الاتهام
نحن محمد نور رئيس نيابة مصر
من حيث أنه بتاريخ 30 مايو سنة 1926م تقدم بلاغ من الشيخ خليل حسنين الطالب بالقسم العالي بالأزهر لسعادة النائب العمومي يتهم فيه الدكتور طه حسين الأستاذ بالجامعة المصرية بأنه ألف كتابا أسماه "في الشعر الجاهلي" ونشره على الجمهور وفي هذا الكتاب طعن صريح في القرآن العظيم حيث نسب الخرافة والكذب لهذا الكتاب السماوي الكريم إلى آخر ما ذكره في بلاغه .
وتاريخ 5 يونيو سنة 1926م أرسل فضيلة شيخ الجامع الأزهر لسعادة النائب العمومي خطابا يبلغ به تقريرا رفعه علماء الجامع الأزهر عن كتاب ألفه طه حسن المدرس بالجامعة المصرية أسماه "في الشعر الجاهلي" كذب فيه القرآن صراحة ، وطعن فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى نسبه الشريف وأهاج بذلك ثائرة المتدينين وأتى فيه بما يخل بالنظم العامة ويدعو الناس للفوضى ، ويطلب اتخاذ الوسائل القانونية الفعالة الناجحة ضد هذا الطعن على دين الدولة الرسمي وتقديمه للمحاكمة وقد أرفق بهذا البلاغ صورة من تقرير أصحاب الفضيلة العلماء الذي أشار إليه في كتابه . وبتاريخ 14 سبتمبر سنة 1921 تقدم إلينا بلاغ آخر من حضرة "عبد الحميد البنان" أفندي عضو مجلس النواب ذكر فيه أن الأستاذ طه حسين المدرس بالجامعة المصرية نشر ووزع وعرض للبيع في المحافل والمحلات العمومية كتابا أسماه "في الشعر الجاهلي" طعن وتعدى فيه على الدين الإسلامي - وهو دين الدولة - بعبارات صريحة واردة في كتابه سنبينه في التحقيقات .
وحيث أنه نظرا لتغيب الدكتور طه حسين خارج القطر المصري قد أرجأنا التحقيق إلى ما بعد عودته . فلما عاد بدأنا التحقيق بتاريخ 19أكتوبر سنة 1926م فأخذنا أقوال المبلغين جملة بالكيفية المذكورة بمحضر التحقيق ثم استجوبنا المؤلف . وبعد ذلك أخذنا في دراسة الموضوع بقدر ما سمحت لنا الحالة .
وحيث أنه اتضح من أقوال المبلغين أنهم ينسبون للمؤلف أنه طعن على الدين الإسلامي في مواضع أربعة من كتابه :
الأول: أن المؤلف أهان الدين الإسلامي بتكذيب القرآن الكريم في أخباره عن إبراهيم وإسماعيل حيث ذكر في ص 26 من كتابه " للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل ، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا . ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي فضلا عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة وبين الإسلام واليهود والقرآن من جهة أخرى" إلى آخر ما جاء في هذا الصدد .
الثاني : ما تعرض له المؤلف في شأن القراءات السبع المجمع عليها والثابتة لدى المسلمين جميعا وأنه في كلامه عنها يزعم عدم إنزالها من عند الله ، وأن هذه القراءات إنما قرأتها العرب حسب ما استطاعت لا كما أوحى الله بها إلى نبيه مع أن معاشر المسلمين يعتقدون أن كل هذه القراءات مروية عن الله تعالى على لسان النبي صلى الله عليه وسلم .
الثالث : ينسبون للمؤلف أنه طعن في كتابه عن النبي صلى الله عليه وسلم طعنا فاحشا من حيث نسبه فقال في ص 72 من كتابه : "ونوع آخر من تأثير الدين في انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليين وهو ما يتصل بتعظيم شأن النبي من ناحية أسرته ونسبه إلى قريش ، فلأمر ما اقتنع الناس بأن النبي يجب أن يكون صفوة بني هاشم وأن يكون بنو هاشم صفوة بني عبد مناف وأن يكون عبد مناف صفوة بني قصي وأن يكون قصي صفوة قريش وقريش صفوة مضر ومضر صفوة عدنان وعدنان صفوة العرب والعرب صفوة الإنسانية كلها" . وقالوا إن تعدي المؤلف بالتعريض بنسب النبي صلى الله عليه وسلم والتحقير من قدره تعدّ على الدين وجرم عظيم يسيء إلى المسلمين والإسلام فهو قد اجترأ على أمر لم يسبقه إله كافر ولا مشرك .
الرابع : أن الأستاذ المؤلف أنكر أن للإسلام أولية في بلاد العرب وأنه دين إبراهيم إذ يقول في ص80 : "أما المسلمون فقد أرادوا أن للإسلام أولية في بلاد العرب كانت قبل أن يبعث النبي وأن خلاصة الدين الإسلامي وصفوته هي خلاصة الدين الحق الذي أوحاه الله إلى الأنبياء من قبل" .. إلى أن يقول في ص81 : "وشاعت في العرب أثناء ظهور الإسلام وبعده فكرة أن الإسلام يجدد دين إبراهيم ومن هنا أخذوا يعتقدون أن دين إبراهيم هذا قد كان دين العرب في عصر من العصور ثم أعرضت عنه لما أضلها به المضلون وانصرفت عنه إلى عبادة الأوثان" .. إلى آخر ما ذكره في هذا الموضوع .
ومن حيث إن العبارات التي يقول المبلغون إن فيها طعنا على الدين الإسلامي إنما جاءت في كتاب في سياق الكلام على موضوعات كلها متعلقة بالغرض الذي ألف من أجله ، فلأجل الفصل في هذه الشكوى لا يجوز انتزاع تلك العبارات من موضوعها والنظر إليها منفصلة ، وإنما الواجب توصلا إلى تقديرها تقديرا صحيحا بحثها حيث هي في موضوعها من الكتاب ومناقشتها في السياق الذي فيه وبذلك يمكن الوقوف على قصد المؤلف منها وتقدير مسئوليته تقديراً صحيحاً .
عن الأمر الأول
من حيث إنه ما يلفت النظر ويستحق البحث في كتاب "في الشعر الجاهلي" من حيث علاقته بموضوع الشكوى ، إنما هو ما تناوله المؤلف بالبحث في الفصل الرابع تحت عنوان "الشعر الجاهلي واللغة" من ص24 إلى ص30 .
ومن حيث إن المؤلف بعد أن تكلم في الفصل الثالث من كتابه على أن الشعر المقال بأنه جاهلي لا يمثل الحياة الدينية والعقلية للعرب الجاهليين وأراد في الفصل الرابع أن يقدم أبلغ ما لديه من الأدلة على عدم التسليم بصحة الكثرة المطلقة من الشعر فقال إن هذا الشعر بعيد كل البعد عن أن يمثل اللغة العربية في العصر الذي يزعم الرواة أنه قيل فيه .
وحيث إن المؤلف أراد أن يدلل على صحة هذه النظرية فرأى بحق من الواجب عليه أن بدأ بتعرف اللغة الجاهلية فقال : "ولنجتهد في تعرف اللغة الجاهلية هذه ، ما هي أو ماذا كانت في العصر الذي يزعم الرواة أن شعرهم الجاهلي هذا قد قيل فيه" . وقد أخذ في بحث هذا الأمر فقال إن الرأي الذي اتفق عليه الرواة أو كادوا يتفقون عليه ، هو أن العرب ينقسمون إلى قسمين ؛ قحطانية منازلهم الأولى في اليمن ، وعدنانية منازلهم الأولى في الحجاز ، وهم متفقون على أن القحاطنة عرب منذ خلقهم الله فطروا على العربية فهم العاربة ، وعلى أن العدنانية اكتسبوا العربية اكتسابا ، كانوا يتكلمون لغة أخرى هي العبرانية أو الكلدانية ، ثم تعلموا لغة العرب العاربة فمحت لغتهم الأولى من صدورهم وثبتت فيها هذه اللغة الثانية المستعارة وهم متفقون على أن هذه العدنانية المستعربة إنما يتصل نسبها بإسماعيل بن إبراهيم ، وهم يروون حديثا يتخذونه أساسا لكل هذه النظرية خلاصته أو أول من تكلم العربية ونسى لغة أبيه هو إسماعيل بن إبراهيم . وبعد ذلك فرغ من تقرير ما اتفق عليه الرواة في هذه النقطة قال : إن الرواة يتفقون أيضا على شيء آخر ، وهو أن هناك خلافا قويا بين لغة حمير وبين لغة عدنان مستندا إلى ما روي عن أبي عمرو بن العلاء من أنه كان يقول : "ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا" وعلى أن البحث الحديث قد أثبت خلافا جوهريا بين اللغة التي كان يصطنعها الناس في جنوب البلاد العربية واللغة التي كانوا يصطنعونها في شمال هذه البلاد وأشار إلى وجود نقوش ونصوص تثبت هذا الخلاف في اللفظ وفي قواعد النحو والتصريف ، بعد ذلك حاول المؤلف حل هذه المسألة بسؤال إنكاري فقال : إذا كان أبناء إسماعيل قد تعلموا العربية من العرب العاربة فكيف بعد ما بين اللغتين لغة العرب العاربة ولغة العرب المستعربة ، ثم قال إنه واضح جدا لمن له إلمام بالبحث التاريخي عامة ويدرس الأقاصيص والأساطير خاصة أن هذه النظرية متكلفة مصطنعة في عصور متأخرة دعت إليها حاجة دينية أو اقتصادية أو سياسية .
