..
حملني أهالي مرضي قسم المخ و الأعصاب بالمستشفي الميري – الإسكندرية
أمانة توصيل صوتهم الذي لا يسمعه احد في هذا البلد غير الله : أولادنا
تحتاج إلي عمليات عاجلة و يموتون إمام أعيننا و لا يوجد أطباء و لا تمريض
و بعض الحالات تحتاج إلي عمليات عاجلة و لا حياة لمن تنادي- الله بلغت ..
لم يكن هذا هو البلاغ الأول الذي أحمله للناس لكن هناك أوجاع كثيرة لمصابي
الثورة ربما لم يسمع الكثيرون عنهم في ظل انشغالهم بهمومهم اليومية أو ما
يعتبرونه أهم لكن بالنسبة لي تظل روح بمكن إنقاذها على نفس الدرجة من
الأهمية لنجاح الثورة هي مؤشر بالنسبة لي على نجاحها فالثورة قامت لتضمن
حياة كريمة للجميع فما بالكم لو كان من يدفعون الثمن هم من ضحوا ممن أجلنا
من ضحوا من أجل نجاح الثورة ثم نسيهم الجميع وانشغلوا بأوجاعهم اليومية .
الثورة لم تنتهي, والنضال لم يقتصر فقط كما يعتقد البعض على الهتاف أو
التظاهر, فلا يزال هناك من شباب الثورة من يخوض حربا غير تلك التي تصورها
وسائل الإعلام, حربا مع الموت نفسه يقامر بها الطرفان على الحياة.
فأحداث الثورة خلفت ثوار منتصرين واقفين في الميادين احتفلوا بالنصر,
والنصر جاء ليس فقط بصمود المحتفل, لكن أيضاً بدماء الشهداء, وآهات وآلام
الجرحى.
وربما أننا وسط زخم الأحداث, وجهنا بالخطأ بوصلة الأحداث تجاه طرفين من
صناع الثورة, ونسينا طرفا ثالثاً في أشد الحاجة لنا, هم مصابو الثورة
الذين يصارعون الموت هم من يحتاج لدعمنا المعنوي والمادي.. هم من يحتاج
إلى وقوفنا معهم واهتمامنا بهم..
هم ربما سقطوا سهوا وتقصيراً من حسابات السواد الأعظم من الثوار, لكن
احتفالات الثورة وتغير دفة النضال بعد تنحي الديكتاتور لم تشغل الشابة مي
يحيى إبنة الإسكندرية التي سارعت فور إنتهاء المهمة الكبرى إلى زيارة
مصابي الثورة بمدينة الثغر.. وهناك علمت أن معركة أخرى للثورة تحتاج لمن
يخوضها
تقول مي يحيى في شهادتها عن تجربتها مع المصابين وإهمال المستشفيات لهم
:” خرجت مثل الجميع لاحتفل بنجاح الثورة بعد تنحي مبارك, خرجت إلى الشارع
ورددت الأغاني الوطنية تصورت مع العلم, ولم يبق لي إلا أن اتصور مع
الدبابة.. لكن وبعد أن تكشفت لي حالات المصابين ومعاناتهم اليومية أشعر
بالخجل من نفسي الآن تماماً بقدر سعادتي يوم التنحي, وأشعر بالندم
لإستسلامي لفكرة النصر العظيم وتجاهلي لحقيقة أن الانظمة لا تسقط بسقوط
شخص, والبلدان لا تتحرر بدون شهداء وأبطال حقيقيين, والشعوب لا تتقدم بدون
اصرار وعزيمة علي التطهير وإستمرار في الجهاد, و محاربة الظلم و الفساد..
واسأل نفسي الآن يومياً كيف تصورت أننا في أيام نجحنا في تطهير جرح غائر
مليء بالخلايا السرطانية و العفونة لمدة 30 سنة؟ كيف تصورت أن دولة من
الفساد والإهمال والسرقة واللامبالاة يمكن أن تسقط بسقوط رئيسها ؟
وأضافت مي” الآن وبعد تجربتي الشخصية مع مصابي الثورة أيقنت بأن الطريق
لا يزال طويلاً أمامنا, وأن الثورة لم تقترب بعد من تحقيق هدفها الرئيسي
من وجه نظري وهو توفير حياة آدمية للمصريين. .
وقالت مي في شهاتها:” تجربتي مع المصابين بدأت عندما أخبرني بعض
الأصدقاء بأن هناك شخص من المصابين في أحداث 28 يناير استشهد في المستشفي
الميري بالاسكندرية نتيجة إهمال طبي جسيم أودى بحياته, حينها توجهت أنا
وزميلي حسن مصطفي إلي المستشفى, و على باب المستشفي قابلنا بعض الزملاء
الذين كانوا ايضا يحاولون الوصول الي المصابين, واقترح أحدنا أن نتوجه إلى
الدكتور “رفيق” وهو أحد الأساتذة بكلية الطب حتى يساعدنا في الوصول
للمصابين, وتصادف وجود الدكتور رفيق في سيارتة بجانبنا, توجهنا اليه
وطالبناه بمساعدتنا في الوصول للمصابين لتقديم أي دعم يحتاجونه أو تحتاجه
المستشفي لإنقاذ مصابي الثورة.. لكننا فوجئنا بالدكتور رفيق ينظر في ساعته
ويقول لنا “مجيتوش بدري ليه؟ أنا كنت موجود من 9 الصبح و الساعة دلوقتي 12
و دة ميعاد انصرافي”.
توسلنا للدكتور رفيق مساعدتنا في محاولتنا لإنقاذ المصابين, وأكدنا له
استعدادنا لتوفير أية مساعدات دوائية أو علاجية, و طلبنا منه أن يحيلنا
الي أي دكتور اخر موجود في المستشفي الآن, و لكنه أجاب ” مش حتلاقوا حد,
تعالوا بكرة”.
دخلنا الي المستشفي ونحن نحاول أن نتذكر أسم أي طبيب يمكن الوصول إليه
لمساعدتنا.. وبالفعل تذكرنا اسم احدهم و لكننا امضينا ما يقرب من الساعة
في محاولة الوصول إلي مكتبه, حيث أن المستشفي كبير جدا, وصدمنا بحالة
المستشفى وانتشار القمامة والرائحة الكريهة” و قالبنا سيدة تكلم نفسها و
تقول عاوزة اخرج اجيب اكل لجوزي مش عارفة فين الباب …بقالي ساعة بلف فين
الباب؟”
فشلنا في الوصول لمكتب الطبيب, لكننا تمكنا في النهاية وبمحض الصدفة من
الوصول لقاعة المؤتمرات حيث “فوجئنا بإجتماع ما يقرب من 500 طبيب..
