مجلة المحاماة
السنة العاشرة - 1929، 1930
بحث في طرق إصلاح نظام التحضير وتعميمه أمام القضاء الأهلي الجزئي والكلي والاستئنافي
ترمي قوانين المرافعات إلى إيصال الحقوق لأصحابها بأسهل الطرق وأسرع والإجراءات وأقل المصاريف هذه غاية المرافعات ورغبة المتقاضين وواجب المشرع.
وإذا كانت فكرة الإصلاح مقصورة الآن على إعداد نظام للتحضير يهيئ للدعوى سبيلها حتى تحال على المرافعات صالحة لها ممهدة للأحكام صدورها فسنبين السبيل الذي نراه في هذه المرحلة الأولى من مراحل الإجراءات أوفى بالغرض وآكد في النتيجة.
نعم لن تكون لهذه المرحلة وحدها كل القوة التي تكون لها لو أن الإصلاح جاء عامًا شاملاً حيث نرى عيوب قانون المرافعات كثيرة ووجوه النقص فيه متعددة لكنه مع ذلك أسٍ قوي مكين لا يستطيع قانون أن يؤدي وظيفته بدونه ولا يقوى على تحقيق غرضه إذا لم يقم هذا الدور منه على أساس متين.
والبحث يدعونا إلى تقديم كلمة موجزة عن مشروع لجنة الإصلاح.
اطلعت على مشروع هذا القانون بجريدة الأهرام الصادرة في 10 مارس سنة 1927 فوجدته ينقسم إلى ثلاثة أبواب.
الباب الأول من المادة الأولى إلى المادة (15): هو صورة من قانون التحضير الحالي مع تعديل بسيط في مواده فيما يختص بالغرامة وإضافة فقرة على المادة التاسعة توجب تحويل قضايا على كل جلسة بقدر ما تستطيع المحكمة نظره فيها وكذلك إضافة المادة (15) التي تنص على أن ترفع قضايا معينة إلى المحكمة بدون تقديمها إلى قاضي التحضير وهي الدعاوى المستعجلة بنص القانون ودعاوى نزع الملكية ودعاوى استحقاق العقار الفرعية وكنا نأمل بعد أن ثبت بالعمل ضعف نتائج هذا القانون وتبين أن قوته على تلافي كثرة التأجيلات مستحيلة كنا نأمل أن نفكر اللجنة في إصلاحه إصلاحًا جديًا إن لم تضع لنا قانونًا جديدًا.
لقد أضافت إليه اللجنة بابًا ثانيًا يشتمل على المواد (16) و(17) و(18).
ثم بابًا ثالثًا هو باب الأحكام العامة ومن يتأمل يجد أن هذا الباب بقطع النظر عن تتابع المواد وتتالي الأبواب مستقل قائم بذاته جاءت أحكامه في مجموعها شبيهة بالتعليمات الإدارية بعيدة كل البعد عن النصوص التشريعية.
إن طبيعة قانون التحضير بحالته الحاضرة جدبة مستعصية مهما بذر المشرع فيها لن تجد بذوره من ماء الحياة الصحيحة ما يغذيها ونحن شديدو الحاجة إلى قانون صحيح الجسم خصيب التربة يحوط الدعوى بما يضمن الإخلاص في تحضيرها ويبعث في الإجراءات حياة جديدة بأن يكل للقاضي من أمرها بقدر ما ينتزع من الخصوم حرية الخطأ في إدارتها وسياسة التسويف والمماطلة في السير بها هذه خطتنا في الإصلاح ندل الآن على طريقة تحقيقها ولنبدأ بالقضاء الكلي نتكلم فيه.
أولاً: عما يجب اتباعه من الإجراءات بمجرد تقديم الدعوى إلى المحكمة حتى جلسة التحضير.
ثانيًا: جلسة التحضير نفسها:
1 - قاضٍ واحد هو رئيس الدائرة أو أحد أعضائها الذي يقوم فيها بتحضير قضايا الدائرة.
2 - وظيفة هذه الجلسة وبيان اختصاص القاضي الذي يوكل إليه أمرها.
3 - إحالة الدعوى بعد استيفاء تحضيرها على جلسات المرافعات.
ثالثًا: مشروع قانون بهذا النظام:
الإجراءات التي يجب اتباعها من يوم تقديم الدعوى إلى المحكمة حتى جلسة التحضير
من أهم ما يجب لفت النظر إليه أن تكون إدارة الدعوى من يوم تقديمها إلى أن يتم الفصل فيها بيد قاضي الموضوع، بهذا المبدأ نضمن حسن تنفيذ قوانين المرافعات ونصل إلى تحقيق الغرض منها وأول عمل يستوجب تدخل القاضي في أمرها هو تعيين جلساتها وتحديد العدد الذي يقدم منها لكل جلسة من تلك الجلسات لما يقتضيه الأمر من خبرة وحكمة وإذا كانت أولى هذه الجلسات هي جلسة التحضير فلننظر ما إذا أريد بها بحسب مشروع القانون الجديد.
إن هذا المشروع أغفل أمر تحديدها ولم يتعرض له وذلك معناه ترك الأمر كما كان وجرى العمل أن يقوم قاضي التحضير بنفسه بهذه المهمة وذلك عُرف جميل لولا اضطرار القضاة إلى تأديته أداءً آليًا يترتب عليه أن يأتي التحديد غير منتج، إن هذه مهمة من أصعب المهمات تتطلب فطنة وذكاء وحسن تقدير وتقتضي درس القضية درسًا وافيًا ومعرفة المستندات المراد إعدادها معرفة دقيقة وهو ما لا يتيسر للقاضي إلا إذا ألزمنا المدعي أن يبين في عريضة دعواه جميع وجوه الإثبات التي يعتمد عليها في تأييد مدعاة وأن يذكرها دليلاً دليلاً بالدقة والوضوح (تراجع المادة (1) من المشروع الملحق بهذه المذكرة).
بغير ذلك تأتي جداول هذه الجلسات مرتبكة وغير مرتبة ترتيبًا مقصودًا وليس لها ضابط معين وتمتلئ الجلسات بقضايا مختلفة الوصف كثيرة العدد لم يتمكن الخصوم أن يجهزوا لها أوراقهم ومستنداتهم وذلك ما يضطر القاضي مهما وسعت حيلته أن يؤجل جزءًا كبيرًا منها ولن يكون التأجيل إلا إلى جلسات بعيدة لأن جميع الجلسات القريبة تكون مشحونة بالقضايا وليس في تحميل جداولها بأكثر مما فيها إلا زيادة الأمر ارتباكًا… ولكثرة التأجيلات حد تنفذ عنده حيلة قضاة التحضير فيضطرون في النهاية إلى أن يحيلوا القضايا على جلسات المرافعات ولو كانت غير ناضجة التحضير ومثل جلسة التحضير جلسة المرافعات بل هي أشد في ارتباكها وأدهى.. بجداولها قضايا قديمة حددت المحكمة هذه الجلسة لنظرها بقرار تأجيل وقضايا جديدة أحالها عليها قاضي التحضير منها المحضرة ومنها غير ناضجة التحضير وأخرى جاءت مباشرةً عن طريق المحضرين والخصوم كالقضايا المستعجلة وغيرها (المادة (15) من مشروع القانون)… فهل ادعى إلى الارتباك من هذا النظام ؟! إن اشتراك قضاة الموضوع وقضاة التحضير ثم المحضرين والخصوم إن اشتراك هؤلاء جميعًا في إحالة القضايا على الجلسات هو الذي يشل حركة المحكمة ولا يساعد القضاة مهما كان اجتهادهم على الوصول إلى غاياتهم.
أيكفي بعد ذلك أن يُضاف على المادة التاسعة فقرة تقضي بأنه يجب على القاضي ألا يحيل على كل جلسة من القضايا إلا العدد الذي تستطيع المحكمة نظره بدون أن تضطر إلى تأجيل بعضه لضيق الوقت لتكون مرهمًا شافيًا لهذا الجرح الخطير.
إن ذلك لن يغير من الواقع شيئًا.
أن القضاة يعلمون ذلك ولا يجهلونه وهم يبذلون غاية جهدهم في أن تكون قرارات الإحالة حكيمة ما استطاعوا ولكن يتضاءل اجتهادهم أمام فساد النظام وتذهب كل محاولتهم هباءً.
