بحث فى الصلح الجنائي
فى القانون الجنائي المصري والشريعة الإسلامية
مقدمة:
يقتضى التدخل فى الدعوى الجنائية تمحيص الأدلة وفحص شخصية المتهم وتهيئة جميع العناصر اللازمة لإصدار الحكم.
ونظراً لما يستغرقه هذا البحث من إجراءات قد يطول مداها اتجه التفكير إلى معالجة الدعوى الجنائية بغير طريق القضاء الجنائي أو بغير طريق القضاء كله .
أما عن استبعاد الدعوى من ساحة القضاء الجنائي , فهو يعكس اتجاهاً حديثاً يسمي "بعدم العقاب" ويقصد بهذا الاتجاه الحد من عيوب العقوبات المقيدة للحرية وخاصة القصيرة المدة لما لها من آثار سلبية خطيرة سواء على المحكوم عليه أو على أسرته أو على المجتمع كله , فقد واكب هذا الاتجاه الدعوى إلى تطوير نظام العدالة الجنائية من خلال توفير بدائل إجرائية تؤدي بدورها إلى الحد من العقاب وتسهم فى تحقيق العدالة الناجزة.( ).
وقد بدأ الخروج عن السير الطبيعي للإجراءات الجنائية فى نهاية القرن التاسع عشر وفى أوائل القرن العشرين , حين بدأت بعض التشريعات فى تنظيم محاكمة خاصة للأحداث تكفل إبعادهم عن جو المحاكمة الجنائية, ومعاملتهم على نحو أقل شدة , وامتد نطاق هذه المعاملة الخاصة إلى البالغين فى ضوء شخصيتهم الإجرامية تحت تأثير تعاليم السياسة الجنائية الحديثة التى بدأت منذ المدرسة الوضعية.
وتتمثل معظم تجارب الدول فى الخروج على الإجراءات الجنائية التقليدية التى يباشرها القاضي فى إحدى وسيلتين هما:
1- التدخل الاجتماعي , وذلك عن طريق الأسرة أو الجماعة لحل المشكلة المترتبة على الجريمة فى مجالها الخاص بعيداً عن تدخل الشرطة أو القضاء وقد تتدخل الشرطة فتحيل المشكلة المترتبة على الجريمة إلى الأسرة أو الجماعة لحلها بدلاً من رفع الأمر إلى النيابة العامة.
2- تحقيق العدالة الجنائية بغير مرور بمرحلة المحاكمة أو بمرحلة التنفيذ العقابي , ويتم ذلك من خلال بدائل للدعوى الجنائية أو بدائل للتنفيذ العقابي.
وقد تصاعدت هذه الدعوى مع الاتجاه إلى إعطاء المجني عليه دوراً مهما ً فى السياسة الجنائية حتى يصبح طرفاً حقيقيا ً فى العدالة الجنائية , فى ضوء ذلك بدأ الاعتراف بالدور المهم الذي يمكن أن تلعبه إرادة الفرد لتحقيق العدالة الجنائية مما أدى إلى تطوير هذه العدالة لكي يتحقق بطريق التراضي أو من خلال التفاوض بين ممثل الاتهام والمتهم. وفى ظل هذا التطوير لم يعد هدف العدالة الجنائية الوحيد هو العقاب, بل أصبح تحقيق الحماية للحقوق الخاصة
للأفراد ,وأصبح إصلاح العلاقة بين المجني عليه والمتهم هدفاً مهماً في هذا التطوير , مما جعل تحقيق العدالة الجنائية من خلال التعويض أقرب منه من خلال العقاب , ورغم هذا الهدف فقد استمر البحث عن الحقيقة هدفاً ثابتاً للعدالة الجنائية ,وانحصر التغيير فى مجرد الوسائل لتحقيق مبدأ أن الاتفاق العادل أفضل من خصومة عادلة , بما يصل إلى القول بأن" العدالة المتفق عليها " أفضل من "العدالة الملزمة"
وقد عرف القانون الأمريكي الاتفاق فى مرحلة المحاكمة بين ممثل الاتهام والمتهم لتسهيل إدارة العدالة الجنائية على أن يعترف المتهم بتهم معينة مسندة إليه بالاتفاق مع ممثل الاتهام مقابل إسقاط هذا الأخير تهماً أخرى ضده أو التخفيف من وصف التهمة المسندة إليه ,هو ما يسمي باعتراف المتهم بالتهم الموجهة إليه بعد الاتفاق مع ممثل الاتهام .
وقد شهد القانون الفرنسي هذا التطوير الذي يقوم على الاتفاق بين إرادة النيابة العامة وإرادة المتهم لتحقيق العدالة الجنائية حتى أطلق البعض على هذا الاتفاق بأنه ينطوي على خصخصة للإجراءات الجنائية وتأسس هذا التطوير على سلطة الملائمة التي تتمتع بها النيابة العامة في مباشرة الدعوى الجنائية وفى هذا الإطار عرف القانون الفرنسي ثلاثة نظم:
أولاً : التوفيق للإصلاح : الذي يجيز للنيابة العامة قبل اتخاذها قراراتها بشأن الدعوى الجنائية أن تقوم مباشرة أو من خلال ندب أحد مأموري الضبط القضائي اتخاذ عدة إجراءات للصلح بين مرتكب الجريمة والمجني عليه ويترتب على هذا التوفيق للإصلاح وقف تقادم الدعوى الجنائية .
ثانياً : نظام التصالح العقابي : ووفقاً لهذا النظام يجوز للنيابة العامة طالما لم تقم بتحريك الدعوى الجنائية أن تقترح التصالح العقابي مع متهم بالغ يقر بارتكاب أحد أو بعض الجنح المنصوص عليها فى قائمة معينة فى بعض مواد قانون العقوبات مما يعاقب عليه القانون بالغرامة أو بالحبس مدة لا تزيد على 5 سنوات وكذلك الحال بالنسبة لأحد أو بعض المخالفات المرتبطة بها التى يقرر لها القانون أو بعض التدابير المنصوص عليها فى المادة 41-2 إجراءات فرنسي .
ثالثاً: نظام الإقرار بالتهمة قبل المثول أمام القضاء :
وقد أخذ بهذا النظام القانون الفرنسي المسمي بقانونperbenII بتعديل قانون الإجراءات الجنائية فى المواد 495/7 إلى 495/16 ومقتضي هذا النظام أنه فى الجنح المعاقب عليها بصفة أصلية بعقوبة الغرامة أو بعقوبة الحبس لمدة لا تزيد على خمس سنوات يجوز للنيابة العامة من تلقاء نفسها أو بناء على طلب صاحب الشأن أو محاميه طلب إجراء الحضور أمام المحكمة بناء على الإقرار السابق بالمسئولية عن الجريمة وإقراره بالوقائع المنسوبة إليه.
ويمكن لممثل النيابة العامة أن يقترح على الشخص المعترف تنفيذ أحد أو بعض العقوبات الأصلية أو التكميلية فى حدود ما نصت عليه المادة 132/24 من قانون العقوبات الفرنسي , فإذا قبل الشخص فى حضور محاميه العقوبة المقترحة يحال إلى رئيس المحكمة الابتدائية أو إلى القاضي المفوض منه لكي يتخذ قراره بشأن ما اقترحه ممثل النيابة العامة بقرار مسبب يتلى فى جلسة علنية.
وقد شهد قانون الإجراءات الجنائية المصري تطوير العدالة بعيداً عن المحاكمة الجنائية فى عدة صور تتمثل فيما يلي :
أولاً : ترك الدعوى الجنائية : ( ).
نصت المادة 260/ 2 إجراءات المعدلة بالقانون رقم 174/لسنة 1998 على أنه يترتب على ترك الدعوى المدنية أو اعتبار المدعى بالحق المدني تاركاً لها- بعد أن أقامها بالإدعاء المباشر , الحكم بترك الدعوى الجنائية ما لم تطلب النيابة العامة نظرها, وهو نظام عرفه قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي فى المادة 425 منه , ولا يعد ترك الدعوى الجنائية انقضاء لها, فما زال حق النيابة العامة فى إقامتها ومتوافراً حتى تنقضى المدة بالتقادم حتى ولو لم تطلب النيابة العامة نظرها من ترك المدعى المدني دعواه فى الدعوى المباشرة لأن ترك الدعوى لا يفيد انقضائها طالما بقى الحق فى إقامتها.
ثانياً :التصالح :
أجاز قانون الإجراءات الجنائية فى المادة 18 مكرراً التصالح فى مواد المخالفات , وكذلك فى مواد الجنح التى يعاقب القانون عليها بالغرامة فقط وفى هذه الحالة يكون عرض التصالح بواسطة مأمور الضبط القضائي المختص على المتهم أو وكيله , ويكون عرض التصالح فى الجنح من النيابة العامة, وقد حددت هذه المادة قيمة التصالح بربع الحد الأقصى للغرامة المقررة للجريمة أو قيمة الحد الأدنى المقرر لها أيهما أكثر وأوجب أن يتم التنفيذ خلال خمسة عشر يوماً من اليوم التالي لعرض التصالح.
فإذا انقضت هذه المدة دون تنفيذ التصالح لا يسقط حقه فى التصالح إذا دفع مبلغاً يعادل الحد الأقصى للغرامة المقررة للجريمة أو قيمة الحد الأدنى المقرر لهما أيهما أكثر كما يسرى ذات الحكم القانوني عند تراضي التصالح إلى ما بعد إحالة الدعوى إلى المحكمة المختصة , ويترتب على دفع مبلغ التصالح انقضاء الدعوى الجنائية ولو كانت مرفوعة بطريق الإدعاء المباشر, ولا يكون له تأثير على الدعوى المدنية .
ثالثاً :الصلح:
أجازت المادة 18 مكرر (أ) من قانون الإجراءات الجنائية للمجني عليه أو وكيله الخاص , فى الجنح المنصوص عليها فى المواد 241 (فقرتان أولى وثانية) , 242 (فقرات أولى وثانية وثالثة ) , 244 (فقرة أولي) , 265 , 321 مكرر , 323 و 323 مكرر ,323 مكرر أولاً ,324مكرر , 341 , 342 , 354 , 358 , 360 , 361 (فقرتان أولي وثانية ), 396 من قانون العقوبات , وفى الأحوال الأخرى التى ينص عليها القانون , أن يطلب إلى النيابة العامة أو المحكمة بحسب الأحوال "إثبات صلحها مع المتهم ويترتب علي الصلح انقضاء الدعوى الجنائية ولو كانت مرفوعة بطريق الإدعاء المباشر ولا أثر للصلح على حقوق المضرور من الجريمة( ).
وتندرج تحت الأحوال الأخرى التي ينص عليها القانون بشأن أثر الصلح فى انقضاء الدعوى الجنائية حالة المادة 534 من القانون رقم 17 لسنة 1999 بإصدار قانون التجارة , فقد نصت على أنه يترتب على الصلح فى جرائم المنصوص عليها فى هذه المادة والمتعلقة بإصدار شيك ليس له مقابل وفاء قابل للصرف وغيرها من الجرائم , انقضاء الدعوى الجنائية ولو كانت مرفوعة بطريق الإدعاء المباشر.
ولم يقتصر الأمر عند هذا الأثر بل نصت على وقف تنفيذ العقوبة إذا تم الصلح فى أثناء تنفيذها ولو بعد صيرورة الحكم باتاً ,هنا نلاحظ أن الصلح الذي يتم بعد أن يصبح الحكم باتاً يصيب الحق فى تنفيذ العقوبة .
دون أن يصيب الحق فى الدعوى الجنائية التى تمت مباشرته حتى انغلق باب الدعوى بلا رجعة بصدور الحكم الباقي.
رابعاً : الأمر الجنائي :
شرع قانون الإجراءات الجنائية نظام الأوامر الجنائية كبديل من بدائل الدعوى الجنائية وبمقتضاه يصدر القاضي أو النيابة العامة أمراًُ فى نوع معين من الجرائم بغرامة معينة , فضلاً عن العقوبات التكميلية والتضمينات وما يجب رده من المصاريف (المواد 323- 326 إجراءات) .
ويترتب على هذا الأمر انقضاء الدعوى الجنائية بشرط ألا يفترض عليه الخصوم إذا كان الأمر صادراً من القاضي , فإذا لم يحصل اعتراض على الأمر على هذا النحو المتقدم يصبح نهائياً واجب التنفيذ وتنقضي به الدعوى الجنائية.
ويعتبر الأمر الجنائي الصادر من النيابة العامة أو من القاضي هو بمثابة عرض للصلح فإن قبله المتهم ونفذه انقضت الدعوى الجنائية أما إذا لم يقبله رفعت الدعوى الجنائية قبله وفقاً للإجراءات التى نص عليها القانون .
ومما تقدم يتضح أن السياسة الجنائية الجديدة لا تهدف إلى العقاب فقط ولكن تهدف إلى إنهاء النزاع بالطرق الودية والتى سبق الإشارة إليها وسوف نقصر البحث على طريقة واحدة من هذه الطرق لإنهاء الدعوى الجنائية وهو طريق الصلح الجنائي.
تمهيد
سوف نتناول دراسة الصلح الجنائي فى القانون المصري وأيضاً فى الشريعة الإسلامية وسوف نقسم بحثنا إلى فصلين :
الفصل الأول : وهو ماهية الصلح الجنائي فى القانون المصري والشريعة الإسلامية وسوف نتناول فى هذا الفصل مفهوم الصلح ونطاق تطبيقه وطبيعته القانونية سواء فى القانون المصري أو الشريعة الإسلامية .
الفصل الثاني : وهو قواعد الصلح الجنائي والذي يتفرع إلى ثلاث مباحث وهى _( شروط الصلح , إجراءات الصلح , آثار الصلح ).