فإستبشرنا خيراً بأن أحدهم قد يساعدنا في مهمتنا”, ولاحظنا أن المتحدث في
هذا الاجتماع يتكلم عن الثورة و نجاح الثورة و كيفية تحسين التعليم داخل
الجامعة بالحوار مع الشاب, وعندما أمعنا النظر وجدنا أن المشاركين على
المنصة هم د-هند حنفي رئيسة الجامعة, وإلي جانبها الدكتور رشدي زهران,
فقررنا أن نتحدث لهم عسى أن نجد عندهم آذانا صاغية”
وشعرت عند دخول قاعة المؤتمرات اني انتقلت الي عالم آخر استبدل فيه
الحر ورائحة المرض والإهمال ووجوه المرضى وذويهم الذين بدوا في إعياء أشد
من المرضي أنفسهم, بقاعة مكيفة و وجوه مستريحة ورائحة طيبة وكراسي مبطنة,
و الميكروفون الذي يوصل صوتك بدون اي صعوبة إلى كل أركان المكان, وتذكرت
هؤلاء بالخارج الذين يصرخون من الألم يومياً, و صوتهم لا يصل الي أحد غير
ذويهم فيزيدهم حسرة وحزن و مرض”.
وتمكنا بمعاونة بعض الأطباء المحترمين من الوصول إلى الميكروفون, وتكلم
زميلي حسن مصطفي إلى الحضور قائلا: “نحن لسنا أطباء, و لكني وصلت هنا بمحض
الصدفة بعد ساعة و نصف من العناء, لأقول لكم أن من تتكلمون عن ثورتهم لا
يجدون من يرعاهم ويعالجهم, إنهم يموتون اليوم بسبب إهمالكم بعد”…و “انقلبت
القاعة و لم يعد الصمت هو السائد .. رأيت كثيراً من الاطباء يهزون رؤوسهم
بالموافقة علي ما قاله زميلي, وهو ما شجعني لمخاطبة رئيسة الجامعة
ومناشدتها مساعدتنا في الوصول للمصابين قائلة” عجزنا عن الوصول للمصابين
وعلمنا أنهم يموتون بسبب الإهمال وقلة الإمكانيات” لكنها صدمتنا بردها حيث
قالت: ” مفيش حاجة اسمها كدة”.
وهكذا خذلتنا المنصة, لكن عدداً من الأطباء الشرفاء توجهوا إلينا بشكل
فردي وعرضوا المساعدة, وبالفعل دلونا علي مبني الجراجة “غرفة الإفاقة”
ووجدنا هناك البطل “إسلام سيف النصر” 29 سنة ويعمل غطاساً, والذي استشهد
بعد زيارتنا بيوم واحد بسبب الإهمال الطبي..
عندما زرنا إسلام أول مرة كان نائما وكان هناك أنبوب يخرج من أنفه
يمنعة من الكلام, وعلمنا أنه أصيب بطلقات نارية في البطن أدت إلى تهتك
الأمعاء والقولون وأخرى استقرت في ظهره ادت الي اصابته بشلل نصفي”.
وسألنا أخاه عن قصة إصابة إسلام, فقال” أُصيب إسلام أثناء مشاركته في
لجنة شعبية يوم 29 يناير, عندما تصدى لمسلحين مجهولين حاولة مهاجمة
المنطقة, فأطلقوا الرصاص بشكل عشوائي”.
و ” عندما إستئذنا في الرحيل.. قال لنا أخو إسلام ” أرجوكم كرروا
الزيارة..إسلام يفرح بالزيارات لانه يشعر ان الناس معه وأنهم لم ينسوه”.
وبالفعل عدنا في وقت لاحق في نفس اليوم لزيارة إسلام.. ووجناه مستيقظ
وأخبرناه أن “الدنيا مقلوبة عليه” وأن “الناس كلها عاوزه تزروة ومش عارفة
المكان” وأننا منتظرينه حتى يشفى لتنظيم ندوة تكريم كبيرة له.. والندوة إن
شاء الله حتتعمل, و لكنة للأسف لن يكون موجوداً.
وفي اليوم ذاته تمكنا من زيارة عدد من المصابين, أحدهم كان محمود شعبان
28 سنة يعمل سائق في شركة أدوية والذي أصيب بطلق ناري حي في بطنه أدى إلى
تهتك في القولون والأمعاء.
وسألت محمود “إنت ندمان إنك طلعت المظاهرة؟” فرد قائلاً “الرصاص علي
قلبي زي العسل يا أستاذة أنا كنت زي البرطمان المقفول وإنفجرت.. أنا كنت
مذلول من ضباط الشرطة و المرور والحضانة اللي بيسحبوا فيها العربية كل
يومين و يطلبوا مني 3 آلاف جنية”.
ويشترك محمود في الغرفة مع محمد حمدي البالغ من العمر 40 عام, والذي
يعمل في محل أدوات صحية, وحكى محمد لمي عن قصة إصابته قائلاً ” سمعت صوتاً
في الشارع, فخرجت لأرى ما يحدث, فوجدت الشباب المتظاهرين يحاولون الهروب
من أمام عساكر الأمن المركزي الذين يطاردونهم ويطلقون عليهم الرصاص,
فأحسست “بالدم بيغلي في رأسي” عندما رأيت الشباب يموتون أمام عيني وينادون
علي العساكر ويقولون لهم “انتوا مصريين زينا … انتو فلاحين بلادنا بعتونا
لية ؟”, ورأيت عسكري يحتمي بصندوق قمامة ويصوب سلاحه على الشباب, فلم
أتمالك نفسي وأمسكت بحجر وركضت علي العسكري حتى أمكسه وأمنعه من قتل
الشباب, وما إن قذفت أول حجر علي العسكري, حتى أحسست بكهرباء تسري في
جسدي, و بعد لحظات اكتشفت أني أُصيبت بثلاث رصاصات.
قائمة المصابين الذين تمكنت مي وأصدقاؤها من مقابلتهم لم تقف عند ما
ذكر, فقد تمكنوا كذلك من زيارة محمود ابو علي وهو مصاب بطلق ناري في
القولون و متزوج و لدية طفل عمرة 10 شهور.
ومضت مي تقول ” تمكنا من الوصول للعناية المركزة وطبعا لم يسمح لنا
بالدخول وهناك علمنا أن ” عنتر عبد العظيم” يقبع داخل الغرفة في حالة خطرة
جداً, وعنتر هو شاب يبلغ 26 سنة ويعمل عاملاً في محل – يتيم الأب و الأم و
يعيش مع اخوة المصاب في ساقة.