أما عن الجلسة الأولى في المحاكم الجزئية والاستئنافية فلم يأتِ المشرع أيضًا بجديد وذلك معناه ترك أمر هذا التحديد بيد المحضرين والخصوم.
إن تحديد هذه الجلسة وغيرها من الجلسات يجب ألا يكون عملاً ميكانيكيًا فما نشأت الفوضى وما ارتبكت جلسات المحاكم إلا بسبب إهمال هذا التحديد.
وفي اعتقادنا أن الإصلاح لن يكون منتجًا إلا إذا انتزعنا سلطة الخصوم والمحضرين في أمر هذا التحديد وإن نكل ذلك إلى قاضي الموضوع وما كان منها بيد قاضي التحضير نتوصل إلى جعله بيد قضاة الموضوع بأن يكون واحد منهم (هو رئيس الدائرة أو أحد أعضائها) المنوط به تحديد قضايا دائرته في جلسة خاصة للتحضير (وهناك أسباب أخرى ستأتي في باب خاص تستوجب أن يقوم بالتحضير أحد قضاة الموضوع).
بهذا نجعل تعيين الجلسات وتحديد عدد ما يقدم إليها من القضايا بيد واحدة هي يد قاضي الموضوع وبهذا التوحيد في العمل نضمن حسن سيره ونضمن محو التأجيلات التي يسببها ضيق الوقت من نظام الجلسات.
ولنبين الآن طريق العمل بمجرد تقديم عرائض الدعوى إلى المحكمة تحول في الحال على مختلف الدوائر.
ويقوم بعملية التحويل قلم الكتاب أو قلم يخصص لذلك وتنظيم هذا التحويل يكون بتخصيص كل دائرة بنوع معين من القضايا.. أو بنظر قضايا جهات معينة.. أو يكون التخصيص بحسب نمر القضايا فيقدم لكل دائرة عددًا منها بقدر ما يتقدم للأخرى.. أو بحسب الحروف الهجائية لأسماء الخصوم.
وهذا هو رأي حضرات المستشارين بمحكمة الاستئناف العليا بالقاهرة الذي بسطه بالنيابة عنهم للجنة الإصلاح المسيو سودان مكتفين به عن جلسات التوزيع.
وهو رأي عملي وجيه تسير عليه المحاكم النمساوية فلكل محكمة قلم خاص ومهمته استلام جميع ما يقدم للمحكمة وتوزيعه في نفس اليوم أو اليوم التالي على الأكثر على دوائرها وأقلامها المختلفة.
(تراجع محاضرة المسيو بيولا كازولي في المرافعات النمساوية وفيها أبدى إعجابه بهذا القلم وهي منشورة بمجلة مصر العصرية العدد 13 ليناير سنة 1913).
ومتى قدمت هذه العرائض إلى الدوائر يقوم رئيس كل دائرة منها بدارستها وعلى حاصل هذه الدراسة تحدد الجلسة الأولى (تراجع الفقرة الأولى من المادة الثانية من مشروع القانون الملحق بهذه المذكرة).
وفوق أن هذا التحديد لن يكون بعد عملاً ميكانيكيًا لأن أسامة إلمام القاضي بالدعوى وفهمه لموضوعها زيادة على معرفته حقيقة القضايا الأخرى المؤجلة إلى هذه الجلسة وهو ما يساعد على أن يأتي التحديد دقيقًا وتوزيع القضايا على الجلسات عادلاً فوق ذلك فإن الأخذ بهذا النظام يغنينا عن المادة (15), وهي الإضافة الجديدة بحسب مشروع لجنة الإصلاح على قانون قاضي التحضير والتي تقضي بأن ترفع القضايا الآتية إلى المحكمة مباشرةً بدون تقديمها إلى قاضي التحضير.
1 - الدعاوى المستعجلة بنص القانون.
2 - دعاوى نزع الملكية.
3 - دعاوى استحقاق العقار الفرعية.
لأنه إذا كانت طبيعة هذه القضايا تتنافر تنافرًا كليًا مع إحالتها على التحضير بحسب نظامه الحالي الذي يعطل سير الدعاوى من غير شك نوعًا ما والذي شرع اختصاصه لأغراض محدودة معينة ولم يشرع ليؤثر على إجراءات هذا النوع من القضايا التي لا يصح أن تسلك سبيل الدعاوى العادية فلن يكون في الأمر بحسب هذا النظام الجديد الذي نتقدم به داعيًا لهذا التحديد إذ ستعرض جميع عرائض الدعاوى على رئيس الدائرة فيحدد للمستعجل منها جلسة مرافعات وكذلك للقضايا التي تتوقف أهميتها على سرعة الفصل فيها وتقضي طبيعتها سرعة نظرها ولو أنها ليست مستعجلة بنص القانون وسيراعى بالطبع أنها لا تحتاج كغيرها من القضايا إلى تحضير (تراجع المادة (3) من المشروع الملحق بالمذكرة)..
هذا النوع الأخير من القضايا مع أنه سهل بسيط سوى نظام التحضير الحالي في الإجراءات بينه وبين أصعب القضايا وأكثرها تعقيدًا, فنرى قضية مبناها سند رسمي أو سند عرفي غير متنازع فيه أو كمبيالة تتعثر في إجراءاتها زمنًا طويلاً وتمر بنفس الأدوار التي تمر بها قضية ملكية عقارات متشعبة الأطراف ومترامية الذيول…، ونحن لا نستطيع الاعتراض على المشرع في أنه لم يجعلها مما نصت عليه المادة (15) الجديدة فترفع إلى المحكمة مباشرةً بدون تقديمها إلى قاضي التحضير إذ لا قدرة للشارع على تعيينها ولا مجال له في تحديدها.
وفي اعتقادنا أن ترك الأمر كله لفطنة القاضي وحسن تقديره أصوب وأضمن ولا نظن القضاة يدعون قضية تتخطى جلسة التحضير إلى جلسات المرافعات إلا إذا كانت ظروفها تدعو لذلك وطبيعتها تقتضيه ولأن عاقبة تسامحهم أو تهاونهم ما يلقونه أمامهم من قضايا غير ناضجة في جلسات المرافعات.
عيوب الشكل:
وليس ما قدمنا كل ما نستفيده من تدخل القاضي في أمر الدعوى وإدارته لحركتها بمجرد تقديمها فقد يتفق وجود خطأ في شكلها أو نقص أو سهو في بيان ما فيأمر بإصلاحه ونتجنب بذلك أمرًا قد كان يدعو إلى البطلان خصوصًا وقانون مرافعاتنا يعطي مريد التمسك بهذا الدفع سلاحًا حادًا إذ يسمح له بالتغيب ثم بالتمسك بدفعه في المعارضة أو الاستئناف (المادة (138) مرافعات أهلي)، وهكذا بينما تكون القضية قد اقتربت من نهايتها إذا بها يتهدم بنيانها وينهار كل ما اتخذ في سبيلها من أعمال وإجراءات.
اختصاص المحكمة:
كذلك يتحقق القاضي من اختصاص المحكمة بنظر الدعوى قبل أن يحدد لها جلسة وقبل أن يأمر بالإعلان, ذلك مبدأ المرافعات الحديثة يوجب على المحاكم من تلقاء نفسها مراعاة مسائل الاختصاص، ويوجب عليها كذلك متى تبين لها عدم اختصاصها إحالة الدعوى على المحكمة صاحبة الاختصاص فتصل المحاكم بذلك إلى القيام بالعدالة كما ينبغي إذ تصحح للمتقاضين أعمالهم وتساعدهم على نيل حقوقهم من غير أن تؤاخذهم بما نسوا أو أخطأوا… على عكس هذا المبدأ جاءت قوانيننا (المواد (134) و(25) مرافعات أهلي)، فليس لمحاكمنا أن تحكم من تلقاء نفسها بعدم الاختصاص إلا إذا كان ذلك ناشئًا عن عدم وظيفتها في الحكم…، فإن اعترض على اختصاصها وقضت بذلك لا تستطيع إحالة الدعوى على المحكمة المختصة إلا باتفاق الخصوم.. !! (25 أهلي).
فماذا أدخل المشروع على هذه القواعد الفاسدة من التعديلات ؟
في الدعاوى التي تنظر أمام المحاكم الجزئية والاستئناف العليا بقي الأمر فيها كما كان بل أن المواد (16) و(17) و(18) من المشروع الجديد الخاصة بهذه المحاكم فوق إغفالها أمر الاختصاص لا تشير مطلقًا إلى إدخال نظام التحضير أمام هذه المحاكم.