الفصل الأول : ماهية الصلح الجنائي:-
المبحث الأول: مفهوم الصلح الجنائي وتطوره التاريخي :
تتجه السياسة الجنائية المعاصرة بعد تطور طويل وعميق بدأت ملامحه منذ نهاية القرن الثامن عشر وحتى اليوم , إلى عدم العويل على العقوبة كصورة تقليدية وحيدة الجزاء , مضيفة إليها فكرة التدبير الإحترازي منذ عهد المدرسة الوضعية فى منصف القرن التاسع عشر , بل أنها فى إطار تجريه أغراض العقوبة , قد تجاوزت الغرض العقابي التقليدي المتمثل فى الردع العام , وما أعلنته من غرض تكميلي تمثل فى إقرار العدالة إلى الغرض الإصلاحي , المتمثل فى الردع الخاص , ومن بعده كفالة الدفاع الاجتماعي , وذلك فى إطار ما أسمته بمبدأ إنسانية قانون العقوبات , وقد انعكس ذلك على الجانب الإجرائي بصفة عامة , وحظيت فكرة الصلح الجنائي منه بنذر يسير ويرجع ذلك إلى اعتبارين :
أولهما:أنه يعالج سلوكاً معادياً للقيم الاجتماعية .
ثانيهما:إنه يحل محل العقوبة الجنائية.أى أنه ذو طبيعة إجرامية وعقابية معاً .
نقسم هذا المبحث إلى مطلبين يعالجان ذاتية الصلح الجنائي فى كل من القانون المصري والشريعة الإسلامية .
المطلب الأول
مفهوم الصلح الجنائي فى القانون المصري
التعريف اللغوي للصلح :
الصلح بضم الصاد وسكون اللام إسم من المصالحة , خلاف المخاصمة ومعناه السلم , وأصلح الشئ بعد فساده , أقامه , وأصلح الدابة أحسن إليها فصلحت, ويقال تصالح القوم بينهم , وقوم صلوح , أى متصالحون .
التعريف الفقهي والقضائي للصلح الجنائي:
تكمن الصعوبة فى وضع تعريف مجمع عليه ومسلم به للصلح الجنائي , حيث ترك المشرع هذا الأمر لاجتهاد الفقه والقضاء , بيد أن المشرع المدني قد تناول تعريف عقد الصلح المدني , وتباينت التعريفات الفقهية , والقضائية باختلاف طبيعة الجريمة .
ويميز المشرع المصري بين نوعين من الصلح , التصالح والصلح , وقد ورد مصطلح الصلح فى المادة 18 مكرر (أ) من قانون الإجراءات الجنائية المضافة بالقانون رقم 174 لسنة 1998, مما دعا الفقهاء إلى محاولة وضع تعريف له.
لذلك ذهب البعض إلى تعريف الصلح أنه" تلاقي إرادة المتهم وإرادة المجني عليه( )" وهو الصلح بالمعني الدقيق ويعتبره البعض بأنه " أسلوب لإنهاء المنازعات بطريقة ودية " بيد أن الآخرين يعرفونه بأنه " إجراء يتم عن طريقة التراضي على الجريمة بين المجني عليه ومرتكبها خارج المحكمة , والذي يمكن اتخاذه أساساً لسحب الاتهام فى الجريمة بمعنى أن المجني عليه قد قدمت له ترضية حفزته لأن يرغب فى الامتناع عن الاتهام : وذهب البعض الآخر للقول بأن الصلح الجنائي هو : أسلوب لإدارة الدعوى العمومية" .
ومن ناحية أخرى لم تميز أحكام محكمة النقض بين الصلح والتصالح ففى مجال جرائم الضرب المعاقب عليها بالمادة 242/ 1, 3 من قانون العقوبات , قضت بإنقضاء الدعوى الجنائية بالتصالح.
وكذلك فى جرائم تبديد الأشياء المحجوز عليها إدارياً , قضت بإنقضاء الدعوى الجنائية بالتصالح, بيد أن هناك أحكاماً قليلة العدد التزمت فيها المحكمة بالتفرقة التى أقامها المشرع , فقد قضت المحكمة بإنقضاء الدعوى الجنائية بالصلح في جريمة ائتلاف , زراعة المجني عليه( ) , وقضت كذلك بانقضاء الدعوى الجنائية بالصلح في جريمة الضرب, وجريمة تبديد .
وعندنا أن الصلح الجنائي هو ما عنيت المادة 18 مكرراً (أ) بالنص عليه ويمكن تعريفه بكونه" الإجراء الذي بمقتضاه تتلاقى إرادة المجني عليه مع إرادة المتهم فى وضع حد الدعوى الجنائية و يخضع هذا الإجراء لتقييم الجهة القانونية القائمة على الأخذ به , فإن قبلته ترتب عليه انقضاء الدعوى الجنائية دون تأثير على حقوق المضرور من الجريمة ( ) .
المطلب الثاني
مفهوم الصلح الجنائي فى الشريعة الإسلامية
الصلح فى اللغة السلم وفى الشرع عقد يرفع النزاع وينهي الخصومة وباعتباره أسلوباً متميزاً ينهي المنازعات بطريقة ودية , إبقاء لذات البين وتدعيماً للصلات والروابط الاجتماعية بين الأفراد والجماعات فقد اعتدت به الشريعة الإسلامية وغيرها من الشرائع السماوية.
يقول الله تعالي فى كتابه الكريم " والصلح خير "
ويقول الله تعالي أيضاً "فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين"
كما يقول الله تعالى فى سورة الحجرات" وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما"
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً " .
وكذلك قوله :ردوا الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يورث الضغائن , فالشريعة الإسلامية منذ فجر ظهورها قد أجازت الصلح فى بعض الجرائم وحرمته فى بعضها وتركت لولي الأمر التصرف فى الجرائم الأخرى ( )
المبحث الثاني
نطاق تطبيق الصلح الجنائي
استحدث المشرع المصري القانون رقم 174, لسنة 1998 صورة جديدة للصلح بين المجني عليه والمتهم , بغية تدعيم حق الأطراف فى الخصومة الجنائية بحيث
تنتهي تلك الأخيرة صلحاً , بدلاً من صدور حكم قضائي فيها.
وتستند علة الصلح بين المجني عليه والمتهم إلى الرغبة فى قطع سير إجراءات المحاكمة دون مساس بتوازن العلاقات الاجتماعية و الاقتصادية بين الأفراد وهو مالا يتم إلا بعد تنقية النفوس مما أحدثته الجريمة من ألم مادي ونفسي, وإذا كانت علة تحريم الأفعال موضوع الصلح, تتمثل فى انتهاكها بصفة أساسية لإرادة المجني عليه فإن هذه العلة تنتفي إن عفا هذا الأخير عن الجاني عفواً مشروطاً أو غير مشروط .
وقد ذهب البعض إلى عدم ملائمة الأخذ بنظام الصلح بين المجني عليه والمتهم فى القانون المصري , استناداً إلى انطوائه على خلط بين حق الدولة فى العقاب وحق المضرور فى التعويض , كما أنه يذهب بسلطة النيابة العامة فى تقرير ملائمة تحريك الدعوى الجنائية من عدمه , فضلاً عن اقترانه أحياناً بالترهيب أو الترغيب , وهو ما يقيد إرادة المجني عليه , ولسنا من هذا الرأي , ذلك أن هذا النوع من الصلح , إنما هو محض " عقوبة خاصة تفاوضية " تسمو فيها اعتبارات التعويض على مقتضيات العقاب , أما عن تقييد سلطة النيابة العامة فى ملائمة الإجراءات فهو أمر ليس بجديد , إذ يعلق المشرع الجنائي تحريك الدعوى الجنائية فى عدد غير قليل من الجرائم , على بعض من القيود الإجرائية , كالشكوي والإذن والطلب .
وأخيراً فإن الخشية من التأثير على إرادة المجني عليه , ترهيباً أو ترغيباً فمن الممكن تلافيه بإخضاع هذا الصلح لقدر من الرقابة من جانب النيابة العامة والقاضي وقد أخذت الشريعة الإسلامية بنظام الصلح بين الأفراد , منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً ويتضح ذلك فى العديد من آيات القرآن الكريم ومنها قوله تعالى :"وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفئ إلى أمر الله فإن فائت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين "( )." وإنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله إن الله لعلكم ترحمون"( ).وقوله تعالى " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً " .
كما ذكرت أحاديث الرسول (ص) على جواز الصلح فى الإسلام , حيث روى عن أبي هريرة رضي الله عنه _أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً" وهو ما يحملنا على إلقاء نظرة عليه فى الشريعة الإسلامية إضافة إلى ما عليه العمل فى القانون المصري , وعليه ينقسم هذا المبحث إلى مطلبين : المطلب الأول هو نطاق تطبيق الصلح فى القانون المصري , والمطلب الثاني : هو نطاق تطبيق الصلح فى الشريعة الإسلامية .
المطلب الأول
نطاق تطبيق القانون المصري
ينصرف الصلح الجنائي بين المجني عليه والمتهم إلى طائف معينة من الجرائم حددتها المادة 18 مكرراً (أ) من قانون الإجراءات الجنائية المصري , هي فى جملتها من الجنح التى يعاقب عليها القانون بالحبس والغرامة التى يزيد حدها الأقصى على مائة جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين .
وتتأصل هذه الجرائم إلى طائفتين تتعلق أولاهما بجرائم الأشخاص وتتصل ثانيهما بجرائم الأموال.
1- أما عن الأول فهي تشمل:
أ- جرائم الضرب أو الجرح الذي ينشأ عنه المرض أو العجز عن الأشغال الشخصية لمدة تزيد على عشرين يوماً ( م241/ 1عقوبات) .
ب- جرائم الضرب والجرح المشار إليها أن ارتكبت مع سبق الإصرار أو الترصد (242/3) أو استعمال أية أسلحة أو عصى أو آلات أو أدوات أخرى (242/3).
جـ -جرائم الجرح والاعتداء غير العمدي (م244/1 ).
د-جريمة إعطاء المواد الضارة غير القاتلة التى ينشأ عنها مرض أو عجز وقتي عن العمل(م265).
2- أما عن الثانية فهي تشمل :
أ- عدم رد الشئ أو الحيوان الفاقد لصاحبه (م321مكرر) .
ب- اختلاس الأشياء المحجوز عليها قضائياً أو إدارياً (م323).
ج-اختلاس الأشياء المنقولة الواقع ممن رهنها ضمان لدين عليه أو على آخر
(323مكرر) .
د- الاستيلاء بغير حق وبدون نية التملك على سيارة مملوكة للغير
(م323مكرر/ أولاً ) .
هـ- تناول أطعمة أو شراب فى محل معد لذلك ولو كان مقيم منه أو شغل غرفة أو أكثر في فندق أو نحوه , أو استئجار سيارة معدة للإيجار مع علم الجاني بأنه يستحيل عليه دفع الثمن أو الأجرة أو الامتناع بغير مبرر عن دفع ما استحق من ذلك أو الفرار دون الوفاة (م324مكرر).
و- خيانة الأمانة ( م341) .
ر- اختلاس الحارس للأشياء المحجوز عليها قضائياً أو إدارياً (م342)
ح- كسر أو تخريب الآلات الزراعية أو زرائب المواشي و عشش الخفراء (م354) .
ط- إتلاف كل أو بعض محيط متخذ من أشجار أو يابسة أو غير ذلك أو نقل أو إزالة حد , أو علامات مجهولة حداً لأملاك أو جهات مستغلة (358/ 1) وإذا ارتكب شئ من ذلك بقصد اغتصاب أرض(358/2).
ى – الحريق الناشئ عن عدم تنظيف أو ترميم الأفران أو المداخن أو المحلات الأخرى التى توقد فيها النار أو من النار الموقدة فى بيوت أو مبان أو غابات أو كروم أو غيطان أو بساتين بالقرب من كيمان تبن أو حشيش يابس , وكذا الحريق الناشئ عن إشعال صورايخ فى جهة من جهات البلدة أو بسبب إهمال آخر (360/1) والحريق الناشئ من تدخين أو نار موقدة , فى محطات لخدمة وتموين السيارات أو محطات الغاز الطبيعي أو مركز لبيع أسطوانات البوتاجاز أو مستودعات للمنتجات البترولية أو مخازن مشتعلة على مواد الوقود أو أى مواد قابلة للاشتعال (م360/2).
ك- تخريب أو إتلاف مواد ثابتة أو منقولة عمداً لا يمتلكها الجاني غير صالحة للاستعمال أو تعطيلها بأية طريقة (م361/1) وكذلك إذا ترتب علي الفعل ضرر مالي قيمته خمسون جنيهاً أو أكثر (م361/2).
ل- انتهاك حرمة ملك الغير بقصد منع حيازته أو بقصد ارتكاب جريمة فيه أو كان قد دخله بوجه قانوني وبقي فيه بقصد ارتكاب شئ مما ذكر (م369).
م – فى الأحوال الأخرى التى ينص عليها القانون.
ويلاحظ على هذه الجرائم بصفة عامة أنها تنطوي على مساس بمصالح مختلفة شخصية أو مالية , ومع ذلك يجمع بينهما قاسم مشترك هو انتهاكها بصفة أساسية لإرادة المجني عليه .
و تختلف خطة المشرع المصري فى تحديد الجرائم محل الصلح بين المجني عليه والمتهم عن تلك التى ينتهجها المشرع الفرنسي فى تحديد الجرائم محل الوساطة الجنائية.
فبينما يذهب الأول إلى وضع قائمة بالجرائم التى يطبق بشأنها الصلح مع إمكانية إضافة غيرها , إذا بالثاني يرغب عن سلوك هذا المنهج تاركاً لرئيس النيابة أمر تحديد هذه الجرائم فى حدود ما تتمتع به من سلطة تقديرية"( ).
