الشرعية الدستورية فى قانون العقوبات
الشرعية الدستورية فى قانون الإجراءات الجنائية
إعداد/ دكتور / أحمد فتحى سرور
مقدمة المرجع الفقهي
<BLOCKQUOTE>مقدمة
1– موضوع البحث :
تتوقف الحماية الدستورية على التوازن بين كل من القيم الدستورية للحقوق والحريات ، والقيم الدستورية للمصلحة العامة ، على نحو يضمن عدم التفريط فى أى من هذه القيم المختلفة . وعلى المشرع مسئولية تنظيم ممارسة الضمانات الدستورية من خلال شكل التوازن الذى يجريه بين مختلف الحقوق والحريات وبين المصلحة العامة ، وذلك تحت رقابة القضاء الدستورى .
ويعد التشريع الجنائى من أهم المجالات التى يبدو فيها بعض الاختلاف بين مختلف الحقوق والحريات من جهة وبينها وبين المصلحة العامة من جهة أخرى . فهذا التشريع يتحمل مسئولية تحقيق التوازن الذى يوقف هذا الصراع ويكفل حماية كل من الحقوق والحريات والمصلحة العامة بقدر متناسب . ويلتزم المشرع فى سبيل كفالة هذه الحماية باحترام الضمانات التى ينص عليها الدستور .
فقانون العقوبات من خلال التجريم والعقاب يحمى كلا من حقوق المجنى عليه والمصلحة العامة بحكم الضرورة الاجتماعية التى تتطلب هذه الحماية ، ويفرض الجزاء الجنائى المناسب الذى يتسم بالمعقولية ، ولا ينافى الحدود المنطقية التى ينبغى أن تكون إطارا له . وكل ذلك يتم من خلال معايير ينص عليها الدستور تتمثل فى ضمانات يتعين على المشرع العقابى الالتزام بها.
وقانون الإجراءات الجنائية بما يضعه من قواعد تهدف إلى تحديد الإجراءات التى يتم بواسطتها استعمال حق الدولة فى العقاب يحمى حقوق كل من المتهم والمجنى عليه ويكفل حماية المصلحة العامة . ونظراً إلى أن الإجراءات الجنائية من شأنها أن تمس بعض الحقوق والحريات فإنه يتعين كفالتها بحكم أن الأصل فى المتهم البراءة ، وبناء على أن القاضى هو الحارس الطبيعى للحريات ، وذلك فى إطار محاكمة منصفة . وكل ذلك يتم من خلال معايير ينص عليها الدستور تتمثل فى ضمانات يتعين على المشرع الإجراءات الجنائى الالتزام بها .
ونهدف من هذا المؤلف إلى إلقاء الضوء على المبادئ الدستورية التى يخضع لها القانون الجنائى بفرعية ( قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية ) ، وهو أمر لم ينل عناية كبيرة من الفقه المصرى ، وإن كان قد حظى باهتمام المحكمة الدستورية العليا فى مصر التى قدمت حصلية فائقة من المبادئ الدستورية فى هذا الشأن .
وهناك علاقة وثيقة بين القانون الدستورى والقانون الجنائى ، لأن المبادئ الدستورية تسهم فى تحديد مضمون القانون الجنائى ذاته بحيث يتوقف تحديد الجرائم على تطوير المبادئ الدستورية أكثر من اعتماده على تطور القيم والمصالح الاجتماعية .
كما أنه طالما كان الدستور هو القانون الأساسى فإنه يحمل فى طياته تحديد القيم الأساسية للمجتمع ، والحقوق والحريات مما يوجب على القانون الجنائى أن يكفل من خلال الأدوات التى ينظمها ( العقوبات والإجراءات الجنائية ) حماية هذه القيم ضمان حماية الحقوق والحريات على نحو يتفق مع المبادئ التى يكفلها الدستور ، فلا يجوز أن يقوم قانون العقوبات بتحريم سلوك لا يلحق ضررا بالمجتمع أو يهدده بالخطر ، أو ينص على عقوبات مبالغ فيها ، فمراعاة الضرورة والتناسب فى التجريم والعقاب أمس يحتمه الدستور كما لا يجوز أن يقوم قانون الإجراءات الجنائية بتنظيم إجراءات تمس الحريات بغير كفالة ضماناتها .