فإذا قضى نحس الطالع على المدعي أمامها بأن يرفع قضية إلى محكمة منها لم تكن مختصة فأبسط ما يفعله المدعى عليه غير المتعنت هو أن يدفع بعدم الاختصاص ولا سلطة للقاضي في إحالة القضية على المحكمة المختصة بدون إعلانات ولا رسوم جديدة إلا إذا اتفق الخصمان !! وهل هذا مقام اتفاق !؟ النتيجة دفع رسوم جديدة لإعلانات وإجراءات جديدة أمام محكمة أخرى قد تكون أيضًا غير مختصة.
أما المتعنت فيتغيب حتى يصدر عليه حكم غيابي ويبدأ في تنفيذه فلا يعارض أو يعارض ولا يحضر ثم يستأنف ويدفع بعدم الاختصاص !! النتيجة لا يستطيع تحملها المشرع، مصاريف دعوى استوت ونضجت في أهم أدوارها ومجهودات وسعى أشهر أو سنين ضاعت كلها على المدعي هباءً ووجب عليه تجديد دعواه.
أما في الدعاوى الكلية فلم يأتِ المشرع بجديد إذ الفقرة الخامسة من المادة التاسعة هي بحرفها أحد نصوص قانون التحضير الحالي (لقاضي التحضير في حالة اتفاق الخصوم الحكم في الدفع بعدم الاختصاص)، ولن يتفق الخصوم…. والنتيجة ضم الدفع على الموضوع لتفصل فيهما المحكمة (المادة 10 تحضير) بل الأدهى من ذلك والأمر أنه يجوز إبداء هذا الدفع لأول مرة أمام المحكمة دون تقديمه لقاضي التحضير (المادة 14 تحضير)، والمحكمة بدورها إن قضت بعدم اختصاصها لن تستطيع إحالة الدعوى على المحكمة صاحبة الأمر (25).
إن ما ينتاب المتقاضين من ضياع ما لهم ووقتهم وجهودهم بسبب عدم الفصل في هذا الدفع وغيره من الدفوع أثناء مرحلة التحضير يوجب علينا أن نحكم نظامنا فلا تصل الدعوى جلسة المرافعات إلا مطهره من كل ما يعرقل سيرها لأن هذه إن لازمتها تعمل على تأخير الفصل فيها وقد لا تزال فيها حتى تفنيها.
لكل ما تقدم نرى أن تعرض عرائض الدعاوى على رؤساء الدوائر ليدرسوها قبل أن يحددوا جلستها الأولى وقبل أن يأمروا بإعلانها ليتبينوا اختصاص المحكمة بنظرها وعدم خلو الخصوم عن الصفة فيها أو كونهم غير أهل للتقاضي وليتأكدوا عدم وجود خطأ في شكلها يدعو إلى البطلان و إلا أمروا بإصلاحه قبل السير بالدعوى.
فإن رأوا العريضة مستوفاة كل شيء حددوا الجلسة الأولى وأمروا بإشارة صغيرة على نفس العريضة قلم الكتاب بإعلانها للخصوم.
أما إن ظهر لهم غير ذلك ورأوا العريضة غير مستوفاة فعليهم أن يعرضوا الأمر على الدائرة بغرفة مشورتها وكذلك من غير حاجة لحضور أحد الخصوم لتقضي إما بتحديد الجلسة وإما برفض ذلك.
(تراجع المادة الثانية من المشروع الملحق بهذه المذكرة).
إننا نتوصل بهذا النظام إلى مساعدة المتقاضين وإرشادهم بتصحيح الأغلاط وبتجنب أسباب البطلان وسقوط الحقوق وبمنع الأضرار التي تنتج عن التمسك الواهي بأهداب النصوص خصوصًا وأن المطلع على أسرار المحاكم عندنا يجد أن مهارة المحامي منحصرة في أغلب الأحيان في البحث وراء مسائل المرافعات الدقيقة يتمسك بها في الوقت المناسب فيهدم دعوى خصمه ويفلت بذلك من سلطان القانون المدني وبدلاً من أن تصرف المحاكم وقتها في البحث في موضوع الحقوق تضطر في نظامنا الحاضر إلى البحث في أوجه البطلان والدفوع الفرعية المختلفة وعلى الخصوص أوجه الدفع بعدم الاختصاص.
ومما تحسن الإشارة إليه هنا أن لائحة ترتيب المحاكم الشرعية (مادة 104) أباحت للمحكمة أن تقضي من تلقاء نفسها بعدم الاختصاص إن كان سببه أن القضية من خصائص محكمة أخرى أدنى منها أو أن الخصم لا يصح مخاصمته وغير ذلك وهو وجيه من بعض الوجوه ويستدل منه على أن فكرة المشرع تتجه الآن نحو إعطاء المحكمة حق الفصل في هذه المسائل من تلقاء نفسها.
إعلان الخصوم:
قوانيننا لا تبيح الإعلان إلا بواسطة المحضرين وتتجاهل كل الوسائل الأخرى كأنه لا يرجى منها فائدة قضائية أو كان استعمالها محال أن يحاط بضمانٍ كافٍ وقلة عدد المحضرين وكثرة أعمالهم قد تكفي وحدها في كثير من الأحوال لفوات الغرض من الدعوى أو لسقوط الحق بفوات الميعاد من قبل الإعلان.
ومندوبو المحضرين الذين شرعت وظيفتهم لتسهيل أعمال المحضرين فرض عليهم القانون اتخاذ إجراءات معينة إذا لم يراعِ كل إجراء منها وقد تستحيل مراعاته قد يفسد الدعوى ويستوجب البطلان.
هذه بعض آفات النظام الحالي ليس من قصدي هنا أن أشرحها فكل الذين اشتغلوا بالقضاء يعلمونها ولا يجهلون أن التقاضي أمام المحاكم أصبح أمنية المدين المماطل وغاية قد يسعى في بعض الظروف إليها لاعتقاده أن ذلك يستغرق وقتًا أوسع كثيرًا من مهلة يجود بها عليه الدائن، إنما واجبي أن أبين سبيل الإصلاح وأدل على طريق العمل الذي يكفل سرعة إيصال أوراق المرافعات للمتقاضين بما لا يخرج عن نظامنا الحالي ولا يتنافر معه.
قضت المادة الأولى من قانون المرافعات أن كل إعلان أو إخبار يقع من بعض الخصوم لبعضهم يكون بواسطة المحضرين بناءً على أمر المحكمة التابعة لها إلخ فوساطة المحضر لازمة حتمًا لإعلان أوراق المرافعات وإلا ما أمكن التمسك بها على الخصم المعلن وما جاز أن يترتب عليها أي أثر ما مثلاً الخطابات الموصى عليها المرسلة عن طريق البريد لا يعتمد عليها حتى لو كانت مستكملة لبيانات أوراق المحضرين ونحن وإن كنا نرى ضروريًا أن يكون إلى جانب المحضرين من يساعدهم في العمل كما سنبينه إلا أننا نؤيد من هذه المادة وجهة نظر المشرع في عدم إباحته للخصوم أن يتبادلوا الإعلانات وغيرها من أوراق المرافعات مباشرةً عن طريق البريد.
نعم نحن نعلم أن بلادًا غير قليلة تقر طريقة الإعلان بالبوستة وتستخدم أحيانًا كذلك التلغراف والتليفون وليس هذا فقط فإن قانوننا الأهلي له حظه وإن كان ضئيلاً في تقرير الإعلان بهذه الطريقة إذ أجازت المادة الخامسة من القانون نمرة (11) لسنة 1921, المتعلقة بتقييد أجور المساكن استعمال الخطابات الموصى عليها في بعض الأحوال وكذلك نص من بعده القانون الناسخ للقانون الأول على أحوال شتى يستعمل فيها الخطاب الموصى عليه استعمالاً قانونيًا صحيحًا، ولكن بالرغم من كل هذا نرى أن إدخال نظام الإعلان بالبريد كقاعدة لنا طفرة تأباها طبيعة العمل ولا يحتملها النظام الحالي.
إن الإصلاح لا يكون عن طريق نقل نظام أجنبي بجملته مهما ثبت نجاحه لأن طريق النقل محفوف بالمخاطر إنما ما لا خطر فيه ولا ضرر منه أن نتعلم عن القوانين الأجنبية ما يساعدنا على تهذيب قوانيننا على هداها فنعدل فيها أو ندخل عليها ما يبعث في مجموعها حياة جديدة من غير أن تتعارض نصوصها أو تتزعزع أركان وجهتها العامة.