فالمشرع المصري يسمح للمجني عليه بمقتضي المادة 18 مكرر (أ) إجراءات بالتصالح مع المتهم , وقد ذهب رأي إلى القول بأن الجرائم الواردة فى النص المذكور , قد وردت على سبيل الحصر ومع ذلك , فإنه يجوز وفقاً لهذا الرأي التوسع فى التفسير ,باستخدام القياس استناداً إلى حظر الأخير فى مواد التجريم والعقاب وجوازه فيما عدا ذلك , ولسنا من هذا الرأي ذلك أن الصلح فى ذاته محض استثناء على القاعدة العامة فى اختصاص النيابة العامة بتحريك ومباشرة الدعوى الجنائية , ولما كان ذلك كذلك فقد وجب الحذر فى تطبيق النص المشار إليه بحيث لا يجوز التوسع فى تفسيره أو القياس عليه , لأنه " لا صلح بغير نص"
فضلاً عن هذا فإن المشرع قد أردف الجرائم محل الصلح بعبارة " وفى الأحوال الأخرى التى ينص عليها القانون ومن هنا يكون جائزاً إضافة جرائم جديدة بقوانين خاصة تالية فى صدورها لتاريخ العمل بالقانون رقم 174 لسنة 1998, وقد تأكد ذلك بصدور قانون التجارة الجديد رقم 17 لسنة 1999 الذي ينص (م534/4) على انقضاء الدعوى الجنائية بالصلح بين المجني عليه والمتهم فى الجرائم الوارد فى المادة 534 من ذات القانون.
المطلب الثاني
نطاق تطبيق الصلح فى الشريعة الإسلامية
تعرف الجريمة فى الشريعة الإسلامية بأنها فعل ما حرم الله أو امتناع أمر به معاقب عليه بعقوبة عينها الشارع الإلهي أو ترك تحديدها لتقدير ولى الأمر.
وتتعدد الجرائم والعقوبات التى يمكن أن تكون محلاً للصلح بين المجني عليه والمتهم .
ويحيل فقهاء الشريعة الإسلامية , عند دراسة نطاق تطبيق الصلح , إلى القواعد المقررة للعفو عن العقوبة من المجني عليه أو وليه. ومع ذلك فثمة اختلاف جوهري بين العفو والصلح يتمثل فى كون الأول محض عمل صادر عن الإرادة المنفردة بغير مقابل , بينما تكون للثاني صفته التعاقدية التبادلية ويكون فيها المقابل ركناً أصيلاً.
ونفضل الحديث عن نطاق تطبيق الصلح فى الشريعة الإسلامية فى إطار التقسيم الشرعي للجرائم , فنبحث أولاً الصلح فى جرائم الحدود .
ونتناول ثانياً الصلح فى القصاص والدية ونبين ثالثاً الصلح فى جرائم التعزيز. "( ).
أولاً : فى جرائم الحدود:
أجمع الفقه الإسلامي على حظر الصلح فى جرائم الحدود كأصل عام , وقد ثار خلاف فيما يتعلق بجريمتين هما :
القذف الكاذب بالزنا والسرقة يحث لا تتم ملاحقة الجاني إلا بعد شكوى المجني عليه .
1- القذف الكاذب بالزنا:
تسائل الفقهاء حول مدى جواز الصلح بين القاذف والمقذوف فى حقه وهو تساؤل يرتد بدوره إلى الطائفة التى تنتهي إليها هذه الجريمة فذهبت الحنفية إلى إدراجها ضمن الجرائم المختلطة التى يكون حق الله فيها غالباً , لأن مصلحة المجتمع فى دفع هذا الفساد عن طريق الحد , يقود على الكافة , وكل أمر كان النفع فيه عاماً الحد فيه حقاً لله تعالي , ومن ثم فإن هذا الحد لا يكون إلا عن طريق ولى الأمر أو القاضي ولا يجوز فيه الصلح , أضف إلى ذلك أن الشارع قد عين لهذه الجريمة عقوبة محددة فى القرآن الكريم , حيث
يقول تعالي فى سورة النور"والذين يرمون المحصنات , ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون".
وعلى العكس من ذلك يرى الشافعية والحنابلة أن حد القذف من الحقوق المختلطة التى يغلب فيها حق العبد , ومن ثم لا تجوز ملاحقة مرتكبيها إلا بناء على شكوى المقذوف أو وليه , بطريق الدعوى الجنائية الخاصة , أما عن اختصاص ولى الأمر أو القاضي بتنفيذ العقوبة فلا يجب أن يفهم أن هذه الجريمة تندرج ضمن الجرائم التى يطلب فيها حق الله (جلت عظمته) وما اسناد التنفيذ إلى ولي الأمر أو من يفوضه إلا بغية تجنب إسراف المجني عليه إذا أوكل إليه هذا الحق بمفرده وضماناً للترفق بالمجرم أثناء تنفيذ العقوبة فيه . وعليه تكون الصلح والعفو جائزين سواء كان ذلك قبل رفع الدعوى إلى القضاء أو بعد رفعها.
ويتوسط المالكية بين هذين الرأيين : فيفرقون بين مرحلة ما قبل رفع الدعوى وما بعدنا .
ففى الأولى : لا تمس الجريمة سوى حق المقذوف ومن ثم وجب الرجوع إليه فى شأن تقدير ملائمة عقاب القاذف أو العضو عنه أو التصالح معه من عدمه .أما الثانية : فقد أوضحت العقوبة حقاً لله يوقعها ولي الأمر, فلا يجوز فيها الصلح ولا العفو وال الإبراء.
ويميل إلى تأييد رأى المالكية , وذلك استناداً إلى حجج ثلاث :
أ- أنه لا يمكن تجاهل الضرر الذي أحدثه القاذف فى مجتمع ينهض على ركائز دينية عظمي , لأن الغاية من تجريم مثل هذا السلوك إنما تتحصل فى حماية المجتمع من شيوع الفاحشة بين أرجاءه وهو ما حد بالشارع إلى الانفراد بتقدير العقوبة الواجبة التطبيق .
ب- أنه لا يمكن تجاهل الطبيعة الخاصة لتلك الجريمة لاستطالتها إلى أحد الحقوق اللصيقة بشخص المجني عليه ,وهو ما يستوجب الاعتداد بمشيئته قبل رفع الأمر إلى القاضي بحيث لا يوقع هذا الأخير جزاءاً على القاذف إلا بعد شكوى المجني عليه .
جـ- أن هذا الرأي يحقق التوازن بين حق المجتمع فى توقيع العقاب وحق المجني عليه فى العفو عن القاذف أو التصالح معه إن رأى ملائمة ذلك.
2- السرقة :
تعتبر هذه الجريمة من بين الجرائم التى يتوقف تحريك الدعوى الجنائية الناشئة عنها على شكوى المجني عليه .
ولتحديد موعد جواز الصلح فى شأنها من عدمه , يتعين التمييز بين فرضين : يقع الصلح فى أولهما قبل رفع الأمر إلى القضاء ., ويتم فى الثاني بعده.
ا- أما عن الفرض الأول : فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى القول استناداً إلى ما رواه الزهري عن ابن صفوان عن أبيه , أنه نام فى المسجد وتوسد رداءه , فأخذ من تحت رأسه, فجئ بسارق إلى النبي (ص) فأمر به أن يقطع ,فقال صفوان : يا رسول الله إني أرده بهذا , هو عليه صدقه , فقال عليه الصلاة والسلام : فهلا قبل أن تأتيني به وتفصح هذه الرواية , بمفهوم المخالفة عن إجازة الصلح والعفو قبل إقامة البينة كما روي عن هشام بن سعد عن أبي حازم , أن علياً رضي الله عنه شفع فى سارق , فقيل أتشفع فى سارق . فقال نعم .. ما لم يبلغ به الإمام , فإذا بلغ به الإمام .فلا أعفاه الله إن عفا.
وتكشف هاتان الروايتان عن جواز العفو والصلح , طالما كان ذلك قبل أن يتصل علم ولى الأمر أو القاضي بالجريمة .
ب- وبالنسبة للفرض الثاني: فإن القطع يكون واجباً , فلا عفو ولا صلح استناداً إلى ذات الروايتين المتقدمتين إضافة إلى ما روي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن , من أن الزبير بن العوام لقي رجلاً قد أخذ سارقاً إلى الإمام , فتشفع له الزبير ليتركه فقال: لا حتى أبلغ به إلى السلطان , فقال له الزبير :إذا بلغت به السلطان , فلعن الله الشافع والمشفع , كما روت عائشة رضي الله عنها أن قريشاً أهمها بشأن المرأة المخزومية التى سرقت , فقالوا من يكلم فيها رسول الله (ص)؟ فقالوا من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمة أسامة، فقال رسول الله (ص) أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة؟ ثم قام فاختطب ثم قال :" إنما أهلك الذين قبلكم: كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطع محمد يدها".
هذا فضلاً عن أن حق العبد يقف عند مجرد إقامة الخصومة، وقد استنفذه برفع الدعوى إلى ولى الأمر أو القاضي، الذي لا يملك سوى إنزال العقوبة المقدرة شرعاً بالجاني، دون أن يكون للمجني عليه – حينئذ – ثمة حق في العفو أو الصفح.
ثانياً : في جرائم القصاص والديه:
يطلق البعض على هذه الطائفة من الجرائم تعبير جرائم الدم، وهي تعتبر مجالاً رئيسياً للصلح، سواء بالنسبة للعقوبة البدنية (القصاص) أو المالية (الدية).
1- أما عن القصاص:
فإن إجازة الصلح في شأنه تستند إلى العديد من الآيات القرآنية الشريفة، مثال ذلك :" يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، فمن عفى له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف، وأداء إليه بإحسان، ذلك تخفيف من ربكم ورحمة، فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم"( ).
"وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص، فمن تصدق به فهو كفارة له، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون"( ).
"وجزاء سيئة سيئة مثلها، فمن عفا وأصلح فأجره على الله، إنه لا يحب الظالمين"( ). والأصل في القصاص أنه عقوبة تستهدف شفاء غليل المجني عليه أو ولي الدم ومن ثم فلا تثريب من إنهاء هذا النزاع صلحاً بين طرفيه، بدلاً من القصاص من الجاني، وهو يحقق بأن يدفع الأخير مبلغاً من المال إلى الأول تعويضاً له عما أصابه من ضرر مادي، وألم نفسي من جراء الجريمة.
2- وبالنسبة للدية:
فإن إجازة الصلح في شأنها إنما تستند إلى الآية القرآنية "ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلى أن يصدقوا"( ). وبصفة عامة – تنتمي هاتان الطائفتان إلى طائفة الجرائم المختلطة، أي تلك التي تنطوي على عدوان على حق الله وحق العبد في آن واحد، وإن كانت الغلبة لهذا الأخير، ومن ثم كانت من الجرائم الخاصة التي ترفع إلى القضاء بطريق الدعوى الجنائية الخاصة أو الفردية من المجني عليه أو وليه، وذلك إعمالاً للآية الكريمة، ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطانا"( ). وقد قسمها الفقهاء إلى عمدية موجبة للقصاص، وشبه عمدية، وغير مدية موجبة للدية.
ويترتب على الصلح في أي منها، إيقاف سير الدعوى الجنائية دون توقيع العقوبة المقررة سواء كانت قصاصاً أو دية، بيد أن التنازل عن الحق في القصاص، لا يعني إعفاء الجاني من العقاب تماما، وإنما يظل عرضه لعقوبة تعزيرية يقدرها القاضي تبعا لمقتضيات المصلحة العامة والخاصة على السواء.
ثالثاً: في جرائم التعزير:
لم يحدد الشارع جرائم التعزير على سبيل الحصر، كما فصل بالنسبة للطائفتين السابقتين، اكتفاء بما أورده من النص على بعضها، تاركاً لولي الأمر سلطة تقرير سواها، مراعاة منه لتطور الحياة، وما يستجد في المجتمع من ظروف تؤثر على أمنه وسلامته.
وبصفة عامة، فإن هذه الجرائم تتفرع إلى ذات التقسيمات التي سبق بيانها: فمنها ما هو حق خالص لله تعالى ومنها ما هو حق خالص للعبد ومنها ما يشترك في الحقان، مع إمكانية غلبة أحدهما على الآخر، في بعض الفروض ومن أمثلة الطائفة الأولى: ترويج البدع، والتشكيك في المسلمات الإسلامية وتحريض النسوة والغلمان على الفسق والفجور، وحيازة الخمور والاتجار فيها، وغش البضائع، والإفطار في نهار رمضان بغير عذر.
ومن أمثلة الطائفة الثانية : شتم الصبي رجلاً، لأن الأول غير مكلف بحقوق الله، فيبقى حق تعزيره للخير، وهو المشتوم.
أما الطائفة الأخيرة، فمن أمثلتها تقبيل زوجة الأجنبي والخلوة بها، وكذلك الحال بالنسبة لجرائم السب والإيذاء البدني التي لا يجوز القصاص فيها.
المبحث الثالث
الطبيعة القانونية للصلح الجنائي
تجيز التشريعات الجنائية المعاصرة الصلح في بعض جرائم الأشخاص والأموال، وتهدف تلك التشريعات من تلك الإجازة، محاولة لتخطي أزمة العدالة الجنائية والتي نجمت عن ظاهرة التضخم العقابي نتاج الثورة المعلوماتية والتكنولوجية التي عمت القرية الكونية وقد بدا مصطلح الصلح بمثابة المنقذ في سماء التشريعات الجنائية المعاصرة.
وقد أدخل المشرع المصري تعديلاً تشريعياً عام 1998، حيث أصدر القانون رقم 174 لسنة 1998 وأضاف المادة 18 مكرراً (أ) والتي أجازت الصلح بين الجاني والمجني عليه أو وكيله الخاص في طائفة من الجرائم التي تقع على الأشخاص، وأخرى تقع على الأموال.