ثم قال بعد ذلك : " للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل ، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا . ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي فضلا عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إيراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها" . وظاهر من إيراد المؤلف هذه العبارة أن يعطي دليله شيئا من القوة بطريقة التشكك في وجود إبراهيم وإسماعيل التاريخي وهو يرمي بهذا القول إنه ما دام إسماعيل وهو الأصل في نظرية العرب العاربة والعرب المستعربة مشكوكا في وجوده التاريخي فمن باب أولى ما ترتب على وجوده مما يرويه الرواة . أراد المؤلف أن يوهم بأن لرأيه أساسا فقال : "ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخرى" . ثم أخذ يبسط الأسباب التي يظن أنها تبرر هذه الحيلة إلى أن قال : "أمر هذه القصة إذن واضح فهي حديثة العهد ظهرت قبيل الإسلام واستغلها الإسلام بسبب ديني وسياسي أيضا ، وإذن فيستطيع التاريخي الأدبي واللغوي ألا يحفل بها عندما يريد أن يتعرف أصل اللغة الفصحى ، وإذن فنستطيع أن نقول أن الصلة بين اللغة العربية الفصحى التي كانت تتكلمها العدنانية واللغة التي كانت تتكلمها القحطانية في اليمن إنما هي كالصلة بين اللغة العربية وأي لغة أخرى من اللغات السامية المعروفة ، وأن قصة العاربة والمستعربة وتعلم إسماعيل العربية من جرهم كل ذلك أحاديث أساطير لا خطر له ولا غناء فيه ... وهنا يجب أن نلاحظ على الدكتور المؤلف الكتاب :
(1) أنه خرج من بحثه هذا عاجزا كل العجز عن أن يصل إلى غرضه الذي عقد هذا الفصل من أجله ، وبيان ذلك أنه وضع أول الفصل سؤالا وحاول الإجابة عليه ، وجواب هذا السؤال في الواقع هو الأساس الذي يجب أن يرتكز عليه في التدليل على صحة رأيه ، هو يريد أن يدلل على أن الشعر الجاهلي بعيد كل البعد عن أن يمثل اللغة العربية في العصر الذي يزعم الرواة أنه قيل فيه ، وبديهي أنه للوصول إلى هذا الغرض يتعين على الباحث تحضير ثلاثة أمور :
1- الشعر الذي يريد أن يبرهن على أنه منسوب بغير حق للجاهلية .
2- الوقت الذي يزعم الرواة أنه قيل فيه .
3- اللغة التي كانت موجودة فعلا في الوقت المذكور .
وبعد أن تتهيأ له هذه المواد يجري عملية المقارنة فيوضح الاختلافات الجوهرية بين لغة الشعر وبين لغة الزمن الذي روي أنه قيل فيه . ويستخرج بهذه الطريقة الدليل على صحة ما يدعيه . لذا تتضح أهمية السؤال الذي وضعه بقوله : "لنجتهد في تعرف اللغة الجاهلية هذه ، ما هي أو ماذا كانت في العصر الذي يزعم الرواة أن شعرهم الجاهلي هذا قد قيل فيه" . وتتضح أهمية الإجابة عنه .
ولكن الأستاذ الدكتور وضع السؤال وحاول الإجابة عنه وتطرق في بحثه إلى الكلام على مسائل في غاية الخطورة صدم بها الأمة الإسلامية في أعز ما لديها من الشعور ولوث نفسه بما تناوله من البحث في هذا السبيل بغير فائدة ولم يوفق إلى الإجابة ، بل قد خرج من البحث بغير جواب اللهم إلا قوله : "إن الصلة بين اللغة العدنانية وبين اللغة القحطانية ، إنما هي كالصلة بين اللغة العربية وأي لغة من اللغات السامية المعروفة" . وبديهي أن ما وصل إليه ليس جوابا عن السؤال الذي وضعه ، وقد نوقش في التحقيق في هذه المسألة فلم يستطع رد هذا الاعتراض ولا يمكن الاقتناع بما ذكره في التحقيق من أنه كتب الكتاب للاختصاصيين والمستشرقين بنوع خاص وأن تعريف هاتين اللغتين عند الاختصاصيين واضح لا يحتاج إلى أن يذكر لأن قوله هذا عجز عن الجواب ، كما أن قوله إن اللغة الجاهلية في رأيه ورأي القدماء والمستشرقين لغتان متباينتان لا يمكن أن يكون جوابا عن السؤال الذي وضعه لأن غرضه من السؤال واضح في كتابه إذ قال : "لنجتهد في تعرف اللغة الجاهلية هذه ، ما هي" . وقد كان قرر قبل ذلك : "فنحن إذا ذكرنا اللغة العربية نريد بها معناها الدقيق المحدود الذي نجده في المعاجم حيث نبحث فيها عن لفظ اللغة ما معناه نريد بها الألفاظ من حيث ألفاظ تدل على معانيها تستعمل حقيقة مرة ومجازا مرة أخرى وتتطلب تطورا ملائما لمقتضيات الحياة التي يحياها أصحاب هذه اللغة" ، فبعد أن حدد هو بنفسه معنى اللغة الذي يريده فلا يمكن أن يقبل منه ما أجاب به من أن مراده أن اللغة لغتان بدون أن يتعرف على واحدة منهما .
فالمؤلف إذن في واحدة من اثنتين : إما أن يكون عاجزا وإما أن يكون سيئ النية بحيث قد جعل هذا البحث ستارا ليصل بواسطته إلى الكلام في تلك المسائل الخطيرة التي تكلم عنها في هذا الفصل وسنتكلم فيما بعد عن هذه النقطة عند الكلام عن القصد الجنائي .
(2) أنه استدل على عدم صحة النظرية التي رواها الرواة وهي تقسيم العرب إلى عاربة ومستعربة وتعلم إسماعيل العربية من جرهم ، بافتراض وضعه في صيغة سؤال إنكاري . إذا كان أبناء إسماعيل قد تعلموا العربية من أولئك العرب الذين نسميهم العاربة فكيف بعُد ما بين اللغة التي كان يصطنعها العرب العاربة واللغة التي كان يصطنعها العرب المستعربة . يريد المؤلف بهذا أن يقول ، لو كانت نظرية تعلم إسماعيل وأولاده العربية من جرهم صحيحة لوجب أن تكون لغة المتعلم كلغة المعلم . وهذا الاعتراض وجيه في ذاته ولكنه لا يفيد المؤلف في التدليل على صحة رأيه ، لأنه نسي أمرا مهما لا يجوز غض النظر عنه ، هو يشير إلى الاختلافات التي بين لغة حمير ولغة عدنان ، وهو يقصد لغة عدنان التي كانت موجودة وقت نزول القرآن ، وهو يعلم أن حمير آخر دول العرب القحطانية ، وقد مضى من وقت وجود إسماعيل إلى وقت وجود حمير زمن طويل جدا أي أنه قد انقضى من الوقت الذي يروي أن إسماعيل تعلم فيه اللعة العربية من جرهم إلى الوقت الذي اختاره المؤلف للمقارنة بين اللغتين زمن يتعذر تحديده ، ولكنه على كل حال زمن طويل جدا لا يقل عن عشرين قرنا ، فهل يريد المؤلف مع هذا أن يتخذ الاختلافات التي بين اللغتين دليلا على عدم صحة نظرية الرواة غير حاسب حسابا للتطور الواجب حصوله في اللغة بسبب مضي هذا الزمن الطويل ما يستدعيه توالي العصور من تتابع الحوادث واختلاف الظروف . إن الأستاذ قد أخطأ في استنتاجه بغير شك . ونستطيع إذن أن نقول إن استنتاجه لا يصلح دليلا على فساد نظرية الرواة التي يريد أن يهدمها وإنه إذا ما ثبت وجود خلاف مهما كان مداه بين اللغتين فإن هذا لا ينفي صحة الرواية التي يرويها الرواة من حيث تعلم إسماعيل العربية من جرهم ، ولا يضيرها أن الأستاذ المؤلف ينكرها بغير دليل لأن طريقة الإنكار والتشكيك بغير دليل طريقة سهلة جدا في متناول كل إنسان عالما كان أو جاهلا .
على أننا نلاحظ أيضا على المؤلف أنه لم يكن دقيقا في بحثه ، وهو ذلك الرجل الذي يتشدد كل التشدد في التمسك بطرق البحث عن أمرين ، الأول ما روي عن أبي عمرو بن العلاء من أنه كان يقول : "ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا" . والثاني قوله : "ولدينا الآن نقوش ونصوص تمكننا من إثبات هذا الخلاف في اللفظ وفي قواعد النحو والتصريف أيضا" .