إن قيام المحضرين بواجبهم كما ينبغي أصبح الآن مستحيلاً ولقد شعر المشرع بذلك من قبل فعالج الأمر بالمادة (11) التي تنص على أنه إذا اقتضى الحال إعلان أي ورقة إلى من يكون محله بعيدًا عن مسكن المحضر جاز للقاضي أن يعين أي شخص لتوصيل الورقة المراد إعلانها وجرت العادة أن يكون هذا الشخص مندوب المحضر وبصرف النظر عن الشروط التي يستلزمها القانون لصحة الإعلان بهذه الطريقة نرى أن الفكرة في إيجاد شخص إلى جانب المحضرين يساعدهم ويسهل عليهم أعمالهم وجيهة وقيمة ولكن إن صح فيما مضى أن يكون هذا الشخص مندوب المحضر لما كانت الأعمال التي تزيد عن طاقة المحضرين ويعهد بها إلى هؤلاء المندوبين قليلة واستثنائية فنحن نرى الآن وقد كثرت هذه الأعمال وتزايدت ضرورة أن يقوم بهذه المهمة إلى جانب المحضرين سعاة البريد.
نعم نحن لا نرى أن يتبادل الخصوم الإعلانات والأوراق مباشرةً عن طريق البريد ولكنا ننصح باستخدام البوستة استخدامًا جزئيًا دقيقًا بتكليف سعاتها عن طريق المحكمة أن يؤدوا عمل مندوبي المحضرين فيقوموا بتسليم أوراق المرافعات التي تكل المحكمة إليهم أمر إعلانها إلى المتقاضين.
وفوق أن هذا العمل لا يختلف في طبيعته عن عملهم ولا يقتضي إدخال الفكرة في نظامنا أي تعديل أو تغيير فإننا نصل بذلك إلى تحقيق النتائج التي وصلت إليها القوانين الأجنبية بتقريرها الإعلان بالبريد من طريق عملي آمن عاقبة وآكد نتيجة.
أنه يغلب أن يكون بالبلاد التي بها محاكم مكاتب للبريد فما الذي يمنع أن يمر عمالها بالمحكمة فيستلمون الأوراق التي يراد إعلانها لتوصيلها للمتقاضين ولضبط العمل يوقعون مثلاً على دفتر خاص به بيان كافٍ عن هذه الأوراق على أن يأتوا كذلك عند عودتهم بما يفيد أنهم أدوا هذه الأمانات إلى أهلها على أنه من السهل أن نضع نظامًا محكمًا يحوط العمل بما يضمن الإخلاص في إنفاذه والأمانة في الجري عليه.
إننا نصل بذلك إلى إعلان الأوراق بمجرد تقديمها للمحكمة إذ دورة السعاة يومية وخطة سيرهم معينة ومرورهم كل يوم على جميع أنحاء الدولة مؤكد بعكس المحضرين الذين مهما أكثرنا من عددهم مستحيل أن ينتقلوا إلا إذا تجمعت لديهم مئات الإعلانات والأوراق يعلنونها كلها في دورة واحدة وبحسب خطة السير التي يرسمونها.
إننا ندعو إلى الأخذ بهذا الرأي لنحقق غرضًا من أسمى أغراض المرافعات هو سرعتها ونتجنب بذلك حالة تؤدي غالبًا إلى بطلان جميع الإجراءات التي تمت وتذهب بالمال الذي أُنفق وبالوقت الذي مضى في عملها إدراج الرياح.
وإذا علمنا أن للمصاريف القضائية أمام المحاكم تعريفه ما تركت ورقة من أوراق المرافعات ولا عملاً من أعمالها إلا وضعت عليه رسمًا فادحًا وأن جزءًا كبيرًا من تلك المصاريف يذهب هباءً في أجور انتقال المحضرين ومندوبيهم من بلد إلى بلد ومن قرية إلى قرية وفي بدل سفرياتهم مع أن أعمالهم من أولها إلى آخرها مشكوك بل مطعون في صحتها فكم يتوفر على الناس وعلى خزائن المحاكم من أموال ؟
كذلك ليس في فهم القانون على هذا الشكل قهر لألفاظه على غير معانيها ولا خروج بفكرة المشرع إلى غير ما وضعت له بل ذلك هو الحل العملي الذي تهدينا إليه مقارنة الشرائع ونستفيده من نتائج المشاهدات في منشآت القوانين الأجنبية.
بهذا النظام لا تحتاج القضية من يوم تقديمها إلى المحكمة إلى تحديد جلستها الأولى ثم إعلان الخصوم بها لأكثر من بضعة أيام.
موعد تقديم المستندات:
على الإثبات يتوقف الحكم في الدعوى فإذا لم يقدم الطالب جميع وسائل إثباته من مستندات وغيرها فإن المحكمة تضطر أن تمهله المرة بعد المرة والوقت بعد الوقت حتى يقدم ما لم يقدمه من قبل ولا يبعد عن الفكر أن تأجيل قضية كان يجب أن تنظر في جلسة محددة يجلب الفوضى في إدارة القضاء ويدخل البطء عليه ويضر بحقوق المتخاصمين الآخرين أن الخصوم يجب ألا يتركوا أحرارًا في تقديم مستنداتهم على حسب أهوائهم وفي المواعيد التي توافق أمزجتهم والواجب يقضي أن تقدم جميعها قبل أو جلسة.
ولقد عالجت لجنة الإصلاح الأمر في العبارة الأولى من المادة (16) من مشروعها فنص على أنه يجب على المدعي أمام المحاكم الجزئية وعلى رافع الاستئناف أن يودع مستنداته قبل أول جلسة تحدد لنظر الدعوى، أما المبدأ في ذاته فمعقول ومقبول جدًا ولكن هيهات أن يتحقق النص في العمل، أنه لا يكفي في نظرنا مجرد النص فإن ذلك يبقى غير ذي أثر إن لم يشرع القانون له من الضمانات ما يلزم لحسن التنفيذ، من أجل ذلك نرى أن يكون الزمن المعطى للمدعي كافيًا ليقدم فيه أوراقه ويحضر جميع وجوه أدلته كل هذا بدون تقتير في الوقت ولا إسراف فيه وإلا انقلب اليسر عسرًا على صاحب الحق وأصبحت المرافعات مرذولة ببطئها وتأخيرها.
ومن أجل ذلك أيضًا رأينا أن من واجب القاضي وحده دون الخصوم أو المحضرين تعيين الجلسات، بهذا نضمن أن يكون هذا الأجل منتجًا ونستطيع أن نجعل سير القضايا سريعًا ومحكمًا وتحضيرها عاجلاً والوصول إلى الحكم فيها قريبًا, وبفرض إهمال الخصوم بعد هذا الاحتياط نرى حتى لا يكون على المحكمة حرج في رفض مستند ذي أهمية في الدعوى أن نترك الأمر لتقديرها فإن وجدت عذر المدعي قويًا ورأت من مصلحة سير العدالة قبول المستند قضت بذلك و إلا فصلت في الدعوى على حاصل ما هو أمامها.
ولقد عرض المسيو سودان رأيًا يرمي إلى حجز المستندات بعد الفصل في الدعوى ابتدائيًا ويرى منع تسليمها للمتقاضين حتى يرفع الاستئناف ويتم الفصل فيه إن ذلك لهو التحكم بعينه في الخصوم إذ فيه سلب صريح لحريتهم واختيارهم وتعطيل لأوراقهم ومستنداتهم قد تتسبب لهم من وراءه أضرارًا بليغة.
إن المرافعات ضمانات تحمي المتقاضي من خصمه كما تحميه من تحكم القاضي أو خطئه ولا يغيبن عن المشرع أن القضاة أفراد كباقي الأفراد تختلف طريقتهم في الحكم والإدراك ولا بد لضمان حقوق المتقاضين من ضوابط وأصول يلزم القاضي باتباعها ويستطيع المتقاضي أن يحتمي بها، ضوابط معينة وأصول عادية تمحو الفوضى وتقف أمام الاجتهادات الذاتية التي تجول بخاطر القاضي وتمنعه من العمل برأيه وغرضه وتكفل للمتقاضين حريتهم وتحفظ لهم حقوقهم وتصير القضاء سمحًا كريمًا.