ويجمع بين هذه الجرائم طابع عدم الإخلال الجسيم بالمصلحة العامة، والضرر الأكبر ينصب على المجني عليه، كما ورد بالمذكرة الإيضاحية للقانون رقم 174 لسنة 1998 أنه "من شأن هذا الحكم المستحدث أن يقطع سير كثير من إجراءات المحاكمة دون مساس بتوازن العلاقات الاجتماعية والاقتصادية بين الأفراد، ما دام أن انقضاء الدعوى الجنائية معلق على إقرار المجني عليه بالصلح، الذي لا يتم غالبا إلا نتيجة إزالة أثر الجريمة أو الصفح بين ذوي الصلات الحميمة.
هذا وقد ثار الخلاف حول الطبيعة القانونية لهذا الصلح فهل هو يعتبر عقد أم تصرف قانوني أم عمل قانوني، بالنظر إلى الآثار التي يرتبها وهذا ما سوف نعرض له في البند التالي:
الصلح الجنائي والصلح المدني:
• يكاد ينعقد إجماع الفقه، على أن الصلح المنصوص عليه في المادة (18) مكرراً (أ)، من قانون الإجراءات الجنائية المصري، ذو طبيعة عقدية يتماثل مع عقد الصلح المنصوص عليه في التقنين المدني. فطبقاً لنص المادة 549 من القانون المدني، فإن الصلح عقد يحسم به الطرفان نزاعاً قائماً أو يتوقيان به نزاعا محتملا. وذلك بأن ينزل كل منهما على وجه التقابل عن جزء من ادعائه( ).
• ويشترك الصلح الجنائي مع الصلح المدني في انعقاده بتلاقي إرادتين هما إرادة المجني عليه وإرادة المتهم وذلك بالنسبة لجرائم المادة 18 مكرراً (أ) من قانون الإجراءات الجنائية.
وقد دفع هذا التشابه إلى اتجاه جانب من الفقه إلى القول بأن الصلح بين الجاني والمجني عليه، يعتبر تصرفاً قانونياً من جانبين، يماثل الصلح المدني، هذا وإن تدخل المشرع في تحديد بعض الآثار الجنائية كانقضاء الدعوى الجنائية، لا يفقد هذا الصلح طبيعته المدنية، الذي تجمعت كافة عناصره، ولم يكن من ضمن تلك العناصر انقضاء الدعوى الجنائية، ويستند هذا الاتجاه إلى أن الصلح قد يتم بصدد جريمة لا يجوز الصلح فيها، كما أن الصلح المدني يحوز حجية الشئ المقضي به ويؤيد جانب هام من الفقه هذا الاتجاه العقدي، فمن وجهه نظر هذا الجانب، أن الصلح عقد طرفاه المجني عليه أو وكيله الخاص من جهة والمتهم من جهة أخرى، وينعقد بتلاقي الإرادتين، وظاهر نص المادة 18 مكرراً (أ)، أن المجني عليه أو وكيله الخاص له أن يطلب من النيابة العامة أو المحكمة – بحسب الأحوال – إثبات صلحه مع المتهم، ولكن قد تكون من مصلحة المتهم رفض الصلح، كما لو كان الاتهام كيدياً، فالصلح بين الجاني والمجني عليه، أقرب للصلح في مجال القانون الخاص، وهذا الصلح ينتج أثره ولو جهل الطرفان هذا الأثر( ).
وذهب البعض الآخر إلى القول بأن الصلح المنصوص عليه في المادة 18
مكرراً (أ) من قانون الإجراءات الجنائية، يحوي طائفتين من الجرائم الأولى تعتبر من جرائم الأشخاص، وهي جرائم الإيذاء كالضرب والجرح وإعطاء المواد الضارة، وتلك الطائفة تتقارب مع جرائم القصاص المعروفة في الشريعة الإسلامية بل وتتماثل معها، فلا مرية أن الصلح يعد بمثابة عقوبة مالية بديلة. أما الطائفة الثانية من تلك الجرائم، فهي تنصب على الأموال، مثل جرائم خيانة الأمانة، أو الإتلاف واختلاس الأشياء المحجوز عليها قضائياً وإدارياً. والصلح في تلك الطائفة من الجرائم معاقب عليه بالحبس والغرامة، ويفترض كذلك قيام الجاني بإزالة أثر الجريمة، وهذا لا يتأتى إلا بدفع مقابل لهذا الصلح، والصلح الذي تعنيه المادة المذكورة، يتعلق بجريمة وقعت، ومن ثم فالمقابل الذي يدفعه الجاني للمجني عليه يحوي في طياته إيلاماً للجاني حيث يقتطع جزءاً من أمواله، وما يزيد من أثر هذا الإيلام هو دفعه للمجني عليه أو وكيله الخاص، وترتيباً على ذلك، فالصلح في جرائم الأموال بمثابة عقوبة بديلة مالية رضائية، أما إذا تم الصلح بلا مقابل بين ذوي الصلات الحميمة كما جاء بالمذكرة الإيضاحية للقانون رقم 174 لسنة 1998، فواقع الأمر لا يعتبر صلحاً بالمعنى الفني وإنما نكون بصدد صفح أو عفو، والفرق بينهما كبير، فالصلح لا يكون إلا بمقابل ويتوقف على رضا الجاني، أما الصفح فلا يتوقف على إرادة الجاني أو رضائه كما أن العفو يتم دوما بلا مقابل.
ويذهب نفس الاتجاه السابق إلى القول بأن ما قيل على أن الصلح بين الجاني والمجني عليه عقد مدني رتب المشرع بعض آثاره
ويذهب نفس الاتجاه السابق إلى القول بأن ما قيل على أن الصلح بين الجاني والمجني عليه عقد مدني رتب المشرع بعض آثاره الجنائية، وإن لم تتجه إرادة الطرفين إلى تلك الآثار ومن ضمنها انقضاء الدعوى الجنائية فيبدو أنه غير منطقي، فانقضاء الدعوى الجنائية بحسبه أهم آثار الصلح في المواد الجنائية، يعتبر الدافع أو الحافز على إجراء الصلح، لتجنب وصمه الإدانة، فضلا عن أن الصلح المدني يحوز حجية الشئ المقضي به. كما أنه يعوض كافة الأضرار المادية والأدبية فلو كان الصلح المنصوص عليه في المادة المذكورة صلحا مدنيا، لما أجاز المشرع للمضرور من الجريمة المطالبة بحقوقه المدنية، وقد يكون المضرور من الجريمة هو المجني عليه نفسه، وهذا الغرض قائم في جرائم كثيرة.
ويخلص هذا الاتجاه إلى القول بأن الصلح المنصوص عليه في المادة 18
مكرراً (أ) هو عقوبة مالية بديلة يتوقف تنفيذها على رضاء الجاني وتعتبر استثناء على مبدأ قضائية العقوبة، فالصلح وسيلة غير قضائية لإدارة الدعوى الجنائية، يتم تحت رقابة النيابة العامة، والتي تعتبر شعبة من شعب السلطة القضائية، أو تحت رقابة محكمة الموضوع، فضلا عن أن المشرع قد نص على الصلح والصفح، ورتب عليهما وحدة الأثر، وهو انقضاء الدعوى الجنائية( ).
ويرى الدكتور/ مدحت محمد عبد العزيز إبراهيم أن الصلح المدني يختلف عن الصلح الجنائي حيث أن الصلح المدني يتعلق بالمصالح الخاصة لطرفي العقد، أما الصلح الجنائي فهو نظام إجرائي يترتب عليه انقضاء الدعوى الجنائية، على ذلك فإن إرادة الأطراف لا تتحكم في تحديد الأثر المترتب على الصلح، بل أن القانون هو الذي يحدد هذا الأثر، وهو انقضاء سلطة المجتمع في العقاب. وليس هذا من طبيعة العقد المدني الذي يحدد أطرافه بإرادتهم الآثار المترتبة عليه.
كما أن العقد المدني يحوز حجية الشئ المقضي به، في حين أن الصلح الجنائي يتوقف أثره على قبول النيابة العامة أو المحكمة – بحسب الأحوال – له. فتمام الصلح الجنائي لا يرتب أثره في انقضاء الدعوى الجنائية مباشرة، بل لابد من إقرار إثبات هذا الصلح بمعرفة النيابة العامة أو المحكمة. فقد يتراءى لهما أنه يعد صلحاً فاسداً، لعدم توافر الأهلية مثلاً، أو وقوع إكراه على المجني عليه لإتمامه، إلى غير ذلك من أسباب فساد هذا الصلح.
أما القول بأن الصلح الجنائي يعتبر عقوبة مالية بديلة فهو أيضا قول مردود حيث أنه لا يشترط أن يتم هذا الصلح بمقابل أما القول بالتفرقة بين الصلح والصفح أو العفو، وأن هذا الأخير يتم بدون مقابل، فلا يغير من طبيعة العمل في شئ. ذلك أن المشرع قد تنبه إلى إمكانية وقوع الصلح بين ذوي الصلات الحميمة من الأقارب مثلاً، درءا للخلافات فيما بينهم، فليس من مصلحة الدولة أن تقف عائقاً أمام رغبتهم في إتمام الصلح ووضع حد للدعوى الجنائية. وبطبيعة الحال قد يتم الصلح فيما بينهم بدون مقابل، وهو مع ذلك أيضا يعتبر صلحاً جنائيا.
وعلى ذلك فإن الطبيعة القانونية للصلح الجنائي أبى أن نصفه بكون بكونه عقد مدني، أو بكونه عقوبة مالية بديلة، بل هو نظام إجرائي إرادي يقتضي اتفاق إرادتين، ويترتب عليه أثر قانوني هو انقضاء سلطة الدولة في العقاب( ).
الفصل الثاني: قواعد الصلح الجنائي
المبحث الأول : شروط الصلح الجنائي
تنقسم شروط الصلح في القانون الجنائي إلى طائفتين: شروط نشوء وشروط صحة ونفاذ. أما شروط النشوء فهي العناصر المكونة لعقد الصلح والتي لا قيام له بدونها وتمثل أركان العقد فالصلح باعتباره عقداً لابد فيه من توافر الإيجاب والقبول والسبب .. وأما شروط الصحة والنفاذ فهي مجموعة من الضوابط التي ينص عليها المشرع ويرتب على توافرها صحة العقد وصلاحيته لتحقيق آثاره القانونية.
وإذا كان تخلف أحد شروط النشوء يترتب عليه انعدام العقد في ذاته فإن تخلف أحد شروط الصحة لا يعدم العقد وإنما يجعله مشوبا بعيب قد يعرضه للبطلان يمنع آثاره القانونية.
وسوف نقسم هذا المبحث إلى مطلبين الأول يتعرض إلى شروط الصلح الجنائي في القانون المصري والثاني شروط الصلح في الشريعة الإسلامية.
المطلب الأول
شروط الصلح الجنائي في القانون المصري
أولاً: شروط نشوء الصلح:
1- يجب توافر الرضاء في الصلح : إن توافر عنصر الرضاء أمر مسلم به في الصلح الجنائي. فلا يمكن أن يلزم المتهم أو الطرف المتصالح معه بقبول الصلح كرها، بل يجب أن يكون حر الاختيار في قبوله أو رفضه، وتقضي القواعد العامة بأن يكون الرضاء سليماً خالياً من العيوب حتى يمكن الاعتداد به ويترتب عليه آثاره القانونية.
2- يجب أن يكون محل الصلح مشروعاً، ممكناً أو قابلا ً للتعيين وفيه مصلحة للمتعاقد( ). فإذا كان النزاع في صلح القانون المدني ينبغي أن ينصب على حقوق غير مستقرة بصفة نهائية. فإن الصلح في القانون الجنائي ينصب بدوره على حقوق غير مستقرة. ذلك أن الجريمة بمجرد وقوعها لا ترتب إلا حق الدولة في العقاب وحق المتضرر في التعويض إن كان له محل.
3- السبب في عقد الصلح: يقوم الصلح على التنازل التبادلي من قبل المتهم والطرف المتصالح معه. فالمتهم من حقه أن يقدم إلى المحاكمة أمام محكمة مختصة تنظر في التهمة الموجه له وتصدر حكمها بعد سماع ما يقدم أمامها من بينات الاتهام الدفاع معاً كما أن القانون يقرر حقوقاً وضمانات للمتهم يجب على سلطات التحقيق والمحكمة مراعاتها تحقيقاً للعدالة تمكينا للمتهم من الدفاع عن نفسه ودفع التهمة المنسوبة إليه. ومن جهة أخرى فإن الطرف الآخر وهو ممثل الاتهام الذي ينوب عن المجتمع في المطالبة بمعاقبة المتهم، من حقه رفع الدعوى الجنائية أمام القضاء بل إن ذلك قد يكون واجباً عليه ويترتب على ذلك حقه في تقديم الأدلة والبينات التي من شأنها إثبات التهمة على المتهم وكذلك حقه في الطعن في أحكام القضاء.
ولما كان الصلح بين المتهم وممثل الاتهام من شأنه أن ينهي الدعوى الجنائية بغير حكم أو يحول دون رفعها إذا ما تم قبل ذلك فمقتضى هذا أن يتنازل كل منهما عن جزء من حقوقه التي يقررها له القانون. فممثل الاتهام يتنازل عن حقه في رفع الدعوى الجنائية وتقديم المتهم للقضاء والمتهم يتنازل عن حقه في المحاكمة وما يترتب عليها من حقوق وضمانات.
ثانياً: شروط الصحة والنفاذ الواجب توافرها في الصلح:
1- شروط الصحة:
الشرط الأول : أن تكون الجريمة قابلة للصلح قانوناً:
مفاد هذا الشرط أن يقتصر تطبيق الصلح على الجرائم التي نص المشرع على إجازة الصلح فيها دون غيرها من الجرائم الأخرى.
وقد نصت المادة 18 مكرراً (أ) من قانون الإجراءات الجنائية المصري على هذه الجرائم وهي في جملتها من الجنح التي يعاقب عليها القانون بالحبس والغرامة التي يزيد حدها الأقصى على مائة جنية أو بإحدى هاتين العقوبت
فى القانون الجنائي المصري والشريعة الإسلامية
مقدمة:
يقتضى التدخل فى الدعوى الجنائية تمحيص الأدلة وفحص شخصية المتهم وتهيئة جميع العناصر اللازمة لإصدار الحكم.
