في صحبتك ويا ضيعة العلم بفعلتك" لأحد أصدقائه لزلة وقع فيها بعد أن كان
أعبد العباد وأعلم العلماء، ولكنه أخطأ وزلّ، عندما قال إن القرآن مخلوق؛
خوفاً من بطش المأمون، رغم قولهم بأن القرآن كلام الله عز وجل وكفى.
وهكذا
قيلت في الرجل هذه المقولة؛ لأنه أخطأ بعد أن كان ما كان، رغم عطائه
الشديد، فهل غفر له عطاؤه ما فعل، وسواء عفا عنه الناس أم لم يعفوا، فهل
يقلل هذا من جرم ما اختتم به حياته؟
هي حكاية تقال في الأثر قد تصحّ وقد لا، ولكنها تلقي علينا بحكمة كبيرة وهي "العبرة بالخواتيم"..
فلقد
قرأت مقالا للكاتب المتميز أ.عاطف حسانين عن إقامة جنازة عسكرية لمبارك،
ووجدت أن الكلمات تكتب ذاتها معي، بعد أن قرأت هذا، مع احترامي الشديد
للأستاذ عاطف، ولكني أبغي أن أناقش الفكرة ذاتها..
هل بالجنازات العسكرية يرتفع قدر الإنسان عند الله، أو مقدار تقديره واحترامه وحبه في قلوب الناس؟
وهل بدونها يحطّ قدره؟!
فسواء
أقاموا لمبارك جنازة عسكرية أم لم يقيموا فهل سيرفع هذا عنه عذاب الله يوم
القيامة إن شاء الله، عن كل ما ارتكبه في حق هذا البلد وأهله وهو الراعي
المفترض به أنه مسئول عن رعيته؟!
وهناك مئات وربما الآلاف الأمثلة
التي لم تقم لها جنازات عسكرية، ولكن الشعوب أقامت لها أضرحة أبدية في
قلوبها، وجنازات شعبية طالت الأفاق.. ولو عددنا بعض الأسماء فسنجد منها:
الشيخ
الشعراوي؛ فلقد مات رحمه الله وهو علامة في الدين ولم تقم له جنازة
عسكرية، ولكن حبه في قلوب الناس أقام له جنازة شعبية لم يشهدها أحد من قبل،
فهل كونه لم تُقم له جنازة عسكرية سينقص هذا من قدره عند الله عز وجل، وإن
كنا أقمنا له جنازة عسكرية هل كانت سترفع قدره عند الله أو عند محبيه؟!
ومات
الفنان عبد الحليم حافظ ولم تقم له جنازة عسكرية بل حب الناس له جعلها
جنازة شعبية رهيبة، حتى إن بعضهم قتل نفسه حزنا عليه بصرف النظر عن صحة
الفعل وخطئه، ولكن بلغ من قلوب الناس أن تفعل ذلك من أجله..
ومات
سعد الدين الشاذلي البطل العظيم مهندس حرب أكتوبر الحقيقي، الذي أذلّه
مبارك وأودعه السجن فهل أقيمت له جنازة عسكرية؟؟ وهل يقلل هذا من بطولات
الرجل، ومن أنه رغم أن كل ما فعله النظام السابق لطمس الحقائق حوله وتشويه
صورته ما زال في قلوب الجميع، بينما تصبّ اللعنات فوق رأس من سجنه؟
عمل
الإنسان هو ما يجعله مشرفا عند الله وعند الناس، ولا يهمه أن يشرّفه البشر
عندما يموت أو أن تقام له الجنازات العسكرية أم لا تقام، فكم من شهداء لم
تعرف لهم هوية ولم تقم لهم جنائز بالمرة، بل منهم من يُلقى في البحر أثناء
الحرب، فهل إذا حُرموا الجنائز العسكرية تضيع هيبتهم عند الناس ومكانتهم
عند الله؟؟
الملك يموت ويُدفن في قبر مترين × متر، وحتى لو كان هذا
القبر مزخرفا من الخارج بالذهب والفضة -أو حتى بالرخام الطارد للذباب وبه
تليفون دولي- فبعد الموت لن يأخذ أكثر من هذا، وقطعا عمله إن كان خيرا أو
كان شرا، وإذا مات خادم الملك لن يأخذ إلا ما أخذه ملكه..
في عرفنا أنه عندما يموت الإنسان نطالب بأن يصلي عليه أكبر عدد من الناس؛ حتى تكون صلاتهم بردا وسلاما عليه.
ولا
يهمّ أن يحضر الناس العزاء الليلي الذي يقام في الغالب للتفاخر، أو تقام
لهم الجنائز العسكرية التي لا ينال منها الميت شيئا، ولكن هي مفاخرة أهل
الأرض من الأحياء..
عندما مات جمال عبد الناصر أقيمت له جنازة
عسكرية مهيبة، ولكن لم تستمر هذه الجنازة الرهيبة أكثر من نصف ساعة وكانت
الجماهير قد قفزت للسير في الجنازة حتى انتهى الوضع العسكري تماما وأصبحت
جنازة شعبية مهيبة رهيبة تحدّث عنها العالم أجمع، وكان هذا بسبب حب الناس
لجمال عبد الناصر، هذا وقع سواء أحببنا عبد الناصر أم كرهناه، ولكن في هذا
الوقت أحبه الناس حتى فعلوا هذا.
الفيصل في النهاية هو هل أصلح هذا
الشخص فأحبه الناس وأصبح موته في قلوبهم جنازة حقيقة، أم أساء حتى أصبح
القاصي والداني يلعنه بجنازة عسكرية أو بدونها؟؟
وهل حُلّت كافة
مشاكل مصر التي أوقعنا بها مبارك نفسه، حتى نهتم بجنازته وجودتها
وعسكريتها، فدعوا الأموات لما يرضاه الله لهم، وإن كان له حب في قلوب الناس
فستخرج مصر كلها لتوديعه أما إن لم يكن فالله أعلم..
مبارك ما زال حيا يُرزق.. فهل نبكيه قبل الهنا بسنة؟!