النصوص الواردة في ( مشكاة الأنوار/ الغزالي ت (505 هـ) - مصنف ومدقق ) ضمن الموضوع ( الفصل الأول: في بيان أن النور الحق هو الله تعالى وأن اسم النور لغيره مجاز محض لا حقيقه له )
في بيان أن النور الحق هو الله تعالى وأن اسم النور لغيره مجاز محض لا حقيقة له
وبيانه بأن يعرف معنى النور بالوضع الأول عند العوام، ثم بالوضع الثانى عند الخواص، ثم بالوضع الثالث عند خواص الخواص. ثم تعرف درجات الأنوار المذكورة المنسوبة إلى خواص الخواص وحقائقها لينكشف لك عند ظهور درجاتها أن الله تعالى هو النور الأعلى الأقصى، وعند انكشاف حقائقها أنه النور الحق الحقيقى وحده لا شريك له فيه.
أما الوضع الأول عند العامى فالنور يشير إلى الظهور، والظهور أمر إضافي: إذ يظهر الشىء لا محالة لإنسان ويبطن عن غيره: فيكون ظاهراً بالإضافة وباطناً بالإضافة. وإضافة ظهوره إلى الإدراكات لا محالة. وأقوى الإدراكات وأجلاها عند العوام الحواسُّ، ومنها حاسة البصر.
والأشياء بالإضافة إلى الحس البصرى ثلاثة أقسام:
منها ما لا يبصر بنفسه كالأجسام المظلمة.
(و 2ـ ب) ومنها ما يبصَر بنفسه ولا يبصَر به غيره كالأجسام المضيئة كالكواكب وجمرة النار إذا لم تكن مشتعلة.
ومنها ما يبصَر بنفسه ويبصَر به أيضاً غيره كالشمس والقمر والسراج والنيران المشتعلة.
والنور اسم لهذا القسم الثالث. تم تارة يطلق على ما يفيض من الأجسام على ظواهر الأجسام الكثيفة، فيقال استنارت الأرض ووقع نور الشمس على الأرض ونور السراج على الحائط والثوب. وتارة يطلق على نفس هذه الأجسام المشرقة لأنها أيضاً في نفسها مستنيرة.
وعلى الجملة فالنور عبارة عما يبصَر بنفسه ويبصَر به غير كالشمس. هذا حده وحقيقته بالوضع الأول.
دقيقة
لما كان سر النور وروحه هو الظهور للإدراك، وكان الإدراك موقوفاً على وجود النور وعلى وجود العين الباصرة أيضاً: إذ النور هو الظاهر المظهِر؛ وليس شىء من الأنوار ظاهراً في حق العميان ولا مظهراً. فقد تساوى الروح الباصرة والنور الظاهر في كونه ركناً لا بد منه للإدراك ثم ترجّح عليه في أن الروح الباصرة هى المدركة وبها الإدراك. وأما النور فليس بمدرك ولا به الإدراك، بل عنده الإدراك. فكان اسم النور بالنور الباصر أحق منه بالنور المبصَر.
وأطلقوا اسم النور على نور العين المبصرة فقالوا في الخفّاش إن نور عينه ضعيف، وفي الأعمش إنه ضعيف نور بصره، وفي الأعمى إنه فقد نور البصر، وفي السواد إنه يجمع نور البصر ويقويه، وإن الأجفان إنما خصتها الحكمة الإلهية بلون السواد وجعل العين محفوفة بها لتجمع ضوء العين. وأما البياض فيفرق ضوء العين ويضعف نوره، حتى إن إدامة النظر إلى البياض المشرق، بل إلى نور الشمس يبهر نور العين ويمحقه كما ينمحق الضعيف في جنب القوى. فقد عرفت بهذا أن (و 3ـ ا) الروح الباصر سمى نوراً، وأنه لم سمّى نوراً، وأنه لِمَ كان بهذا الاسم أولى. وهذا هو الوضع الثانى وهو وضع الخواص.
دقيقة
إعلم أن نور بصر العين موسوم بأنواع النقصان: فإنه يبصر غيره ولا يبصر نفسه، ولا يبصر ما بَعُد منه، ولا يبصر ما هو وراء حجاب. ويبصر من الأشياء ظاهرها دون باطنها؛ ويبصر من الموجودات بعضها دون كلها. ويبصر أشياء متناهية ولا يبصر ما لا نهاية له. ويغلط كثيراً في إبصاره: فيرى الكبير صغيراً والبعيد قريباً والساكن متحركاً والمتحرك ساكناً. فهذه سبع نقائص لا تفارق العين الظاهرة. فإن كان في الأعين عين منزهة عن هذه النقائص كلها فليت شعرى هل هو أولى باسم النور أم لا؟
واعلم أن في قلب الإنسان عيناً هذه صفة كمالها وهى التى يعبّر عنها تارة بالعقل وتارة بالروح وتارة بالنفس الإنسانى. ودعْ عنك العبارات فإنها إذا كثرت أوهَمَت عند ضعيف البصيرة كثرة المعانى. فنعنى به المعنى الذى يتميز به العاقل عن الطفل الرضيع وعن البهيمة وعن المجنون. ولنسمه "عقلاً" متابعة للجمهور في الاصطلاح فنقول:
العقل أولى بأن يسمى نوراً من العين الظاهرة لرفعة قدره عن النقائص السبع وهو أن العين لا تبصر نفسها، والعقل يدرك غيره ويدرك صفات نفسه: إذ يدرك نفسه عالماً وقادراً: ويدرك علم نفسه ويدرك علمه بعلم نفسه وعلمه بعلمه بعلم نفسه إلى غير نهاية. وهذه خاصية لا تتصور لما يدرك بآلة الأجسام. ووراءه سر يطول شرحه.
والثانى أن العين لا تبصر ما بَعُد منها ولا ما قرب منها قرباً مفرطاً: والعقل يستوى عنده القريب والبعيد: يعرج في تطريفة إلى أعلى السماوات رقياً، وينزل في لحظة إلى تخوم الأرضين هوِياً. بل إذا حقت الحقائق (و 3ـ ب) يكشف أنه منزه عن أن تحوم بجنبات قدسه معانى القرب والبعد الذى يفرض بين الأجسام، فإنه أنموذج من نور الله تعالى، ولا يخلو الأنموذج عن محاكاة، وإن كان لا يرقي إلى ذروة المساواة. وهذا ربما هزك للتفطن لسر قوله عليه السلام "إن الله خلق آدم على صورته" فلست أرى الخوض فيه الآن.
الثالث أن العين لا تدرك ما وراء الحجب، والعقل يتصرف في العرش والكرسى وما وراء حجب السماوات، وفي الملأ الأعلى والملكوت الأسمى كتصرفه في عالمه الخاص ومملكته القريبة أعنى بدنه الخاص. بل الحقائق كلها لا تحتجب عن العقل. وأما حجاب العقل حيث يحجب فمن نفسه لنفسه بسبب صفات هى مقارنة له تضاهى حجاب العين من نفسه عند تغميض الأجفان. وستعرف هذا في الفصل الثالث من الكتاب.
الرابع أن العين تدرك من الأشياء ظاهرها وسطحها الأعلى دون باطنها؛ بل قوالبها وصورها دون حَقائقها. والعقل يتغلغل إلى بواطن الأشياء وأسرارها ويدرك حقائقها وأرواحها، ويستنبط سببها وعلتها وغايتها وحكمتها، وأنها ممّ خلق، وكيف خلق، ولِم خلق، ومِن كم معنى جمع وركّب، وعلى أى مرتبة في الوجود نزل، وما نسبته إلى خالقها وما نسبتها إلى سائر مخلوقاته، إلى مباحث أُخر يطول شرحها نرى الإيجاز فيها أولى.
الخامس أن العين تبصر بعض الموجودات إذ تقصر عن جميع المعقولات وعن كثير من المحسوسات: إذ لا تدرك الأصوات والروائح والطعوم والحرارة والبرودة والقوى المدركة: أعنى (و 4ـ ا) قوة السمع والبصر والشم والذوق، بل الصفات الباطنة النفسانية كالفرح والسرور والغم والحزن والألم واللذة والعشق والشهوة والقدرة والإرادة والعلم إلى غير ذلك من موجودات لا تحصى ولا تعد؛ فهو ضيق المجال مختصر المجرى لا تسعه مجاوزة الألوان والأشكال وهما أخس الموجودات: فإن الأجسام في أصلها أخس أقسام الموجودات، والألوان والأشكال من أخس أعراضها.
فالموجودات كلها مجال العقل؛ إذ يدرك هذه الموجودات التى عددناها وما لم نعدّها، وهو الأكثر: فيتصرف في جميعها ويحكم عليها حكماً يقينياً صادقاً. فالأسرار الباطنة عنده ظاهرة، والمعانى الخفية عنده جلية. فمن أين للعين الظاهرة مساماته ومجاراته في استحقاق اسم النور؟ كلا إنها نور بالإضافة إلى غيرها؛ لكنها ظلمة بالإضافة إليه. بل هى جاسوس من جواسيسه؛ وكله بأخس خزائنه وهى خزانة الألوان والأشكال لترفع إلى حضرته أخبارها فيقضى فيها بما يقتضيه رأيه الثاقب وحكمه النافذ. والحواس الخمس جواسيسه. وله في الباطن جواسيس سواها من خيال ووهم وفكر وذكر وحفظ؛ ووراءهم خدم وجنود مسخرة له في عالمه الخاص يستسخرهم ويتصرف فيهم استسخار الملك عبيده بل أشد. وشرح ذلك يطول.
وقد ذكرناه في كتاب "عجائب القلب" من كتب الإحياء.
السادس أن العين لا تبصر ما لا نهاية له، فإنها تبصر صفات الأجسام والأجسام لا تتصور إلا متناهية.