وقال لنا أخوه إن عنتر خرج يوم 28 يناير لأنه كان بيحلم بحياة افضل.
كان بيحلم يعيش بكرامة. كان بيحلم ياكل 3 وجبات في اليوم و ياخد حقة من
ال70 مليار اللي سرقهم اللي مش محتاجهم. عنتر خاطب وبيحب خطيبتة و هي
بتحبه و كان نفسهم يتجوزوا و يجيبوا ولاد يعيشوا احسن ما هما عاشوا.
ولأن الحلم في مصر جريمة , عنتر اصيب يوم 28 يناير بطلق ناري بالفقرات
الظهرية ادي الي قطع كامل في الحبل الشوكي مما ادي الي شلل نصفي بالطرفين
السفليين و طلق ناري في الرقبة ادي الي اصابة الاعصاب الموصلة للجهاز
التنفسي. يعني عنتر حيعيش طول عمره في السرير وعلي جهاز تنفس صناعي. مش بس
كدة كمان كل الدكاترة بيأكدوا ان الحالات اللي زي عنتر مش بتعيش كتير
نتيجة للنوم في الفراش لفترات طويلة.
في اليوم التالي, توجهنا الي القوات المسلحة بالتقارير الطبية للحالات
التي رأيناها. قابلنا مدير امن مستشفي القوات المسلحة و كان متعاوناً و
قال ان الجيش مع الشعب وان كل الحالات التي وصلت الي المستشفي تم علاجها
حتي لو كان هناك شك انهم بلطجية. واخذ الاوراق لعرضها علي مدير المستشفي و
طمأننا بأن هناك فريق طبي سوف يذهب غدا لمعاينة الحالات و تقييم حالتهم.
وأنه يمكننا زيارة الدكتور رئيس قسم الطب بالمنطقة الشمالية لعلاج ما
يستجد من حالات. استبشرنا خيرا و خرجنا و كلنا امل في انقاذ هؤلاء
الأبطال. ذهبت الي المستشفي لإبلاغهم بأنهم سوف يتم انتشالهم من هذة
المستشفي و ان هناك امل. وجدت اسلام قد ازالوا له انبوب الانف و يبدو احسن
حالا من الامس. ايضا محمد حمدي و محمود كانوا افضل حالا من اليوم السابق
واستقبلوا خبر احتمال نقلهم الي مستشفي القوات المسلحة بفرح شديد حيث انهم
كانوا يعانوا من الاهمال حيث ان ممرضة واحدة مسئولة عن دور كامل بة 80
مريضاً. و لك ان تتخيل حجم الاخطاء المتوقعة من هذه الممرضة.
في اليوم التالي, ذهبنا لمستشفي الطلبة للسؤال علي بعض المصابين. فإذا
بمدير أمن المبني يمنعنا من الدخول الا بإذن من مدير المستشفي. و بعد جدل
طويل مع مدير المستشفي كان مفاده أنه يريد أوراق رسمية أو كارنية حتي يسمح
لنا بزيارة المصابين. و لم يكن لدينا أدني علم ما هو هذا الكارنية
المطلوب, إلا أنه في آخر الأمر سمح لنا بزيارة كريم احمد فيصل 17 سنة مصاب
بطلق من سلاح ناري أدى إلي إصابته برصاص مطاطي في جميع انحاء الجسم تسبب
في إصابته في مواضع مختلفة: ناحية الاذن اليسري وأعلي فروة الرأس و خلف
فروة الرأس و العضد الايسر و اصابة بالفخد الايسر وجميعها اصابات بقطر 3
مم. تم نقلة الي المستشفي في حالة نزيف لاصابته بمرض الهيموفليا و يتم
التعامل مع النزيف.
كريم طالب في ثانوية عامة. مريض اصلا هو و اخوة بمرض سيولة في الدم
(الهيموفيليا) و بيحتاج ابرة كل اسبوع ب500 جنية و لكن لأن والدة عامل
بسيط و مش قادر علي العلاج و لانة كل لما بيروح التأمين بيقولوة الابرة مش
موجودة. مبيخدش العلاج غير لما يتعب بس. مش حقولكم ان كريم كان راجع من
الدرس و اتصاب ب 9 رصاصات مطاطية. 5 في الرأس و 3 في الكتف و واحدة في
الفخذ. و مازالت كل الرصاصات موجودة في جسمة حتي الآن. كريم ينزف بشدة
لانة مريض بالسيولة اصلا. و لا يمكن اخراج الرصاصات من رأسة لان ده في
خطورة علي حياتة. لما زرت كريم وجدته في حالة الم شديد لدرجة اني حسيت انة
مش شايفني و لا سامعني.
ايضا علمنا من ام كريم بأن هناك مصاب اخر يدعي محمود حسين احمد , يبلغ
من العمر 16 سنة طالب في أولى ثانوي مصاب بعدة طلقات نارية في البطن تم
اخراج الطلقات بعملية جراحية و مازال تحت العلاج.
في اليوم التالي, زرنا المصابين الاربعة الذين نعرفهم في المستشفي
الميري فتم اخبارنا ان فريقاً مكون من طبيبن استشاريين زارهم و فحص حالتهم
ووعدهم الطبيبان بالرد.. اطمئنينا علي كل الحالات إلا عنتر الموجود
بالعناية المركزة فكان معزولاً تماما. ولا يمكننا الوصول إليه ورفض
الأطباء التحدث إلينا عن حالته. كل ما كنا نعرفة عنه من خلال أخيه أنه
يبكي طوال الليل من سوء معاملة الممرضات. وأنه عندما تتحرك الانبوبة التي
يتنفس من خلالها و يطلب من الممرضة ان تعيد وضعها تقول له ضعها انت لنفسك.
هذا غير انهم لا يلبون اي رغبه له عندما يطلبهم ليأكل او يشرب .
حاولنا مواصلة البحث عن حالات اخري و لكننا قوبلنا بتعنت الامن في
السماح لنا بدخول المبنى وجهل الموظفين أوخوفهم من الافصاح عن الحالات.
أخذنا الورق الخاص بكريم و محمود و ذهبنا لزيارة الدكتور سيد الفيل في
المنطقة الشمالية لمتابعة ما جرى و ما قررته اللجنة. إلا أن العساكر
الموجودين علي البوابة حالوا دون ذلك بحجة إن مفيش حد اسمه كدة أو أننا
لازم ندخل من بوابة أخرى, وعندما نذهب إلى هذه البوابة نجدها مغلقة
بالجنازير… وما إلي ذلك من اساليب فوت علينا بكرة او متفوتش خالص احسن.
