سنة 1906 (المادة 1). ونصت المادة (15) من هذا القانون على أنه لا تراعى في تقدير الثمن التحسينات والترميمات التي عملت بقصد الحصول على ثمن أزيد وتكون كذلك إذا حصلت بعد نشر الدكريتو وإني أرى أن دكريتو اعتماد خط التنظيم وإن جاز معه إجراء ترميمات إلا أنها لا تقدر عند نزع الملكية. [(1)].
عبد العزيز عبد الهادي
المحامي بدمنهور
[(1)] راجع بهذا الخصوص الحكم الصادر من محكمة الاستئناف الأهلية بتاريخ أول يناير سنة 1921 ومنشور بمجلة المحاماة بالعدد العاشر من السنة الثالثة صـ (502) نمرة (407)، وراجع كذلك حكم محكمة أسيوط الأهلية الصادر بتاريخ 26 فبراير سنة 1921 ومنشور كذلك بالمحاماة عدد (2) س (2) صـ (94) نمرة (35)، وراجع كذلك الحكم الصادر من محكمة أسيوط الجزئية الأهلية بتاريخ 31 فبراير سنة 1924 ومنشور بهذا العدد ضمن أحكام المحاكم الجزئية).
السنة الخامسة - أكتوبر سنة 1924
تأثير اعتماد خط التنظيم في الملكية
بحث في قانون التنظيم ولائحته
مسألة مهمة ومشكلة من مشاكل القانون العديدة التي تُعرض في كل يوم على المحاكم فتقضي فيها كل محكمة بحسب ما تتوجه إليه فكرتها ويوحيه إليها ضميرها.
وكثيرًا ما رأينا المحاكم تتخبط في آرائها ورأينا من العباد شكوى مرّة من قسوة أحكامها، وكم قُدم للمحاكمة شخص متهم بترميم منزل له خارج عن خط تنظيم اعتُمد بديكريتو ولم تُتخذ الإجراءات اللازمة لنزع ملكيته، فيقف المخالف أمام المحكمة مكتوف اليدين أمام قسوة المشرع الذي سن قوانين التنظيم ولوائحه، وقسوة القاضي الذي يتشدد في تطبيق حرفيات النصوص، ولا حيلة له في نقض أقوال الإدارة لحجية محاضر المخالفات، ولا سبيل إلى ذلك إلا بندب خبير قد يتقاضى أجرًا باهظًا، وكثيرًا ما ترفض المحاكم ندبه وبعد ذلك كله يُقضَى عليه بالعقوبة، وليتها الغرامة فقط بل تشفعها المحكمة بإزالة ما حصل من الترميم البسيط إزالة قد تؤدي إلى تلف المنزل وخرابه.
والقاعدة العامة أن الملكية وهي أثبت الحقوق وأهمها وأوسعها نطاقًا حق من أهم صفاته صفة الإطلاق، فهي حق مطلق يجيز للمالك الانتفاع والتصرف بكافة أوجههما.
ولكن المشرع في جميع الأزمان وفي جميع القوانين رأى أن يقيد هذا الإطلاق بقيود، منها ما وضعه للمنفعة العامة التي تستلزمها مصالح البلاد، ومنها ما هو للمنفعة الخاصة وهي منفعة الأفراد مستنيرًا في ذلك بنور التطورات العمرانية والتقلبات المختلفة التي تؤول إليها حال البلاد من وقتٍ لآخر، على أن القاعدة العامة هي أن ما ورد على خلاف القياس فلا يقاس عليه، فهذه القيود التي قيد بها الشارع حق الملكية قيود استثنائية وردت على خلاف القياس فلا يقاس عليها غيرها بل يجب التحرز وعدم التوسع في تطبيقها متخذين في ذلك العدالة إمامًا والرحمة سبيلاً.