والعقل يدرك المعلومات؛ والمعلومات لا يتصور أن تكون متناهية. نعم إذا لاحظ العلوم المفصلة فلا يكون الحاضر الحاصل عنده إلا متناهياً. لكن في قوته إدراك ما لا نهاية له. وشرح ذلك يطول. (و 4ـ ب) فإن أردت له مثالاً فخذه من الجليات، فإنه يدرك الأعداد ولا نهاية لها؛ بل يدرك تضعيفات الاثنين والثلاثة وسائر الأعداد ولا يتصور لها نهاية. ويدرك أنواعاً من النسب بين الأعداد لا يتصور التناهى عليها: بل يدرك علمه بالشىء وعلمه بعلمه بالشىء، وعلمه بعلمه بعلمه. فقوته في هذا الواحد لا تقف عند نهاية.
السابع أن العين تبصر الكبير صغيراً. فترى الشمس في مقدار مَجنّ والكواكب في صور دنانير منثورة على بساط أزرق. والعقل يدرك أن الكواكب والشمس أكبر من الأرض أضعافاً مضاعفة؛ والعين ترى الكواكب ساكنة، بل ترى الظل بين يديه ساكناً. وترى الصبى ساكناً في مقداره، والعقل يدرك أن الصبى متحرك في النشوء والتزايد على الدوام. والظل متحرك دائماً، والكواكب تتحرك في كل لحظة أميالاً كثيرة كما قال صلى الله عليه لجبريل عليه السلام: "أزالت الشمس"؟ فقال لا: نعم! قال كيف؟ قال "منذ قلت، لا إلى أن قلت، نعم، : قد تحرك مسيرة خمسمائة سنة".
وأنواع غلط البصر كثيرة، والعقل منزه عنها. فإن قلت: نرى العقلاء يغلطون في نظرهم فاعلم أن فيهم خيالات وأوهاماً واعتقادات يظنون أحكامها أحكام العقل؛ فالغلط منسوب إليها. وقد شرحنا مجامعها في كتاب "معيار العلم" وكتاب "محك النظر".
فأما العقل إذا تجرد عن غشاوة الوهم والخيال لم يتصور أن يغلط؛ بل رأى الأشياء على ما هى عليه، وفي تجريده عسر عظيم. وإنما يكمل تجرده عن هذه النوازع بعد الموت، وعند ذلك ينكشف الغطاء وتنجلى الأسرار ويصادف كل أحد ما قدم من خير أو شرُ محضّراً؛ ويشاهد كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وعنده يقال (و 5ـ ا) {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ} . وإنما الغطاء غطاء الخيال والوهم وغيرهما؛ وعندما يقول المغرور بأوهامه واعتقاداته الفاسدة وخيالاته الباطلة {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً} الآية.
فقد عرفت بهذا أن العين أولى باسم النور من النور المعروف، ثم عرفت أن العقل أولى باسم النور من العين. بل بينهما من التفاوت ما يصح معه أن يقال إنه أولى بل الحق أنه المستحق للاسم دونه.
دقيقة
اعلم أن العقول وإن كانت مبصرة، فليست المبصرات كلها عندها على وتيرة واحدة، بل بعضها يكون عندها كأنه حاضر كالعلوم الضرورية مثل علمه بأن الشىء الواحد لا يكون قديماً حادثاً ولا يكون موجوداً معدوماً، والقول الواحد لا يكون صدقاً وكذباً، وأن الحكم إذا ثبت للشىء جوازه ثبت لمثله، وأن الأخص إذا كان موجوداً كان الأعم واجب الوجود: فإذا وجد السواد فقد وجد اللون، وإذا وجد الإنسان فقد وجد الحيوان. وأما عكسه فلا يلزم في العقل، إذ لا يلزم من وجود اللون وجود السواد ولا من وجود الحيوان وجود الإنسان إلى غير ذلك من القضايا الضرورية في الواجبات والجائزات والمستحيلات. ومنها ما لا يقارن العقلَ في كل حال إذا عرض عليه بل يحتاج إلى أن يهز أعطافه ويستورى زناده وينبه عليه بالتنبيه كالنظريات. وإنما ينبهه كلام الحكمة. فعند إشراق نور الحكمة يصير العقل مبصراً بالفعل بعد أن كان مبصراً بالقوة. وأعظم الحكمة كلام الله تعالى. ومن جملة كلامه القرآن خاصة، فتكون منزلة آيات القرآن عند عين العقل منزلة نور الشمس عند العين الظاهرة إذ به يتم الإبصار. فبالحرِىّ أن يسمى القرآن نوراً كما يسمى نور الشمس نوراً (و 5ـ ب) فمثال القرآن نور الشمس ومثال العقل نور العين. وبهذا نفهم معنى قوله: {فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلنّورِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلْنَا} ، وقوله: {قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً}.
تكملة هذه الدقيقة
فقد فهمت من هذا أن العين عينان: ظاهرة وباطنة: فالظاهرة من عالم الحس والشهادة، والباطنة من عالم آخر وهو عالم الملكوت. ولكل عين من العينين شمس ونور عنده تصير كاملة الإبصار إحداهما ظاهرة والأخرى باطنة؛ والظاهرة من عالم الشهادة وهى الشمس المحسوسة. والباطنة من عالم الملكوت وهو القرآن وكتب الله تعالى المنزلة.
ومهما انكشف لك هذا انكشافاً تاماً فقد انفتح لك أول باب من أبواب الملكوت. وفي هذا العالم عجائب يستحقر بالإضافة إليها عالم الشهادة. وإن من لم يسافر إلى هذا العالم، وقعد به القصور في حضيض عالم الشهادة فهو بهيمة بعدُ، محروم عن خاصية الإنسان؛ بل أضل من البهيمة إذا لم تسعد البهيمة بأجنحة الطيران إلى هذا العالم. ولذلك قال الله تعالى : {أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}.
واعلم أن الشهادة بالإضافة إلى عالم الملكوت كالقشر بالإضافة إلى اللب، وكالصورة والقالب بالإضافة إلى الروح، وكالظلمة بالإضافة إلى النور، وكالسّفل بالإضافة إلى العلو. ولذلك يسمى عالم الملكوت العالم العلوى والعالم الروحانى والعالم النورانى. وفي مقابلته السفلى والجسمانى والظلمانى.
ولا تظن أنّا نعنى بالعالم العلوى السماوات فإنها علو وفوق في حق عالم الشهادة والحس، ويشارك في إدراكه البهائم. وأما العبد فلا يفتح له باب الملكوت ولا يصير ملكوتياً إلا (و 6ـ ا) ويبدل في حقه الأرض غير الأرض والسماوات فيصير كل داخل تحت الحس والخيال أرضه ومن جملة السماوات، وكل ما ارتفع عن الحس فسماؤه. وهذا هو المعراج الأول لكل سالك ابتدأ سفره إلى قرب الحضرة الربوبية. فالإنسان مردود إلى أسفل السافلين، ومنه يترقي إلى العالم الأعلى. وأما الملائكة فإنهم جملة عالم الملكوت عاكفون في حضرة القدوس، ومنها يشرفون إلى العالم الأسفل. ولذلك قال عليه السلام "إن الله خلق الخلق في ظلمة ثم أفاض عليهم من نوره" وقال: "إن لله ملائكة هو أعلم بأعمال الناس منهم" . والأنبياء إذا بلغ معراجهم المبلغ الأقصى وأشرفوا منه إلى السفل ونظروا من فوق إلى تحت اطلعوا أيضاً على قلوب العباد وأشرفوا على جملة من علوم الغيب: إذ من كان في عالم الملكوت كان عند الله تعالى - {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ} - أى من عندها تنزل أسباب الموجودات في عالم الشهادة؛ وعالم الشهادة أثر من آثار ذلك العالم، يجرى منه مجرى الظل بالإضافة إلى الشخص، ومجرى الثمرة بالإضافة إلى المثمر، والمسبب بالإضافة إلى السبب. ومفاتيح معرفة المسببات لا توجد إلا من الأسباب؛ ولذلك كان عالم الشهادة مثالاً لعالم الملكوت كما سيأتى في بيان المشكاة والمصباح والشجرة: لأن المسبب لا يخلو عن موازاة السبب ومحاكاته نوعاً من المحاكاة على قرب أو على بعد. وهذا لأن له غوْراً عميقاً. ومن اطلع على كنه حقيقته انكشف له حقائق أمثلة القرآن على يسر.
دقيقة ترجع إلى حقيقة النور
فنقول إن كان ما يبصر نفسه وغيره أولى باسم النور، فإن كان من جملة ما يبصر (به) غيره أيضاً مع أنه يبصر نفسه وغيره، فهو أولى، باسم النور من (و 6ـ ب) الذى لا يؤثر في غيره أصلاً، بل بالحرِىّ أن يسمى سراجاً منيراً لفيضان أنواره على غيره. وهذه الخاصية توجد للروح القدسى النبوى إذ تفيض بواسطته أنواع المعارف على الخلائق. وبهذا نفهم معنى تسمية الله محمد عليه السلام سراجاً منيراً. والأنبياء كلهم سُرُج، وكذلك العلماء، ولكن التفاوت بينهم لا يحصى.
دقيقة
إذا كان اللائق بالذى يستفاد منه نور الإبصار أن يسمى سراجاً منيراً فالذى يقتبس منه السراج في نفسه جدير بأن يكنى عنه بالنار. وهذه السرج الأرضية إنما تقتبس في أصلها من أنوار علوية. فالروح القدسى النبوى يكاد زيته يضىء ولو لم تمسسه نار. ولكن إنما يصير نوراً على نور إذا مسته النار.
وبالحرِىّ أن يكون مقتَبَس الأرواح الأرضية هى الروح الإلهية العلوية التى وصفها على وابن عباس رضى الله عنهما فقالا: "إن لله ملَكاً له سبعون ألف وجه في كل وجه سبعون ألف لسان يسبح الله بجميعها" وهو الذي قوبل بالملائكة كلهم فقيل يوم القيامة {يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلْمَلاَئِكَةُ صَفّاً} فهى إذا اعتبرت من حيث يقتبس منها السّرُج الأرضية لم يكن لها مثال إلا النار، وذلك لا يؤانس إلا من جانب الطور.