أما عن الدليل الأول فأن ما رواه أبو عبد الله بن سلاّم الجمحي مؤلف (طبقات الشعراء) عن أبي عمرو بن العلاء "ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم عربيتنا" . وقد يكون للمؤلف مأرب من وراء تغيير النص ، على أن الذي نريد أن نلاحظه هو أن ابن سلاّم ذكر قبيل هذه الرواية في الصفحة نفسها ما يأتي :
وأخبرني يونس عن أبي عمرو قال : "لعرب كلها ولد إسماعيل إلا حمير وبقايا جرهم" . - راجع ص8 من كتاب (طبقات الشعراء) طبعة مطبعة السعادة - فواجب على المؤلف إذن وقد اعتمد صحة العبارة الأولى أن يسلم أيضا بصحة العبارة الثانية ، لأن الراوي واحد والمروي عنه واحد . وتكون نتيجة ذلك أنه فسر ما اعتمد عليه من أقوال أبي عمرو بن العلاء بغير ما أراده بل فسره بعكس ما أراده ويتعين إسقاط هذا الدليل .
وأما عن الدليل الثاني فإن المؤلف لم يتكلم عنه بأكثر من قوله : "ولدينا الآن نقوش ونصوص تمكننا من إثبات هذا الخلاف" . فأردنا عند استجوابه أن نستوضحه ما أجمل فعجز ، وليس أدل هذا العجز من أن نذكر هنا ما دار في التحقيق من المناقشة بشأن هذه المسألة :
س - هل يمكن لحضرتكم الآن تعريف اللغة الجاهلية الفصحى وعلى لغة حمير وبيان الفرق بين لغة حمير ولغة عدنان ومدى هذا الفرق وذكر بعض الأمثلة تساعدنا على فهم ذلك ؟
ج - قلت إن اللغة الجاهلية في رأيي ورأي القدماء والمستشرقين لغتان متباينتان على الأقل ، أولهما لغة حمير وهذه اللغة قد درست ووضعت لها قواعد النحو والصرف والمعاجم ، ولم يكن شيء من هذا معروف قبل الاكتشافات الحديثة ، وهي كما قلت مخالفة للغة العربية الفصحى التي سألتم عنها مخالفة جوهرية في اللفظ والنحو وقواعد الصرف ، وهما إلى اللغة الحبشية القديمة أقرب منها إلى اللغة العربية الفصحى ، وليس شك في أن الصلة بينها وبين لغة القرآن والشعر كالصلة بين السريانية وبين هذه اللغة القرآنية . فأما إيراد النصوص والأمثلة فيحتاج إلى ذاكرة لم يهبها الله لي ، ولا بد من الرجوع إلى الكتب المدونة في هذه اللغة .
س - هل يمكن لحضرتكم أن تبينوا لنا هذه المراجع أو تقدموها لنا ؟
ج - أنا لا أقدم شيئا
س - هل يمكن لحضرتكم أن تبينوا إلى أي وقت كانت موجودة اللغة الحميرية ومبدأ وجودها إن أمكن ؟
ج - مبدأ وجودها ليس من السهل تحديده ولكن لا شك في أنها كانت معروفة تكتب قبل القرن الأول للمسيح وظلت تتكلم إلى ما بعد الإسلام ، ولكن ظهور الإسلام وسيادة اللغة القرشية محيا [محوا] غيرها من اللغات المختلفة في البلاد العربية وغير العربية وأقرّا مكانهما لغة القرآن .
س - هل يمكن لحضرتكم أيضا أن تذكروا لنا مبدأ اللغة العدنانية ولو بوجه التقريب ؟
ج - ليس من السهل معرفة مبدأ اللغة العدنانية وكل ما يمكن أن يقال بطريقة عملية هو أن لدينا نقوشا قليلة جدا يرجع عهدها إلى القرن الرابع للميلاد ، وهذه النقوش العربية من اللغة العدنانية ولكن المستشرقين يرون أنها لهجة قبطية وإذن فقد يكون من احتياط العالم أن نرى أقدم نص عربي يمكن الاعتماد عليه من الوجهة العلمية إلى الآن إنما هو القرآن حتى نستكشف نقوشا أظهر وأكثر مما لدينا .
س - هل تعتقدون حضرتكم أن اللغة سواء كانت اللغة الحميرية أو اللغة العدنانية كانت باقية على حالها من وقت نشأتها أو حصل بها تغيير سبب تمادي الزمن والاختلاط ؟
ج - ما أظن أن لغة من اللغات تستطيع أن تبقى قرونا دون أن تتطور ويحصل فيها التغيير الكثير .
ونحن مع هذا لا نريد أن ننفي وجود اختلاف بين اللغتين ولا نقصد أن نعيب على المؤلف جهله بهذه الأمور فإنها في الحقيقة ما زالت من المجاهل ، وما وصل إليه المستشرقون من الاستكشافات لا ينير الطريق ، وإنما الذي نريد أن نسجله عليه هو أنه بنى أحكامه على أساس ما زال مجهولا ، إذ أنه يقرر بجرأة في آخر الفصل الذي نتكلم بشأنه : "والنتيجة لهذا البحث كله تردنا إلى الموضوع الذي ابتدأنا به منذ حين وهو أن هذا الشعر الذي يسمونه الجاهلي لا يمثل اللغة الجاهلية ولا يمكن أن يكون صحيحا ، ذلك لأننا نجد بين هؤلاء الشعراء الذين يضيفون إليهم شيئا كثيرا من الشعر الجاهلي قوما ينتسبون إلى عرب اليمن إلى هذه القحطانية العاربة التي تتكلم لغة غير لغة القرآن الكريم والتي كان يقول عنها عمرو بن العلاء إن لغتها مخالفة للغة العرب والتي أثبت البحث الحديث أنها لغة أخرى غير اللغة العربية" - فمتى قال أبو عمرو بن العلاء إنها لغة مخالفة للغة العرب . لقد أشرنا إلى التغيير الذي أحدثه المؤلف فيما روي عن أبي عمرو بن العلاء حيث حذف روايته . وقلنا قد يكون للمؤلف مآرب من وراء هذا التغيير ، فهذا هو مأربه ، إن الأستاذ حرّف في الرواية عمدا ليصل إلى تقرير هذه النتيجة .
ويقول المؤلف أيضا والتي أثبت البحث الحديث أن لها لغة أخرى غير اللغة العربية - وقد أبنا فيما سلف أنه عجز في إثبات هذه المسألة عن إثبات ما يدعيه - ومن الغريب أنه عندما بدأ البحث اكتفى بأن قال : ولدينا الآن نقوش ونصوص تمكننا من إثبات هذا الخلاف في اللفظ وفي قواعد النحو والتصريف أيضا ، ولكنه انتهى بأن قرر بأن البحث الحديث أثبت أن لها لغة أخرى غير اللغة العربية !!!
قرر الأستاذ في التحقيق أنه لا شك في أن اللغة الحميرية ظلت تتكلم إلى ما بعد الإسلام ، فإن كانت هذه اللغة هي لغة أخرى غير اللغة العربية كما يوهم أنه انتهى به بحثه هل له أن يفهمنا كيف استطاع عرب اليمن فهم القرآن وحفظه وتلاوته ؟؟
نحن نسلم بأنه لا بد من وجود اختلافات بين لغة حمير وبين لغة عدنان ، بل ونقول إنه لا بد من وجود شيء من الاختلافات بين بعض القبائل وبين البعض الآخر ممن يتكلمون لغة واحدة من اللغتين المذكورتين ، ولكنها على كل حال اختلافات لا تخرجها عن العربية وهذه الاختلافات هي التي قصدها أبو عمرو بن العلاء بقوله : "ما لسان حمير بلساننا" ، والمؤلف لا يستطيع أن ينكر الاختلاط الذي لا بد منه بين القبائل المختلفة خصوصا في أمة متنقلة بطبيعتها كالأمة العربية ، ولا بد لها جميعا من لغة عامة تتفاهم بها هي اللغة الأدبية ، وقد أشار هو بنفسه إليها في ص17 من كتابه حيث قال عن القرآن : "ولكنه كان كتابا عربيا لغته هي اللغة العربية الأدبية التي كان يصطنعها الناس في عصره أي في العصر الجاهلي . وهذه اللغة الأدبية هي لغة الكتابة ولغة الشعر" ، والمؤلف نفسه عندما تكلم في الفصل الخامس عشر عن الشعر الجاهلي واللهجات بحث في ص35 و36 و37 بحثا يؤيد هذا المعنى وإن كان يدعي بغير دليل أن الإسلام قد فرض على العرب جميعا لغة عامة واحدة هي لغة قريش مع أنه سبق أن ذكر في ص17 أن لغة القرآن هي اللغة العربية الأدبية التي كان يصطنعها الناس في عصره أي في العصر الجاهلي فلِم لا تكون لهذه اللهجة الأدبية السيادة العامة من قبل نزول القرآن بزمن طويل وكيف يستطيع هو هذا التحديد وعلام يستند ؟ .