السنة العاشرة - 1929، 1930
بحث في طرق إصلاح نظام التحضير وتعميمه أمام القضاء الأهلي الجزئي والكلي والاستئنافي
ترمي قوانين المرافعات إلى إيصال الحقوق لأصحابها بأسهل الطرق وأسرع والإجراءات وأقل المصاريف هذه غاية المرافعات ورغبة المتقاضين وواجب المشرع.
وإذا كانت فكرة الإصلاح مقصورة الآن على إعداد نظام للتحضير يهيئ للدعوى سبيلها حتى تحال على المرافعات صالحة لها ممهدة للأحكام صدورها فسنبين السبيل الذي نراه في هذه المرحلة الأولى من مراحل الإجراءات أوفى بالغرض وآكد في النتيجة.
نعم لن تكون لهذه المرحلة وحدها كل القوة التي تكون لها لو أن الإصلاح جاء عامًا شاملاً حيث نرى عيوب قانون المرافعات كثيرة ووجوه النقص فيه متعددة لكنه مع ذلك أسٍ قوي مكين لا يستطيع قانون أن يؤدي وظيفته بدونه ولا يقوى على تحقيق غرضه إذا لم يقم هذا الدور منه على أساس متين.
والبحث يدعونا إلى تقديم كلمة موجزة عن مشروع لجنة الإصلاح.
اطلعت على مشروع هذا القانون بجريدة الأهرام الصادرة في 10 مارس سنة 1927 فوجدته ينقسم إلى ثلاثة أبواب.
الباب الأول من المادة الأولى إلى المادة (15): هو صورة من قانون التحضير الحالي مع تعديل بسيط في مواده فيما يختص بالغرامة وإضافة فقرة على المادة التاسعة توجب تحويل قضايا على كل جلسة بقدر ما تستطيع المحكمة نظره فيها وكذلك إضافة المادة (15) التي تنص على أن ترفع قضايا معينة إلى المحكمة بدون تقديمها إلى قاضي التحضير وهي الدعاوى المستعجلة بنص القانون ودعاوى نزع الملكية ودعاوى استحقاق العقار الفرعية وكنا نأمل بعد أن ثبت بالعمل ضعف نتائج هذا القانون وتبين أن قوته على تلافي كثرة التأجيلات مستحيلة كنا نأمل أن نفكر اللجنة في إصلاحه إصلاحًا جديًا إن لم تضع لنا قانونًا جديدًا.
لقد أضافت إليه اللجنة بابًا ثانيًا يشتمل على المواد (16) و(17) و(18).
ثم بابًا ثالثًا هو باب الأحكام العامة ومن يتأمل يجد أن هذا الباب بقطع النظر عن تتابع المواد وتتالي الأبواب مستقل قائم بذاته جاءت أحكامه في مجموعها شبيهة بالتعليمات الإدارية بعيدة كل البعد عن النصوص التشريعية.
إن طبيعة قانون التحضير بحالته الحاضرة جدبة مستعصية مهما بذر المشرع فيها لن تجد بذوره من ماء الحياة الصحيحة ما يغذيها ونحن شديدو الحاجة إلى قانون صحيح الجسم خصيب التربة يحوط الدعوى بما يضمن الإخلاص في تحضيرها ويبعث في الإجراءات حياة جديدة بأن يكل للقاضي من أمرها بقدر ما ينتزع من الخصوم حرية الخطأ في إدارتها وسياسة التسويف والمماطلة في السير بها هذه خطتنا في الإصلاح ندل الآن على طريقة تحقيقها ولنبدأ بالقضاء الكلي نتكلم فيه.
أولاً: عما يجب اتباعه من الإجراءات بمجرد تقديم الدعوى إلى المحكمة حتى جلسة التحضير.
ثانيًا: جلسة التحضير نفسها:
1 - قاضٍ واحد هو رئيس الدائرة أو أحد أعضائها الذي يقوم فيها بتحضير قضايا الدائرة.
2 - وظيفة هذه الجلسة وبيان اختصاص القاضي الذي يوكل إليه أمرها.
3 - إحالة الدعوى بعد استيفاء تحضيرها على جلسات المرافعات.
ثالثًا: مشروع قانون بهذا النظام:
الإجراءات التي يجب اتباعها من يوم تقديم الدعوى إلى المحكمة حتى جلسة التحضير
من أهم ما يجب لفت النظر إليه أن تكون إدارة الدعوى من يوم تقديمها إلى أن يتم الفصل فيها بيد قاضي الموضوع، بهذا المبدأ نضمن حسن تنفيذ قوانين المرافعات ونصل إلى تحقيق الغرض منها وأول عمل يستوجب تدخل القاضي في أمرها هو تعيين جلساتها وتحديد العدد الذي يقدم منها لكل جلسة من تلك الجلسات لما يقتضيه الأمر من خبرة وحكمة وإذا كانت أولى هذه الجلسات هي جلسة التحضير فلننظر ما إذا أريد بها بحسب مشروع القانون الجديد.
إن هذا المشروع أغفل أمر تحديدها ولم يتعرض له وذلك معناه ترك الأمر كما كان وجرى العمل أن يقوم قاضي التحضير بنفسه بهذه المهمة وذلك عُرف جميل لولا اضطرار القضاة إلى تأديته أداءً آليًا يترتب عليه أن يأتي التحديد غير منتج، إن هذه مهمة من أصعب المهمات تتطلب فطنة وذكاء وحسن تقدير وتقتضي درس القضية درسًا وافيًا ومعرفة المستندات المراد إعدادها معرفة دقيقة وهو ما لا يتيسر للقاضي إلا إذا ألزمنا المدعي أن يبين في عريضة دعواه جميع وجوه الإثبات التي يعتمد عليها في تأييد مدعاة وأن يذكرها دليلاً دليلاً بالدقة والوضوح (تراجع المادة (1) من المشروع الملحق بهذه المذكرة).
بغير ذلك تأتي جداول هذه الجلسات مرتبكة وغير مرتبة ترتيبًا مقصودًا وليس لها ضابط معين وتمتلئ الجلسات بقضايا مختلفة الوصف كثيرة العدد لم يتمكن الخصوم أن يجهزوا لها أوراقهم ومستنداتهم وذلك ما يضطر القاضي مهما وسعت حيلته أن يؤجل جزءًا كبيرًا منها ولن يكون التأجيل إلا إلى جلسات بعيدة لأن جميع الجلسات القريبة تكون مشحونة بالقضايا وليس في تحميل جداولها بأكثر مما فيها إلا زيادة الأمر ارتباكًا… ولكثرة التأجيلات حد تنفذ عنده حيلة قضاة التحضير فيضطرون في النهاية إلى أن يحيلوا القضايا على جلسات المرافعات ولو كانت غير ناضجة التحضير ومثل جلسة التحضير جلسة المرافعات بل هي أشد في ارتباكها وأدهى.. بجداولها قضايا قديمة حددت المحكمة هذه الجلسة لنظرها بقرار تأجيل وقضايا جديدة أحالها عليها قاضي التحضير منها المحضرة ومنها غير ناضجة التحضير وأخرى جاءت مباشرةً عن طريق المحضرين والخصوم كالقضايا المستعجلة وغيرها (المادة (15) من مشروع القانون)… فهل ادعى إلى الارتباك من هذا النظام ؟! إن اشتراك قضاة الموضوع وقضاة التحضير ثم المحضرين والخصوم إن اشتراك هؤلاء جميعًا في إحالة القضايا على الجلسات هو الذي يشل حركة المحكمة ولا يساعد القضاة مهما كان اجتهادهم على الوصول إلى غاياتهم.
أيكفي بعد ذلك أن يُضاف على المادة التاسعة فقرة تقضي بأنه يجب على القاضي ألا يحيل على كل جلسة من القضايا إلا العدد الذي تستطيع المحكمة نظره بدون أن تضطر إلى تأجيل بعضه لضيق الوقت لتكون مرهمًا شافيًا لهذا الجرح الخطير.
إن ذلك لن يغير من الواقع شيئًا.
أن القضاة يعلمون ذلك ولا يجهلونه وهم يبذلون غاية جهدهم في أن تكون قرارات الإحالة حكيمة ما استطاعوا ولكن يتضاءل اجتهادهم أمام فساد النظام وتذهب كل محاولتهم هباءً.