دقيقة
الأنوار السماوية التى تقتبس منها الأنوار الأرضية إن كان لها ترتيب بحيث يقتبس بعضها من بعض، فالأقرب من المنبع الأول أولى باسم النور لأنه أعلى رتبة. ومثال ترتيبه في عالم الشهادة لا تدركه إلا بأن يفرض ضوءُ القمر داخلاً في كوة بيت واقعاً على مرآة منصوبة على حائط، ومنعكساً منها إلى حائط آخر في مقابلتها، ثم منعطفاً منه إلى الأرض بحيث تستنير الأرض. فأنت تعلم أن ما على الأرض من النور تابع لما على الحائط (و 7ـ ا) وما على الحائط تابع لما على المرآة، وما على المرآة تابع لما في القمر، وما في القمر تابع لما في الشمس: إذ منها يشرق النور على القمر. وهذه الأنوار الأربعة مرتبة بعضها أعلى وأكمل من بعض، ولكل واحد مقام معلوم ودرجة خاصة لا يتعداها.
فاعلم أنه قد انكشف لأرباب البصائر أن الأنوار الملكوتية إنما وجدت على ترتيب كذلك، وأن المقرّب هو الأقرب إلى النور الأقصى. فلا يبعد أن تكون رتبة إسرافيل فوق رتبة جبريل، وأن فيهم الأقرب لقرب درجته من حضرة الربوبية التى هى منبع الأنوار كلها، وأن فيهم الأدنى، وبينهما درجات تستعصى على الإحصاء. وإنما المعلوم كثرتهم وترتيبهم في مقاماتهم وصفوفهم، وأنهم كما وصفوا به أنفسهم إذا قالوا: {وَإِنَّا لَنَحْنُ ٱلصَّآفُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ ٱلْمُسَبِّحُونَ}.
دقيقة
إذا عرفت أن الأنوار لها ترتيب فاعلم أنه لا يتسلسل إلى غير نهاية، بل يرتقى إلى منبع أول هو النور لذاته وبذاته، ليس يأتيه نور من غيره. ومنه تشرق الأنوار كلها على ترتيبها. فانظر الآن اسم النور أحق وأولى بالمستنير المستعير نوره من غيره، أو بالنّير في ذاته المنير لكل ما سواه؟ فما عندى أنه يخفى عليك الحق فيه. وبه يتحقق أن اسم النور أحق بالنور الأقصى الأعلى الذى لا نور فوقه، ومنه ينزل النور إلى غيره.
حقيقة
بل أقول ولا أبالى إن اسم النور على غير النور الأول مجاز محض: إذ كل ما سواه إذا اعتبر ذاته فهو في ذاته من حيث ذاته لا نور له: بل نورانيته مستعارة من غيره ولا قوام لنورانيته المستعارة بنفسها، بل بغيرها. ونسبة المستعار إلى المستعير مجاز محض. أفَتَرَى أن من استعار ثياباً وفرساً ومركباً وسرجاً، وركبه في الوقت الذى أركبه المُعيِر، وعلى الحد الذى رسمه، غنى بالحقيقة أو بالمجاز؟ وأن المعير هو الغنى أو المستعير؟ كلا، بل المستعير فقير في نفسه (و 7ـ ب) كما كان. وإنما الغنى هو المعير الذى منه الإعارة والإعطاء، وإليه الاسترداد والانتزاع. فإذن النور الحق هو الذى بيده الخلق والأمر، ومنه الإنارة أولاً والإدامة ثانياً. فلا شركة لأحد معه في حقيقة هذا الاسم ولا في استحقاقه إلا من حيث يسميه به ويتفضل عليه بتسميته تفضل المالك على عبده إذا أعطاه مالاً ثم سماه مالكاً. وإذا انكشف للعبد الحقيقة علم أنه وماله لمالكه على التفرد لا شريك له فيه أصلاً وألبتة.
حقيقة
مهما عرفت أن النور يرجع إلى الظهور والإظهار ومراتبه، فاعلم أنه لا ظلمة أشد من كتم العدم: لأن المظلم سمى مظلماً لأنه ليس للإبصار إليه وصول، إذ ليس يصير موجوداً للبصير مع أنه موجود في نفسه. فالذى ليس موجوداً لا لغيره ولا لنفسه كيف لا يستحق أن يكون هو الغاية في الظلمة؟ وفي مقابلته الوجود فهو النور: فإن الشىء ما لم يظهر في ذاته لا يظهر لغيره.
والوجود ينقسم إلى ما للشىء من ذاته وإلى ماله من غيره. وماله الوجود من غيره فوجوده مستعار لا قوام له بنفسه. بل اعتُبر ذاته من حيث ذاته فهو عدم محض. وإنما هو موجود من حيث نسبته إلى غيره، وذلك ليس بوجود حقيقى كما عرفت في مثال استعارة الثوب والغِنَى. فالموجود الحق هو الله تعالى، كما أن النور الحق هو الله تعالى.
حقيقة الحقائق
من هنا ترقي العارفون من حضيض المجاز إلى يفاع الحقيقة، واستكملوا معراجهم فرأوا بالمشاهدة العيانية أن ليس في الوجود إلا الله تعالى، وأن {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} لا أنه يصير هالكاً في وقت من الأوقات؛ بل هو هالك أزلاً وأبداً لا يتصور إلا كذلك؛ فإن كل شىء سواه إذا اعتُبِر ذاته من حيث ذاته فهو عدم محض؛ وإذا اعتبر من الوجه الذى يسرى إليه الوجود من الأول الحق رؤى موجوداً لا في ذاته لكن من الوجه الذى يلى موجده (و 8ـ ا)، فيكون الموجود وجه الله تعالى فقط. فلكل شىء وجهان: وجه إلى نفسه ووجه إلى ربه؛ فهو باعتبار وجه نفسه عدم وباعتبار وجه الله تعالى موجود. فإذن لا موجود إلا الله تعالى ووجهه. فإذن كل شىء هالك إلا وجهه أزلاً وأبداً. ولم يفتقر هؤلاء إلى يوم القيامة ليسمعوا نداء البارى تعالى {لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ} . بل هذا النداء لا يفارق سمعهم أبداً. ولم يفهموا من معنى قوله "الله أكبر" أنه أكبر من غيره، حاش لله، إذ ليس في الوجود معه غيره حتى يكون أكبر منه؛ بل ليس لغيره رتبة المعية، بل رتبة التبعية. بل ليس لغيره وجود إلا من الوجه الذى يليه. فالموجود وجهه فقط. ومحال أن يقال إنه أكبر من وجهه. بل معناها أنه أكبر من أن يقال له أكبر بمعنى الإضافة والمقايسة، وأكبر من أن يدرك غيره كنه كبريائه، نبّياً كان أو مَلَكاً. بل لا يعرف الله كنه معرفته إلا الله. بل كل معروف داخل في سلطة العارف واستيلائه دخولاً مّا؛ وذلك ينافي الجلال والكبرياء. وهذا له تحقيق ذكرناه في كتاب "المقصد الأسنى في معانى أسماء الله الحسنى".
إشارة
العارفون - بعد العروج إلى سماء الحقيقة - اتفقوا على أنهم لم يروا في الوجود إلا الواحد الحق. لكن منهم من كان له هذه الحال عرفاناً علمياً، ومنهم من صار له ذلك حالاً ذوقياً. وانتفت عنهم الكثرة بالكلية واستغرقوا بالفردانية المحضة واستوفيت فيها عقولهم فصاروا كالمبهوتين فيه ولم يبق فيهم متسع لا لذكر غير الله ولا لذكر أنفسهم أيضاً. فلم يكن عندهم إلا الله، فسكروا سكراً دفع دونه سلطان عقولهم، فقال أحدهم "أنا الحق" وقال الآخر "سبحانى ما أعظم شانى!" وقال آخر "ما في الجبة إلا الله". وكلام العشاق في حال السكر يُطوَى ولا يحكى. فلما خف عنهم سكرهم وردوا إلى سلطان العقل الذى هو ميزان الله في أرضه، عرفوا أن ذلك لم يكن حقيقة الاتحاد بل شبه الاتحاد مثل قول العاشق في حال فرط عشقه "أنا من أهوى ومن أهوى أنا" (و 8ـ ب) ولا يبعد أن يفاجىء الإنسان مرآة فينظر فيها ولم ير المرآة قط، فيظن أن الصورة التى رآها هى صورة المرآة متحدة بها، ويرى الخمر في الزجاج فيظن أن الخمر لون الزجاج. وإذا صار ذلك عنده مألوفاً ورسخ فيه قدمه استغفر وقال:
رق الزجاج وراقت الخمر فتشابها فتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح وكأنما قدح ولا خمر
وفرق بين أن يقول: الخمر قدح، وبين أن يقول: كأنه قدح. وهذه الحالة إذا غلبت سميت بالإضافة إلى صاحب الحالة "فناء"، بل "فناء الفناء": لأنه فنى عن نفسه وفنى عن فنائه، فإنه ليس يشعر بنفسه في تلك الحال ولا بعدم شعوره بنفسه. ولو شعر بعدم شعوره بنفسه لكان قد شعر بنفسه. وتسمى هذه الحالة بالإضافة إلى المستغرق به بلسان المجاز اتحاداً أو بلسان الحقيقة توحيداً. ووراء هذه الحقائق أيضاً أسرار يطول الخوض فيها.
خاتمة
لعلك تشتهى أن تعرف وجه إضافة نوره إلى السماوات والأرض؛ بل وجه كونه في ذاته نور السماوات والأرض، فلا ينبغى أن يخفى ذلك عليك بعد أن عرفت أنه النور ولا نور سواه وأنه كل الأنوار، وأنه النور الكلى، لأن النور عبارة عما ينكشف به الأشياء، وأعلى منه ما ينكشف به وله، وأعلى منه ما ينكشف به وله ومنه، وأن الحقيقى منه ما ينكشف به وله ومنه وليس فوقه نور منه اقتباسه واستمداده: بل ذلك له في ذاته من ذاته لذاته لا من غيره. ثم عرفت أن هذا لن يتصف به إلا النور الأول. ثم عرفت أن السماوات والأرض مشحونة نوراً من طبقتى النور: أعنى المنسوب إلى البصر والبصيرة: أى إلى الحس والعقل. أما البصرى فما نشاهده في السماوات من الكواكب والشمس والقمر، وما نشاهده في الأرض من الأشعة المنبسطة على (و 9ـ ا) كل ما على الأرض حتى ظهرت به الألوان المختلفة خصوصاً في الربيع، وعلى كل حال في الحيوانات والمعادن وأصناف الموجودات. ولولاها لم يكن للألوان ظهور، بل وجود. ثم سائر ما يظهر للحس من الأشكال والمقادير يدرَك تبعاً للألوان ولا يتصور إدراكها إلا بواسطتها.