ونظراً لما يستغرقه هذا البحث من إجراءات قد يطول مداها اتجه التفكير إلى معالجة الدعوى الجنائية بغير طريق القضاء الجنائي أو بغير طريق القضاء كله .
أما عن استبعاد الدعوى من ساحة القضاء الجنائي , فهو يعكس اتجاهاً حديثاً يسمي "بعدم العقاب" ويقصد بهذا الاتجاه الحد من عيوب العقوبات المقيدة للحرية وخاصة القصيرة المدة لما لها من آثار سلبية خطيرة سواء على المحكوم عليه أو على أسرته أو على المجتمع كله , فقد واكب هذا الاتجاه الدعوى إلى تطوير نظام العدالة الجنائية من خلال توفير بدائل إجرائية تؤدي بدورها إلى الحد من العقاب وتسهم فى تحقيق العدالة الناجزة.( ).
وقد بدأ الخروج عن السير الطبيعي للإجراءات الجنائية فى نهاية القرن التاسع عشر وفى أوائل القرن العشرين , حين بدأت بعض التشريعات فى تنظيم محاكمة خاصة للأحداث تكفل إبعادهم عن جو المحاكمة الجنائية, ومعاملتهم على نحو أقل شدة , وامتد نطاق هذه المعاملة الخاصة إلى البالغين فى ضوء شخصيتهم الإجرامية تحت تأثير تعاليم السياسة الجنائية الحديثة التى بدأت منذ المدرسة الوضعية.
وتتمثل معظم تجارب الدول فى الخروج على الإجراءات الجنائية التقليدية التى يباشرها القاضي فى إحدى وسيلتين هما:
1- التدخل الاجتماعي , وذلك عن طريق الأسرة أو الجماعة لحل المشكلة المترتبة على الجريمة فى مجالها الخاص بعيداً عن تدخل الشرطة أو القضاء وقد تتدخل الشرطة فتحيل المشكلة المترتبة على الجريمة إلى الأسرة أو الجماعة لحلها بدلاً من رفع الأمر إلى النيابة العامة.
2- تحقيق العدالة الجنائية بغير مرور بمرحلة المحاكمة أو بمرحلة التنفيذ العقابي , ويتم ذلك من خلال بدائل للدعوى الجنائية أو بدائل للتنفيذ العقابي.
وقد تصاعدت هذه الدعوى مع الاتجاه إلى إعطاء المجني عليه دوراً مهما ً فى السياسة الجنائية حتى يصبح طرفاً حقيقيا ً فى العدالة الجنائية , فى ضوء ذلك بدأ الاعتراف بالدور المهم الذي يمكن أن تلعبه إرادة الفرد لتحقيق العدالة الجنائية مما أدى إلى تطوير هذه العدالة لكي يتحقق بطريق التراضي أو من خلال التفاوض بين ممثل الاتهام والمتهم. وفى ظل هذا التطوير لم يعد هدف العدالة الجنائية الوحيد هو العقاب, بل أصبح تحقيق الحماية للحقوق الخاصة
للأفراد ,وأصبح إصلاح العلاقة بين المجني عليه والمتهم هدفاً مهماً في هذا التطوير , مما جعل تحقيق العدالة الجنائية من خلال التعويض أقرب منه من خلال العقاب , ورغم هذا الهدف فقد استمر البحث عن الحقيقة هدفاً ثابتاً للعدالة الجنائية ,وانحصر التغيير فى مجرد الوسائل لتحقيق مبدأ أن الاتفاق العادل أفضل من خصومة عادلة , بما يصل إلى القول بأن" العدالة المتفق عليها " أفضل من "العدالة الملزمة"
وقد عرف القانون الأمريكي الاتفاق فى مرحلة المحاكمة بين ممثل الاتهام والمتهم لتسهيل إدارة العدالة الجنائية على أن يعترف المتهم بتهم معينة مسندة إليه بالاتفاق مع ممثل الاتهام مقابل إسقاط هذا الأخير تهماً أخرى ضده أو التخفيف من وصف التهمة المسندة إليه ,هو ما يسمي باعتراف المتهم بالتهم الموجهة إليه بعد الاتفاق مع ممثل الاتهام .
وقد شهد القانون الفرنسي هذا التطوير الذي يقوم على الاتفاق بين إرادة النيابة العامة وإرادة المتهم لتحقيق العدالة الجنائية حتى أطلق البعض على هذا الاتفاق بأنه ينطوي على خصخصة للإجراءات الجنائية وتأسس هذا التطوير على سلطة الملائمة التي تتمتع بها النيابة العامة في مباشرة الدعوى الجنائية وفى هذا الإطار عرف القانون الفرنسي ثلاثة نظم:
أولاً : التوفيق للإصلاح : الذي يجيز للنيابة العامة قبل اتخاذها قراراتها بشأن الدعوى الجنائية أن تقوم مباشرة أو من خلال ندب أحد مأموري الضبط القضائي اتخاذ عدة إجراءات للصلح بين مرتكب الجريمة والمجني عليه ويترتب على هذا التوفيق للإصلاح وقف تقادم الدعوى الجنائية .
ثانياً : نظام التصالح العقابي : ووفقاً لهذا النظام يجوز للنيابة العامة طالما لم تقم بتحريك الدعوى الجنائية أن تقترح التصالح العقابي مع متهم بالغ يقر بارتكاب أحد أو بعض الجنح المنصوص عليها فى قائمة معينة فى بعض مواد قانون العقوبات مما يعاقب عليه القانون بالغرامة أو بالحبس مدة لا تزيد على 5 سنوات وكذلك الحال بالنسبة لأحد أو بعض المخالفات المرتبطة بها التى يقرر لها القانون أو بعض التدابير المنصوص عليها فى المادة 41-2 إجراءات فرنسي .
ثالثاً: نظام الإقرار بالتهمة قبل المثول أمام القضاء :
وقد أخذ بهذا النظام القانون الفرنسي المسمي بقانونperbenII بتعديل قانون الإجراءات الجنائية فى المواد 495/7 إلى 495/16 ومقتضي هذا النظام أنه فى الجنح المعاقب عليها بصفة أصلية بعقوبة الغرامة أو بعقوبة الحبس لمدة لا تزيد على خمس سنوات يجوز للنيابة العامة من تلقاء نفسها أو بناء على طلب صاحب الشأن أو محاميه طلب إجراء الحضور أمام المحكمة بناء على الإقرار السابق بالمسئولية عن الجريمة وإقراره بالوقائع المنسوبة إليه.
ويمكن لممثل النيابة العامة أن يقترح على الشخص المعترف تنفيذ أحد أو بعض العقوبات الأصلية أو التكميلية فى حدود ما نصت عليه المادة 132/24 من قانون العقوبات الفرنسي , فإذا قبل الشخص فى حضور محاميه العقوبة المقترحة يحال إلى رئيس المحكمة الابتدائية أو إلى القاضي المفوض منه لكي يتخذ قراره بشأن ما اقترحه ممثل النيابة العامة بقرار مسبب يتلى فى جلسة علنية.
وقد شهد قانون الإجراءات الجنائية المصري تطوير العدالة بعيداً عن المحاكمة الجنائية فى عدة صور تتمثل فيما يلي :
أولاً : ترك الدعوى الجنائية : ( ).
نصت المادة 260/ 2 إجراءات المعدلة بالقانون رقم 174/لسنة 1998 على أنه يترتب على ترك الدعوى المدنية أو اعتبار المدعى بالحق المدني تاركاً لها- بعد أن أقامها بالإدعاء المباشر , الحكم بترك الدعوى الجنائية ما لم تطلب النيابة العامة نظرها, وهو نظام عرفه قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي فى المادة 425 منه , ولا يعد ترك الدعوى الجنائية انقضاء لها, فما زال حق النيابة العامة فى إقامتها ومتوافراً حتى تنقضى المدة بالتقادم حتى ولو لم تطلب النيابة العامة نظرها من ترك المدعى المدني دعواه فى الدعوى المباشرة لأن ترك الدعوى لا يفيد انقضائها طالما بقى الحق فى إقامتها.
ثانياً :التصالح :
أجاز قانون الإجراءات الجنائية فى المادة 18 مكرراً التصالح فى مواد المخالفات , وكذلك فى مواد الجنح التى يعاقب القانون عليها بالغرامة فقط وفى هذه الحالة يكون عرض التصالح بواسطة مأمور الضبط القضائي المختص على المتهم أو وكيله , ويكون عرض التصالح فى الجنح من النيابة العامة, وقد حددت هذه المادة قيمة التصالح بربع الحد الأقصى للغرامة المقررة للجريمة أو قيمة الحد الأدنى المقرر لها أيهما أكثر وأوجب أن يتم التنفيذ خلال خمسة عشر يوماً من اليوم التالي لعرض التصالح.
فإذا انقضت هذه المدة دون تنفيذ التصالح لا يسقط حقه فى التصالح إذا دفع مبلغاً يعادل الحد الأقصى للغرامة المقررة للجريمة أو قيمة الحد الأدنى المقرر لهما أيهما أكثر كما يسرى ذات الحكم القانوني عند تراضي التصالح إلى ما بعد إحالة الدعوى إلى المحكمة المختصة , ويترتب على دفع مبلغ التصالح انقضاء الدعوى الجنائية ولو كانت مرفوعة بطريق الإدعاء المباشر, ولا يكون له تأثير على الدعوى المدنية .
ثالثاً :الصلح:
أجازت المادة 18 مكرر (أ) من قانون الإجراءات الجنائية للمجني عليه أو وكيله الخاص , فى الجنح المنصوص عليها فى المواد 241 (فقرتان أولى وثانية) , 242 (فقرات أولى وثانية وثالثة ) , 244 (فقرة أولي) , 265 , 321 مكرر , 323 و 323 مكرر ,323 مكرر أولاً ,324مكرر , 341 , 342 , 354 , 358 , 360 , 361 (فقرتان أولي وثانية ), 396 من قانون العقوبات , وفى الأحوال الأخرى التى ينص عليها القانون , أن يطلب إلى النيابة العامة أو المحكمة بحسب الأحوال "إثبات صلحها مع المتهم ويترتب علي الصلح انقضاء الدعوى الجنائية ولو كانت مرفوعة بطريق الإدعاء المباشر ولا أثر للصلح على حقوق المضرور من الجريمة( ).
وتندرج تحت الأحوال الأخرى التي ينص عليها القانون بشأن أثر الصلح فى انقضاء الدعوى الجنائية حالة المادة 534 من القانون رقم 17 لسنة 1999 بإصدار قانون التجارة , فقد نصت على أنه يترتب على الصلح فى جرائم المنصوص عليها فى هذه المادة والمتعلقة بإصدار شيك ليس له مقابل وفاء قابل للصرف وغيرها من الجرائم , انقضاء الدعوى الجنائية ولو كانت مرفوعة بطريق الإدعاء المباشر.
ولم يقتصر الأمر عند هذا الأثر بل نصت على وقف تنفيذ العقوبة إذا تم الصلح فى أثناء تنفيذها ولو بعد صيرورة الحكم باتاً ,هنا نلاحظ أن الصلح الذي يتم بعد أن يصبح الحكم باتاً يصيب الحق فى تنفيذ العقوبة .
دون أن يصيب الحق فى الدعوى الجنائية التى تمت مباشرته حتى انغلق باب الدعوى بلا رجعة بصدور الحكم الباقي.
رابعاً : الأمر الجنائي :
شرع قانون الإجراءات الجنائية نظام الأوامر الجنائية كبديل من بدائل الدعوى الجنائية وبمقتضاه يصدر القاضي أو النيابة العامة أمراًُ فى نوع معين من الجرائم بغرامة معينة , فضلاً عن العقوبات التكميلية والتضمينات وما يجب رده من المصاريف (المواد 323- 326 إجراءات) .
ويترتب على هذا الأمر انقضاء الدعوى الجنائية بشرط ألا يفترض عليه الخصوم إذا كان الأمر صادراً من القاضي , فإذا لم يحصل اعتراض على الأمر على هذا النحو المتقدم يصبح نهائياً واجب التنفيذ وتنقضي به الدعوى الجنائية.
ويعتبر الأمر الجنائي الصادر من النيابة العامة أو من القاضي هو بمثابة عرض للصلح فإن قبله المتهم ونفذه انقضت الدعوى الجنائية أما إذا لم يقبله رفعت الدعوى الجنائية قبله وفقاً للإجراءات التى نص عليها القانون .
ومما تقدم يتضح أن السياسة الجنائية الجديدة لا تهدف إلى العقاب فقط ولكن تهدف إلى إنهاء النزاع بالطرق الودية والتى سبق الإشارة إليها وسوف نقصر البحث على طريقة واحدة من هذه الطرق لإنهاء الدعوى الجنائية وهو طريق الصلح الجنائي.
تمهيد
سوف نتناول دراسة الصلح الجنائي فى القانون المصري وأيضاً فى الشريعة الإسلامية وسوف نقسم بحثنا إلى فصلين :
الفصل الأول : وهو ماهية الصلح الجنائي فى القانون المصري والشريعة الإسلامية وسوف نتناول فى هذا الفصل مفهوم الصلح ونطاق تطبيقه وطبيعته القانونية سواء فى القانون المصري أو الشريعة الإسلامية .
الفصل الثاني : وهو قواعد الصلح الجنائي والذي يتفرع إلى ثلاث مباحث وهى _( شروط الصلح , إجراءات الصلح , آثار الصلح ).