نصت المادة الأولى من الأمر العالي الصادر في 26 أغسطس سنة 1889 على أنه (لا يجوز مطلقًا لأحد أن يبني في المدن والقرى منازل أو عمارات أو أسوار أو بلكونات أو سلالم خارجة مكشوفة أو غير ذلك من الأبنية التي تقام على جانبي الطريق العمومية ولا يسوغ أيضًا توسيع تلك الأبنية أو تعليتها أو تقويتها أو ترميمها أو هدمها بأي صفة كانت أو في أي حد كان من الحدود إلا بعد حصوله من مصلحة التنظيم على الرخصة وخط التنظيم) وجاء في المادة العاشرة من اللائحة الصادرة من وزارة الأشغال في 8 سبتمبر سنة 1889 بتنفيذ الأمر العالي المذكور أن (مجرد الإقرار على رسم خط التنظيم من ناظر الأشغال العمومية وصدور أمر عالٍ باعتماده يسوغان للحكومة أن تنزع شيئًا فشيئًا وبالطريقة القانونية الأراضي المبينة بالرسم لزومها لإنشاء الشوارع المعمول عنها الرسم المذكور، ومن تاريخ صدور الأمر العالي المشار إليه لا يجوز إقامة أي بناء على الأراضي اللازم نزع ملكيتها)، والذي يؤخذ من هاتين المادتين ثلاثة أحكام وهي:
أولاً: يجب لإجراء أي عمل من أعمال البناء أو الترميم أو التعديل أو الزيادة أو النقصان في بناء مجاور للطريق العمومي الحصول على رخصة ومراعاة خط التنظيم.
ثانيًا: إذا عُين خط تنظيم جديد لطريق من الطرق العمومية وأقرته وزارة الأشغال وصدر أمر عالٍ باعتماده ودخلت بعض المباني أو الأراضي التي على جانبي الطريق في هذا الخط جاز للإدارة أن تنزع ملكيتها شيئًا فشيئًا بغير حاجة إلى اتباع نصوص قانون نزع الملكية الصادر في سنة 1906.
ثالثًا: إذا كان الحال كما في الحالة السابقة فلا تجوز إقامة أي بناء على الأراضي المراد نزع ملكيتها.
والذي يهمنا وما هو محل بحثنا هو الحكم الثالث الذي قاسى منه الناس كثيرًا بلا رحمة ولا شفقة.
ويحسن بنا للاهتداء في هذا البحث أن نُرجع البصر إلى مأخذ تشريعنا الذي أخذنا ولا نزال نأخذ عنه قوانيننا وهو التشريع الفرنسي، ثم نعود إلى ما عليه تشريعنا المصري وبعد ذلك نفحص أقوال الشراح والمحاكم ونرد حججهم وأقوالهم ثم نبدي رأينا الخاص.
الشراح والمحاكم في فرنسا
لقد اختلف الشراح والمحاكم في فرنسا في آرائهم ولكن يمكن حصر هذا الاختلاف في رأيين:
الرأي الأول:
يرى أصحاب هذا الرأي من الشراح والمحاكم أنه منذ صدور الدكريتو باعتماد خط التنظيم لا يجوز إقامة مبانٍ على الأرض المعدة لنزع ملكيتها ولا يجوز ترميم أو تقوية أو تعديل الأبنية القائمة على هذه الأرض.
ومن الشراح الذين ذهبوا هذا المذهب (بلانيول) في شرحه للقانون المدني جزء أول بند (2334) و(كولان) و(كابتان) جزء أول صـ (745) و(فيجييه) في شرحه للقانون المدني جزء أول صـ (531)، ومما قاله (بلانيول) عن ذلك في صحيفة (720) بند (2334) أنه إذا دخل جزء من البناء في خط التنظيم ولو لم تُنزع ملكيته بالطرق المعتادة أصبح هذا الجزء خاصًا لشبه حق ارتفاق لمصلحة الطريق العام، فلا يمكن إقامة مبانٍ جديدة عليه ولا ترميم المباني القائمة من قبل حتى لا تدفع الإدارة إلا قيمة الأرض المجردة.
ومن المحاكم الفرنسية التي أخذت بهذا الرأي محاكم جزئية كثيرة أهم أحكامها الحكم الوارد في (مجلة سيري 93 – 3 – 97)، وفي ذلك حكم من محكمة النقض الفرنسية صادر في 7 إبريل 1911 منشور في (مجلة سيري 1912 – 1 – 179)، واستندت هذه الأحكام إلى أن إباحة البناء والترميم ينتفي معها الغرض من تعيين خط التنظيم ويعوق سرعة إنشاء الطرق بإقامة المباني وترميمها وتقويتها.