وأما الأنوار العقلية المعنوية فالعالم الأعلى مشحون بها، وهى جواهر الملائكة، والعالم الأسفل مشحون بها وهى الحياة الحيوانية ثم الإنسانية. وبالنور الإنسانى السفلى ظهر نظام عالم السفل كما بالنور الملكى ظهر نظام عالم العلو. وهو المعنىّ بقوله {أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} وقال تعالى: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي ٱلأَرْضِ} وقال: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ ٱلأَرْضِ} ، وقال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً}.
فإذا "عرفت هذا عرفت أن العالم بأسره مشحون بالأنوار الظاهرة البصرية والباطنة العقلية، ثم عرفت أن السفلية فائضة بعضها من بعض فيضان النور من السراج وأن السراج هو الروح النبوى القدسى، وأن الأرواح النبوية القدسية مقتبسة من الأرواح العلوية اقتباس السراج من النور؛ وأن العلويات بعضها مقتبسة من البعض، وأن ترتيبها ترتيب مقامات. ثم ترقي جملتها إلى نور الأنوار ومعدنها ومنبعها الأول؛ وأن ذلك هو الله تعالى وحده لا شريك له، وأن سائر الأنوار مستعارة، وإنما الحقيقى نوره فقط؛ وأن الكل نوره، بل هو الكل، بل لا هوية لغيره إلا بالمجاز. فإذن لا نور إلا نوره، وسائر الأنوار أنوار من الذى يليه لا من ذاته. فوجه كل ذى وجه إليه ومولّ شطره: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ} . فإذن لا إله إلا هو: فإن الإله عبارة عما الوجه موليه نحوه بالعبادة والتأله: أعنى وجوه القلوب فإنها الأنوار. بل كما لا إله إلا هو، فلا هو إلا هو: لأن "هو" عبارة عما إليه إشارة كيفما كان، ولا إشارة إلا إليه. (و 9ـ ب) بل كل ما أشرت إليه فهو بالحقيقة إشارة إليه وإن كنت لا تعرفه أنت لغفلتك عن حقيقة الحقائق التى ذكرناها. ولا إشارة إلى نور الشمس بل إلى الشمس. فكل ما في الوجود فنسبته إليه في ظاهر المثال كنسبة النور إلى الشمس. فإذن "لا إله إلا الله" توحيد العوام، "ولا إله إلا هو" توحيد الخواص، لأن هذا أتم وأخص وأشمل وأحق وأدق وأدخل بصاحبه في الفردانية المحضة والوحدانية الصرفة. ومنتهى معراج الخلائق مملكة الفردانية. وليس وراء ذلك مرقي: إذ الترقي لا يتصور إلا بكثرة: فإنه نوع إضافة يستدعى ما منه الارتقاء وما إليه الارتقاء. وإذا ارتفعت الكثرة حقت الوحدة وبطلت الإضافات وطاحت الإشارات ولم يبق علو وسفل ونازل ومرتفع: واستحال الترقي فاستحال العروج. فليس وراء الأعلى علو، ولا مع الوحدة كثرة، ولا مع انتفاء الكثرة عروج. فإن كان من تغير حال. فالنزول إلى سماء الدنيا: أعنى بالإشراف من علو إلى سفل لأن الأعلى له أسفل وليس له أعلى. فهذه هى غاية الغايات ومنتهى الطِّلبْات: يعلمه من يعلمه وينكره من يجهله. وهو من العلم الذى هو كهيئة المكنون الذى لا يعلمه إلا العلماء بالله. فإذا نطقوا به لم ينكره إلا أهل الغِرّة بالله. ولا يبعد أن قال العلماء إن النزول إلى السماء الدنيا هو نزول مَلَك: فقد توهم العلماء ما هو أبعد منه؛ إذ قال هذا المستغرق بالفردانية أيضاً له نزول إلى السماء الدنيا: فإن ذلك هو نزوله إلى استعمال الحواس أو تحريك الأعضاء. وإليه الإشارة بقوله "صرت سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به ولسانه الذى ينطق به". فإذا كان هو سمعه وبصره ولسانه، فهو السامع والباصر والناطق إذن لا غيره؛ وإليه الإشارة بقوله: "مرضت فلم تعدنى" الحديث.
فحركات هذا الموحّد (و 10ـ ا) من السماء الدنيا، وإحساساته كالسمع والبصر من سماء فوقه، وعقله فوق ذلك. وهو يترقي من سماء العقل إلى منتهى معراج الخلائق. ومملكة الفردانية تمام سبع طبقات ثم بعده يستوى على عرض الوحدانية، ومنه يدبّر الأمر لطبقات سماواته. فربما نظر الناظر إليه فأطلق القول بأن الله خلق آدم على صورة الرحمن، إلى أن يمعن النظر فيعلم أن ذلك له تأويل كقول القائل "أنا الحق" و "سبحانى" بل كقوله لموسى عليه السلام: "مرضت فلم تعدنى" و "كنت سمعه وبصره ولسانه". وأرى الآن قبض البيان فما أراك تطيق من هذا القدْر أكثر من هذا القدْر. (مساعدة) لعلك لا تسمو إلى هذا الكلام بهمتك، بل تقصر دون ذروته همتك، فخذ إليك كلاماً أقرب إلى فهمك وأوفق لضعفك.
واعلم أن معنى كونه نور السماوات والأرض تعرفه بالنسبة إلى النور الظاهر البصرى. فإذا رأيت أنوار الربيع وخضرته مثلاً في ضياء النهار فلست تشك في أنك ترى الألوان. وربما ظننت أنك لست ترى مع الألوان غيرها، فإنك تقول لست أرى مع الخضرة غير الخضرة. ولقد أصر على هذا قوم فزعموا أن النور لا معنى له، وأنه ليس مع الألوان غير الألوان، فأنكروا وجود النور مع أنه أظهر الأشياء، وكيف لا وبه تظهر الأشياء، وهو الذى يبصَر في نفسه ويبصَر به غيره كما سبق. لكن عند غروب الشمس وغيبة السراج ووقوع الظل أدركوا تفرقة ضرورية بين محل الظل وبين موقع الضياء فاعترفوا بأن النور معنى وراء الألوان يدرك مع الألوان حتى كأنه لشدة انجلائه لا يدرك، ولشدة ظهوره يخفى. وقد كان الظهور سبب الخفاء. والشىء إذا جاوز حده انعكس على ضده.
فإذا عرفت هذا فاعلم أن أرباب البصائر ما رأوا شيئاً إلا رأوا الله معه. وربما زاد على هذا بعضهم فقال "ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله قبله" لأن منهم من يرى الأشياء به (و 10ـ ب). ومنهم من يرى الأشياء فيراه بالأشياء. وإلى الأول الإشارة بقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ؛ وإلى الثانى الإشارة بقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ} فالأول صاحب مشاهدة، والثانى صاحب الاستدلال عليه: والأول درجة الصديقين، والثانى درجة العلماء الراسخين، وليس بعدهم إلا درجة الغافلين المحجوبين.
وإذ قد عرفت هذا فاعلم أنه كما ظهر كل شىء للبصر بالنور الظاهر، فقد ظهر كل شىء للبصيرة الباطنة بالله. فهو مع كل شىء لا يفارقه ثم يظهر كل شىء، كما أن النور مع كل شىء وبه يظهر. ولكن بقى ها هنا تفاوت: وهو أن النور الظاهر يُتَصور أن يغيب بغروب الشمس ويحجب حتى يظهر الظل، وأما النور الإلهى الذى به يظهر كل شىء، لا يتصور غيبته بل يستحيل تغيره. فيبقى مع الأشياء دائماً، فانقطع طريق الاستدلال بالتفرقة. ولو تصوّر غيبته لانهدت السماوات والأرض. ولأدرك به من التفرقة ما يضطر معه إلى المعرفة بما به ظهرت الأشياء. ولكن ما تساوت الأشياء كلها على نمط واحد في الشهادة على وحدانية خالقها ارتفع التفريق وخفى الطريق: إذ الطريق الظاهر معرفة الأشياء بالأضداد؛ فما لا ضد له ولا تغير له تتشابه الأحوال في الشهادة له. فلا يبعد أن يخفى ويكون خفاؤه لشدة جلائه والغفلة عنه لإشراق ضيائه. فسبحان من اختفى عن الخلق لشدة ظهوره، واحتجب عنهم لإشراق نوره. وربما لم يفهم أيضاً كنه هذا الكلام بعض القاصرين، فيفهم من قولنا "إن الله مع كل شىء كالنور مع الأشياء" أنه في كل مكان؛ تعالى وتقدس عن النسبة إلى المكان. بل لعل الأبعد عن إثارة هذا الخيال أن نقول إنه قبل كل شىء؛ وإنه فوق كل شىء؛ وإنه مُظهِر كل شىء. والمظهِر لا يفارق المظهَر في معرفة صاحب البصيرة. فهو الذى (و 11ـ ا) نعنى بقولنا إنه مع كل شىء. ثم لا يخفى عليك أيضاً أن المظهِر قبل المظهَر وفوقه مع أنه معه بوجه: لكنه معه بوجه وقبله بوجه. فلا تظنن أنه متناقض، واعتبر بالمحسوسات التى هى درجتك في العرفان؛ وانظر كيف تكون حركة اليد مع حركة ظل اليد وقبلها أيضاً. ومن لم يتسع صدره لمعرفة هذا فليهجر هذا النمط من العلم، فلكل علم رجال؛ وكلّ ميسّر لما خلق له.