الفصل الأول : ماهية الصلح الجنائي:-
المبحث الأول: مفهوم الصلح الجنائي وتطوره التاريخي :
تتجه السياسة الجنائية المعاصرة بعد تطور طويل وعميق بدأت ملامحه منذ نهاية القرن الثامن عشر وحتى اليوم , إلى عدم العويل على العقوبة كصورة تقليدية وحيدة الجزاء , مضيفة إليها فكرة التدبير الإحترازي منذ عهد المدرسة الوضعية فى منصف القرن التاسع عشر , بل أنها فى إطار تجريه أغراض العقوبة , قد تجاوزت الغرض العقابي التقليدي المتمثل فى الردع العام , وما أعلنته من غرض تكميلي تمثل فى إقرار العدالة إلى الغرض الإصلاحي , المتمثل فى الردع الخاص , ومن بعده كفالة الدفاع الاجتماعي , وذلك فى إطار ما أسمته بمبدأ إنسانية قانون العقوبات , وقد انعكس ذلك على الجانب الإجرائي بصفة عامة , وحظيت فكرة الصلح الجنائي منه بنذر يسير ويرجع ذلك إلى اعتبارين :
أولهما:أنه يعالج سلوكاً معادياً للقيم الاجتماعية .
ثانيهما:إنه يحل محل العقوبة الجنائية.أى أنه ذو طبيعة إجرامية وعقابية معاً .
نقسم هذا المبحث إلى مطلبين يعالجان ذاتية الصلح الجنائي فى كل من القانون المصري والشريعة الإسلامية .
المطلب الأول
مفهوم الصلح الجنائي فى القانون المصري
التعريف اللغوي للصلح :
الصلح بضم الصاد وسكون اللام إسم من المصالحة , خلاف المخاصمة ومعناه السلم , وأصلح الشئ بعد فساده , أقامه , وأصلح الدابة أحسن إليها فصلحت, ويقال تصالح القوم بينهم , وقوم صلوح , أى متصالحون .
التعريف الفقهي والقضائي للصلح الجنائي:
تكمن الصعوبة فى وضع تعريف مجمع عليه ومسلم به للصلح الجنائي , حيث ترك المشرع هذا الأمر لاجتهاد الفقه والقضاء , بيد أن المشرع المدني قد تناول تعريف عقد الصلح المدني , وتباينت التعريفات الفقهية , والقضائية باختلاف طبيعة الجريمة .
ويميز المشرع المصري بين نوعين من الصلح , التصالح والصلح , وقد ورد مصطلح الصلح فى المادة 18 مكرر (أ) من قانون الإجراءات الجنائية المضافة بالقانون رقم 174 لسنة 1998, مما دعا الفقهاء إلى محاولة وضع تعريف له.
لذلك ذهب البعض إلى تعريف الصلح أنه" تلاقي إرادة المتهم وإرادة المجني عليه( )" وهو الصلح بالمعني الدقيق ويعتبره البعض بأنه " أسلوب لإنهاء المنازعات بطريقة ودية " بيد أن الآخرين يعرفونه بأنه " إجراء يتم عن طريقة التراضي على الجريمة بين المجني عليه ومرتكبها خارج المحكمة , والذي يمكن اتخاذه أساساً لسحب الاتهام فى الجريمة بمعنى أن المجني عليه قد قدمت له ترضية حفزته لأن يرغب فى الامتناع عن الاتهام : وذهب البعض الآخر للقول بأن الصلح الجنائي هو : أسلوب لإدارة الدعوى العمومية" .
ومن ناحية أخرى لم تميز أحكام محكمة النقض بين الصلح والتصالح ففى مجال جرائم الضرب المعاقب عليها بالمادة 242/ 1, 3 من قانون العقوبات , قضت بإنقضاء الدعوى الجنائية بالتصالح.
وكذلك فى جرائم تبديد الأشياء المحجوز عليها إدارياً , قضت بإنقضاء الدعوى الجنائية بالتصالح, بيد أن هناك أحكاماً قليلة العدد التزمت فيها المحكمة بالتفرقة التى أقامها المشرع , فقد قضت المحكمة بإنقضاء الدعوى الجنائية بالصلح في جريمة ائتلاف , زراعة المجني عليه( ) , وقضت كذلك بانقضاء الدعوى الجنائية بالصلح في جريمة الضرب, وجريمة تبديد .
وعندنا أن الصلح الجنائي هو ما عنيت المادة 18 مكرراً (أ) بالنص عليه ويمكن تعريفه بكونه" الإجراء الذي بمقتضاه تتلاقى إرادة المجني عليه مع إرادة المتهم فى وضع حد الدعوى الجنائية و يخضع هذا الإجراء لتقييم الجهة القانونية القائمة على الأخذ به , فإن قبلته ترتب عليه انقضاء الدعوى الجنائية دون تأثير على حقوق المضرور من الجريمة ( ) .
المطلب الثاني
مفهوم الصلح الجنائي فى الشريعة الإسلامية
الصلح فى اللغة السلم وفى الشرع عقد يرفع النزاع وينهي الخصومة وباعتباره أسلوباً متميزاً ينهي المنازعات بطريقة ودية , إبقاء لذات البين وتدعيماً للصلات والروابط الاجتماعية بين الأفراد والجماعات فقد اعتدت به الشريعة الإسلامية وغيرها من الشرائع السماوية.
يقول الله تعالي فى كتابه الكريم " والصلح خير "
ويقول الله تعالي أيضاً "فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين"
كما يقول الله تعالى فى سورة الحجرات" وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما"
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً " .
وكذلك قوله :ردوا الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يورث الضغائن , فالشريعة الإسلامية منذ فجر ظهورها قد أجازت الصلح فى بعض الجرائم وحرمته فى بعضها وتركت لولي الأمر التصرف فى الجرائم الأخرى ( )
المبحث الثاني
نطاق تطبيق الصلح الجنائي
استحدث المشرع المصري القانون رقم 174, لسنة 1998 صورة جديدة للصلح بين المجني عليه والمتهم , بغية تدعيم حق الأطراف فى الخصومة الجنائية بحيث
تنتهي تلك الأخيرة صلحاً , بدلاً من صدور حكم قضائي فيها.
وتستند علة الصلح بين المجني عليه والمتهم إلى الرغبة فى قطع سير إجراءات المحاكمة دون مساس بتوازن العلاقات الاجتماعية و الاقتصادية بين الأفراد وهو مالا يتم إلا بعد تنقية النفوس مما أحدثته الجريمة من ألم مادي ونفسي, وإذا كانت علة تحريم الأفعال موضوع الصلح, تتمثل فى انتهاكها بصفة أساسية لإرادة المجني عليه فإن هذه العلة تنتفي إن عفا هذا الأخير عن الجاني عفواً مشروطاً أو غير مشروط .
وقد ذهب البعض إلى عدم ملائمة الأخذ بنظام الصلح بين المجني عليه والمتهم فى القانون المصري , استناداً إلى انطوائه على خلط بين حق الدولة فى العقاب وحق المضرور فى التعويض , كما أنه يذهب بسلطة النيابة العامة فى تقرير ملائمة تحريك الدعوى الجنائية من عدمه , فضلاً عن اقترانه أحياناً بالترهيب أو الترغيب , وهو ما يقيد إرادة المجني عليه , ولسنا من هذا الرأي , ذلك أن هذا النوع من الصلح , إنما هو محض " عقوبة خاصة تفاوضية " تسمو فيها اعتبارات التعويض على مقتضيات العقاب , أما عن تقييد سلطة النيابة العامة فى ملائمة الإجراءات فهو أمر ليس بجديد , إذ يعلق المشرع الجنائي تحريك الدعوى الجنائية فى عدد غير قليل من الجرائم , على بعض من القيود الإجرائية , كالشكوي والإذن والطلب .
وأخيراً فإن الخشية من التأثير على إرادة المجني عليه , ترهيباً أو ترغيباً فمن الممكن تلافيه بإخضاع هذا الصلح لقدر من الرقابة من جانب النيابة العامة والقاضي وقد أخذت الشريعة الإسلامية بنظام الصلح بين الأفراد , منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً ويتضح ذلك فى العديد من آيات القرآن الكريم ومنها قوله تعالى :"وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفئ إلى أمر الله فإن فائت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين "( )." وإنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله إن الله لعلكم ترحمون"( ).وقوله تعالى " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً " .
كما ذكرت أحاديث الرسول (ص) على جواز الصلح فى الإسلام , حيث روى عن أبي هريرة رضي الله عنه _أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً" وهو ما يحملنا على إلقاء نظرة عليه فى الشريعة الإسلامية إضافة إلى ما عليه العمل فى القانون المصري , وعليه ينقسم هذا المبحث إلى مطلبين : المطلب الأول هو نطاق تطبيق الصلح فى القانون المصري , والمطلب الثاني : هو نطاق تطبيق الصلح فى الشريعة الإسلامية .
المطلب الأول
نطاق تطبيق القانون المصري
ينصرف الصلح الجنائي بين المجني عليه والمتهم إلى طائف معينة من الجرائم حددتها المادة 18 مكرراً (أ) من قانون الإجراءات الجنائية المصري , هي فى جملتها من الجنح التى يعاقب عليها القانون بالحبس والغرامة التى يزيد حدها الأقصى على مائة جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين .
وتتأصل هذه الجرائم إلى طائفتين تتعلق أولاهما بجرائم الأشخاص وتتصل ثانيهما بجرائم الأموال.
1- أما عن الأول فهي تشمل:
أ- جرائم الضرب أو الجرح الذي ينشأ عنه المرض أو العجز عن الأشغال الشخصية لمدة تزيد على عشرين يوماً ( م241/ 1عقوبات) .
ب- جرائم الضرب والجرح المشار إليها أن ارتكبت مع سبق الإصرار أو الترصد (242/3) أو استعمال أية أسلحة أو عصى أو آلات أو أدوات أخرى (242/3).
جـ -جرائم الجرح والاعتداء غير العمدي (م244/1 ).
د-جريمة إعطاء المواد الضارة غير القاتلة التى ينشأ عنها مرض أو عجز وقتي عن العمل(م265).
2- أما عن الثانية فهي تشمل :
أ- عدم رد الشئ أو الحيوان الفاقد لصاحبه (م321مكرر) .
ب- اختلاس الأشياء المحجوز عليها قضائياً أو إدارياً (م323).
ج-اختلاس الأشياء المنقولة الواقع ممن رهنها ضمان لدين عليه أو على آخر
(323مكرر) .
د- الاستيلاء بغير حق وبدون نية التملك على سيارة مملوكة للغير
(م323مكرر/ أولاً ) .
هـ- تناول أطعمة أو شراب فى محل معد لذلك ولو كان مقيم منه أو شغل غرفة أو أكثر في فندق أو نحوه , أو استئجار سيارة معدة للإيجار مع علم الجاني بأنه يستحيل عليه دفع الثمن أو الأجرة أو الامتناع بغير مبرر عن دفع ما استحق من ذلك أو الفرار دون الوفاة (م324مكرر).
و- خيانة الأمانة ( م341) .
ر- اختلاس الحارس للأشياء المحجوز عليها قضائياً أو إدارياً (م342)
ح- كسر أو تخريب الآلات الزراعية أو زرائب المواشي و عشش الخفراء (م354) .
ط- إتلاف كل أو بعض محيط متخذ من أشجار أو يابسة أو غير ذلك أو نقل أو إزالة حد , أو علامات مجهولة حداً لأملاك أو جهات مستغلة (358/ 1) وإذا ارتكب شئ من ذلك بقصد اغتصاب أرض(358/2).
ى – الحريق الناشئ عن عدم تنظيف أو ترميم الأفران أو المداخن أو المحلات الأخرى التى توقد فيها النار أو من النار الموقدة فى بيوت أو مبان أو غابات أو كروم أو غيطان أو بساتين بالقرب من كيمان تبن أو حشيش يابس , وكذا الحريق الناشئ عن إشعال صورايخ فى جهة من جهات البلدة أو بسبب إهمال آخر (360/1) والحريق الناشئ من تدخين أو نار موقدة , فى محطات لخدمة وتموين السيارات أو محطات الغاز الطبيعي أو مركز لبيع أسطوانات البوتاجاز أو مستودعات للمنتجات البترولية أو مخازن مشتعلة على مواد الوقود أو أى مواد قابلة للاشتعال (م360/2).
ك- تخريب أو إتلاف مواد ثابتة أو منقولة عمداً لا يمتلكها الجاني غير صالحة للاستعمال أو تعطيلها بأية طريقة (م361/1) وكذلك إذا ترتب علي الفعل ضرر مالي قيمته خمسون جنيهاً أو أكثر (م361/2).
ل- انتهاك حرمة ملك الغير بقصد منع حيازته أو بقصد ارتكاب جريمة فيه أو كان قد دخله بوجه قانوني وبقي فيه بقصد ارتكاب شئ مما ذكر (م369).
م – فى الأحوال الأخرى التى ينص عليها القانون.
ويلاحظ على هذه الجرائم بصفة عامة أنها تنطوي على مساس بمصالح مختلفة شخصية أو مالية , ومع ذلك يجمع بينهما قاسم مشترك هو انتهاكها بصفة أساسية لإرادة المجني عليه .
و تختلف خطة المشرع المصري فى تحديد الجرائم محل الصلح بين المجني عليه والمتهم عن تلك التى ينتهجها المشرع الفرنسي فى تحديد الجرائم محل الوساطة الجنائية.
فبينما يذهب الأول إلى وضع قائمة بالجرائم التى يطبق بشأنها الصلح مع إمكانية إضافة غيرها , إذا بالثاني يرغب عن سلوك هذا المنهج تاركاً لرئيس النيابة أمر تحديد هذه الجرائم فى حدود ما تتمتع به من سلطة تقديرية"( ).