ومع ذلك فقد لوحظ أن فقه القانون الجنائى بفرعية ( العقوبات والإجراءات ) قد مر بمرحلتين : الأولى يحكمها الفن القانونى لمواجهة الضرر الذى أحدثه الجانى ، وقد ارتكز على مفهوم الجريمة من الناحية المادية . والثانية تحكمها نتائج علم الإجرام ، وقد ارتكزت على مفهوم شخصية المجرم . وفى ضوء ذلك ، فقد ارتكزت الدراسات الى تناولت مفاهيمه ، وعالجت موضوعاته فى ضوء نظريات مختلفة ترتد إما إلى نظرة مادية بحتة ترتكز على السلوك الإجرامى ذات النشاط الخارجى وتنطلق من نظرة تجريدية يحكمها الفن القانونى المجرد ، أو تنبعث من نظرة نفسية أو اجتماعية ترتكز على السلوك الإجرامى ذات النشاط الخارجى وتنطلق من نظرة نفسية أو اجتماعية ترتكز على شخص المجرم . وقد أدت هذه النظرة الأخيرة إلى إضعاف الطابع القانونى للقانون الجنائى بالمقارنة مع غيره من فروع القانون ، مما أثر فى مدى الاهتمام بتدريسه فى فرنسا(1)
وأيا كانت المرحلة التى يعيشها القانون الجنائى ، فلا يجوز أن يغيب عن البال أن هذا القانون جزء من النظام القانونى ، وتتحدد أحكامه فى ضوء طبيعة العلاقة بين الفرد والدولة ، فالفرد هو إما المجنى عليه أو المتهم ، والدولة هى صاحبة الحق فى العقاب وهى صاحبة السلطة الإجرائية .
وتحدد المبادئ والقواعد الدستورية طبيعة العلاقة بين الفرد والدولة والتى تحكم مضمون قواعد القانون الجنائى ، لكى تجعلها أكثر انضباطا مع الإرادة العامة للشعبالمتمثلةفى الدستور وتأكيد حماية الحقوق والحريات والمصلحة العامة من خلال إحداث توازن فيما بينها (2) ، وهذا التوازن يتحقق من خلال معيار التناسب “ proportionnalite” الذى يحقق علاقة
منطقية بين الوسائل والغايات(3)
ولا يتناقض الالتزام الدستورى للقانون الجنائى مع تطويره وفق مبادئ علم الإجرام ، طالما أن التجريم والعقاب الذى يقرره قانون العقوبات تحكمه موجبات الضرورة والتناسب بالمفهوم الدستورى لتحقيق التوازن بين الحقوق والحريات والمصلحة العامة ، وطالما حافظ قانون الإجراءات الجنائية على الضمانات الدستورية للحقوق والحريات فى توازن بينها وبين المصلحة العامة . وكل ذلك يأتى إيذانا بمرحلة جديدة لفقه القانون الجنائى ، يعطى فيها الصدارة للمبادئ الدستورية التى تحكم القانون الجنائى ، لكى تضبط قواعده التى تتأثر بطبيعة العلاقة بين الفرد والدولة فى ضوء النظام الدستورى ، سواء تلك التى ترتك على مفهوم الجريمة أو تلك التى تقوم على مفهوم المجرم ، لكى تأتى محققة للتوازن بين الحقوق والحريات والمصلحة العامة . ونستهدف من هذه الدراسة تأصيل العلاقة بين الفرد والدولة حتى نربط دراسة القانون الجنائى بالشرعية الدستورية ، تأكيدا لوحدة النظام القانونى الذى يحكمه الدستور . ومن خلال هذا الارتباط الضوء على جوانب جديدة فى