يتضح مما تقدم أن عدم ظهور خلاف في اللغة لا يدل في ذاته حتما على عدم ظهور صحة الشعر . ونحن لا نريد بما قدمنا أن نتولى الدفاع عن صحة الشعر الجاهلي إذ أن هذه المسألة ليست حديثة العهد ابتدعها المؤلف وإنما هي مسألة قديمة قررها أهل الفن والشعر كما قال(ابن سلاّم) صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات وهو يحتاج في تمييزه إلى خبير كاللؤلؤ والياقوت لا يعرف بصنعة ولا وزن دون المعاينة ممن يبصره - ولكن الذي نريد أن نشير إليه إنما هو الخطأ الذي اعتاد أن يرتكبه المؤلف في أبحاثه حيث بدأ بافتراض يتخيله ثم ينتهي بأن يركب عليه قواعد كأنها حقائق ثابتة كما فعل في أمر الاختلافات بين لغة حمير وبين لغة عدنان ثم مسألة إبراهيم وإسماعيل وهجرتهما إلى مكة وبناء الكعبة إذ بدأ فيها بإظهار الشك ثم انتهى باليقين بدأ بقوله : "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا ولكن ورود هذين الإسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي فضلا عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها" . إلى هنا أظهر الشك لعدم قيام الدليل التاريخي في نظره ، كما تتطلبه الطرق الحديثة ثم انتهى بأن قرر في كثير من الصراحة : إن ضعف هذه القصة إذن واضح فهي حديثة العهد ظهرت قبل الإسلام لسبب ديني .....إلخ .. فما هو الدليل الذي انتقل به من الشك إلى اليقين ؟
هل دليله هو قوله "نحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود وبين العرب من جهة وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخرة ؟ وأن أقدم عصر يمكن أن تكون قد نشأت فيه هذه الفكرة إنما هو ذلك العصر الذي أخذ اليهود يستوطنون فيه شمال البلاد العربية ويبنون فيه المستعمرات ..إلخ وأن ظهور الإسلام وما كان من الخصومة بينه وبين وثنية العرب من غير أهل الكتاب قد اقتضى أن نثبت الصلة بين المدن الجديدة وبين ديانتي النصارى واليهود وأنه مع ثبوت الصلة الدينية يحسن أن تؤيدها صلة مادية ...إلخ . "
إذا كان الأستاذ المؤلف يرى أن ظهور الإسلام قد اقتضى أن تثبت الصلة بينه وبين ديانتي اليهود والنصارى ، وأن القرابة المادية الملفقة بين العرب واليهود لازمة لإثبات الصلة بين الإسلام واليهودية فاستغلها لهذا الغرض ، فهل له أن يبين السبب في عدم اهتمامه أيضا بمثل هذه الحيلة لتوثيق الصلة بين الإسلام والنصرانية ؟ وهل عدم اهتمامه هذا معناه عجزه أو استهانته بأمر النصرانية ؟ وهل من يريد توثيق الصلة مع اليهود بأي ثمن ، حتى باستغلال التلفيق هو الذي يقول عنهم في القرآن : "لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا" . إن الأستاذ ليعجز عن تقديم هذا البيان إذ أن كل ما ذكره في هذه المسألة إما هو خيال في خيال وكل ما استند إليه من أدلة هو :
1- فليس ببعيد أن يكون ...
2- فما الذي يمنع ...
3- ونحن نعتقد ...
4- وإذن فليس ما يمنع قريشا من أن تقبل هذه الأسطورة .
5- وإذن فنستطيع أن نقول !!!
فالأستاذ المؤلف في بحثه إذا رأى إنكار الشيء يقول لا دليل على الأدلة التي تتطلبها الطرق الحديثة للبحث حسب الخطة التي رسمها في منهج البحث وإذا رأى تقرير أمر لا يدلل عليه بغير الأدلة التي أحصيناها له وكفى بقوله حجة .
سئل الأستاذ في التحقيق عن أصل هذه المسألة "أي تلفيق القصة" وهل هي من استنتاجه أو نقلها . فقال: "فرض فرضته أنا دون أن أطلع عليه في كتاب آخر وقد أخبرت بعد أن ظهر الكتاب أن شيئا من هذا الفرض يوجد في بعض كتب المبشرين ، ولكن لم أفكر فيه حتى بعد ظهور كتابي" . على أنه سواء كان الفرض من تخيله كما يقول أو من نقله عن ذلك المبشر الذي يستتر تحت اسم (هاشم العربي) فإنه كلام لا يستند إلى دليل ولا قيمة له ، على أننا نلاحظ أن ذلك المبشر مع ما هو ظاهر من مقاله من غرض الطعن على الإسلام كان في عباراته أظرف من مؤلف كتاب الشعر الجاهلي لأنه لم يتعرض للشك في وجود إبراهيم وإسماعيل بالذات وإنما اكتفى بأن أنكر أن إسماعيل أبو العرب العدنانيين ، وقال إن حقيقة الأمر في قصة إسماعيل أنها دسيسة لفقها قدماء اليهود للعرب تزلفا إليهم ...إلخ . كما نلاحظ أيضا أن ذلك المبشر قد يكون له عذره في سلوك هذا السبيل لأن وظيفته التبشير لدينه وهذا غرضه الذي يتكلم فيه ولكن ما عذر الأستاذ المؤلف في طرق هذا الباب وما هي الضرورة التي ألجأته إلى أن يرى في هذه القصة نوعا من الحيلة...إلخ .
وإن كان المتسامح يرى له بعض العذر في التشكيك الذي أظهره أولا اعتمادا على عدم وجود الدليل التاريخي كما يقول فما الذي دعاه إلى أن يقول في النهاية بعبارة تفيد الجزم : "إن هذه القصة إذن واضحة فهي حديثة العهد ظهرت قبيل الإسلام واستغلها الإسلام لسبب ديني واضح ...إلخ" . مع اعترافه في التحقيق بأن المسألة فرض افترضه .
يقول الأستاذ إنه إن صح افتراضه فإن القصة كما كانت شائعة بين العرب قبل الإسلام فلما جاء الإسلام استغلها وليس ما يمنع أن يتخذها الله في القرآن وسيلة لإقامة الحجة على الخصوم المسلمين كما اتخذ غيرها من القصص التي كانت معروفة وسيلة إلى الاحتجاج أو إلى الهداية - وهاشم العربي يقول في مثل هذا : ولما ظهر محمد رأى المصلحة في إقرارها فأقرها وقال للعرب إنه يدعوهم إلى ملة جدهم هذا الذي يعظمونه من غير أن يعرفوه ، فسبحان من أوجد هذا التوافق بين الخواطر ...
إن الأستاذ المؤلف أخطأ فيما كتب وأخطأ أيضا في تفسير ما كتب وهو في هذه النقطة قد تعرض بغير شك لنصوص القرآن وليس في وسعه الهرب بادعائه البحث العلمي منفصلا عن الدين ، فليفسر لنا إذن قوله تعالى في سورة النساء: "إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان ...إلخ ..." وقوله في سورة مريم : "واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صدّيقا نبيا" و "اذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا" وفي سورة آل عمران "قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون" وغير ذلك من الآيات القرآنية الكثيرة التي ورد فيها ذكر إبراهيم وإسماعيل ، لا على سبيل المثال كما يدعي حضرته ، وهل عقل الأستاذ سليم بأن الله سبحانه وتعالى يذكر أن إبراهيم نبي وأن إسماعيل رسول نبي مع أن القصة ملفقة ، وماذا يقول حضرته في موسى وعيسى وقد ذكرهما الله سبحانه وتعالى في الآية الأخيرة مع إبراهيم وإسماعيل وقال في حقهم جميعا لا نفرق بين أحد منهم ، وهل يرى حضرته أن قصة موسى وعيسى من الأساطير أيضا قد ذكرها الله وسيلة للاحتجاج أو للهداية كما فعل في قصة إبراهيم وإسماعيل ما دامت الآية تقضي بألا نفرق بين أحد منهم ، الحق أن المؤلف في هذه المسألة يتخبط تخبط الطائش ويكاد يعترف بخطئه لأن جوابه يشعر بهذا عندما سألناه في التحقيق عن السبب الذي دعاه أخيرا لأن يقرر بطريقة تفيد الجزم بأن القصة حديثة العهد ظهرت قبيل الإسلام فقال في ص37 من محضر التحقيق : "هذه العبارة إذا كانت تفيد الجزم فهي إنما تفيده إن صح الفرض الذي قامت عليه وربما كان فيها شيء من الغلو ولكني أعتقد أن العلماء جميعا عندما يفترضون فروضا علمية يبيحون لأنفسهم مثل هذا النحو من التعبير فالواقع أنهم مقتنعون فيما بينهم وبين أنفسهم بأن فروضهم راجحة".