في اليوم التالي , ذهبت للزيارة و التصوير مع الحالات فوجدنا أن محمد
حمدي في حالة سيئة و يتنفس من خلال جهاز, وأن زوجته هي من تقوم بعمل
الجلسة له.
كان اسلام احسن حالا و تكلمنا معه و سألناه إذا كان يريد أن نسجل معه
أو نصورة لنشر قصته ففضل التسجيل مع أخيه لأن والدته لا تعلم أنه مصاب ولا
يريدها أن تراه بهذا الشكل. وحدث موقف بسيط استرعي انتباهي, حيث كنا نستعد
للتصوير مع كريم اخو اسلام فوجدنا إسلام غاضب و يقول شئ لا نستوضحة تبين
بعد ذلك أنه يريد اخته أن تتحرك حتي لا تظهر في التسجيل. و عرفنا كم كان
غيورا علي اهل بيته.
ذهبت بعد ذلك لعنتر ووفقت في الدخول الي غرفة العناية بمساعدة احد
الاصدقاء, وعرفت من الطبيب ان عنتر سيعيش طول عمرة بشلل نصفي ومعتمد علي
جهاز تنفس صناعي و انة يحتاج الي عملية و لكن الاطباء لا مترددون في عملها
من عدمة لانهم يرون انة لن يعيش طويلا اصلا.
تكلمت مع عنتر, وجدت في عيناة ذكاء شديد و ادراك لكل شئ و قوة عزيمة و
إيمان.. قال لي انا لو اتنقلت من المستشفي دي حخف.. قلت تمسك بالله يا
عنتر احنا معاك و لن نتركك. ونحن نسعي فعلا لنقلك في اقرب وقت. اشتكي من
الممرضات و قال انهم مش بيسئلوا فيا و ان احد الاطباء كان يعلم الممرضة
كيف تعطي ابر في ذراعة و هي ماكانتش عارفة وخايفة. كل ذلك قالة عنتر
بشفايفة لان انبوب التنفس لا يسمح لة بالكلام.
في صباح اليوم التالي, استيقظت علي هاتف من كريم ليقول إن إسلام نتيجة
اهمال الممرضة دخل في غيبوبة بالأمس و تم إسعافه, واليوم تم إبلاغنا أنه
لدية تسمم بالدم أو قصور بالقلب. طلب مني أخوه أن ننقله من المستشفي بأسرع
وقت.. و فعلا توجهنا الي مستشفي القوات المسلحة وبعد مهاترات مع امن
المستشفي سمح لنا بالدخول و بالمصادفة وجدنا اللجنة التي كانت قد عاينت
المصابين و المكونة من طبيبن موجودين علي باب المستشفي. استنجدنا بهما و
قلنا لهما إننا نريد أن ننقل المصابين في اقرب وقت ممكن. فإذا بأحدهم
يرد:” المصابين دول لا امل في شفائهم اصلاً”. ردينا بهلع يعني “حيموتوا”.
قال احد الاطباء “أنا مستغرب اصلا انهم عايشين لحد دلوقتي. الاصابات جامدة
جدا و لو انهم شباب مش ممكن كانوا عاشوا”. قلت له “طيب اسلام عندة تسمم في
الدم و نريد نقلة فورا”. قال لي ان “نقله يحتاج لتقرير طبي بالانجليزي عن
مستجدات الحالة”. قلت لة لكن دي حالته خطيرة. رد قائلا “هاتيلي الورق
بكرة”. و للاسف لم يسعفنا القدر ولم يمهل اسلام العمر لحد بكرة علشان نجيب
للدكتور التقرير اللي بالانجليزي حتي ينقذ حياتة.
في فجر اليوم التالي استشهد اسلام و ساءت حالة محمد حمدي و اتصلت
بدكتور القوات المسلحة مرة اخري استنجد به, فإذا بة يقول إنه خارج
المستشفي ومش ممكن نقل حالة غير لما يزورها فقلت لة حضرتك زرته من يومين
قال بس لازم اعرف المستجدات. قلت لة طيب ممكن تزورة اليوم قال لا مش ممكن.
قلت لة طيب دكتور تاني قال مفيش دكاترة في المستشفي غيري انا وواحد تاني.
جيبيلي الورق بكرة. قلتلة حضرتك قلتلي كدة امبارح علي اسلام و مجاش علية
بكرة. قالي لأ ان شاء الله محمد يعيش لحد بكرة. و للاسف محمد ايضا حالته
أخذت في التدهور حتي توقف عن التنفس تماما حاولنا ادخالة العناية المركزة
المدفوعة الأجر في نفس المستشفى و لكنهم رفضوا استقباله و بصعوبه بالغة تم
نقله الي مستشفى الأمين, وهو الآن يصارع الموت ونحن نصارع فساد النظام
وإهمال الممرضات وعدم تعاون الأطباء, وسلبية المجتمع, ونحن نري كل يوم
شهيد جديد يسقط دون ان نستطيع ان نفعل له شئ حتي بعد ما يسميها التليفزيون
اعظم الثورات في التاريخ الحديث.
والآن .. محمود حسين احمد-16 سنة – يوجد بمستشفي الطلبة بسبورتج قسم
الجراحة – محمود حالتة خطيرة انقذوووه … محتاجين دكتور جراح يكشف علية و
يقولنا ياة اللي ممكن نعملة قبل ما يبقي هو كمان شهيد.
وأخيراً .. أناشد المسئولين التحرك بسرعة لإنقاذ مصابي الثورة.. معنا
قائمة بـ 72 مصاباً..وهناك كشوف بها المئات من الحالات التي لم يصل إليها
أحد… وحتى الان كل المصابين في حالات حرجة ويعانون من الاهمال و يصارعون
الموت … فهل من مغيث ؟؟
- أهالي مرضي قسم المخ و الأعصاب بالمستشفي الميري: أولادنا يموتون أمام أعيننا
- هذه شهادتي عن استشهاد إسلام ومعاناة مصابي الثورة بسبب إهمال المستشفيات .. أنقذوهم قبل الرحيل
- الشهيد “إسلام سيف النصر” قتل مرتين: مرة برصاص البلطجية.. وأخرى بإهمال الأطباء
- كان يفرح بالزيارات لأنها تشعره بحب الناس.. و عنتر يبكي يوميا بسبب سوء معاملة الممرضة له
- محمد حمدي: لم أتحمل صرخات الشباب وهم يقتلون برصاص جنود الأمن المركزي.. وقذفت جندي بحجر فأطلقوا علي ثلاث رصاصات
- محمود شعبان: “لست نادماً على المشاركة في المظاهرات والرصاص علي قلبي زي العسل”
- عنتر ثار حاملا معه حلم بحياة أفضل و3 وجبات يومياُ فعاجله رصاص الأمن ليصاب بشلل نصفي وضمور في الجهاز التنفسي
- كريم طالب الثانوية يعاني آلام مبرحة جراء إصابته بتسع رصاصات مطاطية لم تستخرج حتى الآن لأنه مريض بالهيموفيليا..