الرأي الثاني:
أما أصحاب هذا الرأي من الشراح والمحاكم فيوجهون إلى الرأي السابق من النقد أشده ويرى أصحابه أن اعتماد خط التنظيم لا يؤثر في ملكية المالك ولا يحرمه من حق البناء على الأرض المراد نزع ملكيتها أو ترميم ما عليها من الأبنية أو تقويتها حتى تنزع ملكيتها بالطرق القانونية، ويرون أن اعتماد خط التنظيم لا يكون إلا بمثابة مشروع لا يحرم الملاك من الانتفاع بملكهم حتى تُنزع ملكيتهم. وأهم أنصار هذا الرأي مسيو (هيريو) وهو رئيس الوزارة الفرنسية الآن، فلقد وجه إلى الرأي القائل بعدم جواز الترميم والبناء والتقوية نقدًا مرًا في تعليقه على حكم منشور في (مجلة سيري 1903 -3 - 97) ولقد بيّن هذا العالم مخاطر خط التنظيم ومضاره وانتقد جمود المحاكم في الأخذ بمباني النصوص دون مقاصدها.
ومن الشراح الذين أخذوا بهذا الرأي أيضًا (أوبري) و(رو) في شرحهما للقانون المدني جزء (4) صـ (47)، و(لوران) جزء (6) صـ (47)، و(داللوز) في موسوعاته جزء (23) صـ (16).
ومن المحاكم الفرنسية التي أخذت بهذا الرأي محكمة النقض في حكمها الصادر بدوائرها المجتمعة في 24 نوفمبر 1837 بعدم توقيع العقوبة على من بنى داخل خط التنظيم قبل نزع ملكيته ودفع التعويض له. وحكم آخر من هذه المحكمة في 30 إبريل 1886 يقضي بإباحة البناء في الأرض المعدة لنزع ملكيتها وترميم ذلك البناء وتقويته.
الشراح والمحاكم في مصر
أما الشراح في مصر فلم نجد منهم من حلل النصوص القانونية في هذا الصدد تحليلاً يسير مع التطورات العمرانية مراعيًا في ذلك مصالح العدد الكثير من الملاك الفقراء الذين تدخل بيوتهم ضمن خط التنظيم، وأول هؤلاء الشراح (مسيو لامبا) فقد قال في كتابه في القانون الإداري المصري 474، 475 (بعد أن عرّف خط التنظيم في صـ (473) بأنه تعبير يراد به الحد المجاور) إنه منذ صدور الأمر العالي يحرم البناء على الأرض المعدة لنزع ملكيتها، ولا يشترط في ذلك أن يكون الطريق قد وُجد فعلاً بل يكفي أن يكون هناك تصميم اعتُمد بدكريتو حتى يصبح خط التنظيم إلزاميًا وإن اعتماد خط التنظيم هو قيد لا يسمح للملاك المجاورين أن يعدلوا أو يزيدوا في حالة أملاكهم الخارجة عن هذا الخط.
كذلك قال الدكتور محمد كامل مرسي بك (الآن السكرتير الثاني للسفارة المصرية بلندن) في رسالته التي قدمها في الدكتوراة القانونية المسماة (نطاق حق الملكية في مصر) صـ (180) إنه لا يجوز إجراء عمل من أعمال الترميم والصيانة في البناء القائم على الأرض المراد نزع ملكيتها للطريق العمومي متى اعتُمد خط التنظيم، وما ذلك الحظر إلا لئلا يطول أمد المباني القائمة على الأرض حتى إذا أُهملت تداعت من نفسها ولا تدفع الإدارة إلا ثمن الأرض.
أما المحاكم المصرية: فنوعان المختلطة والأهلية.
أما المحاكم المختلطة فمنها ما يميل إلى إباحة البناء وتقويته وربما كان ذلك الميل الأغلب منها، وفي ذلك أحكام كثيرة من محكمة الاستئناف المختلطة أهمها حكم صادر في 25 إبريل 1894 مجموعة التشريع والأحكام س (6) صـ (321) وأول مارس 1905 المجموعة المذكورة س (17) صـ (139).