نحن محمد نور رئيس نيابة مصر
من حيث أنه بتاريخ 30 مايو سنة 1926م تقدم بلاغ من الشيخ خليل حسنين الطالب بالقسم العالي بالأزهر لسعادة النائب العمومي يتهم فيه الدكتور طه حسين الأستاذ بالجامعة المصرية بأنه ألف كتابا أسماه "في الشعر الجاهلي" ونشره على الجمهور وفي هذا الكتاب طعن صريح في القرآن العظيم حيث نسب الخرافة والكذب لهذا الكتاب السماوي الكريم إلى آخر ما ذكره في بلاغه .
وتاريخ 5 يونيو سنة 1926م أرسل فضيلة شيخ الجامع الأزهر لسعادة النائب العمومي خطابا يبلغ به تقريرا رفعه علماء الجامع الأزهر عن كتاب ألفه طه حسن المدرس بالجامعة المصرية أسماه "في الشعر الجاهلي" كذب فيه القرآن صراحة ، وطعن فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى نسبه الشريف وأهاج بذلك ثائرة المتدينين وأتى فيه بما يخل بالنظم العامة ويدعو الناس للفوضى ، ويطلب اتخاذ الوسائل القانونية الفعالة الناجحة ضد هذا الطعن على دين الدولة الرسمي وتقديمه للمحاكمة وقد أرفق بهذا البلاغ صورة من تقرير أصحاب الفضيلة العلماء الذي أشار إليه في كتابه . وبتاريخ 14 سبتمبر سنة 1921 تقدم إلينا بلاغ آخر من حضرة "عبد الحميد البنان" أفندي عضو مجلس النواب ذكر فيه أن الأستاذ طه حسين المدرس بالجامعة المصرية نشر ووزع وعرض للبيع في المحافل والمحلات العمومية كتابا أسماه "في الشعر الجاهلي" طعن وتعدى فيه على الدين الإسلامي - وهو دين الدولة - بعبارات صريحة واردة في كتابه سنبينه في التحقيقات .
وحيث أنه نظرا لتغيب الدكتور طه حسين خارج القطر المصري قد أرجأنا التحقيق إلى ما بعد عودته . فلما عاد بدأنا التحقيق بتاريخ 19أكتوبر سنة 1926م فأخذنا أقوال المبلغين جملة بالكيفية المذكورة بمحضر التحقيق ثم استجوبنا المؤلف . وبعد ذلك أخذنا في دراسة الموضوع بقدر ما سمحت لنا الحالة .
وحيث أنه اتضح من أقوال المبلغين أنهم ينسبون للمؤلف أنه طعن على الدين الإسلامي في مواضع أربعة من كتابه :
الأول: أن المؤلف أهان الدين الإسلامي بتكذيب القرآن الكريم في أخباره عن إبراهيم وإسماعيل حيث ذكر في ص 26 من كتابه " للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل ، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا . ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي فضلا عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة وبين الإسلام واليهود والقرآن من جهة أخرى" إلى آخر ما جاء في هذا الصدد .
الثاني : ما تعرض له المؤلف في شأن القراءات السبع المجمع عليها والثابتة لدى المسلمين جميعا وأنه في كلامه عنها يزعم عدم إنزالها من عند الله ، وأن هذه القراءات إنما قرأتها العرب حسب ما استطاعت لا كما أوحى الله بها إلى نبيه مع أن معاشر المسلمين يعتقدون أن كل هذه القراءات مروية عن الله تعالى على لسان النبي صلى الله عليه وسلم .
الثالث : ينسبون للمؤلف أنه طعن في كتابه عن النبي صلى الله عليه وسلم طعنا فاحشا من حيث نسبه فقال في ص 72 من كتابه : "ونوع آخر من تأثير الدين في انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليين وهو ما يتصل بتعظيم شأن النبي من ناحية أسرته ونسبه إلى قريش ، فلأمر ما اقتنع الناس بأن النبي يجب أن يكون صفوة بني هاشم وأن يكون بنو هاشم صفوة بني عبد مناف وأن يكون عبد مناف صفوة بني قصي وأن يكون قصي صفوة قريش وقريش صفوة مضر ومضر صفوة عدنان وعدنان صفوة العرب والعرب صفوة الإنسانية كلها" . وقالوا إن تعدي المؤلف بالتعريض بنسب النبي صلى الله عليه وسلم والتحقير من قدره تعدّ على الدين وجرم عظيم يسيء إلى المسلمين والإسلام فهو قد اجترأ على أمر لم يسبقه إله كافر ولا مشرك .
الرابع : أن الأستاذ المؤلف أنكر أن للإسلام أولية في بلاد العرب وأنه دين إبراهيم إذ يقول في ص80 : "أما المسلمون فقد أرادوا أن للإسلام أولية في بلاد العرب كانت قبل أن يبعث النبي وأن خلاصة الدين الإسلامي وصفوته هي خلاصة الدين الحق الذي أوحاه الله إلى الأنبياء من قبل" .. إلى أن يقول في ص81 : "وشاعت في العرب أثناء ظهور الإسلام وبعده فكرة أن الإسلام يجدد دين إبراهيم ومن هنا أخذوا يعتقدون أن دين إبراهيم هذا قد كان دين العرب في عصر من العصور ثم أعرضت عنه لما أضلها به المضلون وانصرفت عنه إلى عبادة الأوثان" .. إلى آخر ما ذكره في هذا الموضوع .
ومن حيث إن العبارات التي يقول المبلغون إن فيها طعنا على الدين الإسلامي إنما جاءت في كتاب في سياق الكلام على موضوعات كلها متعلقة بالغرض الذي ألف من أجله ، فلأجل الفصل في هذه الشكوى لا يجوز انتزاع تلك العبارات من موضوعها والنظر إليها منفصلة ، وإنما الواجب توصلا إلى تقديرها تقديرا صحيحا بحثها حيث هي في موضوعها من الكتاب ومناقشتها في السياق الذي فيه وبذلك يمكن الوقوف على قصد المؤلف منها وتقدير مسئوليته تقديراً صحيحاً .
عن الأمر الأول
من حيث إنه ما يلفت النظر ويستحق البحث في كتاب "في الشعر الجاهلي" من حيث علاقته بموضوع الشكوى ، إنما هو ما تناوله المؤلف بالبحث في الفصل الرابع تحت عنوان "الشعر الجاهلي واللغة" من ص24 إلى ص30 .
ومن حيث إن المؤلف بعد أن تكلم في الفصل الثالث من كتابه على أن الشعر المقال بأنه جاهلي لا يمثل الحياة الدينية والعقلية للعرب الجاهليين وأراد في الفصل الرابع أن يقدم أبلغ ما لديه من الأدلة على عدم التسليم بصحة الكثرة المطلقة من الشعر فقال إن هذا الشعر بعيد كل البعد عن أن يمثل اللغة العربية في العصر الذي يزعم الرواة أنه قيل فيه .
وحيث إن المؤلف أراد أن يدلل على صحة هذه النظرية فرأى بحق من الواجب عليه أن بدأ بتعرف اللغة الجاهلية فقال : "ولنجتهد في تعرف اللغة الجاهلية هذه ، ما هي أو ماذا كانت في العصر الذي يزعم الرواة أن شعرهم الجاهلي هذا قد قيل فيه" . وقد أخذ في بحث هذا الأمر فقال إن الرأي الذي اتفق عليه الرواة أو كادوا يتفقون عليه ، هو أن العرب ينقسمون إلى قسمين ؛ قحطانية منازلهم الأولى في اليمن ، وعدنانية منازلهم الأولى في الحجاز ، وهم متفقون على أن القحاطنة عرب منذ خلقهم الله فطروا على العربية فهم العاربة ، وعلى أن العدنانية اكتسبوا العربية اكتسابا ، كانوا يتكلمون لغة أخرى هي العبرانية أو الكلدانية ، ثم تعلموا لغة العرب العاربة فمحت لغتهم الأولى من صدورهم وثبتت فيها هذه اللغة الثانية المستعارة وهم متفقون على أن هذه العدنانية المستعربة إنما يتصل نسبها بإسماعيل بن إبراهيم ، وهم يروون حديثا يتخذونه أساسا لكل هذه النظرية خلاصته أو أول من تكلم العربية ونسى لغة أبيه هو إسماعيل بن إبراهيم . وبعد ذلك فرغ من تقرير ما اتفق عليه الرواة في هذه النقطة قال : إن الرواة يتفقون أيضا على شيء آخر ، وهو أن هناك خلافا قويا بين لغة حمير وبين لغة عدنان مستندا إلى ما روي عن أبي عمرو بن العلاء من أنه كان يقول : "ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا" وعلى أن البحث الحديث قد أثبت خلافا جوهريا بين اللغة التي كان يصطنعها الناس في جنوب البلاد العربية واللغة التي كانوا يصطنعونها في شمال هذه البلاد وأشار إلى وجود نقوش ونصوص تثبت هذا الخلاف في اللفظ وفي قواعد النحو والتصريف ، بعد ذلك حاول المؤلف حل هذه المسألة بسؤال إنكاري فقال : إذا كان أبناء إسماعيل قد تعلموا العربية من العرب العاربة فكيف بعد ما بين اللغتين لغة العرب العاربة ولغة العرب المستعربة ، ثم قال إنه واضح جدا لمن له إلمام بالبحث التاريخي عامة ويدرس الأقاصيص والأساطير خاصة أن هذه النظرية متكلفة مصطنعة في عصور متأخرة دعت إليها حاجة دينية أو اقتصادية أو سياسية .