أما عن الجلسة الأولى في المحاكم الجزئية والاستئنافية فلم يأتِ المشرع أيضًا بجديد وذلك معناه ترك أمر هذا التحديد بيد المحضرين والخصوم.
إن تحديد هذه الجلسة وغيرها من الجلسات يجب ألا يكون عملاً ميكانيكيًا فما نشأت الفوضى وما ارتبكت جلسات المحاكم إلا بسبب إهمال هذا التحديد.
وفي اعتقادنا أن الإصلاح لن يكون منتجًا إلا إذا انتزعنا سلطة الخصوم والمحضرين في أمر هذا التحديد وإن نكل ذلك إلى قاضي الموضوع وما كان منها بيد قاضي التحضير نتوصل إلى جعله بيد قضاة الموضوع بأن يكون واحد منهم (هو رئيس الدائرة أو أحد أعضائها) المنوط به تحديد قضايا دائرته في جلسة خاصة للتحضير (وهناك أسباب أخرى ستأتي في باب خاص تستوجب أن يقوم بالتحضير أحد قضاة الموضوع).
بهذا نجعل تعيين الجلسات وتحديد عدد ما يقدم إليها من القضايا بيد واحدة هي يد قاضي الموضوع وبهذا التوحيد في العمل نضمن حسن سيره ونضمن محو التأجيلات التي يسببها ضيق الوقت من نظام الجلسات.
ولنبين الآن طريق العمل بمجرد تقديم عرائض الدعوى إلى المحكمة تحول في الحال على مختلف الدوائر.
ويقوم بعملية التحويل قلم الكتاب أو قلم يخصص لذلك وتنظيم هذا التحويل يكون بتخصيص كل دائرة بنوع معين من القضايا.. أو بنظر قضايا جهات معينة.. أو يكون التخصيص بحسب نمر القضايا فيقدم لكل دائرة عددًا منها بقدر ما يتقدم للأخرى.. أو بحسب الحروف الهجائية لأسماء الخصوم.
وهذا هو رأي حضرات المستشارين بمحكمة الاستئناف العليا بالقاهرة الذي بسطه بالنيابة عنهم للجنة الإصلاح المسيو سودان مكتفين به عن جلسات التوزيع.
وهو رأي عملي وجيه تسير عليه المحاكم النمساوية فلكل محكمة قلم خاص ومهمته استلام جميع ما يقدم للمحكمة وتوزيعه في نفس اليوم أو اليوم التالي على الأكثر على دوائرها وأقلامها المختلفة.
(تراجع محاضرة المسيو بيولا كازولي في المرافعات النمساوية وفيها أبدى إعجابه بهذا القلم وهي منشورة بمجلة مصر العصرية العدد 13 ليناير سنة 1913).
ومتى قدمت هذه العرائض إلى الدوائر يقوم رئيس كل دائرة منها بدارستها وعلى حاصل هذه الدراسة تحدد الجلسة الأولى (تراجع الفقرة الأولى من المادة الثانية من مشروع القانون الملحق بهذه المذكرة).
وفوق أن هذا التحديد لن يكون بعد عملاً ميكانيكيًا لأن أسامة إلمام القاضي بالدعوى وفهمه لموضوعها زيادة على معرفته حقيقة القضايا الأخرى المؤجلة إلى هذه الجلسة وهو ما يساعد على أن يأتي التحديد دقيقًا وتوزيع القضايا على الجلسات عادلاً فوق ذلك فإن الأخذ بهذا النظام يغنينا عن المادة (15), وهي الإضافة الجديدة بحسب مشروع لجنة الإصلاح على قانون قاضي التحضير والتي تقضي بأن ترفع القضايا الآتية إلى المحكمة مباشرةً بدون تقديمها إلى قاضي التحضير.
1 - الدعاوى المستعجلة بنص القانون.
2 - دعاوى نزع الملكية.
3 - دعاوى استحقاق العقار الفرعية.
لأنه إذا كانت طبيعة هذه القضايا تتنافر تنافرًا كليًا مع إحالتها على التحضير بحسب نظامه الحالي الذي يعطل سير الدعاوى من غير شك نوعًا ما والذي شرع اختصاصه لأغراض محدودة معينة ولم يشرع ليؤثر على إجراءات هذا النوع من القضايا التي لا يصح أن تسلك سبيل الدعاوى العادية فلن يكون في الأمر بحسب هذا النظام الجديد الذي نتقدم به داعيًا لهذا التحديد إذ ستعرض جميع عرائض الدعاوى على رئيس الدائرة فيحدد للمستعجل منها جلسة مرافعات وكذلك للقضايا التي تتوقف أهميتها على سرعة الفصل فيها وتقضي طبيعتها سرعة نظرها ولو أنها ليست مستعجلة بنص القانون وسيراعى بالطبع أنها لا تحتاج كغيرها من القضايا إلى تحضير (تراجع المادة (3) من المشروع الملحق بالمذكرة)..
هذا النوع الأخير من القضايا مع أنه سهل بسيط سوى نظام التحضير الحالي في الإجراءات بينه وبين أصعب القضايا وأكثرها تعقيدًا, فنرى قضية مبناها سند رسمي أو سند عرفي غير متنازع فيه أو كمبيالة تتعثر في إجراءاتها زمنًا طويلاً وتمر بنفس الأدوار التي تمر بها قضية ملكية عقارات متشعبة الأطراف ومترامية الذيول…، ونحن لا نستطيع الاعتراض على المشرع في أنه لم يجعلها مما نصت عليه المادة (15) الجديدة فترفع إلى المحكمة مباشرةً بدون تقديمها إلى قاضي التحضير إذ لا قدرة للشارع على تعيينها ولا مجال له في تحديدها.
وفي اعتقادنا أن ترك الأمر كله لفطنة القاضي وحسن تقديره أصوب وأضمن ولا نظن القضاة يدعون قضية تتخطى جلسة التحضير إلى جلسات المرافعات إلا إذا كانت ظروفها تدعو لذلك وطبيعتها تقتضيه ولأن عاقبة تسامحهم أو تهاونهم ما يلقونه أمامهم من قضايا غير ناضجة في جلسات المرافعات.
عيوب الشكل:
وليس ما قدمنا كل ما نستفيده من تدخل القاضي في أمر الدعوى وإدارته لحركتها بمجرد تقديمها فقد يتفق وجود خطأ في شكلها أو نقص أو سهو في بيان ما فيأمر بإصلاحه ونتجنب بذلك أمرًا قد كان يدعو إلى البطلان خصوصًا وقانون مرافعاتنا يعطي مريد التمسك بهذا الدفع سلاحًا حادًا إذ يسمح له بالتغيب ثم بالتمسك بدفعه في المعارضة أو الاستئناف (المادة (138) مرافعات أهلي)، وهكذا بينما تكون القضية قد اقتربت من نهايتها إذا بها يتهدم بنيانها وينهار كل ما اتخذ في سبيلها من أعمال وإجراءات.
اختصاص المحكمة:
كذلك يتحقق القاضي من اختصاص المحكمة بنظر الدعوى قبل أن يحدد لها جلسة وقبل أن يأمر بالإعلان, ذلك مبدأ المرافعات الحديثة يوجب على المحاكم من تلقاء نفسها مراعاة مسائل الاختصاص، ويوجب عليها كذلك متى تبين لها عدم اختصاصها إحالة الدعوى على المحكمة صاحبة الاختصاص فتصل المحاكم بذلك إلى القيام بالعدالة كما ينبغي إذ تصحح للمتقاضين أعمالهم وتساعدهم على نيل حقوقهم من غير أن تؤاخذهم بما نسوا أو أخطأوا… على عكس هذا المبدأ جاءت قوانيننا (المواد (134) و(25) مرافعات أهلي)، فليس لمحاكمنا أن تحكم من تلقاء نفسها بعدم الاختصاص إلا إذا كان ذلك ناشئًا عن عدم وظيفتها في الحكم…، فإن اعترض على اختصاصها وقضت بذلك لا تستطيع إحالة الدعوى على المحكمة المختصة إلا باتفاق الخصوم.. !! (25 أهلي).
فماذا أدخل المشروع على هذه القواعد الفاسدة من التعديلات ؟
في الدعاوى التي تنظر أمام المحاكم الجزئية والاستئناف العليا بقي الأمر فيها كما كان بل أن المواد (16) و(17) و(18) من المشروع الجديد الخاصة بهذه المحاكم فوق إغفالها أمر الاختصاص لا تشير مطلقًا إلى إدخال نظام التحضير أمام هذه المحاكم.