حملني أهالي مرضي قسم المخ و الأعصاب بالمستشفي الميري – الإسكندرية
أمانة توصيل صوتهم الذي لا يسمعه احد في هذا البلد غير الله : أولادنا
تحتاج إلي عمليات عاجلة و يموتون إمام أعيننا و لا يوجد أطباء و لا تمريض
و بعض الحالات تحتاج إلي عمليات عاجلة و لا حياة لمن تنادي- الله بلغت ..
لم يكن هذا هو البلاغ الأول الذي أحمله للناس لكن هناك أوجاع كثيرة لمصابي
الثورة ربما لم يسمع الكثيرون عنهم في ظل انشغالهم بهمومهم اليومية أو ما
يعتبرونه أهم لكن بالنسبة لي تظل روح بمكن إنقاذها على نفس الدرجة من
الأهمية لنجاح الثورة هي مؤشر بالنسبة لي على نجاحها فالثورة قامت لتضمن
حياة كريمة للجميع فما بالكم لو كان من يدفعون الثمن هم من ضحوا ممن أجلنا
من ضحوا من أجل نجاح الثورة ثم نسيهم الجميع وانشغلوا بأوجاعهم اليومية .
الثورة لم تنتهي, والنضال لم يقتصر فقط كما يعتقد البعض على الهتاف أو
التظاهر, فلا يزال هناك من شباب الثورة من يخوض حربا غير تلك التي تصورها
وسائل الإعلام, حربا مع الموت نفسه يقامر بها الطرفان على الحياة.
فأحداث الثورة خلفت ثوار منتصرين واقفين في الميادين احتفلوا بالنصر,
والنصر جاء ليس فقط بصمود المحتفل, لكن أيضاً بدماء الشهداء, وآهات وآلام
الجرحى.
وربما أننا وسط زخم الأحداث, وجهنا بالخطأ بوصلة الأحداث تجاه طرفين من
صناع الثورة, ونسينا طرفا ثالثاً في أشد الحاجة لنا, هم مصابو الثورة
الذين يصارعون الموت هم من يحتاج لدعمنا المعنوي والمادي.. هم من يحتاج
إلى وقوفنا معهم واهتمامنا بهم..
هم ربما سقطوا سهوا وتقصيراً من حسابات السواد الأعظم من الثوار, لكن
احتفالات الثورة وتغير دفة النضال بعد تنحي الديكتاتور لم تشغل الشابة مي
يحيى إبنة الإسكندرية التي سارعت فور إنتهاء المهمة الكبرى إلى زيارة
مصابي الثورة بمدينة الثغر.. وهناك علمت أن معركة أخرى للثورة تحتاج لمن
يخوضها
تقول مي يحيى في شهادتها عن تجربتها مع المصابين وإهمال المستشفيات لهم
:” خرجت مثل الجميع لاحتفل بنجاح الثورة بعد تنحي مبارك, خرجت إلى الشارع
ورددت الأغاني الوطنية تصورت مع العلم, ولم يبق لي إلا أن اتصور مع
الدبابة.. لكن وبعد أن تكشفت لي حالات المصابين ومعاناتهم اليومية أشعر
بالخجل من نفسي الآن تماماً بقدر سعادتي يوم التنحي, وأشعر بالندم
لإستسلامي لفكرة النصر العظيم وتجاهلي لحقيقة أن الانظمة لا تسقط بسقوط
شخص, والبلدان لا تتحرر بدون شهداء وأبطال حقيقيين, والشعوب لا تتقدم بدون
اصرار وعزيمة علي التطهير وإستمرار في الجهاد, و محاربة الظلم و الفساد..
واسأل نفسي الآن يومياً كيف تصورت أننا في أيام نجحنا في تطهير جرح غائر
مليء بالخلايا السرطانية و العفونة لمدة 30 سنة؟ كيف تصورت أن دولة من
الفساد والإهمال والسرقة واللامبالاة يمكن أن تسقط بسقوط رئيسها ؟
وأضافت مي” الآن وبعد تجربتي الشخصية مع مصابي الثورة أيقنت بأن الطريق
لا يزال طويلاً أمامنا, وأن الثورة لم تقترب بعد من تحقيق هدفها الرئيسي
من وجه نظري وهو توفير حياة آدمية للمصريين. .
وقالت مي في شهاتها:” تجربتي مع المصابين بدأت عندما أخبرني بعض
الأصدقاء بأن هناك شخص من المصابين في أحداث 28 يناير استشهد في المستشفي
الميري بالاسكندرية نتيجة إهمال طبي جسيم أودى بحياته, حينها توجهت أنا
وزميلي حسن مصطفي إلي المستشفى, و على باب المستشفي قابلنا بعض الزملاء
الذين كانوا ايضا يحاولون الوصول الي المصابين, واقترح أحدنا أن نتوجه إلى
الدكتور “رفيق” وهو أحد الأساتذة بكلية الطب حتى يساعدنا في الوصول
للمصابين, وتصادف وجود الدكتور رفيق في سيارتة بجانبنا, توجهنا اليه
وطالبناه بمساعدتنا في الوصول للمصابين لتقديم أي دعم يحتاجونه أو تحتاجه
المستشفي لإنقاذ مصابي الثورة.. لكننا فوجئنا بالدكتور رفيق ينظر في ساعته
ويقول لنا “مجيتوش بدري ليه؟ أنا كنت موجود من 9 الصبح و الساعة دلوقتي 12
و دة ميعاد انصرافي”.
توسلنا للدكتور رفيق مساعدتنا في محاولتنا لإنقاذ المصابين, وأكدنا له
استعدادنا لتوفير أية مساعدات دوائية أو علاجية, و طلبنا منه أن يحيلنا
الي أي دكتور اخر موجود في المستشفي الآن, و لكنه أجاب ” مش حتلاقوا حد,
تعالوا بكرة”.