ثم قال بعد ذلك : " للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل ، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا . ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي فضلا عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إيراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها" . وظاهر من إيراد المؤلف هذه العبارة أن يعطي دليله شيئا من القوة بطريقة التشكك في وجود إبراهيم وإسماعيل التاريخي وهو يرمي بهذا القول إنه ما دام إسماعيل وهو الأصل في نظرية العرب العاربة والعرب المستعربة مشكوكا في وجوده التاريخي فمن باب أولى ما ترتب على وجوده مما يرويه الرواة . أراد المؤلف أن يوهم بأن لرأيه أساسا فقال : "ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخرى" . ثم أخذ يبسط الأسباب التي يظن أنها تبرر هذه الحيلة إلى أن قال : "أمر هذه القصة إذن واضح فهي حديثة العهد ظهرت قبيل الإسلام واستغلها الإسلام بسبب ديني وسياسي أيضا ، وإذن فيستطيع التاريخي الأدبي واللغوي ألا يحفل بها عندما يريد أن يتعرف أصل اللغة الفصحى ، وإذن فنستطيع أن نقول أن الصلة بين اللغة العربية الفصحى التي كانت تتكلمها العدنانية واللغة التي كانت تتكلمها القحطانية في اليمن إنما هي كالصلة بين اللغة العربية وأي لغة أخرى من اللغات السامية المعروفة ، وأن قصة العاربة والمستعربة وتعلم إسماعيل العربية من جرهم كل ذلك أحاديث أساطير لا خطر له ولا غناء فيه ... وهنا يجب أن نلاحظ على الدكتور المؤلف الكتاب :
(1) أنه خرج من بحثه هذا عاجزا كل العجز عن أن يصل إلى غرضه الذي عقد هذا الفصل من أجله ، وبيان ذلك أنه وضع أول الفصل سؤالا وحاول الإجابة عليه ، وجواب هذا السؤال في الواقع هو الأساس الذي يجب أن يرتكز عليه في التدليل على صحة رأيه ، هو يريد أن يدلل على أن الشعر الجاهلي بعيد كل البعد عن أن يمثل اللغة العربية في العصر الذي يزعم الرواة أنه قيل فيه ، وبديهي أنه للوصول إلى هذا الغرض يتعين على الباحث تحضير ثلاثة أمور :
1- الشعر الذي يريد أن يبرهن على أنه منسوب بغير حق للجاهلية .
2- الوقت الذي يزعم الرواة أنه قيل فيه .
3- اللغة التي كانت موجودة فعلا في الوقت المذكور .
وبعد أن تتهيأ له هذه المواد يجري عملية المقارنة فيوضح الاختلافات الجوهرية بين لغة الشعر وبين لغة الزمن الذي روي أنه قيل فيه . ويستخرج بهذه الطريقة الدليل على صحة ما يدعيه . لذا تتضح أهمية السؤال الذي وضعه بقوله : "لنجتهد في تعرف اللغة الجاهلية هذه ، ما هي أو ماذا كانت في العصر الذي يزعم الرواة أن شعرهم الجاهلي هذا قد قيل فيه" . وتتضح أهمية الإجابة عنه .
ولكن الأستاذ الدكتور وضع السؤال وحاول الإجابة عنه وتطرق في بحثه إلى الكلام على مسائل في غاية الخطورة صدم بها الأمة الإسلامية في أعز ما لديها من الشعور ولوث نفسه بما تناوله من البحث في هذا السبيل بغير فائدة ولم يوفق إلى الإجابة ، بل قد خرج من البحث بغير جواب اللهم إلا قوله : "إن الصلة بين اللغة العدنانية وبين اللغة القحطانية ، إنما هي كالصلة بين اللغة العربية وأي لغة من اللغات السامية المعروفة" . وبديهي أن ما وصل إليه ليس جوابا عن السؤال الذي وضعه ، وقد نوقش في التحقيق في هذه المسألة فلم يستطع رد هذا الاعتراض ولا يمكن الاقتناع بما ذكره في التحقيق من أنه كتب الكتاب للاختصاصيين والمستشرقين بنوع خاص وأن تعريف هاتين اللغتين عند الاختصاصيين واضح لا يحتاج إلى أن يذكر لأن قوله هذا عجز عن الجواب ، كما أن قوله إن اللغة الجاهلية في رأيه ورأي القدماء والمستشرقين لغتان متباينتان لا يمكن أن يكون جوابا عن السؤال الذي وضعه لأن غرضه من السؤال واضح في كتابه إذ قال : "لنجتهد في تعرف اللغة الجاهلية هذه ، ما هي" . وقد كان قرر قبل ذلك : "فنحن إذا ذكرنا اللغة العربية نريد بها معناها الدقيق المحدود الذي نجده في المعاجم حيث نبحث فيها عن لفظ اللغة ما معناه نريد بها الألفاظ من حيث ألفاظ تدل على معانيها تستعمل حقيقة مرة ومجازا مرة أخرى وتتطلب تطورا ملائما لمقتضيات الحياة التي يحياها أصحاب هذه اللغة" ، فبعد أن حدد هو بنفسه معنى اللغة الذي يريده فلا يمكن أن يقبل منه ما أجاب به من أن مراده أن اللغة لغتان بدون أن يتعرف على واحدة منهما .
فالمؤلف إذن في واحدة من اثنتين : إما أن يكون عاجزا وإما أن يكون سيئ النية بحيث قد جعل هذا البحث ستارا ليصل بواسطته إلى الكلام في تلك المسائل الخطيرة التي تكلم عنها في هذا الفصل وسنتكلم فيما بعد عن هذه النقطة عند الكلام عن القصد الجنائي .
(2) أنه استدل على عدم صحة النظرية التي رواها الرواة وهي تقسيم العرب إلى عاربة ومستعربة وتعلم إسماعيل العربية من جرهم ، بافتراض وضعه في صيغة سؤال إنكاري . إذا كان أبناء إسماعيل قد تعلموا العربية من أولئك العرب الذين نسميهم العاربة فكيف بعُد ما بين اللغة التي كان يصطنعها العرب العاربة واللغة التي كان يصطنعها العرب المستعربة . يريد المؤلف بهذا أن يقول ، لو كانت نظرية تعلم إسماعيل وأولاده العربية من جرهم صحيحة لوجب أن تكون لغة المتعلم كلغة المعلم . وهذا الاعتراض وجيه في ذاته ولكنه لا يفيد المؤلف في التدليل على صحة رأيه ، لأنه نسي أمرا مهما لا يجوز غض النظر عنه ، هو يشير إلى الاختلافات التي بين لغة حمير ولغة عدنان ، وهو يقصد لغة عدنان التي كانت موجودة وقت نزول القرآن ، وهو يعلم أن حمير آخر دول العرب القحطانية ، وقد مضى من وقت وجود إسماعيل إلى وقت وجود حمير زمن طويل جدا أي أنه قد انقضى من الوقت الذي يروي أن إسماعيل تعلم فيه اللعة العربية من جرهم إلى الوقت الذي اختاره المؤلف للمقارنة بين اللغتين زمن يتعذر تحديده ، ولكنه على كل حال زمن طويل جدا لا يقل عن عشرين قرنا ، فهل يريد المؤلف مع هذا أن يتخذ الاختلافات التي بين اللغتين دليلا على عدم صحة نظرية الرواة غير حاسب حسابا للتطور الواجب حصوله في اللغة بسبب مضي هذا الزمن الطويل ما يستدعيه توالي العصور من تتابع الحوادث واختلاف الظروف . إن الأستاذ قد أخطأ في استنتاجه بغير شك . ونستطيع إذن أن نقول إن استنتاجه لا يصلح دليلا على فساد نظرية الرواة التي يريد أن يهدمها وإنه إذا ما ثبت وجود خلاف مهما كان مداه بين اللغتين فإن هذا لا ينفي صحة الرواية التي يرويها الرواة من حيث تعلم إسماعيل العربية من جرهم ، ولا يضيرها أن الأستاذ المؤلف ينكرها بغير دليل لأن طريقة الإنكار والتشكيك بغير دليل طريقة سهلة جدا في متناول كل إنسان عالما كان أو جاهلا .
على أننا نلاحظ أيضا على المؤلف أنه لم يكن دقيقا في بحثه ، وهو ذلك الرجل الذي يتشدد كل التشدد في التمسك بطرق البحث عن أمرين ، الأول ما روي عن أبي عمرو بن العلاء من أنه كان يقول : "ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا" . والثاني قوله : "ولدينا الآن نقوش ونصوص تمكننا من إثبات هذا الخلاف في اللفظ وفي قواعد النحو والتصريف أيضا" .