فإذا قضى نحس الطالع على المدعي أمامها بأن يرفع قضية إلى محكمة منها لم تكن مختصة فأبسط ما يفعله المدعى عليه غير المتعنت هو أن يدفع بعدم الاختصاص ولا سلطة للقاضي في إحالة القضية على المحكمة المختصة بدون إعلانات ولا رسوم جديدة إلا إذا اتفق الخصمان !! وهل هذا مقام اتفاق !؟ النتيجة دفع رسوم جديدة لإعلانات وإجراءات جديدة أمام محكمة أخرى قد تكون أيضًا غير مختصة.
أما المتعنت فيتغيب حتى يصدر عليه حكم غيابي ويبدأ في تنفيذه فلا يعارض أو يعارض ولا يحضر ثم يستأنف ويدفع بعدم الاختصاص !! النتيجة لا يستطيع تحملها المشرع، مصاريف دعوى استوت ونضجت في أهم أدوارها ومجهودات وسعى أشهر أو سنين ضاعت كلها على المدعي هباءً ووجب عليه تجديد دعواه.
أما في الدعاوى الكلية فلم يأتِ المشرع بجديد إذ الفقرة الخامسة من المادة التاسعة هي بحرفها أحد نصوص قانون التحضير الحالي (لقاضي التحضير في حالة اتفاق الخصوم الحكم في الدفع بعدم الاختصاص)، ولن يتفق الخصوم…. والنتيجة ضم الدفع على الموضوع لتفصل فيهما المحكمة (المادة 10 تحضير) بل الأدهى من ذلك والأمر أنه يجوز إبداء هذا الدفع لأول مرة أمام المحكمة دون تقديمه لقاضي التحضير (المادة 14 تحضير)، والمحكمة بدورها إن قضت بعدم اختصاصها لن تستطيع إحالة الدعوى على المحكمة صاحبة الأمر (25).
إن ما ينتاب المتقاضين من ضياع ما لهم ووقتهم وجهودهم بسبب عدم الفصل في هذا الدفع وغيره من الدفوع أثناء مرحلة التحضير يوجب علينا أن نحكم نظامنا فلا تصل الدعوى جلسة المرافعات إلا مطهره من كل ما يعرقل سيرها لأن هذه إن لازمتها تعمل على تأخير الفصل فيها وقد لا تزال فيها حتى تفنيها.
لكل ما تقدم نرى أن تعرض عرائض الدعاوى على رؤساء الدوائر ليدرسوها قبل أن يحددوا جلستها الأولى وقبل أن يأمروا بإعلانها ليتبينوا اختصاص المحكمة بنظرها وعدم خلو الخصوم عن الصفة فيها أو كونهم غير أهل للتقاضي وليتأكدوا عدم وجود خطأ في شكلها يدعو إلى البطلان و إلا أمروا بإصلاحه قبل السير بالدعوى.
فإن رأوا العريضة مستوفاة كل شيء حددوا الجلسة الأولى وأمروا بإشارة صغيرة على نفس العريضة قلم الكتاب بإعلانها للخصوم.
أما إن ظهر لهم غير ذلك ورأوا العريضة غير مستوفاة فعليهم أن يعرضوا الأمر على الدائرة بغرفة مشورتها وكذلك من غير حاجة لحضور أحد الخصوم لتقضي إما بتحديد الجلسة وإما برفض ذلك.
(تراجع المادة الثانية من المشروع الملحق بهذه المذكرة).
إننا نتوصل بهذا النظام إلى مساعدة المتقاضين وإرشادهم بتصحيح الأغلاط وبتجنب أسباب البطلان وسقوط الحقوق وبمنع الأضرار التي تنتج عن التمسك الواهي بأهداب النصوص خصوصًا وأن المطلع على أسرار المحاكم عندنا يجد أن مهارة المحامي منحصرة في أغلب الأحيان في البحث وراء مسائل المرافعات الدقيقة يتمسك بها في الوقت المناسب فيهدم دعوى خصمه ويفلت بذلك من سلطان القانون المدني وبدلاً من أن تصرف المحاكم وقتها في البحث في موضوع الحقوق تضطر في نظامنا الحاضر إلى البحث في أوجه البطلان والدفوع الفرعية المختلفة وعلى الخصوص أوجه الدفع بعدم الاختصاص.
ومما تحسن الإشارة إليه هنا أن لائحة ترتيب المحاكم الشرعية (مادة 104) أباحت للمحكمة أن تقضي من تلقاء نفسها بعدم الاختصاص إن كان سببه أن القضية من خصائص محكمة أخرى أدنى منها أو أن الخصم لا يصح مخاصمته وغير ذلك وهو وجيه من بعض الوجوه ويستدل منه على أن فكرة المشرع تتجه الآن نحو إعطاء المحكمة حق الفصل في هذه المسائل من تلقاء نفسها.
إعلان الخصوم:
قوانيننا لا تبيح الإعلان إلا بواسطة المحضرين وتتجاهل كل الوسائل الأخرى كأنه لا يرجى منها فائدة قضائية أو كان استعمالها محال أن يحاط بضمانٍ كافٍ وقلة عدد المحضرين وكثرة أعمالهم قد تكفي وحدها في كثير من الأحوال لفوات الغرض من الدعوى أو لسقوط الحق بفوات الميعاد من قبل الإعلان.
ومندوبو المحضرين الذين شرعت وظيفتهم لتسهيل أعمال المحضرين فرض عليهم القانون اتخاذ إجراءات معينة إذا لم يراعِ كل إجراء منها وقد تستحيل مراعاته قد يفسد الدعوى ويستوجب البطلان.
هذه بعض آفات النظام الحالي ليس من قصدي هنا أن أشرحها فكل الذين اشتغلوا بالقضاء يعلمونها ولا يجهلون أن التقاضي أمام المحاكم أصبح أمنية المدين المماطل وغاية قد يسعى في بعض الظروف إليها لاعتقاده أن ذلك يستغرق وقتًا أوسع كثيرًا من مهلة يجود بها عليه الدائن، إنما واجبي أن أبين سبيل الإصلاح وأدل على طريق العمل الذي يكفل سرعة إيصال أوراق المرافعات للمتقاضين بما لا يخرج عن نظامنا الحالي ولا يتنافر معه.
قضت المادة الأولى من قانون المرافعات أن كل إعلان أو إخبار يقع من بعض الخصوم لبعضهم يكون بواسطة المحضرين بناءً على أمر المحكمة التابعة لها إلخ فوساطة المحضر لازمة حتمًا لإعلان أوراق المرافعات وإلا ما أمكن التمسك بها على الخصم المعلن وما جاز أن يترتب عليها أي أثر ما مثلاً الخطابات الموصى عليها المرسلة عن طريق البريد لا يعتمد عليها حتى لو كانت مستكملة لبيانات أوراق المحضرين ونحن وإن كنا نرى ضروريًا أن يكون إلى جانب المحضرين من يساعدهم في العمل كما سنبينه إلا أننا نؤيد من هذه المادة وجهة نظر المشرع في عدم إباحته للخصوم أن يتبادلوا الإعلانات وغيرها من أوراق المرافعات مباشرةً عن طريق البريد.
نعم نحن نعلم أن بلادًا غير قليلة تقر طريقة الإعلان بالبوستة وتستخدم أحيانًا كذلك التلغراف والتليفون وليس هذا فقط فإن قانوننا الأهلي له حظه وإن كان ضئيلاً في تقرير الإعلان بهذه الطريقة إذ أجازت المادة الخامسة من القانون نمرة (11) لسنة 1921, المتعلقة بتقييد أجور المساكن استعمال الخطابات الموصى عليها في بعض الأحوال وكذلك نص من بعده القانون الناسخ للقانون الأول على أحوال شتى يستعمل فيها الخطاب الموصى عليه استعمالاً قانونيًا صحيحًا، ولكن بالرغم من كل هذا نرى أن إدخال نظام الإعلان بالبريد كقاعدة لنا طفرة تأباها طبيعة العمل ولا يحتملها النظام الحالي.
إن الإصلاح لا يكون عن طريق نقل نظام أجنبي بجملته مهما ثبت نجاحه لأن طريق النقل محفوف بالمخاطر إنما ما لا خطر فيه ولا ضرر منه أن نتعلم عن القوانين الأجنبية ما يساعدنا على تهذيب قوانيننا على هداها فنعدل فيها أو ندخل عليها ما يبعث في مجموعها حياة جديدة من غير أن تتعارض نصوصها أو تتزعزع أركان وجهتها العامة.
