بغيره، والشقي من اتّعظ بنفسه؛ فخذ من صروف الأيام عِبرتها، ومن تدابير
القدَر حكمته، ومن تقلّب الناس آية، واعلم أن الغرّ الساذج في هذه الحياة
من اغترّ برأيه، وغلبه سلطان هواه..
ولك مني عشر احفظها، وأعمل فيها عقلك وفكرك، ولا تتجاوزها لغيرها:
أما الأولى: فإن للعظمة طريقاً
واحداً، مبدؤه التجرد والإخلاص، ومنتهاه التواضع، وبين هذا وذاك يأتي الجد
والعمل والعرق والكدح، وليس للرقي مسلك آخر؛ فإن حُدت عن الطريق في أوله
ولم تُخلص، غلبك شيطان هواك، وحاد بك عن جادّة الاستقامة، وإن حُدت آخره،
وغرّك عظيم فضّله الله عليك، كنت كمن نقضَت غزلها بعدما سهرت تغزله ليالي
طوالاً، أما العرق والكد والكدح؛ فهما ثمن النجاح، لا يتم إلا بهما، ولا
يُنال إلا بدفعهما.
أما الثانية: فإنك لن تسلم من
ألسنة الناس ولمْزهم؛ خاصة من رأوك صغيراً فكبرت على أعينهم، أو بسيطاً
فحُزت العزة والشرف وهم شهود، وأول من سينال منك مَن كبرت على عينيه؛ لذا
قال العرب قديماً: "لا كرامة لنبي في وطنه"؛ فلا تحزن عندما يستصغر القوم
شأنك، وكان جديراً بهم أن يَعلوا بك، واعلم أن هذا من طبائع النفس التي
جَبَل الله الناس عليها.
والثالثة: لا تحزن لكثرة
أعدائك؛ فما دامت عداوتهم في الحق فهم شهود لك أمام الله لا عليك، وإن كان
الأصدقاء يمدوننا بالدعم الوجداني؛ فإن الأعداء يوقظون لدينا الحافز لنكون
أفضل، إنهم يجعلونك أكثر يقظة وأكثر انتباهاً لما يدور حولك، لا تنزعج من
كثرتهم، أو قوتهم؛ فإنهم دليل آخر من دلائل عبقريتك وعظمتك!
والرابعة: احفظ لسانك ما
استطعت؛ فإن المرء مخبوء تحت لسانه كما قال أبو الحسن علي بن أبي طالب -رضي
الله عنه- فإذا تكلّمت ظهر للناس حقيقة شخصيتك؛ فحاول ألا يسبق لسانك
عقلك، فكّر قبل أن تنطق، وزِنِ الأمور قبل طرحها على مستمعك، ولا تستخفّ
بالكلمة؛ فلكم أحيت الكلمة نفوساً، وأماتت غيرها، والحذر كل الحذر أن تغضب
فيُطيح لسانك بهذا أو ذاك؛ فاللسان عند الغضب أحدّ من سيف ابن الوليد وأشدّ
إيلاما، وليكن لك في الاعتذار مخرج إذا ما زللت وأخطأت؛ فالاعتذار على
حرقته أهون كثيراً من أن ينتقصك الناس لضعفك أمام شيطان غضبك وفوزه عليك.
أما الخامسة: فاحذر أن تحارب من
ليس لديه ما يخسره؛ فإنه أرعن مجنون، ضرباته حينذاك تكون هي الخطر بعينه،
وتحركاته لا يمكن توقّعها؛ فليس بمستبعد منه أن يخرق السفينة ليغرقها، وهو
على متنها ليؤذيك، وخطورة مثل هذا أن تدابير العقل لا تصلح معه، والطريقة
المثلى للتعامل معه هي اليقظة التامة، والحذر الكامل، وتجنُّبُ لقائه ما
استطعت؛ فهذا هو الأسلم والأحوط.
والسادسة: لا تحرق خلفك كل
الجسور، فمهما حاربت، وعاديت، وبغضت؛ فإن الحكمة والفطنة تقتضي أن تترك
خلفك انفراجة؛ فإنك لا تدري عندما تهدأ النفس ما الذي قد يظهر ويستجدّ، وقد
تحتاج في لحظة ما إلى التحالف مع عدو الأمس، أو المرور من طريق قد اشعلت
فيه النار؛ فحاول في كل معاركك أن تترك هنا أو هناك شيئاً ولو بسيطاً يشفع
لك إذا ما أحببت العودة ثانية.
السابعة: لا تشغل بالك بأمر ليس
لك يد في تغييره، احتفظ بقوتك، وتدبيرك، وعقلك لما يقع في دائرة سيطرتك؛
فإن البكاء على اللبن المسكوب حماقة، ومناطحة الدهر ديدن من لا عقل له.
والثامنة: تأكّد أن اللون
الأسود هو الذي جعلنا نُدرك نقاء البياض، والظلم نبّه عقولنا لعظمة العدل
والمساواة، والجبابرة هم من جعلونا نشتاق إلى نسائم الحرية.. بالتضاد تُعرف
الأشياء؛ فلا تحزن حينما ينالك شيء من سواد أو ظُلم أو بغي الحياة، واجعل
السيئ الذي تتعرض له، نبراساً يهديك إلى طريق الخير والحق والصلاح.
التاسعة: لا تكره أحد، هؤلاء
الذين خدعوك، وقاتلوك، ووقفوا في طريق طموحك لا يستحقون أن تكرههم، لا تحمل
لهم بداخلك أي مشاعر، فكرههم دليل على أنهم قد فازوا بجزء منك، جزء من
قلبك وروحك ووجدانك، والأجدر أن تُلقيهم خلف ظهرك غير مأسوف عليهم، كن
بخيلاً في مشاعرك السلبية؛ فلديك ما يستحقّ أن توليه اهتمامك وانشغالك
وروحك.
والعاشرة: تعلّم الندم،
والاعتذار إلى الله؛ فإنك بشر وللبشر زلّات وسقطات، وعند الخطيئة إياك أن
تكابر، وإياك أيضاً أن تنهزم وتُغلق باب الرجاء؛ فالاستهتار بالذنب لا
يفوقه إثم سوى القنوط من رحمة الله، وما يجب أن تفعله آنذاك هو الاستغفار،
والتوبة، والاعتذار، والالتجاء إلى الله حزيناً منكسراً طالباً للعفو
والمغفرة؛ فهذا من تمام عبوديتك له.
تلك عشرة كاملة.. لك فيها شيء من عِظَة الدهر. وأكرر بأن السعيد من اتعظ بغيره، والشقي من اتعظ بنفسه.. ولله القصد.. وعليه التكلان.