فالمشرع المصري يسمح للمجني عليه بمقتضي المادة 18 مكرر (أ) إجراءات بالتصالح مع المتهم , وقد ذهب رأي إلى القول بأن الجرائم الواردة فى النص المذكور , قد وردت على سبيل الحصر ومع ذلك , فإنه يجوز وفقاً لهذا الرأي التوسع فى التفسير ,باستخدام القياس استناداً إلى حظر الأخير فى مواد التجريم والعقاب وجوازه فيما عدا ذلك , ولسنا من هذا الرأي ذلك أن الصلح فى ذاته محض استثناء على القاعدة العامة فى اختصاص النيابة العامة بتحريك ومباشرة الدعوى الجنائية , ولما كان ذلك كذلك فقد وجب الحذر فى تطبيق النص المشار إليه بحيث لا يجوز التوسع فى تفسيره أو القياس عليه , لأنه " لا صلح بغير نص"
فضلاً عن هذا فإن المشرع قد أردف الجرائم محل الصلح بعبارة " وفى الأحوال الأخرى التى ينص عليها القانون ومن هنا يكون جائزاً إضافة جرائم جديدة بقوانين خاصة تالية فى صدورها لتاريخ العمل بالقانون رقم 174 لسنة 1998, وقد تأكد ذلك بصدور قانون التجارة الجديد رقم 17 لسنة 1999 الذي ينص (م534/4) على انقضاء الدعوى الجنائية بالصلح بين المجني عليه والمتهم فى الجرائم الوارد فى المادة 534 من ذات القانون.
المطلب الثاني
نطاق تطبيق الصلح فى الشريعة الإسلامية
تعرف الجريمة فى الشريعة الإسلامية بأنها فعل ما حرم الله أو امتناع أمر به معاقب عليه بعقوبة عينها الشارع الإلهي أو ترك تحديدها لتقدير ولى الأمر.
وتتعدد الجرائم والعقوبات التى يمكن أن تكون محلاً للصلح بين المجني عليه والمتهم .
ويحيل فقهاء الشريعة الإسلامية , عند دراسة نطاق تطبيق الصلح , إلى القواعد المقررة للعفو عن العقوبة من المجني عليه أو وليه. ومع ذلك فثمة اختلاف جوهري بين العفو والصلح يتمثل فى كون الأول محض عمل صادر عن الإرادة المنفردة بغير مقابل , بينما تكون للثاني صفته التعاقدية التبادلية ويكون فيها المقابل ركناً أصيلاً.
ونفضل الحديث عن نطاق تطبيق الصلح فى الشريعة الإسلامية فى إطار التقسيم الشرعي للجرائم , فنبحث أولاً الصلح فى جرائم الحدود .
ونتناول ثانياً الصلح فى القصاص والدية ونبين ثالثاً الصلح فى جرائم التعزيز. "( ).
أولاً : فى جرائم الحدود:
أجمع الفقه الإسلامي على حظر الصلح فى جرائم الحدود كأصل عام , وقد ثار خلاف فيما يتعلق بجريمتين هما :
القذف الكاذب بالزنا والسرقة يحث لا تتم ملاحقة الجاني إلا بعد شكوى المجني عليه .
1- القذف الكاذب بالزنا:
تسائل الفقهاء حول مدى جواز الصلح بين القاذف والمقذوف فى حقه وهو تساؤل يرتد بدوره إلى الطائفة التى تنتهي إليها هذه الجريمة فذهبت الحنفية إلى إدراجها ضمن الجرائم المختلطة التى يكون حق الله فيها غالباً , لأن مصلحة المجتمع فى دفع هذا الفساد عن طريق الحد , يقود على الكافة , وكل أمر كان النفع فيه عاماً الحد فيه حقاً لله تعالي , ومن ثم فإن هذا الحد لا يكون إلا عن طريق ولى الأمر أو القاضي ولا يجوز فيه الصلح , أضف إلى ذلك أن الشارع قد عين لهذه الجريمة عقوبة محددة فى القرآن الكريم , حيث
يقول تعالي فى سورة النور"والذين يرمون المحصنات , ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون".
وعلى العكس من ذلك يرى الشافعية والحنابلة أن حد القذف من الحقوق المختلطة التى يغلب فيها حق العبد , ومن ثم لا تجوز ملاحقة مرتكبيها إلا بناء على شكوى المقذوف أو وليه , بطريق الدعوى الجنائية الخاصة , أما عن اختصاص ولى الأمر أو القاضي بتنفيذ العقوبة فلا يجب أن يفهم أن هذه الجريمة تندرج ضمن الجرائم التى يطلب فيها حق الله (جلت عظمته) وما اسناد التنفيذ إلى ولي الأمر أو من يفوضه إلا بغية تجنب إسراف المجني عليه إذا أوكل إليه هذا الحق بمفرده وضماناً للترفق بالمجرم أثناء تنفيذ العقوبة فيه . وعليه تكون الصلح والعفو جائزين سواء كان ذلك قبل رفع الدعوى إلى القضاء أو بعد رفعها.
ويتوسط المالكية بين هذين الرأيين : فيفرقون بين مرحلة ما قبل رفع الدعوى وما بعدنا .
ففى الأولى : لا تمس الجريمة سوى حق المقذوف ومن ثم وجب الرجوع إليه فى شأن تقدير ملائمة عقاب القاذف أو العضو عنه أو التصالح معه من عدمه .أما الثانية : فقد أوضحت العقوبة حقاً لله يوقعها ولي الأمر, فلا يجوز فيها الصلح ولا العفو وال الإبراء.
ويميل إلى تأييد رأى المالكية , وذلك استناداً إلى حجج ثلاث :
أ- أنه لا يمكن تجاهل الضرر الذي أحدثه القاذف فى مجتمع ينهض على ركائز دينية عظمي , لأن الغاية من تجريم مثل هذا السلوك إنما تتحصل فى حماية المجتمع من شيوع الفاحشة بين أرجاءه وهو ما حد بالشارع إلى الانفراد بتقدير العقوبة الواجبة التطبيق .
ب- أنه لا يمكن تجاهل الطبيعة الخاصة لتلك الجريمة لاستطالتها إلى أحد الحقوق اللصيقة بشخص المجني عليه ,وهو ما يستوجب الاعتداد بمشيئته قبل رفع الأمر إلى القاضي بحيث لا يوقع هذا الأخير جزاءاً على القاذف إلا بعد شكوى المجني عليه .
جـ- أن هذا الرأي يحقق التوازن بين حق المجتمع فى توقيع العقاب وحق المجني عليه فى العفو عن القاذف أو التصالح معه إن رأى ملائمة ذلك.
2- السرقة :
تعتبر هذه الجريمة من بين الجرائم التى يتوقف تحريك الدعوى الجنائية الناشئة عنها على شكوى المجني عليه .
ولتحديد موعد جواز الصلح فى شأنها من عدمه , يتعين التمييز بين فرضين : يقع الصلح فى أولهما قبل رفع الأمر إلى القضاء ., ويتم فى الثاني بعده.
ا- أما عن الفرض الأول : فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى القول استناداً إلى ما رواه الزهري عن ابن صفوان عن أبيه , أنه نام فى المسجد وتوسد رداءه , فأخذ من تحت رأسه, فجئ بسارق إلى النبي (ص) فأمر به أن يقطع ,فقال صفوان : يا رسول الله إني أرده بهذا , هو عليه صدقه , فقال عليه الصلاة والسلام : فهلا قبل أن تأتيني به وتفصح هذه الرواية , بمفهوم المخالفة عن إجازة الصلح والعفو قبل إقامة البينة كما روي عن هشام بن سعد عن أبي حازم , أن علياً رضي الله عنه شفع فى سارق , فقيل أتشفع فى سارق . فقال نعم .. ما لم يبلغ به الإمام , فإذا بلغ به الإمام .فلا أعفاه الله إن عفا.
وتكشف هاتان الروايتان عن جواز العفو والصلح , طالما كان ذلك قبل أن يتصل علم ولى الأمر أو القاضي بالجريمة .
ب- وبالنسبة للفرض الثاني: فإن القطع يكون واجباً , فلا عفو ولا صلح استناداً إلى ذات الروايتين المتقدمتين إضافة إلى ما روي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن , من أن الزبير بن العوام لقي رجلاً قد أخذ سارقاً إلى الإمام , فتشفع له الزبير ليتركه فقال: لا حتى أبلغ به إلى السلطان , فقال له الزبير :إذا بلغت به السلطان , فلعن الله الشافع والمشفع , كما روت عائشة رضي الله عنها أن قريشاً أهمها بشأن المرأة المخزومية التى سرقت , فقالوا من يكلم فيها رسول الله (ص)؟ فقالوا من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمة أسامة، فقال رسول الله (ص) أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة؟ ثم قام فاختطب ثم قال :" إنما أهلك الذين قبلكم: كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطع محمد يدها".
هذا فضلاً عن أن حق العبد يقف عند مجرد إقامة الخصومة، وقد استنفذه برفع الدعوى إلى ولى الأمر أو القاضي، الذي لا يملك سوى إنزال العقوبة المقدرة شرعاً بالجاني، دون أن يكون للمجني عليه – حينئذ – ثمة حق في العفو أو الصفح.
ثانياً : في جرائم القصاص والديه:
يطلق البعض على هذه الطائفة من الجرائم تعبير جرائم الدم، وهي تعتبر مجالاً رئيسياً للصلح، سواء بالنسبة للعقوبة البدنية (القصاص) أو المالية (الدية).
1- أما عن القصاص:
فإن إجازة الصلح في شأنه تستند إلى العديد من الآيات القرآنية الشريفة، مثال ذلك :" يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، فمن عفى له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف، وأداء إليه بإحسان، ذلك تخفيف من ربكم ورحمة، فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم"( ).
"وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص، فمن تصدق به فهو كفارة له، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون"( ).
"وجزاء سيئة سيئة مثلها، فمن عفا وأصلح فأجره على الله، إنه لا يحب الظالمين"( ). والأصل في القصاص أنه عقوبة تستهدف شفاء غليل المجني عليه أو ولي الدم ومن ثم فلا تثريب من إنهاء هذا النزاع صلحاً بين طرفيه، بدلاً من القصاص من الجاني، وهو يحقق بأن يدفع الأخير مبلغاً من المال إلى الأول تعويضاً له عما أصابه من ضرر مادي، وألم نفسي من جراء الجريمة.
2- وبالنسبة للدية:
فإن إجازة الصلح في شأنها إنما تستند إلى الآية القرآنية "ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلى أن يصدقوا"( ). وبصفة عامة – تنتمي هاتان الطائفتان إلى طائفة الجرائم المختلطة، أي تلك التي تنطوي على عدوان على حق الله وحق العبد في آن واحد، وإن كانت الغلبة لهذا الأخير، ومن ثم كانت من الجرائم الخاصة التي ترفع إلى القضاء بطريق الدعوى الجنائية الخاصة أو الفردية من المجني عليه أو وليه، وذلك إعمالاً للآية الكريمة، ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطانا"( ). وقد قسمها الفقهاء إلى عمدية موجبة للقصاص، وشبه عمدية، وغير مدية موجبة للدية.
ويترتب على الصلح في أي منها، إيقاف سير الدعوى الجنائية دون توقيع العقوبة المقررة سواء كانت قصاصاً أو دية، بيد أن التنازل عن الحق في القصاص، لا يعني إعفاء الجاني من العقاب تماما، وإنما يظل عرضه لعقوبة تعزيرية يقدرها القاضي تبعا لمقتضيات المصلحة العامة والخاصة على السواء.
ثالثاً: في جرائم التعزير:
لم يحدد الشارع جرائم التعزير على سبيل الحصر، كما فصل بالنسبة للطائفتين السابقتين، اكتفاء بما أورده من النص على بعضها، تاركاً لولي الأمر سلطة تقرير سواها، مراعاة منه لتطور الحياة، وما يستجد في المجتمع من ظروف تؤثر على أمنه وسلامته.
وبصفة عامة، فإن هذه الجرائم تتفرع إلى ذات التقسيمات التي سبق بيانها: فمنها ما هو حق خالص لله تعالى ومنها ما هو حق خالص للعبد ومنها ما يشترك في الحقان، مع إمكانية غلبة أحدهما على الآخر، في بعض الفروض ومن أمثلة الطائفة الأولى: ترويج البدع، والتشكيك في المسلمات الإسلامية وتحريض النسوة والغلمان على الفسق والفجور، وحيازة الخمور والاتجار فيها، وغش البضائع، والإفطار في نهار رمضان بغير عذر.
ومن أمثلة الطائفة الثانية : شتم الصبي رجلاً، لأن الأول غير مكلف بحقوق الله، فيبقى حق تعزيره للخير، وهو المشتوم.
أما الطائفة الأخيرة، فمن أمثلتها تقبيل زوجة الأجنبي والخلوة بها، وكذلك الحال بالنسبة لجرائم السب والإيذاء البدني التي لا يجوز القصاص فيها.
المبحث الثالث
الطبيعة القانونية للصلح الجنائي
تجيز التشريعات الجنائية المعاصرة الصلح في بعض جرائم الأشخاص والأموال، وتهدف تلك التشريعات من تلك الإجازة، محاولة لتخطي أزمة العدالة الجنائية والتي نجمت عن ظاهرة التضخم العقابي نتاج الثورة المعلوماتية والتكنولوجية التي عمت القرية الكونية وقد بدا مصطلح الصلح بمثابة المنقذ في سماء التشريعات الجنائية المعاصرة.
وقد أدخل المشرع المصري تعديلاً تشريعياً عام 1998، حيث أصدر القانون رقم 174 لسنة 1998 وأضاف المادة 18 مكرراً (أ) والتي أجازت الصلح بين الجاني والمجني عليه أو وكيله الخاص في طائفة من الجرائم التي تقع على الأشخاص، وأخرى تقع على الأموال.