في بيان أن النور الحق هو الله تعالى وأن اسم النور لغيره مجاز محض لا حقيقة له
وبيانه بأن يعرف معنى النور بالوضع الأول عند العوام، ثم بالوضع الثانى عند الخواص، ثم بالوضع الثالث عند خواص الخواص. ثم تعرف درجات الأنوار المذكورة المنسوبة إلى خواص الخواص وحقائقها لينكشف لك عند ظهور درجاتها أن الله تعالى هو النور الأعلى الأقصى، وعند انكشاف حقائقها أنه النور الحق الحقيقى وحده لا شريك له فيه.
أما الوضع الأول عند العامى فالنور يشير إلى الظهور، والظهور أمر إضافي: إذ يظهر الشىء لا محالة لإنسان ويبطن عن غيره: فيكون ظاهراً بالإضافة وباطناً بالإضافة. وإضافة ظهوره إلى الإدراكات لا محالة. وأقوى الإدراكات وأجلاها عند العوام الحواسُّ، ومنها حاسة البصر.
والأشياء بالإضافة إلى الحس البصرى ثلاثة أقسام:
منها ما لا يبصر بنفسه كالأجسام المظلمة.
(و 2ـ ب) ومنها ما يبصَر بنفسه ولا يبصَر به غيره كالأجسام المضيئة كالكواكب وجمرة النار إذا لم تكن مشتعلة.
ومنها ما يبصَر بنفسه ويبصَر به أيضاً غيره كالشمس والقمر والسراج والنيران المشتعلة.
والنور اسم لهذا القسم الثالث. تم تارة يطلق على ما يفيض من الأجسام على ظواهر الأجسام الكثيفة، فيقال استنارت الأرض ووقع نور الشمس على الأرض ونور السراج على الحائط والثوب. وتارة يطلق على نفس هذه الأجسام المشرقة لأنها أيضاً في نفسها مستنيرة.
وعلى الجملة فالنور عبارة عما يبصَر بنفسه ويبصَر به غير كالشمس. هذا حده وحقيقته بالوضع الأول.
دقيقة
لما كان سر النور وروحه هو الظهور للإدراك، وكان الإدراك موقوفاً على وجود النور وعلى وجود العين الباصرة أيضاً: إذ النور هو الظاهر المظهِر؛ وليس شىء من الأنوار ظاهراً في حق العميان ولا مظهراً. فقد تساوى الروح الباصرة والنور الظاهر في كونه ركناً لا بد منه للإدراك ثم ترجّح عليه في أن الروح الباصرة هى المدركة وبها الإدراك. وأما النور فليس بمدرك ولا به الإدراك، بل عنده الإدراك. فكان اسم النور بالنور الباصر أحق منه بالنور المبصَر.
وأطلقوا اسم النور على نور العين المبصرة فقالوا في الخفّاش إن نور عينه ضعيف، وفي الأعمش إنه ضعيف نور بصره، وفي الأعمى إنه فقد نور البصر، وفي السواد إنه يجمع نور البصر ويقويه، وإن الأجفان إنما خصتها الحكمة الإلهية بلون السواد وجعل العين محفوفة بها لتجمع ضوء العين. وأما البياض فيفرق ضوء العين ويضعف نوره، حتى إن إدامة النظر إلى البياض المشرق، بل إلى نور الشمس يبهر نور العين ويمحقه كما ينمحق الضعيف في جنب القوى. فقد عرفت بهذا أن (و 3ـ ا) الروح الباصر سمى نوراً، وأنه لم سمّى نوراً، وأنه لِمَ كان بهذا الاسم أولى. وهذا هو الوضع الثانى وهو وضع الخواص.
دقيقة
إعلم أن نور بصر العين موسوم بأنواع النقصان: فإنه يبصر غيره ولا يبصر نفسه، ولا يبصر ما بَعُد منه، ولا يبصر ما هو وراء حجاب. ويبصر من الأشياء ظاهرها دون باطنها؛ ويبصر من الموجودات بعضها دون كلها. ويبصر أشياء متناهية ولا يبصر ما لا نهاية له. ويغلط كثيراً في إبصاره: فيرى الكبير صغيراً والبعيد قريباً والساكن متحركاً والمتحرك ساكناً. فهذه سبع نقائص لا تفارق العين الظاهرة. فإن كان في الأعين عين منزهة عن هذه النقائص كلها فليت شعرى هل هو أولى باسم النور أم لا؟
واعلم أن في قلب الإنسان عيناً هذه صفة كمالها وهى التى يعبّر عنها تارة بالعقل وتارة بالروح وتارة بالنفس الإنسانى. ودعْ عنك العبارات فإنها إذا كثرت أوهَمَت عند ضعيف البصيرة كثرة المعانى. فنعنى به المعنى الذى يتميز به العاقل عن الطفل الرضيع وعن البهيمة وعن المجنون. ولنسمه "عقلاً" متابعة للجمهور في الاصطلاح فنقول:
العقل أولى بأن يسمى نوراً من العين الظاهرة لرفعة قدره عن النقائص السبع وهو أن العين لا تبصر نفسها، والعقل يدرك غيره ويدرك صفات نفسه: إذ يدرك نفسه عالماً وقادراً: ويدرك علم نفسه ويدرك علمه بعلم نفسه وعلمه بعلمه بعلم نفسه إلى غير نهاية. وهذه خاصية لا تتصور لما يدرك بآلة الأجسام. ووراءه سر يطول شرحه.
والثانى أن العين لا تبصر ما بَعُد منها ولا ما قرب منها قرباً مفرطاً: والعقل يستوى عنده القريب والبعيد: يعرج في تطريفة إلى أعلى السماوات رقياً، وينزل في لحظة إلى تخوم الأرضين هوِياً. بل إذا حقت الحقائق (و 3ـ ب) يكشف أنه منزه عن أن تحوم بجنبات قدسه معانى القرب والبعد الذى يفرض بين الأجسام، فإنه أنموذج من نور الله تعالى، ولا يخلو الأنموذج عن محاكاة، وإن كان لا يرقي إلى ذروة المساواة. وهذا ربما هزك للتفطن لسر قوله عليه السلام "إن الله خلق آدم على صورته" فلست أرى الخوض فيه الآن.
الثالث أن العين لا تدرك ما وراء الحجب، والعقل يتصرف في العرش والكرسى وما وراء حجب السماوات، وفي الملأ الأعلى والملكوت الأسمى كتصرفه في عالمه الخاص ومملكته القريبة أعنى بدنه الخاص. بل الحقائق كلها لا تحتجب عن العقل. وأما حجاب العقل حيث يحجب فمن نفسه لنفسه بسبب صفات هى مقارنة له تضاهى حجاب العين من نفسه عند تغميض الأجفان. وستعرف هذا في الفصل الثالث من الكتاب.
الرابع أن العين تدرك من الأشياء ظاهرها وسطحها الأعلى دون باطنها؛ بل قوالبها وصورها دون حَقائقها. والعقل يتغلغل إلى بواطن الأشياء وأسرارها ويدرك حقائقها وأرواحها، ويستنبط سببها وعلتها وغايتها وحكمتها، وأنها ممّ خلق، وكيف خلق، ولِم خلق، ومِن كم معنى جمع وركّب، وعلى أى مرتبة في الوجود نزل، وما نسبته إلى خالقها وما نسبتها إلى سائر مخلوقاته، إلى مباحث أُخر يطول شرحها نرى الإيجاز فيها أولى.
الخامس أن العين تبصر بعض الموجودات إذ تقصر عن جميع المعقولات وعن كثير من المحسوسات: إذ لا تدرك الأصوات والروائح والطعوم والحرارة والبرودة والقوى المدركة: أعنى (و 4ـ ا) قوة السمع والبصر والشم والذوق، بل الصفات الباطنة النفسانية كالفرح والسرور والغم والحزن والألم واللذة والعشق والشهوة والقدرة والإرادة والعلم إلى غير ذلك من موجودات لا تحصى ولا تعد؛ فهو ضيق المجال مختصر المجرى لا تسعه مجاوزة الألوان والأشكال وهما أخس الموجودات: فإن الأجسام في أصلها أخس أقسام الموجودات، والألوان والأشكال من أخس أعراضها.
فالموجودات كلها مجال العقل؛ إذ يدرك هذه الموجودات التى عددناها وما لم نعدّها، وهو الأكثر: فيتصرف في جميعها ويحكم عليها حكماً يقينياً صادقاً. فالأسرار الباطنة عنده ظاهرة، والمعانى الخفية عنده جلية. فمن أين للعين الظاهرة مساماته ومجاراته في استحقاق اسم النور؟ كلا إنها نور بالإضافة إلى غيرها؛ لكنها ظلمة بالإضافة إليه. بل هى جاسوس من جواسيسه؛ وكله بأخس خزائنه وهى خزانة الألوان والأشكال لترفع إلى حضرته أخبارها فيقضى فيها بما يقتضيه رأيه الثاقب وحكمه النافذ. والحواس الخمس جواسيسه. وله في الباطن جواسيس سواها من خيال ووهم وفكر وذكر وحفظ؛ ووراءهم خدم وجنود مسخرة له في عالمه الخاص يستسخرهم ويتصرف فيهم استسخار الملك عبيده بل أشد. وشرح ذلك يطول.
وقد ذكرناه في كتاب "عجائب القلب" من كتب الإحياء.
السادس أن العين لا تبصر ما لا نهاية له، فإنها تبصر صفات الأجسام والأجسام لا تتصور إلا متناهية.
والعقل يدرك المعلومات؛ والمعلومات لا يتصور أن تكون متناهية. نعم إذا لاحظ العلوم المفصلة فلا يكون الحاضر الحاصل عنده إلا متناهياً. لكن في قوته إدراك ما لا نهاية له. وشرح ذلك يطول. (و 4ـ ب) فإن أردت له مثالاً فخذه من الجليات، فإنه يدرك الأعداد ولا نهاية لها؛ بل يدرك تضعيفات الاثنين والثلاثة وسائر الأعداد ولا يتصور لها نهاية. ويدرك أنواعاً من النسب بين الأعداد لا يتصور التناهى عليها: بل يدرك علمه بالشىء وعلمه بعلمه بالشىء، وعلمه بعلمه بعلمه. فقوته في هذا الواحد لا تقف عند نهاية.