دخلنا الي المستشفي ونحن نحاول أن نتذكر أسم أي طبيب يمكن الوصول إليه
لمساعدتنا.. وبالفعل تذكرنا اسم احدهم و لكننا امضينا ما يقرب من الساعة
في محاولة الوصول إلي مكتبه, حيث أن المستشفي كبير جدا, وصدمنا بحالة
المستشفى وانتشار القمامة والرائحة الكريهة” و قالبنا سيدة تكلم نفسها و
تقول عاوزة اخرج اجيب اكل لجوزي مش عارفة فين الباب …بقالي ساعة بلف فين
الباب؟”
فشلنا في الوصول لمكتب الطبيب, لكننا تمكنا في النهاية وبمحض الصدفة من
الوصول لقاعة المؤتمرات حيث “فوجئنا بإجتماع ما يقرب من 500 طبيب..
فإستبشرنا خيراً بأن أحدهم قد يساعدنا في مهمتنا”, ولاحظنا أن المتحدث في
هذا الاجتماع يتكلم عن الثورة و نجاح الثورة و كيفية تحسين التعليم داخل
الجامعة بالحوار مع الشاب, وعندما أمعنا النظر وجدنا أن المشاركين على
المنصة هم د-هند حنفي رئيسة الجامعة, وإلي جانبها الدكتور رشدي زهران,
فقررنا أن نتحدث لهم عسى أن نجد عندهم آذانا صاغية”
وشعرت عند دخول قاعة المؤتمرات اني انتقلت الي عالم آخر استبدل فيه
الحر ورائحة المرض والإهمال ووجوه المرضى وذويهم الذين بدوا في إعياء أشد
من المرضي أنفسهم, بقاعة مكيفة و وجوه مستريحة ورائحة طيبة وكراسي مبطنة,
و الميكروفون الذي يوصل صوتك بدون اي صعوبة إلى كل أركان المكان, وتذكرت
هؤلاء بالخارج الذين يصرخون من الألم يومياً, و صوتهم لا يصل الي أحد غير
ذويهم فيزيدهم حسرة وحزن و مرض”.
وتمكنا بمعاونة بعض الأطباء المحترمين من الوصول إلى الميكروفون, وتكلم
زميلي حسن مصطفي إلى الحضور قائلا: “نحن لسنا أطباء, و لكني وصلت هنا بمحض
الصدفة بعد ساعة و نصف من العناء, لأقول لكم أن من تتكلمون عن ثورتهم لا
يجدون من يرعاهم ويعالجهم, إنهم يموتون اليوم بسبب إهمالكم بعد”…و “انقلبت
القاعة و لم يعد الصمت هو السائد .. رأيت كثيراً من الاطباء يهزون رؤوسهم
بالموافقة علي ما قاله زميلي, وهو ما شجعني لمخاطبة رئيسة الجامعة
ومناشدتها مساعدتنا في الوصول للمصابين قائلة” عجزنا عن الوصول للمصابين
وعلمنا أنهم يموتون بسبب الإهمال وقلة الإمكانيات” لكنها صدمتنا بردها حيث
قالت: ” مفيش حاجة اسمها كدة”.
وهكذا خذلتنا المنصة, لكن عدداً من الأطباء الشرفاء توجهوا إلينا بشكل
فردي وعرضوا المساعدة, وبالفعل دلونا علي مبني الجراجة “غرفة الإفاقة”
ووجدنا هناك البطل “إسلام سيف النصر” 29 سنة ويعمل غطاساً, والذي استشهد
بعد زيارتنا بيوم واحد بسبب الإهمال الطبي..
عندما زرنا إسلام أول مرة كان نائما وكان هناك أنبوب يخرج من أنفه
يمنعة من الكلام, وعلمنا أنه أصيب بطلقات نارية في البطن أدت إلى تهتك
الأمعاء والقولون وأخرى استقرت في ظهره ادت الي اصابته بشلل نصفي”.
وسألنا أخاه عن قصة إصابة إسلام, فقال” أُصيب إسلام أثناء مشاركته في
لجنة شعبية يوم 29 يناير, عندما تصدى لمسلحين مجهولين حاولة مهاجمة
المنطقة, فأطلقوا الرصاص بشكل عشوائي”.
و ” عندما إستئذنا في الرحيل.. قال لنا أخو إسلام ” أرجوكم كرروا
الزيارة..إسلام يفرح بالزيارات لانه يشعر ان الناس معه وأنهم لم ينسوه”.
وبالفعل عدنا في وقت لاحق في نفس اليوم لزيارة إسلام.. ووجناه مستيقظ
وأخبرناه أن “الدنيا مقلوبة عليه” وأن “الناس كلها عاوزه تزروة ومش عارفة
المكان” وأننا منتظرينه حتى يشفى لتنظيم ندوة تكريم كبيرة له.. والندوة إن
شاء الله حتتعمل, و لكنة للأسف لن يكون موجوداً.
وفي اليوم ذاته تمكنا من زيارة عدد من المصابين, أحدهم كان محمود شعبان
28 سنة يعمل سائق في شركة أدوية والذي أصيب بطلق ناري حي في بطنه أدى إلى
تهتك في القولون والأمعاء.
وسألت محمود “إنت ندمان إنك طلعت المظاهرة؟” فرد قائلاً “الرصاص علي
قلبي زي العسل يا أستاذة أنا كنت زي البرطمان المقفول وإنفجرت.. أنا كنت
مذلول من ضباط الشرطة و المرور والحضانة اللي بيسحبوا فيها العربية كل
يومين و يطلبوا مني 3 آلاف جنية”.
ويشترك محمود في الغرفة مع محمد حمدي البالغ من العمر 40 عام, والذي
يعمل في محل أدوات صحية, وحكى محمد لمي عن قصة إصابته قائلاً ” سمعت صوتاً
في الشارع, فخرجت لأرى ما يحدث, فوجدت الشباب المتظاهرين يحاولون الهروب
من أمام عساكر الأمن المركزي الذين يطاردونهم ويطلقون عليهم الرصاص,
فأحسست “بالدم بيغلي في رأسي” عندما رأيت الشباب يموتون أمام عيني وينادون
علي العساكر ويقولون لهم “انتوا مصريين زينا … انتو فلاحين بلادنا بعتونا
لية ؟”, ورأيت عسكري يحتمي بصندوق قمامة ويصوب سلاحه على الشباب, فلم
أتمالك نفسي وأمسكت بحجر وركضت علي العسكري حتى أمكسه وأمنعه من قتل
الشباب, وما إن قذفت أول حجر علي العسكري, حتى أحسست بكهرباء تسري في
جسدي, و بعد لحظات اكتشفت أني أُصيبت بثلاث رصاصات.