أما عن الدليل الأول فأن ما رواه أبو عبد الله بن سلاّم الجمحي مؤلف (طبقات الشعراء) عن أبي عمرو بن العلاء "ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم عربيتنا" . وقد يكون للمؤلف مأرب من وراء تغيير النص ، على أن الذي نريد أن نلاحظه هو أن ابن سلاّم ذكر قبيل هذه الرواية في الصفحة نفسها ما يأتي :
وأخبرني يونس عن أبي عمرو قال : "لعرب كلها ولد إسماعيل إلا حمير وبقايا جرهم" . - راجع ص8 من كتاب (طبقات الشعراء) طبعة مطبعة السعادة - فواجب على المؤلف إذن وقد اعتمد صحة العبارة الأولى أن يسلم أيضا بصحة العبارة الثانية ، لأن الراوي واحد والمروي عنه واحد . وتكون نتيجة ذلك أنه فسر ما اعتمد عليه من أقوال أبي عمرو بن العلاء بغير ما أراده بل فسره بعكس ما أراده ويتعين إسقاط هذا الدليل .
وأما عن الدليل الثاني فإن المؤلف لم يتكلم عنه بأكثر من قوله : "ولدينا الآن نقوش ونصوص تمكننا من إثبات هذا الخلاف" . فأردنا عند استجوابه أن نستوضحه ما أجمل فعجز ، وليس أدل هذا العجز من أن نذكر هنا ما دار في التحقيق من المناقشة بشأن هذه المسألة :
س - هل يمكن لحضرتكم الآن تعريف اللغة الجاهلية الفصحى وعلى لغة حمير وبيان الفرق بين لغة حمير ولغة عدنان ومدى هذا الفرق وذكر بعض الأمثلة تساعدنا على فهم ذلك ؟
ج - قلت إن اللغة الجاهلية في رأيي ورأي القدماء والمستشرقين لغتان متباينتان على الأقل ، أولهما لغة حمير وهذه اللغة قد درست ووضعت لها قواعد النحو والصرف والمعاجم ، ولم يكن شيء من هذا معروف قبل الاكتشافات الحديثة ، وهي كما قلت مخالفة للغة العربية الفصحى التي سألتم عنها مخالفة جوهرية في اللفظ والنحو وقواعد الصرف ، وهما إلى اللغة الحبشية القديمة أقرب منها إلى اللغة العربية الفصحى ، وليس شك في أن الصلة بينها وبين لغة القرآن والشعر كالصلة بين السريانية وبين هذه اللغة القرآنية . فأما إيراد النصوص والأمثلة فيحتاج إلى ذاكرة لم يهبها الله لي ، ولا بد من الرجوع إلى الكتب المدونة في هذه اللغة .
س - هل يمكن لحضرتكم أن تبينوا لنا هذه المراجع أو تقدموها لنا ؟
ج - أنا لا أقدم شيئا
س - هل يمكن لحضرتكم أن تبينوا إلى أي وقت كانت موجودة اللغة الحميرية ومبدأ وجودها إن أمكن ؟
ج - مبدأ وجودها ليس من السهل تحديده ولكن لا شك في أنها كانت معروفة تكتب قبل القرن الأول للمسيح وظلت تتكلم إلى ما بعد الإسلام ، ولكن ظهور الإسلام وسيادة اللغة القرشية محيا [محوا] غيرها من اللغات المختلفة في البلاد العربية وغير العربية وأقرّا مكانهما لغة القرآن .
س - هل يمكن لحضرتكم أيضا أن تذكروا لنا مبدأ اللغة العدنانية ولو بوجه التقريب ؟
ج - ليس من السهل معرفة مبدأ اللغة العدنانية وكل ما يمكن أن يقال بطريقة عملية هو أن لدينا نقوشا قليلة جدا يرجع عهدها إلى القرن الرابع للميلاد ، وهذه النقوش العربية من اللغة العدنانية ولكن المستشرقين يرون أنها لهجة قبطية وإذن فقد يكون من احتياط العالم أن نرى أقدم نص عربي يمكن الاعتماد عليه من الوجهة العلمية إلى الآن إنما هو القرآن حتى نستكشف نقوشا أظهر وأكثر مما لدينا .
س - هل تعتقدون حضرتكم أن اللغة سواء كانت اللغة الحميرية أو اللغة العدنانية كانت باقية على حالها من وقت نشأتها أو حصل بها تغيير سبب تمادي الزمن والاختلاط ؟
ج - ما أظن أن لغة من اللغات تستطيع أن تبقى قرونا دون أن تتطور ويحصل فيها التغيير الكثير .
ونحن مع هذا لا نريد أن ننفي وجود اختلاف بين اللغتين ولا نقصد أن نعيب على المؤلف جهله بهذه الأمور فإنها في الحقيقة ما زالت من المجاهل ، وما وصل إليه المستشرقون من الاستكشافات لا ينير الطريق ، وإنما الذي نريد أن نسجله عليه هو أنه بنى أحكامه على أساس ما زال مجهولا ، إذ أنه يقرر بجرأة في آخر الفصل الذي نتكلم بشأنه : "والنتيجة لهذا البحث كله تردنا إلى الموضوع الذي ابتدأنا به منذ حين وهو أن هذا الشعر الذي يسمونه الجاهلي لا يمثل اللغة الجاهلية ولا يمكن أن يكون صحيحا ، ذلك لأننا نجد بين هؤلاء الشعراء الذين يضيفون إليهم شيئا كثيرا من الشعر الجاهلي قوما ينتسبون إلى عرب اليمن إلى هذه القحطانية العاربة التي تتكلم لغة غير لغة القرآن الكريم والتي كان يقول عنها عمرو بن العلاء إن لغتها مخالفة للغة العرب والتي أثبت البحث الحديث أنها لغة أخرى غير اللغة العربية" - فمتى قال أبو عمرو بن العلاء إنها لغة مخالفة للغة العرب . لقد أشرنا إلى التغيير الذي أحدثه المؤلف فيما روي عن أبي عمرو بن العلاء حيث حذف روايته . وقلنا قد يكون للمؤلف مآرب من وراء هذا التغيير ، فهذا هو مأربه ، إن الأستاذ حرّف في الرواية عمدا ليصل إلى تقرير هذه النتيجة .
ويقول المؤلف أيضا والتي أثبت البحث الحديث أن لها لغة أخرى غير اللغة العربية - وقد أبنا فيما سلف أنه عجز في إثبات هذه المسألة عن إثبات ما يدعيه - ومن الغريب أنه عندما بدأ البحث اكتفى بأن قال : ولدينا الآن نقوش ونصوص تمكننا من إثبات هذا الخلاف في اللفظ وفي قواعد النحو والتصريف أيضا ، ولكنه انتهى بأن قرر بأن البحث الحديث أثبت أن لها لغة أخرى غير اللغة العربية !!!
قرر الأستاذ في التحقيق أنه لا شك في أن اللغة الحميرية ظلت تتكلم إلى ما بعد الإسلام ، فإن كانت هذه اللغة هي لغة أخرى غير اللغة العربية كما يوهم أنه انتهى به بحثه هل له أن يفهمنا كيف استطاع عرب اليمن فهم القرآن وحفظه وتلاوته ؟؟
نحن نسلم بأنه لا بد من وجود اختلافات بين لغة حمير وبين لغة عدنان ، بل ونقول إنه لا بد من وجود شيء من الاختلافات بين بعض القبائل وبين البعض الآخر ممن يتكلمون لغة واحدة من اللغتين المذكورتين ، ولكنها على كل حال اختلافات لا تخرجها عن العربية وهذه الاختلافات هي التي قصدها أبو عمرو بن العلاء بقوله : "ما لسان حمير بلساننا" ، والمؤلف لا يستطيع أن ينكر الاختلاط الذي لا بد منه بين القبائل المختلفة خصوصا في أمة متنقلة بطبيعتها كالأمة العربية ، ولا بد لها جميعا من لغة عامة تتفاهم بها هي اللغة الأدبية ، وقد أشار هو بنفسه إليها في ص17 من كتابه حيث قال عن القرآن : "ولكنه كان كتابا عربيا لغته هي اللغة العربية الأدبية التي كان يصطنعها الناس في عصره أي في العصر الجاهلي . وهذه اللغة الأدبية هي لغة الكتابة ولغة الشعر" ، والمؤلف نفسه عندما تكلم في الفصل الخامس عشر عن الشعر الجاهلي واللهجات بحث في ص35 و36 و37 بحثا يؤيد هذا المعنى وإن كان يدعي بغير دليل أن الإسلام قد فرض على العرب جميعا لغة عامة واحدة هي لغة قريش مع أنه سبق أن ذكر في ص17 أن لغة القرآن هي اللغة العربية الأدبية التي كان يصطنعها الناس في عصره أي في العصر الجاهلي فلِم لا تكون لهذه اللهجة الأدبية السيادة العامة من قبل نزول القرآن بزمن طويل وكيف يستطيع هو هذا التحديد وعلام يستند ؟ .