ويجمع بين هذه الجرائم طابع عدم الإخلال الجسيم بالمصلحة العامة، والضرر الأكبر ينصب على المجني عليه، كما ورد بالمذكرة الإيضاحية للقانون رقم 174 لسنة 1998 أنه "من شأن هذا الحكم المستحدث أن يقطع سير كثير من إجراءات المحاكمة دون مساس بتوازن العلاقات الاجتماعية والاقتصادية بين الأفراد، ما دام أن انقضاء الدعوى الجنائية معلق على إقرار المجني عليه بالصلح، الذي لا يتم غالبا إلا نتيجة إزالة أثر الجريمة أو الصفح بين ذوي الصلات الحميمة.
هذا وقد ثار الخلاف حول الطبيعة القانونية لهذا الصلح فهل هو يعتبر عقد أم تصرف قانوني أم عمل قانوني، بالنظر إلى الآثار التي يرتبها وهذا ما سوف نعرض له في البند التالي:
الصلح الجنائي والصلح المدني:
• يكاد ينعقد إجماع الفقه، على أن الصلح المنصوص عليه في المادة (18) مكرراً (أ)، من قانون الإجراءات الجنائية المصري، ذو طبيعة عقدية يتماثل مع عقد الصلح المنصوص عليه في التقنين المدني. فطبقاً لنص المادة 549 من القانون المدني، فإن الصلح عقد يحسم به الطرفان نزاعاً قائماً أو يتوقيان به نزاعا محتملا. وذلك بأن ينزل كل منهما على وجه التقابل عن جزء من ادعائه( ).
• ويشترك الصلح الجنائي مع الصلح المدني في انعقاده بتلاقي إرادتين هما إرادة المجني عليه وإرادة المتهم وذلك بالنسبة لجرائم المادة 18 مكرراً (أ) من قانون الإجراءات الجنائية.
وقد دفع هذا التشابه إلى اتجاه جانب من الفقه إلى القول بأن الصلح بين الجاني والمجني عليه، يعتبر تصرفاً قانونياً من جانبين، يماثل الصلح المدني، هذا وإن تدخل المشرع في تحديد بعض الآثار الجنائية كانقضاء الدعوى الجنائية، لا يفقد هذا الصلح طبيعته المدنية، الذي تجمعت كافة عناصره، ولم يكن من ضمن تلك العناصر انقضاء الدعوى الجنائية، ويستند هذا الاتجاه إلى أن الصلح قد يتم بصدد جريمة لا يجوز الصلح فيها، كما أن الصلح المدني يحوز حجية الشئ المقضي به ويؤيد جانب هام من الفقه هذا الاتجاه العقدي، فمن وجهه نظر هذا الجانب، أن الصلح عقد طرفاه المجني عليه أو وكيله الخاص من جهة والمتهم من جهة أخرى، وينعقد بتلاقي الإرادتين، وظاهر نص المادة 18 مكرراً (أ)، أن المجني عليه أو وكيله الخاص له أن يطلب من النيابة العامة أو المحكمة – بحسب الأحوال – إثبات صلحه مع المتهم، ولكن قد تكون من مصلحة المتهم رفض الصلح، كما لو كان الاتهام كيدياً، فالصلح بين الجاني والمجني عليه، أقرب للصلح في مجال القانون الخاص، وهذا الصلح ينتج أثره ولو جهل الطرفان هذا الأثر( ).
وذهب البعض الآخر إلى القول بأن الصلح المنصوص عليه في المادة 18
مكرراً (أ) من قانون الإجراءات الجنائية، يحوي طائفتين من الجرائم الأولى تعتبر من جرائم الأشخاص، وهي جرائم الإيذاء كالضرب والجرح وإعطاء المواد الضارة، وتلك الطائفة تتقارب مع جرائم القصاص المعروفة في الشريعة الإسلامية بل وتتماثل معها، فلا مرية أن الصلح يعد بمثابة عقوبة مالية بديلة. أما الطائفة الثانية من تلك الجرائم، فهي تنصب على الأموال، مثل جرائم خيانة الأمانة، أو الإتلاف واختلاس الأشياء المحجوز عليها قضائياً وإدارياً. والصلح في تلك الطائفة من الجرائم معاقب عليه بالحبس والغرامة، ويفترض كذلك قيام الجاني بإزالة أثر الجريمة، وهذا لا يتأتى إلا بدفع مقابل لهذا الصلح، والصلح الذي تعنيه المادة المذكورة، يتعلق بجريمة وقعت، ومن ثم فالمقابل الذي يدفعه الجاني للمجني عليه يحوي في طياته إيلاماً للجاني حيث يقتطع جزءاً من أمواله، وما يزيد من أثر هذا الإيلام هو دفعه للمجني عليه أو وكيله الخاص، وترتيباً على ذلك، فالصلح في جرائم الأموال بمثابة عقوبة بديلة مالية رضائية، أما إذا تم الصلح بلا مقابل بين ذوي الصلات الحميمة كما جاء بالمذكرة الإيضاحية للقانون رقم 174 لسنة 1998، فواقع الأمر لا يعتبر صلحاً بالمعنى الفني وإنما نكون بصدد صفح أو عفو، والفرق بينهما كبير، فالصلح لا يكون إلا بمقابل ويتوقف على رضا الجاني، أما الصفح فلا يتوقف على إرادة الجاني أو رضائه كما أن العفو يتم دوما بلا مقابل.
ويذهب نفس الاتجاه السابق إلى القول بأن ما قيل على أن الصلح بين الجاني والمجني عليه عقد مدني رتب المشرع بعض آثاره
ويذهب نفس الاتجاه السابق إلى القول بأن ما قيل على أن الصلح بين الجاني والمجني عليه عقد مدني رتب المشرع بعض آثاره الجنائية، وإن لم تتجه إرادة الطرفين إلى تلك الآثار ومن ضمنها انقضاء الدعوى الجنائية فيبدو أنه غير منطقي، فانقضاء الدعوى الجنائية بحسبه أهم آثار الصلح في المواد الجنائية، يعتبر الدافع أو الحافز على إجراء الصلح، لتجنب وصمه الإدانة، فضلا عن أن الصلح المدني يحوز حجية الشئ المقضي به. كما أنه يعوض كافة الأضرار المادية والأدبية فلو كان الصلح المنصوص عليه في المادة المذكورة صلحا مدنيا، لما أجاز المشرع للمضرور من الجريمة المطالبة بحقوقه المدنية، وقد يكون المضرور من الجريمة هو المجني عليه نفسه، وهذا الغرض قائم في جرائم كثيرة.
ويخلص هذا الاتجاه إلى القول بأن الصلح المنصوص عليه في المادة 18
مكرراً (أ) هو عقوبة مالية بديلة يتوقف تنفيذها على رضاء الجاني وتعتبر استثناء على مبدأ قضائية العقوبة، فالصلح وسيلة غير قضائية لإدارة الدعوى الجنائية، يتم تحت رقابة النيابة العامة، والتي تعتبر شعبة من شعب السلطة القضائية، أو تحت رقابة محكمة الموضوع، فضلا عن أن المشرع قد نص على الصلح والصفح، ورتب عليهما وحدة الأثر، وهو انقضاء الدعوى الجنائية( ).
ويرى الدكتور/ مدحت محمد عبد العزيز إبراهيم أن الصلح المدني يختلف عن الصلح الجنائي حيث أن الصلح المدني يتعلق بالمصالح الخاصة لطرفي العقد، أما الصلح الجنائي فهو نظام إجرائي يترتب عليه انقضاء الدعوى الجنائية، على ذلك فإن إرادة الأطراف لا تتحكم في تحديد الأثر المترتب على الصلح، بل أن القانون هو الذي يحدد هذا الأثر، وهو انقضاء سلطة المجتمع في العقاب. وليس هذا من طبيعة العقد المدني الذي يحدد أطرافه بإرادتهم الآثار المترتبة عليه.
كما أن العقد المدني يحوز حجية الشئ المقضي به، في حين أن الصلح الجنائي يتوقف أثره على قبول النيابة العامة أو المحكمة – بحسب الأحوال – له. فتمام الصلح الجنائي لا يرتب أثره في انقضاء الدعوى الجنائية مباشرة، بل لابد من إقرار إثبات هذا الصلح بمعرفة النيابة العامة أو المحكمة. فقد يتراءى لهما أنه يعد صلحاً فاسداً، لعدم توافر الأهلية مثلاً، أو وقوع إكراه على المجني عليه لإتمامه، إلى غير ذلك من أسباب فساد هذا الصلح.
أما القول بأن الصلح الجنائي يعتبر عقوبة مالية بديلة فهو أيضا قول مردود حيث أنه لا يشترط أن يتم هذا الصلح بمقابل أما القول بالتفرقة بين الصلح والصفح أو العفو، وأن هذا الأخير يتم بدون مقابل، فلا يغير من طبيعة العمل في شئ. ذلك أن المشرع قد تنبه إلى إمكانية وقوع الصلح بين ذوي الصلات الحميمة من الأقارب مثلاً، درءا للخلافات فيما بينهم، فليس من مصلحة الدولة أن تقف عائقاً أمام رغبتهم في إتمام الصلح ووضع حد للدعوى الجنائية. وبطبيعة الحال قد يتم الصلح فيما بينهم بدون مقابل، وهو مع ذلك أيضا يعتبر صلحاً جنائيا.
وعلى ذلك فإن الطبيعة القانونية للصلح الجنائي أبى أن نصفه بكون بكونه عقد مدني، أو بكونه عقوبة مالية بديلة، بل هو نظام إجرائي إرادي يقتضي اتفاق إرادتين، ويترتب عليه أثر قانوني هو انقضاء سلطة الدولة في العقاب( ).
الفصل الثاني: قواعد الصلح الجنائي
المبحث الأول : شروط الصلح الجنائي
تنقسم شروط الصلح في القانون الجنائي إلى طائفتين: شروط نشوء وشروط صحة ونفاذ. أما شروط النشوء فهي العناصر المكونة لعقد الصلح والتي لا قيام له بدونها وتمثل أركان العقد فالصلح باعتباره عقداً لابد فيه من توافر الإيجاب والقبول والسبب .. وأما شروط الصحة والنفاذ فهي مجموعة من الضوابط التي ينص عليها المشرع ويرتب على توافرها صحة العقد وصلاحيته لتحقيق آثاره القانونية.
وإذا كان تخلف أحد شروط النشوء يترتب عليه انعدام العقد في ذاته فإن تخلف أحد شروط الصحة لا يعدم العقد وإنما يجعله مشوبا بعيب قد يعرضه للبطلان يمنع آثاره القانونية.
وسوف نقسم هذا المبحث إلى مطلبين الأول يتعرض إلى شروط الصلح الجنائي في القانون المصري والثاني شروط الصلح في الشريعة الإسلامية.
المطلب الأول
شروط الصلح الجنائي في القانون المصري
أولاً: شروط نشوء الصلح:
1- يجب توافر الرضاء في الصلح : إن توافر عنصر الرضاء أمر مسلم به في الصلح الجنائي. فلا يمكن أن يلزم المتهم أو الطرف المتصالح معه بقبول الصلح كرها، بل يجب أن يكون حر الاختيار في قبوله أو رفضه، وتقضي القواعد العامة بأن يكون الرضاء سليماً خالياً من العيوب حتى يمكن الاعتداد به ويترتب عليه آثاره القانونية.
2- يجب أن يكون محل الصلح مشروعاً، ممكناً أو قابلا ً للتعيين وفيه مصلحة للمتعاقد( ). فإذا كان النزاع في صلح القانون المدني ينبغي أن ينصب على حقوق غير مستقرة بصفة نهائية. فإن الصلح في القانون الجنائي ينصب بدوره على حقوق غير مستقرة. ذلك أن الجريمة بمجرد وقوعها لا ترتب إلا حق الدولة في العقاب وحق المتضرر في التعويض إن كان له محل.
3- السبب في عقد الصلح: يقوم الصلح على التنازل التبادلي من قبل المتهم والطرف المتصالح معه. فالمتهم من حقه أن يقدم إلى المحاكمة أمام محكمة مختصة تنظر في التهمة الموجه له وتصدر حكمها بعد سماع ما يقدم أمامها من بينات الاتهام الدفاع معاً كما أن القانون يقرر حقوقاً وضمانات للمتهم يجب على سلطات التحقيق والمحكمة مراعاتها تحقيقاً للعدالة تمكينا للمتهم من الدفاع عن نفسه ودفع التهمة المنسوبة إليه. ومن جهة أخرى فإن الطرف الآخر وهو ممثل الاتهام الذي ينوب عن المجتمع في المطالبة بمعاقبة المتهم، من حقه رفع الدعوى الجنائية أمام القضاء بل إن ذلك قد يكون واجباً عليه ويترتب على ذلك حقه في تقديم الأدلة والبينات التي من شأنها إثبات التهمة على المتهم وكذلك حقه في الطعن في أحكام القضاء.
ولما كان الصلح بين المتهم وممثل الاتهام من شأنه أن ينهي الدعوى الجنائية بغير حكم أو يحول دون رفعها إذا ما تم قبل ذلك فمقتضى هذا أن يتنازل كل منهما عن جزء من حقوقه التي يقررها له القانون. فممثل الاتهام يتنازل عن حقه في رفع الدعوى الجنائية وتقديم المتهم للقضاء والمتهم يتنازل عن حقه في المحاكمة وما يترتب عليها من حقوق وضمانات.
ثانياً: شروط الصحة والنفاذ الواجب توافرها في الصلح:
1- شروط الصحة:
الشرط الأول : أن تكون الجريمة قابلة للصلح قانوناً:
مفاد هذا الشرط أن يقتصر تطبيق الصلح على الجرائم التي نص المشرع على إجازة الصلح فيها دون غيرها من الجرائم الأخرى.
وقد نصت المادة 18 مكرراً (أ) من قانون الإجراءات الجنائية المصري على هذه الجرائم وهي في جملتها من الجنح التي يعاقب عليها القانون بالحبس والغرامة التي يزيد حدها الأقصى على مائة جنية أو بإحدى هاتين العقوبت