قائمة المصابين الذين تمكنت مي وأصدقاؤها من مقابلتهم لم تقف عند ما
ذكر, فقد تمكنوا كذلك من زيارة محمود ابو علي وهو مصاب بطلق ناري في
القولون و متزوج و لدية طفل عمرة 10 شهور.
ومضت مي تقول ” تمكنا من الوصول للعناية المركزة وطبعا لم يسمح لنا
بالدخول وهناك علمنا أن ” عنتر عبد العظيم” يقبع داخل الغرفة في حالة خطرة
جداً, وعنتر هو شاب يبلغ 26 سنة ويعمل عاملاً في محل – يتيم الأب و الأم و
يعيش مع اخوة المصاب في ساقة.
وقال لنا أخوه إن عنتر خرج يوم 28 يناير لأنه كان بيحلم بحياة افضل.
كان بيحلم يعيش بكرامة. كان بيحلم ياكل 3 وجبات في اليوم و ياخد حقة من
ال70 مليار اللي سرقهم اللي مش محتاجهم. عنتر خاطب وبيحب خطيبتة و هي
بتحبه و كان نفسهم يتجوزوا و يجيبوا ولاد يعيشوا احسن ما هما عاشوا.
ولأن الحلم في مصر جريمة , عنتر اصيب يوم 28 يناير بطلق ناري بالفقرات
الظهرية ادي الي قطع كامل في الحبل الشوكي مما ادي الي شلل نصفي بالطرفين
السفليين و طلق ناري في الرقبة ادي الي اصابة الاعصاب الموصلة للجهاز
التنفسي. يعني عنتر حيعيش طول عمره في السرير وعلي جهاز تنفس صناعي. مش بس
كدة كمان كل الدكاترة بيأكدوا ان الحالات اللي زي عنتر مش بتعيش كتير
نتيجة للنوم في الفراش لفترات طويلة.
في اليوم التالي, توجهنا الي القوات المسلحة بالتقارير الطبية للحالات
التي رأيناها. قابلنا مدير امن مستشفي القوات المسلحة و كان متعاوناً و
قال ان الجيش مع الشعب وان كل الحالات التي وصلت الي المستشفي تم علاجها
حتي لو كان هناك شك انهم بلطجية. واخذ الاوراق لعرضها علي مدير المستشفي و
طمأننا بأن هناك فريق طبي سوف يذهب غدا لمعاينة الحالات و تقييم حالتهم.
وأنه يمكننا زيارة الدكتور رئيس قسم الطب بالمنطقة الشمالية لعلاج ما
يستجد من حالات. استبشرنا خيرا و خرجنا و كلنا امل في انقاذ هؤلاء
الأبطال. ذهبت الي المستشفي لإبلاغهم بأنهم سوف يتم انتشالهم من هذة
المستشفي و ان هناك امل. وجدت اسلام قد ازالوا له انبوب الانف و يبدو احسن
حالا من الامس. ايضا محمد حمدي و محمود كانوا افضل حالا من اليوم السابق
واستقبلوا خبر احتمال نقلهم الي مستشفي القوات المسلحة بفرح شديد حيث انهم
كانوا يعانوا من الاهمال حيث ان ممرضة واحدة مسئولة عن دور كامل بة 80
مريضاً. و لك ان تتخيل حجم الاخطاء المتوقعة من هذه الممرضة.
في اليوم التالي, ذهبنا لمستشفي الطلبة للسؤال علي بعض المصابين. فإذا
بمدير أمن المبني يمنعنا من الدخول الا بإذن من مدير المستشفي. و بعد جدل
طويل مع مدير المستشفي كان مفاده أنه يريد أوراق رسمية أو كارنية حتي يسمح
لنا بزيارة المصابين. و لم يكن لدينا أدني علم ما هو هذا الكارنية
المطلوب, إلا أنه في آخر الأمر سمح لنا بزيارة كريم احمد فيصل 17 سنة مصاب
بطلق من سلاح ناري أدى إلي إصابته برصاص مطاطي في جميع انحاء الجسم تسبب
في إصابته في مواضع مختلفة: ناحية الاذن اليسري وأعلي فروة الرأس و خلف
فروة الرأس و العضد الايسر و اصابة بالفخد الايسر وجميعها اصابات بقطر 3
مم. تم نقلة الي المستشفي في حالة نزيف لاصابته بمرض الهيموفليا و يتم
التعامل مع النزيف.
كريم طالب في ثانوية عامة. مريض اصلا هو و اخوة بمرض سيولة في الدم
(الهيموفيليا) و بيحتاج ابرة كل اسبوع ب500 جنية و لكن لأن والدة عامل
بسيط و مش قادر علي العلاج و لانة كل لما بيروح التأمين بيقولوة الابرة مش
موجودة. مبيخدش العلاج غير لما يتعب بس. مش حقولكم ان كريم كان راجع من
الدرس و اتصاب ب 9 رصاصات مطاطية. 5 في الرأس و 3 في الكتف و واحدة في
الفخذ. و مازالت كل الرصاصات موجودة في جسمة حتي الآن. كريم ينزف بشدة
لانة مريض بالسيولة اصلا. و لا يمكن اخراج الرصاصات من رأسة لان ده في
خطورة علي حياتة. لما زرت كريم وجدته في حالة الم شديد لدرجة اني حسيت انة
مش شايفني و لا سامعني.
ايضا علمنا من ام كريم بأن هناك مصاب اخر يدعي محمود حسين احمد , يبلغ
من العمر 16 سنة طالب في أولى ثانوي مصاب بعدة طلقات نارية في البطن تم
اخراج الطلقات بعملية جراحية و مازال تحت العلاج.
في اليوم التالي, زرنا المصابين الاربعة الذين نعرفهم في المستشفي
الميري فتم اخبارنا ان فريقاً مكون من طبيبن استشاريين زارهم و فحص حالتهم
ووعدهم الطبيبان بالرد.. اطمئنينا علي كل الحالات إلا عنتر الموجود
بالعناية المركزة فكان معزولاً تماما. ولا يمكننا الوصول إليه ورفض
الأطباء التحدث إلينا عن حالته. كل ما كنا نعرفة عنه من خلال أخيه أنه
يبكي طوال الليل من سوء معاملة الممرضات. وأنه عندما تتحرك الانبوبة التي
يتنفس من خلالها و يطلب من الممرضة ان تعيد وضعها تقول له ضعها انت لنفسك.
هذا غير انهم لا يلبون اي رغبه له عندما يطلبهم ليأكل او يشرب .