السابع أن العين تبصر الكبير صغيراً. فترى الشمس في مقدار مَجنّ والكواكب في صور دنانير منثورة على بساط أزرق. والعقل يدرك أن الكواكب والشمس أكبر من الأرض أضعافاً مضاعفة؛ والعين ترى الكواكب ساكنة، بل ترى الظل بين يديه ساكناً. وترى الصبى ساكناً في مقداره، والعقل يدرك أن الصبى متحرك في النشوء والتزايد على الدوام. والظل متحرك دائماً، والكواكب تتحرك في كل لحظة أميالاً كثيرة كما قال صلى الله عليه لجبريل عليه السلام: "أزالت الشمس"؟ فقال لا: نعم! قال كيف؟ قال "منذ قلت، لا إلى أن قلت، نعم، : قد تحرك مسيرة خمسمائة سنة".
وأنواع غلط البصر كثيرة، والعقل منزه عنها. فإن قلت: نرى العقلاء يغلطون في نظرهم فاعلم أن فيهم خيالات وأوهاماً واعتقادات يظنون أحكامها أحكام العقل؛ فالغلط منسوب إليها. وقد شرحنا مجامعها في كتاب "معيار العلم" وكتاب "محك النظر".
فأما العقل إذا تجرد عن غشاوة الوهم والخيال لم يتصور أن يغلط؛ بل رأى الأشياء على ما هى عليه، وفي تجريده عسر عظيم. وإنما يكمل تجرده عن هذه النوازع بعد الموت، وعند ذلك ينكشف الغطاء وتنجلى الأسرار ويصادف كل أحد ما قدم من خير أو شرُ محضّراً؛ ويشاهد كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وعنده يقال (و 5ـ ا) {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ} . وإنما الغطاء غطاء الخيال والوهم وغيرهما؛ وعندما يقول المغرور بأوهامه واعتقاداته الفاسدة وخيالاته الباطلة {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً} الآية.
فقد عرفت بهذا أن العين أولى باسم النور من النور المعروف، ثم عرفت أن العقل أولى باسم النور من العين. بل بينهما من التفاوت ما يصح معه أن يقال إنه أولى بل الحق أنه المستحق للاسم دونه.
دقيقة
اعلم أن العقول وإن كانت مبصرة، فليست المبصرات كلها عندها على وتيرة واحدة، بل بعضها يكون عندها كأنه حاضر كالعلوم الضرورية مثل علمه بأن الشىء الواحد لا يكون قديماً حادثاً ولا يكون موجوداً معدوماً، والقول الواحد لا يكون صدقاً وكذباً، وأن الحكم إذا ثبت للشىء جوازه ثبت لمثله، وأن الأخص إذا كان موجوداً كان الأعم واجب الوجود: فإذا وجد السواد فقد وجد اللون، وإذا وجد الإنسان فقد وجد الحيوان. وأما عكسه فلا يلزم في العقل، إذ لا يلزم من وجود اللون وجود السواد ولا من وجود الحيوان وجود الإنسان إلى غير ذلك من القضايا الضرورية في الواجبات والجائزات والمستحيلات. ومنها ما لا يقارن العقلَ في كل حال إذا عرض عليه بل يحتاج إلى أن يهز أعطافه ويستورى زناده وينبه عليه بالتنبيه كالنظريات. وإنما ينبهه كلام الحكمة. فعند إشراق نور الحكمة يصير العقل مبصراً بالفعل بعد أن كان مبصراً بالقوة. وأعظم الحكمة كلام الله تعالى. ومن جملة كلامه القرآن خاصة، فتكون منزلة آيات القرآن عند عين العقل منزلة نور الشمس عند العين الظاهرة إذ به يتم الإبصار. فبالحرِىّ أن يسمى القرآن نوراً كما يسمى نور الشمس نوراً (و 5ـ ب) فمثال القرآن نور الشمس ومثال العقل نور العين. وبهذا نفهم معنى قوله: {فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلنّورِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلْنَا} ، وقوله: {قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً}.
تكملة هذه الدقيقة
فقد فهمت من هذا أن العين عينان: ظاهرة وباطنة: فالظاهرة من عالم الحس والشهادة، والباطنة من عالم آخر وهو عالم الملكوت. ولكل عين من العينين شمس ونور عنده تصير كاملة الإبصار إحداهما ظاهرة والأخرى باطنة؛ والظاهرة من عالم الشهادة وهى الشمس المحسوسة. والباطنة من عالم الملكوت وهو القرآن وكتب الله تعالى المنزلة.
ومهما انكشف لك هذا انكشافاً تاماً فقد انفتح لك أول باب من أبواب الملكوت. وفي هذا العالم عجائب يستحقر بالإضافة إليها عالم الشهادة. وإن من لم يسافر إلى هذا العالم، وقعد به القصور في حضيض عالم الشهادة فهو بهيمة بعدُ، محروم عن خاصية الإنسان؛ بل أضل من البهيمة إذا لم تسعد البهيمة بأجنحة الطيران إلى هذا العالم. ولذلك قال الله تعالى : {أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}.
واعلم أن الشهادة بالإضافة إلى عالم الملكوت كالقشر بالإضافة إلى اللب، وكالصورة والقالب بالإضافة إلى الروح، وكالظلمة بالإضافة إلى النور، وكالسّفل بالإضافة إلى العلو. ولذلك يسمى عالم الملكوت العالم العلوى والعالم الروحانى والعالم النورانى. وفي مقابلته السفلى والجسمانى والظلمانى.
ولا تظن أنّا نعنى بالعالم العلوى السماوات فإنها علو وفوق في حق عالم الشهادة والحس، ويشارك في إدراكه البهائم. وأما العبد فلا يفتح له باب الملكوت ولا يصير ملكوتياً إلا (و 6ـ ا) ويبدل في حقه الأرض غير الأرض والسماوات فيصير كل داخل تحت الحس والخيال أرضه ومن جملة السماوات، وكل ما ارتفع عن الحس فسماؤه. وهذا هو المعراج الأول لكل سالك ابتدأ سفره إلى قرب الحضرة الربوبية. فالإنسان مردود إلى أسفل السافلين، ومنه يترقي إلى العالم الأعلى. وأما الملائكة فإنهم جملة عالم الملكوت عاكفون في حضرة القدوس، ومنها يشرفون إلى العالم الأسفل. ولذلك قال عليه السلام "إن الله خلق الخلق في ظلمة ثم أفاض عليهم من نوره" وقال: "إن لله ملائكة هو أعلم بأعمال الناس منهم" . والأنبياء إذا بلغ معراجهم المبلغ الأقصى وأشرفوا منه إلى السفل ونظروا من فوق إلى تحت اطلعوا أيضاً على قلوب العباد وأشرفوا على جملة من علوم الغيب: إذ من كان في عالم الملكوت كان عند الله تعالى - {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ} - أى من عندها تنزل أسباب الموجودات في عالم الشهادة؛ وعالم الشهادة أثر من آثار ذلك العالم، يجرى منه مجرى الظل بالإضافة إلى الشخص، ومجرى الثمرة بالإضافة إلى المثمر، والمسبب بالإضافة إلى السبب. ومفاتيح معرفة المسببات لا توجد إلا من الأسباب؛ ولذلك كان عالم الشهادة مثالاً لعالم الملكوت كما سيأتى في بيان المشكاة والمصباح والشجرة: لأن المسبب لا يخلو عن موازاة السبب ومحاكاته نوعاً من المحاكاة على قرب أو على بعد. وهذا لأن له غوْراً عميقاً. ومن اطلع على كنه حقيقته انكشف له حقائق أمثلة القرآن على يسر.
دقيقة ترجع إلى حقيقة النور
فنقول إن كان ما يبصر نفسه وغيره أولى باسم النور، فإن كان من جملة ما يبصر (به) غيره أيضاً مع أنه يبصر نفسه وغيره، فهو أولى، باسم النور من (و 6ـ ب) الذى لا يؤثر في غيره أصلاً، بل بالحرِىّ أن يسمى سراجاً منيراً لفيضان أنواره على غيره. وهذه الخاصية توجد للروح القدسى النبوى إذ تفيض بواسطته أنواع المعارف على الخلائق. وبهذا نفهم معنى تسمية الله محمد عليه السلام سراجاً منيراً. والأنبياء كلهم سُرُج، وكذلك العلماء، ولكن التفاوت بينهم لا يحصى.
دقيقة
إذا كان اللائق بالذى يستفاد منه نور الإبصار أن يسمى سراجاً منيراً فالذى يقتبس منه السراج في نفسه جدير بأن يكنى عنه بالنار. وهذه السرج الأرضية إنما تقتبس في أصلها من أنوار علوية. فالروح القدسى النبوى يكاد زيته يضىء ولو لم تمسسه نار. ولكن إنما يصير نوراً على نور إذا مسته النار.
وبالحرِىّ أن يكون مقتَبَس الأرواح الأرضية هى الروح الإلهية العلوية التى وصفها على وابن عباس رضى الله عنهما فقالا: "إن لله ملَكاً له سبعون ألف وجه في كل وجه سبعون ألف لسان يسبح الله بجميعها" وهو الذي قوبل بالملائكة كلهم فقيل يوم القيامة {يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلْمَلاَئِكَةُ صَفّاً} فهى إذا اعتبرت من حيث يقتبس منها السّرُج الأرضية لم يكن لها مثال إلا النار، وذلك لا يؤانس إلا من جانب الطور.