ولكن من المحاكم المختلطة ما قضى بعكس ذلك وحظر البناء والترميم وفي ذلك أحكام قليلة من محكمة الاستئناف المختلطة وأهمها حكم 11 يناير 1891 المجموعة المذكورة س (6) صـ (108)، 2 فبراير 1906 المجموعة المذكورة س (14) صـ (125)، 15 نوفمبر 1893 المجموعة المذكورة س (6) صـ (43)، 4 ديسمبر 1890 المجموعة المذكورة س (3) صـ (45).
أما القضاء الأهلي وعلى رأسه محكمة الاستئناف الأهلية فقد خطا خطوة حسنة في تحليل النصوص القانونية. وتنحصر آراء المحاكم الأهلية في ثلاثة آراء:
الرأي الأول:
يرى هذا الرأي أغلب المحاكم الجزئية ومحكمة الاستئناف في بعض أحكامها، ومقتضى هذا الرأي هو حظر البناء في الأراضي المعدة لنزع ملكيتها أو ترميم البناء القائم عليها أو تقويته متى اعتمد خط التنظيم، ومن الأحكام الصادرة في هذا الصدد (وجميعها لم تُنشر) الحكم الصادر من محكمة مخالفات مصر في 5 يناير 1914 (وألغاه حكم الاستئناف الصادر في 5 إبريل 1914) وكذلك الحكم الصادر من محكمة مخالفات المنصورة في 20 أغسطس 1916 (وألغاه الحكم الصادر من الاستئناف في 21 نوفمبر سنة 1916) وحكم محكمة العطف في 24 مارس 1924.
وأهم أحكام محكمة الاستئناف في هذا الصدد الحكم الصادر في 26 مارس سنة 1917 (المجموعة الرسمية س (18) عدد (32) صـ (52)) ومجموعة الأحكام لحمدي بك السيد (القسم المدني) صـ (99).
الرأي الثاني:
قضت أحكام عديدة من المحاكم الجزئية ومن محكمة الاستئناف بعكس الرأي السابق وإباحة البناء على الأرض اللازم نزع ملكيتها وجواز تقوية البناء القائم عليها وترميمه كما يشاء المالك (حكم محكمة أسيوط الجزئية 17 مايو 1915 المجموعة الرسمية س (16) صـ (118) عدد (103)) وحكم لم يُنشر صادر من محكمة فوه في 20 يناير 1922 في القضية نمرة (231) سنة 1922، ولقد استأنفت النيابة هذا الحكم فأيدته محكمة الاستئناف في 18 يونية 1922 في القضية نمرة (2132) سنة 39 قضائية. وحكم محكمة سنورس (الذي لم يُنشر) في 6 فبراير 1917.
الرأي الثالث:
يفرق أصحاب هذا الرأي من المحاكم بين حالتين:
الأولى: إذا كان المراد إجراؤه بناءً جديدًا أو ترميمًا يزيد من قيمة الأبنية القائمة.
الثانية: إذا كان ما أُجري ترميمًا أريد به الانتفاع بالبناء القائم واستعماله.
فإن كان من النوع الأول فلا يجوز إجراؤه وإن كان من الثاني جاز.
ومن هذا الرأي محكمة الاستئناف في حكمها الصادر في 15 إبريل 1914 المجموعة الرسمية س (18) صـ (53) عدد (20) وآخر في 21 نوفمبر 1916 المجموعة الرسمية س (18) صـ (55) عدد (31). مجموعة الأحكام لحمدي بك السيد صـ (99) (القسم المدني).
خلاصة حجج الآراء السابقة
1 - الرأي القائل بالحظر:
تتلخص حجج الرأي القائل بحظر البناء والتقوية والترميم متى اعتُمد خط التنظيم فيما يأتي:
أولاً: نصت المادة الأولى من الأمر العالي الصادر في 26 أغسطس 1886 على أنه لا يجوز بناء منازل أو عمارات أو سلالم أو بلكونات أو سلالم خارجة مكشوفة أو غير ذلك من الأبنية القائمة على جانبي الطريق العمومي، ولا يسوغ أيضًا توسيع تلك الأبنية أو تعليتها أو تقويتها أو ترميمها أو هدمها بأي صفة كانت أو في أي حد من الحدود إلا بعد الحصول من مصلحة التنظيم على الرخصة وخط التنظيم.