حاولنا مواصلة البحث عن حالات اخري و لكننا قوبلنا بتعنت الامن في
السماح لنا بدخول المبنى وجهل الموظفين أوخوفهم من الافصاح عن الحالات.
أخذنا الورق الخاص بكريم و محمود و ذهبنا لزيارة الدكتور سيد الفيل في
المنطقة الشمالية لمتابعة ما جرى و ما قررته اللجنة. إلا أن العساكر
الموجودين علي البوابة حالوا دون ذلك بحجة إن مفيش حد اسمه كدة أو أننا
لازم ندخل من بوابة أخرى, وعندما نذهب إلى هذه البوابة نجدها مغلقة
بالجنازير… وما إلي ذلك من اساليب فوت علينا بكرة او متفوتش خالص احسن.
في اليوم التالي , ذهبت للزيارة و التصوير مع الحالات فوجدنا أن محمد
حمدي في حالة سيئة و يتنفس من خلال جهاز, وأن زوجته هي من تقوم بعمل
الجلسة له.
كان اسلام احسن حالا و تكلمنا معه و سألناه إذا كان يريد أن نسجل معه
أو نصورة لنشر قصته ففضل التسجيل مع أخيه لأن والدته لا تعلم أنه مصاب ولا
يريدها أن تراه بهذا الشكل. وحدث موقف بسيط استرعي انتباهي, حيث كنا نستعد
للتصوير مع كريم اخو اسلام فوجدنا إسلام غاضب و يقول شئ لا نستوضحة تبين
بعد ذلك أنه يريد اخته أن تتحرك حتي لا تظهر في التسجيل. و عرفنا كم كان
غيورا علي اهل بيته.
ذهبت بعد ذلك لعنتر ووفقت في الدخول الي غرفة العناية بمساعدة احد
الاصدقاء, وعرفت من الطبيب ان عنتر سيعيش طول عمرة بشلل نصفي ومعتمد علي
جهاز تنفس صناعي و انة يحتاج الي عملية و لكن الاطباء لا مترددون في عملها
من عدمة لانهم يرون انة لن يعيش طويلا اصلا.
تكلمت مع عنتر, وجدت في عيناة ذكاء شديد و ادراك لكل شئ و قوة عزيمة و
إيمان.. قال لي انا لو اتنقلت من المستشفي دي حخف.. قلت تمسك بالله يا
عنتر احنا معاك و لن نتركك. ونحن نسعي فعلا لنقلك في اقرب وقت. اشتكي من
الممرضات و قال انهم مش بيسئلوا فيا و ان احد الاطباء كان يعلم الممرضة
كيف تعطي ابر في ذراعة و هي ماكانتش عارفة وخايفة. كل ذلك قالة عنتر
بشفايفة لان انبوب التنفس لا يسمح لة بالكلام.
في صباح اليوم التالي, استيقظت علي هاتف من كريم ليقول إن إسلام نتيجة
اهمال الممرضة دخل في غيبوبة بالأمس و تم إسعافه, واليوم تم إبلاغنا أنه
لدية تسمم بالدم أو قصور بالقلب. طلب مني أخوه أن ننقله من المستشفي بأسرع
وقت.. و فعلا توجهنا الي مستشفي القوات المسلحة وبعد مهاترات مع امن
المستشفي سمح لنا بالدخول و بالمصادفة وجدنا اللجنة التي كانت قد عاينت
المصابين و المكونة من طبيبن موجودين علي باب المستشفي. استنجدنا بهما و
قلنا لهما إننا نريد أن ننقل المصابين في اقرب وقت ممكن. فإذا بأحدهم
يرد:” المصابين دول لا امل في شفائهم اصلاً”. ردينا بهلع يعني “حيموتوا”.
قال احد الاطباء “أنا مستغرب اصلا انهم عايشين لحد دلوقتي. الاصابات جامدة
جدا و لو انهم شباب مش ممكن كانوا عاشوا”. قلت له “طيب اسلام عندة تسمم في
الدم و نريد نقلة فورا”. قال لي ان “نقله يحتاج لتقرير طبي بالانجليزي عن
مستجدات الحالة”. قلت لة لكن دي حالته خطيرة. رد قائلا “هاتيلي الورق
بكرة”. و للاسف لم يسعفنا القدر ولم يمهل اسلام العمر لحد بكرة علشان نجيب
للدكتور التقرير اللي بالانجليزي حتي ينقذ حياتة.
في فجر اليوم التالي استشهد اسلام و ساءت حالة محمد حمدي و اتصلت
بدكتور القوات المسلحة مرة اخري استنجد به, فإذا بة يقول إنه خارج
المستشفي ومش ممكن نقل حالة غير لما يزورها فقلت لة حضرتك زرته من يومين
قال بس لازم اعرف المستجدات. قلت لة طيب ممكن تزورة اليوم قال لا مش ممكن.
قلت لة طيب دكتور تاني قال مفيش دكاترة في المستشفي غيري انا وواحد تاني.
جيبيلي الورق بكرة. قلتلة حضرتك قلتلي كدة امبارح علي اسلام و مجاش علية
بكرة. قالي لأ ان شاء الله محمد يعيش لحد بكرة. و للاسف محمد ايضا حالته
أخذت في التدهور حتي توقف عن التنفس تماما حاولنا ادخالة العناية المركزة
المدفوعة الأجر في نفس المستشفى و لكنهم رفضوا استقباله و بصعوبه بالغة تم
نقله الي مستشفى الأمين, وهو الآن يصارع الموت ونحن نصارع فساد النظام
وإهمال الممرضات وعدم تعاون الأطباء, وسلبية المجتمع, ونحن نري كل يوم
شهيد جديد يسقط دون ان نستطيع ان نفعل له شئ حتي بعد ما يسميها التليفزيون
اعظم الثورات في التاريخ الحديث.
والآن .. محمود حسين احمد-16 سنة – يوجد بمستشفي الطلبة بسبورتج قسم
الجراحة – محمود حالتة خطيرة انقذوووه … محتاجين دكتور جراح يكشف علية و
يقولنا ياة اللي ممكن نعملة قبل ما يبقي هو كمان شهيد.
وأخيراً .. أناشد المسئولين التحرك بسرعة لإنقاذ مصابي الثورة.. معنا
قائمة بـ 72 مصاباً..وهناك كشوف بها المئات من الحالات التي لم يصل إليها
أحد… وحتى الان كل المصابين في حالات حرجة ويعانون من الاهمال و يصارعون
الموت … فهل من مغيث ؟؟