هذا القانون تربطه بسائر فروع القانون ، فلا يكون هائما بعيدا عنها أو منفلتا منعزلا عن ضوابطها ، بل مرتبطا معها بحكم علاقته معها داخل النظام القانونى الذى يقف الدستور على قمته . وفى هذا الإطار لا يكون كل من قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية أداة للقهر أو للتحكم ، وإنما أداة لحماية الحقوق والحريات بالإضافة إلى تحقيق المصلحة العامة(4)
وبهذا الارتباط يتأكد الوضع المهم الذى يحتله القانون الجنائى فى النظام القانونى وفى نظرية القانون ، وهو ما جهله البعض حين تخيلوا أن دراسة هذا القانون يعنى مجرد دراسة أفكار لو مبروزو(5)
ومن ناحية أخرى ، فإن الدستور ، إذ يحمى الحقوق والحريات ، يأتى المشرع بعده ليوفر الضمانات الكافية لهذه الحماية ، ويرسم للقاضى دوره لتأمين هذه الحماية والمحافظة عليها .
ولا شك أن أخطر ما يهدد الحقوق والحريات يبدو فى المواد الجنائية ، سواء من خلال العقوبات أو الإجراءات الجنائية وسوف نفرد هذا المؤلف لبحث القانون الجنائى الدستورى لاستجلاء الحماية الدستورية للحقوق والحريات فى كل من التجريم والعقاب ، والإجراءات الجنائية ، والتى تكون فى مجموعها فرعا جديدا من فروع القانون ، هو القانون الجنائى الدستورى(6) . والهدف من هذا الفرع هو تأصيل القواعد الدستورية للقانون الجنائى ، على نحو يوضح التوازن بين الحقوق والحريات والمصلحة العامة فى ضوء معيار التناسب بين الوسائل والغايات(7)
وإن كانت هذه الضمانات من حيث المصدر ترتكز فى الدستور ، مما قد يوحى بإطلاق اسم " القانون الدستورى الجنائى " على هذا الفرع من القانون ، إلا أنها من حيث المضمون تؤثر مباشرة فى قواعد القانون الجنائى ، مما يجعلنا نفضل تسميته بالقانون الجنائى الدستورى . وتعد هذه القواعد بمثابة القسم العام الدستورى للقانون الجنائى برمته ، ويجب إعطاء كل الاهتمام لبحثها وتعميقها فى إطار دراسة القانون الجنائى حتى تؤكد ما
قاله البعض(8 ) من أننا " لا يجوز أن تنسى أنه بداخل القانون الجنائى يوجد قانون " .
2 – دور القانون الجنائى فى إحداث التوازن بين الحقوق والحريات ، والمصلحة العامة :
يهدف القانون الجنائى بفرعية ( قانون العقوبات ، وقانون الإجراءات الجنائية ) إلى إحداث التوازن بين حماية المصلحة العامة التى تمس كيان الدولة أو المجتمع ، وبين حماية الحقوق والحريات والمصالح الخاصة بالأفراد .
ويتميز هذا القانون بأن قواعد تتسم بقوة التأثير على السلوك الاجتماعى . ويبدو ذلك واضحا فى قانون العقوبات الذى يفرض إنماطا من السلوك ويرتب عقوبات على مخالفتها . كما يتجلى هذا المعنى أيضا فى قانون الإجراءات الجنائية بما ينظمه من قواعد إجرائية تمس حقوق وحريات المواطنين فى سبيل كشف الحقيقة وإقرار حق الدولة فى العقاب .