يتضح مما تقدم أن عدم ظهور خلاف في اللغة لا يدل في ذاته حتما على عدم ظهور صحة الشعر . ونحن لا نريد بما قدمنا أن نتولى الدفاع عن صحة الشعر الجاهلي إذ أن هذه المسألة ليست حديثة العهد ابتدعها المؤلف وإنما هي مسألة قديمة قررها أهل الفن والشعر كما قال(ابن سلاّم) صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات وهو يحتاج في تمييزه إلى خبير كاللؤلؤ والياقوت لا يعرف بصنعة ولا وزن دون المعاينة ممن يبصره - ولكن الذي نريد أن نشير إليه إنما هو الخطأ الذي اعتاد أن يرتكبه المؤلف في أبحاثه حيث بدأ بافتراض يتخيله ثم ينتهي بأن يركب عليه قواعد كأنها حقائق ثابتة كما فعل في أمر الاختلافات بين لغة حمير وبين لغة عدنان ثم مسألة إبراهيم وإسماعيل وهجرتهما إلى مكة وبناء الكعبة إذ بدأ فيها بإظهار الشك ثم انتهى باليقين بدأ بقوله : "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا ولكن ورود هذين الإسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي فضلا عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها" . إلى هنا أظهر الشك لعدم قيام الدليل التاريخي في نظره ، كما تتطلبه الطرق الحديثة ثم انتهى بأن قرر في كثير من الصراحة : إن ضعف هذه القصة إذن واضح فهي حديثة العهد ظهرت قبل الإسلام لسبب ديني .....إلخ .. فما هو الدليل الذي انتقل به من الشك إلى اليقين ؟
هل دليله هو قوله "نحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود وبين العرب من جهة وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخرة ؟ وأن أقدم عصر يمكن أن تكون قد نشأت فيه هذه الفكرة إنما هو ذلك العصر الذي أخذ اليهود يستوطنون فيه شمال البلاد العربية ويبنون فيه المستعمرات ..إلخ وأن ظهور الإسلام وما كان من الخصومة بينه وبين وثنية العرب من غير أهل الكتاب قد اقتضى أن نثبت الصلة بين المدن الجديدة وبين ديانتي النصارى واليهود وأنه مع ثبوت الصلة الدينية يحسن أن تؤيدها صلة مادية ...إلخ . "
إذا كان الأستاذ المؤلف يرى أن ظهور الإسلام قد اقتضى أن تثبت الصلة بينه وبين ديانتي اليهود والنصارى ، وأن القرابة المادية الملفقة بين العرب واليهود لازمة لإثبات الصلة بين الإسلام واليهودية فاستغلها لهذا الغرض ، فهل له أن يبين السبب في عدم اهتمامه أيضا بمثل هذه الحيلة لتوثيق الصلة بين الإسلام والنصرانية ؟ وهل عدم اهتمامه هذا معناه عجزه أو استهانته بأمر النصرانية ؟ وهل من يريد توثيق الصلة مع اليهود بأي ثمن ، حتى باستغلال التلفيق هو الذي يقول عنهم في القرآن : "لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا" . إن الأستاذ ليعجز عن تقديم هذا البيان إذ أن كل ما ذكره في هذه المسألة إما هو خيال في خيال وكل ما استند إليه من أدلة هو :
1- فليس ببعيد أن يكون ...
2- فما الذي يمنع ...
3- ونحن نعتقد ...
4- وإذن فليس ما يمنع قريشا من أن تقبل هذه الأسطورة .
5- وإذن فنستطيع أن نقول !!!
فالأستاذ المؤلف في بحثه إذا رأى إنكار الشيء يقول لا دليل على الأدلة التي تتطلبها الطرق الحديثة للبحث حسب الخطة التي رسمها في منهج البحث وإذا رأى تقرير أمر لا يدلل عليه بغير الأدلة التي أحصيناها له وكفى بقوله حجة .
سئل الأستاذ في التحقيق عن أصل هذه المسألة "أي تلفيق القصة" وهل هي من استنتاجه أو نقلها . فقال: "فرض فرضته أنا دون أن أطلع عليه في كتاب آخر وقد أخبرت بعد أن ظهر الكتاب أن شيئا من هذا الفرض يوجد في بعض كتب المبشرين ، ولكن لم أفكر فيه حتى بعد ظهور كتابي" . على أنه سواء كان الفرض من تخيله كما يقول أو من نقله عن ذلك المبشر الذي يستتر تحت اسم (هاشم العربي) فإنه كلام لا يستند إلى دليل ولا قيمة له ، على أننا نلاحظ أن ذلك المبشر مع ما هو ظاهر من مقاله من غرض الطعن على الإسلام كان في عباراته أظرف من مؤلف كتاب الشعر الجاهلي لأنه لم يتعرض للشك في وجود إبراهيم وإسماعيل بالذات وإنما اكتفى بأن أنكر أن إسماعيل أبو العرب العدنانيين ، وقال إن حقيقة الأمر في قصة إسماعيل أنها دسيسة لفقها قدماء اليهود للعرب تزلفا إليهم ...إلخ . كما نلاحظ أيضا أن ذلك المبشر قد يكون له عذره في سلوك هذا السبيل لأن وظيفته التبشير لدينه وهذا غرضه الذي يتكلم فيه ولكن ما عذر الأستاذ المؤلف في طرق هذا الباب وما هي الضرورة التي ألجأته إلى أن يرى في هذه القصة نوعا من الحيلة...إلخ .
وإن كان المتسامح يرى له بعض العذر في التشكيك الذي أظهره أولا اعتمادا على عدم وجود الدليل التاريخي كما يقول فما الذي دعاه إلى أن يقول في النهاية بعبارة تفيد الجزم : "إن هذه القصة إذن واضحة فهي حديثة العهد ظهرت قبيل الإسلام واستغلها الإسلام لسبب ديني واضح ...إلخ" . مع اعترافه في التحقيق بأن المسألة فرض افترضه .
يقول الأستاذ إنه إن صح افتراضه فإن القصة كما كانت شائعة بين العرب قبل الإسلام فلما جاء الإسلام استغلها وليس ما يمنع أن يتخذها الله في القرآن وسيلة لإقامة الحجة على الخصوم المسلمين كما اتخذ غيرها من القصص التي كانت معروفة وسيلة إلى الاحتجاج أو إلى الهداية - وهاشم العربي يقول في مثل هذا : ولما ظهر محمد رأى المصلحة في إقرارها فأقرها وقال للعرب إنه يدعوهم إلى ملة جدهم هذا الذي يعظمونه من غير أن يعرفوه ، فسبحان من أوجد هذا التوافق بين الخواطر ...
إن الأستاذ المؤلف أخطأ فيما كتب وأخطأ أيضا في تفسير ما كتب وهو في هذه النقطة قد تعرض بغير شك لنصوص القرآن وليس في وسعه الهرب بادعائه البحث العلمي منفصلا عن الدين ، فليفسر لنا إذن قوله تعالى في سورة النساء: "إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان ...إلخ ..." وقوله في سورة مريم : "واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صدّيقا نبيا" و "اذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا" وفي سورة آل عمران "قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون" وغير ذلك من الآيات القرآنية الكثيرة التي ورد فيها ذكر إبراهيم وإسماعيل ، لا على سبيل المثال كما يدعي حضرته ، وهل عقل الأستاذ سليم بأن الله سبحانه وتعالى يذكر أن إبراهيم نبي وأن إسماعيل رسول نبي مع أن القصة ملفقة ، وماذا يقول حضرته في موسى وعيسى وقد ذكرهما الله سبحانه وتعالى في الآية الأخيرة مع إبراهيم وإسماعيل وقال في حقهم جميعا لا نفرق بين أحد منهم ، وهل يرى حضرته أن قصة موسى وعيسى من الأساطير أيضا قد ذكرها الله وسيلة للاحتجاج أو للهداية كما فعل في قصة إبراهيم وإسماعيل ما دامت الآية تقضي بألا نفرق بين أحد منهم ، الحق أن المؤلف في هذه المسألة يتخبط تخبط الطائش ويكاد يعترف بخطئه لأن جوابه يشعر بهذا عندما سألناه في التحقيق عن السبب الذي دعاه أخيرا لأن يقرر بطريقة تفيد الجزم بأن القصة حديثة العهد ظهرت قبيل الإسلام فقال في ص37 من محضر التحقيق : "هذه العبارة إذا كانت تفيد الجزم فهي إنما تفيده إن صح الفرض الذي قامت عليه وربما كان فيها شيء من الغلو ولكني أعتقد أن العلماء جميعا عندما يفترضون فروضا علمية يبيحون لأنفسهم مثل هذا النحو من التعبير فالواقع أنهم مقتنعون فيما بينهم وبين أنفسهم بأن فروضهم راجحة".