دقيقة
الأنوار السماوية التى تقتبس منها الأنوار الأرضية إن كان لها ترتيب بحيث يقتبس بعضها من بعض، فالأقرب من المنبع الأول أولى باسم النور لأنه أعلى رتبة. ومثال ترتيبه في عالم الشهادة لا تدركه إلا بأن يفرض ضوءُ القمر داخلاً في كوة بيت واقعاً على مرآة منصوبة على حائط، ومنعكساً منها إلى حائط آخر في مقابلتها، ثم منعطفاً منه إلى الأرض بحيث تستنير الأرض. فأنت تعلم أن ما على الأرض من النور تابع لما على الحائط (و 7ـ ا) وما على الحائط تابع لما على المرآة، وما على المرآة تابع لما في القمر، وما في القمر تابع لما في الشمس: إذ منها يشرق النور على القمر. وهذه الأنوار الأربعة مرتبة بعضها أعلى وأكمل من بعض، ولكل واحد مقام معلوم ودرجة خاصة لا يتعداها.
فاعلم أنه قد انكشف لأرباب البصائر أن الأنوار الملكوتية إنما وجدت على ترتيب كذلك، وأن المقرّب هو الأقرب إلى النور الأقصى. فلا يبعد أن تكون رتبة إسرافيل فوق رتبة جبريل، وأن فيهم الأقرب لقرب درجته من حضرة الربوبية التى هى منبع الأنوار كلها، وأن فيهم الأدنى، وبينهما درجات تستعصى على الإحصاء. وإنما المعلوم كثرتهم وترتيبهم في مقاماتهم وصفوفهم، وأنهم كما وصفوا به أنفسهم إذا قالوا: {وَإِنَّا لَنَحْنُ ٱلصَّآفُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ ٱلْمُسَبِّحُونَ}.
دقيقة
إذا عرفت أن الأنوار لها ترتيب فاعلم أنه لا يتسلسل إلى غير نهاية، بل يرتقى إلى منبع أول هو النور لذاته وبذاته، ليس يأتيه نور من غيره. ومنه تشرق الأنوار كلها على ترتيبها. فانظر الآن اسم النور أحق وأولى بالمستنير المستعير نوره من غيره، أو بالنّير في ذاته المنير لكل ما سواه؟ فما عندى أنه يخفى عليك الحق فيه. وبه يتحقق أن اسم النور أحق بالنور الأقصى الأعلى الذى لا نور فوقه، ومنه ينزل النور إلى غيره.
حقيقة
بل أقول ولا أبالى إن اسم النور على غير النور الأول مجاز محض: إذ كل ما سواه إذا اعتبر ذاته فهو في ذاته من حيث ذاته لا نور له: بل نورانيته مستعارة من غيره ولا قوام لنورانيته المستعارة بنفسها، بل بغيرها. ونسبة المستعار إلى المستعير مجاز محض. أفَتَرَى أن من استعار ثياباً وفرساً ومركباً وسرجاً، وركبه في الوقت الذى أركبه المُعيِر، وعلى الحد الذى رسمه، غنى بالحقيقة أو بالمجاز؟ وأن المعير هو الغنى أو المستعير؟ كلا، بل المستعير فقير في نفسه (و 7ـ ب) كما كان. وإنما الغنى هو المعير الذى منه الإعارة والإعطاء، وإليه الاسترداد والانتزاع. فإذن النور الحق هو الذى بيده الخلق والأمر، ومنه الإنارة أولاً والإدامة ثانياً. فلا شركة لأحد معه في حقيقة هذا الاسم ولا في استحقاقه إلا من حيث يسميه به ويتفضل عليه بتسميته تفضل المالك على عبده إذا أعطاه مالاً ثم سماه مالكاً. وإذا انكشف للعبد الحقيقة علم أنه وماله لمالكه على التفرد لا شريك له فيه أصلاً وألبتة.
حقيقة
مهما عرفت أن النور يرجع إلى الظهور والإظهار ومراتبه، فاعلم أنه لا ظلمة أشد من كتم العدم: لأن المظلم سمى مظلماً لأنه ليس للإبصار إليه وصول، إذ ليس يصير موجوداً للبصير مع أنه موجود في نفسه. فالذى ليس موجوداً لا لغيره ولا لنفسه كيف لا يستحق أن يكون هو الغاية في الظلمة؟ وفي مقابلته الوجود فهو النور: فإن الشىء ما لم يظهر في ذاته لا يظهر لغيره.
والوجود ينقسم إلى ما للشىء من ذاته وإلى ماله من غيره. وماله الوجود من غيره فوجوده مستعار لا قوام له بنفسه. بل اعتُبر ذاته من حيث ذاته فهو عدم محض. وإنما هو موجود من حيث نسبته إلى غيره، وذلك ليس بوجود حقيقى كما عرفت في مثال استعارة الثوب والغِنَى. فالموجود الحق هو الله تعالى، كما أن النور الحق هو الله تعالى.
حقيقة الحقائق
من هنا ترقي العارفون من حضيض المجاز إلى يفاع الحقيقة، واستكملوا معراجهم فرأوا بالمشاهدة العيانية أن ليس في الوجود إلا الله تعالى، وأن {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} لا أنه يصير هالكاً في وقت من الأوقات؛ بل هو هالك أزلاً وأبداً لا يتصور إلا كذلك؛ فإن كل شىء سواه إذا اعتُبِر ذاته من حيث ذاته فهو عدم محض؛ وإذا اعتبر من الوجه الذى يسرى إليه الوجود من الأول الحق رؤى موجوداً لا في ذاته لكن من الوجه الذى يلى موجده (و 8ـ ا)، فيكون الموجود وجه الله تعالى فقط. فلكل شىء وجهان: وجه إلى نفسه ووجه إلى ربه؛ فهو باعتبار وجه نفسه عدم وباعتبار وجه الله تعالى موجود. فإذن لا موجود إلا الله تعالى ووجهه. فإذن كل شىء هالك إلا وجهه أزلاً وأبداً. ولم يفتقر هؤلاء إلى يوم القيامة ليسمعوا نداء البارى تعالى {لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ} . بل هذا النداء لا يفارق سمعهم أبداً. ولم يفهموا من معنى قوله "الله أكبر" أنه أكبر من غيره، حاش لله، إذ ليس في الوجود معه غيره حتى يكون أكبر منه؛ بل ليس لغيره رتبة المعية، بل رتبة التبعية. بل ليس لغيره وجود إلا من الوجه الذى يليه. فالموجود وجهه فقط. ومحال أن يقال إنه أكبر من وجهه. بل معناها أنه أكبر من أن يقال له أكبر بمعنى الإضافة والمقايسة، وأكبر من أن يدرك غيره كنه كبريائه، نبّياً كان أو مَلَكاً. بل لا يعرف الله كنه معرفته إلا الله. بل كل معروف داخل في سلطة العارف واستيلائه دخولاً مّا؛ وذلك ينافي الجلال والكبرياء. وهذا له تحقيق ذكرناه في كتاب "المقصد الأسنى في معانى أسماء الله الحسنى".
إشارة
العارفون - بعد العروج إلى سماء الحقيقة - اتفقوا على أنهم لم يروا في الوجود إلا الواحد الحق. لكن منهم من كان له هذه الحال عرفاناً علمياً، ومنهم من صار له ذلك حالاً ذوقياً. وانتفت عنهم الكثرة بالكلية واستغرقوا بالفردانية المحضة واستوفيت فيها عقولهم فصاروا كالمبهوتين فيه ولم يبق فيهم متسع لا لذكر غير الله ولا لذكر أنفسهم أيضاً. فلم يكن عندهم إلا الله، فسكروا سكراً دفع دونه سلطان عقولهم، فقال أحدهم "أنا الحق" وقال الآخر "سبحانى ما أعظم شانى!" وقال آخر "ما في الجبة إلا الله". وكلام العشاق في حال السكر يُطوَى ولا يحكى. فلما خف عنهم سكرهم وردوا إلى سلطان العقل الذى هو ميزان الله في أرضه، عرفوا أن ذلك لم يكن حقيقة الاتحاد بل شبه الاتحاد مثل قول العاشق في حال فرط عشقه "أنا من أهوى ومن أهوى أنا" (و 8ـ ب) ولا يبعد أن يفاجىء الإنسان مرآة فينظر فيها ولم ير المرآة قط، فيظن أن الصورة التى رآها هى صورة المرآة متحدة بها، ويرى الخمر في الزجاج فيظن أن الخمر لون الزجاج. وإذا صار ذلك عنده مألوفاً ورسخ فيه قدمه استغفر وقال:
رق الزجاج وراقت الخمر فتشابها فتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح وكأنما قدح ولا خمر
وفرق بين أن يقول: الخمر قدح، وبين أن يقول: كأنه قدح. وهذه الحالة إذا غلبت سميت بالإضافة إلى صاحب الحالة "فناء"، بل "فناء الفناء": لأنه فنى عن نفسه وفنى عن فنائه، فإنه ليس يشعر بنفسه في تلك الحال ولا بعدم شعوره بنفسه. ولو شعر بعدم شعوره بنفسه لكان قد شعر بنفسه. وتسمى هذه الحالة بالإضافة إلى المستغرق به بلسان المجاز اتحاداً أو بلسان الحقيقة توحيداً. ووراء هذه الحقائق أيضاً أسرار يطول الخوض فيها.
خاتمة
لعلك تشتهى أن تعرف وجه إضافة نوره إلى السماوات والأرض؛ بل وجه كونه في ذاته نور السماوات والأرض، فلا ينبغى أن يخفى ذلك عليك بعد أن عرفت أنه النور ولا نور سواه وأنه كل الأنوار، وأنه النور الكلى، لأن النور عبارة عما ينكشف به الأشياء، وأعلى منه ما ينكشف به وله، وأعلى منه ما ينكشف به وله ومنه، وأن الحقيقى منه ما ينكشف به وله ومنه وليس فوقه نور منه اقتباسه واستمداده: بل ذلك له في ذاته من ذاته لذاته لا من غيره. ثم عرفت أن هذا لن يتصف به إلا النور الأول. ثم عرفت أن السماوات والأرض مشحونة نوراً من طبقتى النور: أعنى المنسوب إلى البصر والبصيرة: أى إلى الحس والعقل. أما البصرى فما نشاهده في السماوات من الكواكب والشمس والقمر، وما نشاهده في الأرض من الأشعة المنبسطة على (و 9ـ ا) كل ما على الأرض حتى ظهرت به الألوان المختلفة خصوصاً في الربيع، وعلى كل حال في الحيوانات والمعادن وأصناف الموجودات. ولولاها لم يكن للألوان ظهور، بل وجود. ثم سائر ما يظهر للحس من الأشكال والمقادير يدرَك تبعاً للألوان ولا يتصور إدراكها إلا بواسطتها.