ونصت الفقرة الأولى من المادة (11) من الأمر العالي المذكور على أن إجراء أعمال بدون رخصة خارج خط التنظيم يستوجب توقيع العقوبة المدونة بالمادة (328)، وذلك فضلاً عن هدم الأعمال المذكورة على مصاريف المخالف.
وهذه الحجة قوية في ظاهرها إذا أُخذت بمفردها، ولكنها إذا فُسرت مع بقية النصوص الأخرى الواردة في هذا الصدد وجد أنه لا يصح الأخذ بها على إطلاقها لأنها من القيود المقيدة للملكية الواردة على خلاف القياس فيجب تضييق تفسيرها حتى تلاءم مصالح العباد.
ولكن محكمة الاستئناف في حكمها الصادر في 26 مارس 1917 أبت إلا أن تقول إن حكم هذه المادة عام ويشمل المباني والأعمال الخاصة بها من ترميم ونحوه سواء كانت هذه المباني واقعة على خط التنظيم أو على غير خط التنظيم، على أن في هذا الحكم مطعنين:
1 - إذا راجعنا هذا القول وجدنا الشطر الأول منه مبهمًا لأننا لو راجعنا المادة العاشرة من لائحة التنفيذ الصادرة من وزارة الأشغال عقب صدور الأمر العالي المذكور وجدنا أنها لا تمنع إلا البناء ولم تتكلم عن الترميم أو التقوية الواردين بالمادة الأولى من الأمر العالي وهذا النقص ووجوب تضييق التفسير يقضيان بالقول بإباحة ترميم الأبنية القائمة وتقويتها.
2 - وقد أجمع المحاكم والشراح على أن الأعمال التي تُجرَى في البناء الداخل عن خط التنظيم لا تستلزم رخصة (انظر نطاق حق الملكية لكامل مرسي بك صـ (179) وحكم محكمة الاستئناف المختلطة 25 إبريل 1894 مجموعة التشريع والأحكام (6) صـ (321) و17 إبريل 1895 المجموعة المذكورة (7) صـ (229) و11 مارس 1896 المجموعة المذكورة ( صـ (163)).
وإذا رجعنا إلى المادة (10) من لائحة التنفيذ وجدناها تنص على حكمين:
أولهما: أن اعتماد خط التنظيم بدكريتو يسوغ للإدارة شيئًا فشيئًا أن تنزع ملكية الأراضي المبينة بالرسم بغير حاجة في ذلك لاتباع نصوص قانون نزع الملكية الصادر في 1906.
وثانيهما: أنه لا يجوز البناء على هذه الأراضي.
فيؤخذ من هذه المادة أنها وردت لتسهيل أعمال الإدارة فيما يتعلق بنزع الملكية وعدم إطالة الوقت باتباع الإجراءات المعتادة، وما لم تنزع الملكية فهي باقية وإن هذه المادة لا تسري إلا على الأراضي التي أُعدت لنزع ملكيتها وإدخالها في الطريق العام.
أما المادة الأولى من الأمر العالي والمادة (11) منه فما أريد بهما إنما هو خط التنظيم الذي يفصل طريقًا عموميًا مستعملاً بالفعل عن الأملاك المجاورة، وذلك حفظًا للطرق المستعملة من قبل واستبقاءً لرونقها ونظامها وما لم يكن الطريق مستعملاً بالفعل بأن كان لا يزال مشروعًا فلا تسري عليه المادة الأولى من الأمر العالي بل المادة (10) من لائحة التنفيذ.