إن قيام المحضرين بواجبهم كما ينبغي أصبح الآن مستحيلاً ولقد شعر المشرع بذلك من قبل فعالج الأمر بالمادة (11) التي تنص على أنه إذا اقتضى الحال إعلان أي ورقة إلى من يكون محله بعيدًا عن مسكن المحضر جاز للقاضي أن يعين أي شخص لتوصيل الورقة المراد إعلانها وجرت العادة أن يكون هذا الشخص مندوب المحضر وبصرف النظر عن الشروط التي يستلزمها القانون لصحة الإعلان بهذه الطريقة نرى أن الفكرة في إيجاد شخص إلى جانب المحضرين يساعدهم ويسهل عليهم أعمالهم وجيهة وقيمة ولكن إن صح فيما مضى أن يكون هذا الشخص مندوب المحضر لما كانت الأعمال التي تزيد عن طاقة المحضرين ويعهد بها إلى هؤلاء المندوبين قليلة واستثنائية فنحن نرى الآن وقد كثرت هذه الأعمال وتزايدت ضرورة أن يقوم بهذه المهمة إلى جانب المحضرين سعاة البريد.
نعم نحن لا نرى أن يتبادل الخصوم الإعلانات والأوراق مباشرةً عن طريق البريد ولكنا ننصح باستخدام البوستة استخدامًا جزئيًا دقيقًا بتكليف سعاتها عن طريق المحكمة أن يؤدوا عمل مندوبي المحضرين فيقوموا بتسليم أوراق المرافعات التي تكل المحكمة إليهم أمر إعلانها إلى المتقاضين.
وفوق أن هذا العمل لا يختلف في طبيعته عن عملهم ولا يقتضي إدخال الفكرة في نظامنا أي تعديل أو تغيير فإننا نصل بذلك إلى تحقيق النتائج التي وصلت إليها القوانين الأجنبية بتقريرها الإعلان بالبريد من طريق عملي آمن عاقبة وآكد نتيجة.
أنه يغلب أن يكون بالبلاد التي بها محاكم مكاتب للبريد فما الذي يمنع أن يمر عمالها بالمحكمة فيستلمون الأوراق التي يراد إعلانها لتوصيلها للمتقاضين ولضبط العمل يوقعون مثلاً على دفتر خاص به بيان كافٍ عن هذه الأوراق على أن يأتوا كذلك عند عودتهم بما يفيد أنهم أدوا هذه الأمانات إلى أهلها على أنه من السهل أن نضع نظامًا محكمًا يحوط العمل بما يضمن الإخلاص في إنفاذه والأمانة في الجري عليه.
إننا نصل بذلك إلى إعلان الأوراق بمجرد تقديمها للمحكمة إذ دورة السعاة يومية وخطة سيرهم معينة ومرورهم كل يوم على جميع أنحاء الدولة مؤكد بعكس المحضرين الذين مهما أكثرنا من عددهم مستحيل أن ينتقلوا إلا إذا تجمعت لديهم مئات الإعلانات والأوراق يعلنونها كلها في دورة واحدة وبحسب خطة السير التي يرسمونها.
إننا ندعو إلى الأخذ بهذا الرأي لنحقق غرضًا من أسمى أغراض المرافعات هو سرعتها ونتجنب بذلك حالة تؤدي غالبًا إلى بطلان جميع الإجراءات التي تمت وتذهب بالمال الذي أُنفق وبالوقت الذي مضى في عملها إدراج الرياح.
وإذا علمنا أن للمصاريف القضائية أمام المحاكم تعريفه ما تركت ورقة من أوراق المرافعات ولا عملاً من أعمالها إلا وضعت عليه رسمًا فادحًا وأن جزءًا كبيرًا من تلك المصاريف يذهب هباءً في أجور انتقال المحضرين ومندوبيهم من بلد إلى بلد ومن قرية إلى قرية وفي بدل سفرياتهم مع أن أعمالهم من أولها إلى آخرها مشكوك بل مطعون في صحتها فكم يتوفر على الناس وعلى خزائن المحاكم من أموال ؟
كذلك ليس في فهم القانون على هذا الشكل قهر لألفاظه على غير معانيها ولا خروج بفكرة المشرع إلى غير ما وضعت له بل ذلك هو الحل العملي الذي تهدينا إليه مقارنة الشرائع ونستفيده من نتائج المشاهدات في منشآت القوانين الأجنبية.
بهذا النظام لا تحتاج القضية من يوم تقديمها إلى المحكمة إلى تحديد جلستها الأولى ثم إعلان الخصوم بها لأكثر من بضعة أيام.
موعد تقديم المستندات:
على الإثبات يتوقف الحكم في الدعوى فإذا لم يقدم الطالب جميع وسائل إثباته من مستندات وغيرها فإن المحكمة تضطر أن تمهله المرة بعد المرة والوقت بعد الوقت حتى يقدم ما لم يقدمه من قبل ولا يبعد عن الفكر أن تأجيل قضية كان يجب أن تنظر في جلسة محددة يجلب الفوضى في إدارة القضاء ويدخل البطء عليه ويضر بحقوق المتخاصمين الآخرين أن الخصوم يجب ألا يتركوا أحرارًا في تقديم مستنداتهم على حسب أهوائهم وفي المواعيد التي توافق أمزجتهم والواجب يقضي أن تقدم جميعها قبل أو جلسة.
ولقد عالجت لجنة الإصلاح الأمر في العبارة الأولى من المادة (16) من مشروعها فنص على أنه يجب على المدعي أمام المحاكم الجزئية وعلى رافع الاستئناف أن يودع مستنداته قبل أول جلسة تحدد لنظر الدعوى، أما المبدأ في ذاته فمعقول ومقبول جدًا ولكن هيهات أن يتحقق النص في العمل، أنه لا يكفي في نظرنا مجرد النص فإن ذلك يبقى غير ذي أثر إن لم يشرع القانون له من الضمانات ما يلزم لحسن التنفيذ، من أجل ذلك نرى أن يكون الزمن المعطى للمدعي كافيًا ليقدم فيه أوراقه ويحضر جميع وجوه أدلته كل هذا بدون تقتير في الوقت ولا إسراف فيه وإلا انقلب اليسر عسرًا على صاحب الحق وأصبحت المرافعات مرذولة ببطئها وتأخيرها.
ومن أجل ذلك أيضًا رأينا أن من واجب القاضي وحده دون الخصوم أو المحضرين تعيين الجلسات، بهذا نضمن أن يكون هذا الأجل منتجًا ونستطيع أن نجعل سير القضايا سريعًا ومحكمًا وتحضيرها عاجلاً والوصول إلى الحكم فيها قريبًا, وبفرض إهمال الخصوم بعد هذا الاحتياط نرى حتى لا يكون على المحكمة حرج في رفض مستند ذي أهمية في الدعوى أن نترك الأمر لتقديرها فإن وجدت عذر المدعي قويًا ورأت من مصلحة سير العدالة قبول المستند قضت بذلك و إلا فصلت في الدعوى على حاصل ما هو أمامها.
ولقد عرض المسيو سودان رأيًا يرمي إلى حجز المستندات بعد الفصل في الدعوى ابتدائيًا ويرى منع تسليمها للمتقاضين حتى يرفع الاستئناف ويتم الفصل فيه إن ذلك لهو التحكم بعينه في الخصوم إذ فيه سلب صريح لحريتهم واختيارهم وتعطيل لأوراقهم ومستنداتهم قد تتسبب لهم من وراءه أضرارًا بليغة.
إن المرافعات ضمانات تحمي المتقاضي من خصمه كما تحميه من تحكم القاضي أو خطئه ولا يغيبن عن المشرع أن القضاة أفراد كباقي الأفراد تختلف طريقتهم في الحكم والإدراك ولا بد لضمان حقوق المتقاضين من ضوابط وأصول يلزم القاضي باتباعها ويستطيع المتقاضي أن يحتمي بها، ضوابط معينة وأصول عادية تمحو الفوضى وتقف أمام الاجتهادات الذاتية التي تجول بخاطر القاضي وتمنعه من العمل برأيه وغرضه وتكفل للمتقاضين حريتهم وتحفظ لهم حقوقهم وتصير القضاء سمحًا كريمًا.