وأما الأنوار العقلية المعنوية فالعالم الأعلى مشحون بها، وهى جواهر الملائكة، والعالم الأسفل مشحون بها وهى الحياة الحيوانية ثم الإنسانية. وبالنور الإنسانى السفلى ظهر نظام عالم السفل كما بالنور الملكى ظهر نظام عالم العلو. وهو المعنىّ بقوله {أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} وقال تعالى: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي ٱلأَرْضِ} وقال: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ ٱلأَرْضِ} ، وقال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً}.
فإذا "عرفت هذا عرفت أن العالم بأسره مشحون بالأنوار الظاهرة البصرية والباطنة العقلية، ثم عرفت أن السفلية فائضة بعضها من بعض فيضان النور من السراج وأن السراج هو الروح النبوى القدسى، وأن الأرواح النبوية القدسية مقتبسة من الأرواح العلوية اقتباس السراج من النور؛ وأن العلويات بعضها مقتبسة من البعض، وأن ترتيبها ترتيب مقامات. ثم ترقي جملتها إلى نور الأنوار ومعدنها ومنبعها الأول؛ وأن ذلك هو الله تعالى وحده لا شريك له، وأن سائر الأنوار مستعارة، وإنما الحقيقى نوره فقط؛ وأن الكل نوره، بل هو الكل، بل لا هوية لغيره إلا بالمجاز. فإذن لا نور إلا نوره، وسائر الأنوار أنوار من الذى يليه لا من ذاته. فوجه كل ذى وجه إليه ومولّ شطره: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ} . فإذن لا إله إلا هو: فإن الإله عبارة عما الوجه موليه نحوه بالعبادة والتأله: أعنى وجوه القلوب فإنها الأنوار. بل كما لا إله إلا هو، فلا هو إلا هو: لأن "هو" عبارة عما إليه إشارة كيفما كان، ولا إشارة إلا إليه. (و 9ـ ب) بل كل ما أشرت إليه فهو بالحقيقة إشارة إليه وإن كنت لا تعرفه أنت لغفلتك عن حقيقة الحقائق التى ذكرناها. ولا إشارة إلى نور الشمس بل إلى الشمس. فكل ما في الوجود فنسبته إليه في ظاهر المثال كنسبة النور إلى الشمس. فإذن "لا إله إلا الله" توحيد العوام، "ولا إله إلا هو" توحيد الخواص، لأن هذا أتم وأخص وأشمل وأحق وأدق وأدخل بصاحبه في الفردانية المحضة والوحدانية الصرفة. ومنتهى معراج الخلائق مملكة الفردانية. وليس وراء ذلك مرقي: إذ الترقي لا يتصور إلا بكثرة: فإنه نوع إضافة يستدعى ما منه الارتقاء وما إليه الارتقاء. وإذا ارتفعت الكثرة حقت الوحدة وبطلت الإضافات وطاحت الإشارات ولم يبق علو وسفل ونازل ومرتفع: واستحال الترقي فاستحال العروج. فليس وراء الأعلى علو، ولا مع الوحدة كثرة، ولا مع انتفاء الكثرة عروج. فإن كان من تغير حال. فالنزول إلى سماء الدنيا: أعنى بالإشراف من علو إلى سفل لأن الأعلى له أسفل وليس له أعلى. فهذه هى غاية الغايات ومنتهى الطِّلبْات: يعلمه من يعلمه وينكره من يجهله. وهو من العلم الذى هو كهيئة المكنون الذى لا يعلمه إلا العلماء بالله. فإذا نطقوا به لم ينكره إلا أهل الغِرّة بالله. ولا يبعد أن قال العلماء إن النزول إلى السماء الدنيا هو نزول مَلَك: فقد توهم العلماء ما هو أبعد منه؛ إذ قال هذا المستغرق بالفردانية أيضاً له نزول إلى السماء الدنيا: فإن ذلك هو نزوله إلى استعمال الحواس أو تحريك الأعضاء. وإليه الإشارة بقوله "صرت سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به ولسانه الذى ينطق به". فإذا كان هو سمعه وبصره ولسانه، فهو السامع والباصر والناطق إذن لا غيره؛ وإليه الإشارة بقوله: "مرضت فلم تعدنى" الحديث.
فحركات هذا الموحّد (و 10ـ ا) من السماء الدنيا، وإحساساته كالسمع والبصر من سماء فوقه، وعقله فوق ذلك. وهو يترقي من سماء العقل إلى منتهى معراج الخلائق. ومملكة الفردانية تمام سبع طبقات ثم بعده يستوى على عرض الوحدانية، ومنه يدبّر الأمر لطبقات سماواته. فربما نظر الناظر إليه فأطلق القول بأن الله خلق آدم على صورة الرحمن، إلى أن يمعن النظر فيعلم أن ذلك له تأويل كقول القائل "أنا الحق" و "سبحانى" بل كقوله لموسى عليه السلام: "مرضت فلم تعدنى" و "كنت سمعه وبصره ولسانه". وأرى الآن قبض البيان فما أراك تطيق من هذا القدْر أكثر من هذا القدْر. (مساعدة) لعلك لا تسمو إلى هذا الكلام بهمتك، بل تقصر دون ذروته همتك، فخذ إليك كلاماً أقرب إلى فهمك وأوفق لضعفك.
واعلم أن معنى كونه نور السماوات والأرض تعرفه بالنسبة إلى النور الظاهر البصرى. فإذا رأيت أنوار الربيع وخضرته مثلاً في ضياء النهار فلست تشك في أنك ترى الألوان. وربما ظننت أنك لست ترى مع الألوان غيرها، فإنك تقول لست أرى مع الخضرة غير الخضرة. ولقد أصر على هذا قوم فزعموا أن النور لا معنى له، وأنه ليس مع الألوان غير الألوان، فأنكروا وجود النور مع أنه أظهر الأشياء، وكيف لا وبه تظهر الأشياء، وهو الذى يبصَر في نفسه ويبصَر به غيره كما سبق. لكن عند غروب الشمس وغيبة السراج ووقوع الظل أدركوا تفرقة ضرورية بين محل الظل وبين موقع الضياء فاعترفوا بأن النور معنى وراء الألوان يدرك مع الألوان حتى كأنه لشدة انجلائه لا يدرك، ولشدة ظهوره يخفى. وقد كان الظهور سبب الخفاء. والشىء إذا جاوز حده انعكس على ضده.
فإذا عرفت هذا فاعلم أن أرباب البصائر ما رأوا شيئاً إلا رأوا الله معه. وربما زاد على هذا بعضهم فقال "ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله قبله" لأن منهم من يرى الأشياء به (و 10ـ ب). ومنهم من يرى الأشياء فيراه بالأشياء. وإلى الأول الإشارة بقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ؛ وإلى الثانى الإشارة بقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ} فالأول صاحب مشاهدة، والثانى صاحب الاستدلال عليه: والأول درجة الصديقين، والثانى درجة العلماء الراسخين، وليس بعدهم إلا درجة الغافلين المحجوبين.
وإذ قد عرفت هذا فاعلم أنه كما ظهر كل شىء للبصر بالنور الظاهر، فقد ظهر كل شىء للبصيرة الباطنة بالله. فهو مع كل شىء لا يفارقه ثم يظهر كل شىء، كما أن النور مع كل شىء وبه يظهر. ولكن بقى ها هنا تفاوت: وهو أن النور الظاهر يُتَصور أن يغيب بغروب الشمس ويحجب حتى يظهر الظل، وأما النور الإلهى الذى به يظهر كل شىء، لا يتصور غيبته بل يستحيل تغيره. فيبقى مع الأشياء دائماً، فانقطع طريق الاستدلال بالتفرقة. ولو تصوّر غيبته لانهدت السماوات والأرض. ولأدرك به من التفرقة ما يضطر معه إلى المعرفة بما به ظهرت الأشياء. ولكن ما تساوت الأشياء كلها على نمط واحد في الشهادة على وحدانية خالقها ارتفع التفريق وخفى الطريق: إذ الطريق الظاهر معرفة الأشياء بالأضداد؛ فما لا ضد له ولا تغير له تتشابه الأحوال في الشهادة له. فلا يبعد أن يخفى ويكون خفاؤه لشدة جلائه والغفلة عنه لإشراق ضيائه. فسبحان من اختفى عن الخلق لشدة ظهوره، واحتجب عنهم لإشراق نوره. وربما لم يفهم أيضاً كنه هذا الكلام بعض القاصرين، فيفهم من قولنا "إن الله مع كل شىء كالنور مع الأشياء" أنه في كل مكان؛ تعالى وتقدس عن النسبة إلى المكان. بل لعل الأبعد عن إثارة هذا الخيال أن نقول إنه قبل كل شىء؛ وإنه فوق كل شىء؛ وإنه مُظهِر كل شىء. والمظهِر لا يفارق المظهَر في معرفة صاحب البصيرة. فهو الذى (و 11ـ ا) نعنى بقولنا إنه مع كل شىء. ثم لا يخفى عليك أيضاً أن المظهِر قبل المظهَر وفوقه مع أنه معه بوجه: لكنه معه بوجه وقبله بوجه. فلا تظنن أنه متناقض، واعتبر بالمحسوسات التى هى درجتك في العرفان؛ وانظر كيف تكون حركة اليد مع حركة ظل اليد وقبلها أيضاً. ومن لم يتسع صدره لمعرفة هذا فليهجر هذا النمط من العلم، فلكل علم رجال؛ وكلّ ميسّر لما خلق له.