ثانيًا: استندوا إلى أن الحكمة في حظر البناء والتقوية والترميم هي زوال المباني الخارجة عن خط التنظيم متى تداعت أو هدمها أصحابها، وبذلك لا تدفع الإدارة إلا ثمن الأرض مجردة والرد على ذلك هو القول بأن في ذلك اعتداءً كبيرًا على الملكية لا تبرره القوانين بل يقضي بعكسه ورود هذه المواد باعتبارها قيودًا على سبيل الاستثناء وحماية حرية الأفراد في التمتع بأملاكهم حتى تُنزع ملكيتهم قانونًا ويعطوا التعويض عن ذلك وإلا لو سلمنا بهذا الاعتداء لكان فيه حرمان الأهالي من أملاكهم حرمانًا قد يكون لأجل غير مسمى فقد يصدر الديكريتو ولا تنزع الإدارة الملكية إلا بعد خمسين أو ستين سنة من صدوره وهذا يتنافى مع العدالة التي ما شرعت القوانين إلا لحمايتها.
ثالثًا: قالوا إن إباحة البناء والترميم والتقوية تبقي المباني الخارجة عن خط التنظيم قائمة وتعوق نفاذ الطرق العمومية بالسرعة المطلوبة، ولكن هذا القول مردود على قائله لأن الإدارة إذا شرعت في نزع الملكية فلا يعوقها قيام البناء أو عدمه وكل ما هناك إنما هو النزاع في التعويض، وسنتكلم على مشكلة التعويض عند الكلام على رأينا الخاص في هذه المسألة.
2 - حجج الرأي القائل بإباحة البناء:
أولاً: قالوا إن الأراضي والمباني التي لم تُنزع ملكيتها لا تزال باقية على ملكية أصحابها ولهم حق الانتفاع بها إلى أن تُنزع هذه الملكية (حكم محكمة فوه السابق ذكره) وإن اعتماد خط التنظيم ليس إلا بمثابة إخطار للملاك بعزم الحكومة على نزع ملكية أراضيهم في المستقبل القريب أو البعيد (حكم محكمة أسيوط السابق).
ثانيًا: أن المادة العاشرة من لائحة ( سبتمبر سنة 1889 لا يمكنها أن تنشئ جرائم أو تقرر عقوبة لأن ذلك من حق السلطة التشريعية نفسها (حكم محكمة أسيوط ) ولكن لنا على ذلك الحكم اعتراض وهو أنه يتنافى مع نظام الحكومة عندنا سابقًا لأن السلطة التنفيذية عندنا كانت هي السلطة التشريعية، ولأن كثيرًا من اللوائح أصدرتها وزارات مختلفة وأتت فيها بعقوبات طبقتها المحاكم منذ صدورها، من ذلك لائحة عربات النقل في 7 يناير 1891 مادة (12)، ولائحة الفلايكية في 16 مارس 1891 مادة (46)، ولائحة المترجمين في 28 ديسمبر 1895 مادة (10) ولائحة نقاشي الأختام، ولائحة القبانية والكيالين ولائحة عربات الركوب والسيارات والكتبة العمومية… إلخ، وجميع هذه اللوائح صادرة بعقوبات أمرت بتوقيعها السلطة التنفيذية التي كانت في الواقع السلطة التشريعية.
3 - حجج الرأي القائل بجواز الترميم ومنع البناء الجديد:
وهو الرأي الثالث الذي اتخذته محكمة الاستئناف الأهلية فقالت بعدم جواز البناء الجديد وبجواز ترميم وتقوية البناء القائم من قبل لأجل استعماله، وحجج هذا الرأي تتلخص فيما يأتي:
أولاً: أن الأمر العالي الخاص بالتنظيم إنما يسري على الأراضي والمنازل الواقعة على جانبي الطريق العمومية الجاري استعمالها أما اللائحة فقاصرة على الأراضي التي قررت الحكومة نزع ملكيتها بناءً على مشروع طريق عمومية جديدة تنوي الحكومة عملها.
ثانيًا: أن نص المادة (10) من اللائحة اقتصر على منع البناء ولم ينص على شيء من الأعمال اللازمة للمحافظة على المنازل التي تقرر نزع ملكيتها.
ثالثًا: أن الملكية التي لا تزال باقية لأصحابها حتى تُنزع تستلزم انتفاع الملاك بأملاكهم وأن عكس ذلك يقضي بمنع التمتع لمدة لا تعلم نهايتها (راجع أحكام محكمة الاستئناف السابق إيرادها).
رأينا الخاص
والرأي عندي أننا إذا حللنا النصوص القانونية الواردة في ذلك وهي المادة الأولى من دكريتو التنظيم والمادة (11) منه والمادة (10) من لائحة وزارة الأشغال نجد بها الأحكام الآتية:
أولاً: أن الأمر العالي الخاص بالتنظيم لا تنطبق المادة الأولى منه إلا على الأراضي والمباني القائمة على جانبي الطريق العمومي المستعمل فعلاً، أما لائحة التنفيذ فلا تنطبق إلا على الطرق المراد إنشاؤها والمبينة بالرسم المعتمد.
ثانيًا: لا يجوز بناء أو ترميم أو تقوية أو تعديل أو زيادة أو نقصان مبانٍ على جانبي الطريق العمومي المستعمل فعلاً إلا بعد الحصول على رخصة وخط التنظيم.
ثالثًا: إذا اعتمد خط التنظيم لطريق عمومي بدكريتو ودخلت بعض المباني فيه ولم تنزع الإدارة ملكية هذه المباني لنفاذ الطريق جاز للمالك ترميم هذه المباني أو تقويتها أو إصلاحها سواء كان ذلك لأجل استعمال ملكه والانتفاع به أو لأجل الاتجار.
رابعًا: إذا دخلت بعض الأراضي المجاورة الفضاء ضمن الخط المعتمد فليس لأربابها أن يبنوا فيها بناءً جديدًا.
خامسًا: لا تدفع الإدارة عند نزع الملكية قيمة الإصلاحات أو الترميمات أو الزيادات التي يجريها المالك بل كل ما تدفعه هي قيمة الأرض والمباني القائمة وقت اعتماد الرسم المبين به خط التنظيم بدكريتو.
أما الحكم الأول والثاني فقد سبق الكلام عليهما وأما الثالث فإننا نخالف فيه محكمة الاستئناف في حكمها الصادر في 15 إبريل 1914 و21 نوفمبر 1916 (المجموعة الرسمية س (18) صـ (53) و(55)) الذي فرق بين الترميمات التي عملت بقصد استعمال المباني والتي عملت بقصد المتاجرة وقضى بإباحة الأولى ومنع الثانية ونحن نرى أنه لا أثر لمثل هذه التفرقة في لائحة التنفيذ، وكل ما هناك أن المادة العاشرة منها منعت البناء منذ صدور الدكريتو باعتماد خط التنظيم ولم تذكر شيئًا عن الترميمات وما يشابهها.
وأما فيما يتعلق بالتعويض الذي يُعطَى للملاك عند نزع ملكيتهم فإن دكريتو اعتماد خط التنظيم الذي يسوغ للإدارة نزع ملكية الأراضي والمباني اللازمة يعتبر بدلاً عن الدكريتو الذي استلزم صدوره قانون نزع الملكية الصادر سنة 1906 (المادة 1). ونصت المادة (15) من هذا القانون على أنه لا تراعى في تقدير الثمن التحسينات والترميمات التي عملت بقصد الحصول على ثمن أزيد وتكون كذلك إذا حصلت بعد نشر الدكريتو وإني أرى أن دكريتو اعتماد خط التنظيم وإن جاز معه إجراء ترميمات إلا أنها لا تقدر عند نزع الملكية. [(1)].
عبد العزيز عبد الهادي
المحامي بدمنهور
[(1)] راجع بهذا الخصوص الحكم الصادر من محكمة الاستئناف الأهلية بتاريخ أول يناير سنة 1921 ومنشور بمجلة المحاماة بالعدد العاشر من السنة الثالثة صـ (502) نمرة (407)، وراجع كذلك حكم محكمة أسيوط الأهلية الصادر بتاريخ 26 فبراير سنة 1921 ومنشور كذلك بالمحاماة عدد (2) س (2) صـ (94) نمرة (35)، وراجع كذلك الحكم الصادر من محكمة أسيوط الجزئية الأهلية بتاريخ 31 فبراير سنة 1924 ومنشور بهذا العدد ضمن أحكام المحاكم الجزئية).