على أن قوة التأثير التى تتسم بها قواعد القانون الجنائى على السلوك الاجتماعى لا تخفى طابعه الحقيقى ، وهو حماية المصلحة الاجتماعية . وتتجلى هذه المصلحة فى قانون العقوبات بما يفرضه من انماطا السلوك المختلفة لحماية المصالح والقيم الاجتماعية وحماية الحقوق والحريات ، بما يفرضه من جزاء قانونى لضمان احترام هذه الأنماط .
وتتوقف فعالية قانون العقوبات فى أداء هذه الوظيفة على معيارين ، هما : مدى حسن تعبيره عن المصالح والقيم الحالية للمجتمع ، ومدى تنظيمه للجزاء الجنائى .
أما عن المعيار الأول ، فإن قانون العقوبات يمر حاليا بأزمة التكيف مع متطلبات المجتمع ، فهو يواجه صدمة التغيرات السريعة التى تمس مصالح المجتمع وقيمه ، الامر الذى يقتضى أن يواجه القانون بصفة دائمة هذه التغييرات وأن يداوم على التعايش مع تطوير المجتمع الذى يحيا فيه . وبالنسبة إلى المعيار الثانى ، فإن الجزاء يجب أن يخضع لسياسة جنائية تكفل بوضوح خدمة هذا للهدف الاجتماعى من قواعد التجريم ، وحتى يكفل احترام المصالح والقيم الاجتماعية التى تعبر عنها هذه القواعد وحماية الحقوق والحريات التى تنظمها .
وبالنسبة إلى قانون الإجراءات الجنائية ، فإنه يهدف بوجه عام إلى حماية المصلحة الاجتماعية من خلال ما ينظمه من إجراءات لكشف الحقيقة وإقرار حق الدولة فى العقاب ، من خلال الضمانات التى يقررها حماية الحقوق وحريات المتهم التى تتعرض للخطر من جراء هذه الإجراءات .
ويوازن القانون الجنائى بفرعيه بين المصلحة الخاصة للفرد والمصلحة العامة ، فيقر من المصلحتين ما يهم المجتمع ويضمن حسن سيره وفعاليته . ويتوقف تقدير ما يهم المجتمع من المصالح – وخاصة الفردية منها – على النظام السياسى والاجتماعى والاقتصادى للدولة .
ومن خلال التوازن الذى يقيمه القانون الجنائى بفرعية بين المصلحة العامة والحقوق والحريات ، فإن المشرع الجنائى لاى توانى عن حماية هذه الحقوق والحريات بثلاثة أساليب :
الأول : الحماية الجنائية للحقوق والحريات ، من خلال تجريم أفعال المساس بها والمعاقبة عليها ، مثل المساس بالحق فى الحياة الخاصة ، أو الحق فى الحياة ، أو الحق فى سلامة الجسم ، أو الحق فى الحرية الشخصية ، أو الحق فى الثقة والاعتبار . وتنطوى هذه الحماية الجنائية فى ذات الوقت على حماية النظام العام الذى يتاذى من المساس به ، ومن المساس بالحقوق والحريات.
الثانى : أن تتم الحماية الجنائية للحقوق والحريات من خلال التوازن فيما بينها من ناحية ، وفيما بينها وبين المصلحة العامة من ناحية اخرى ، فلا يجوز أن تكون حماية المصلحة العامة أو حماية حقوق الغير وسيلة للعصف بالحقوق والحريات ، مثل حرية التعبير ، وحق نشر الاخبار ، وحرية البحث العلمى ، وحق النقد ، وحق مخاطبة السلطات العامة ، وحق الدفاع ، فالتوازن بين الحقوق والحريات المحمية يحدد سلطة المشرع الجنائى فى التجريم والعقاب . مثال ذلك ان تجريم المساس بالحق فى الثقة والاعتبار لا يجوز أن يمس حرية التعبير ، كما أن تجريم المساس بالحق فى سلامة لاجسم لا يجوز أن يمس الحق فى العلاج . وتجريم المساس بالحق فى الحياة لا يجوز أن يتم بالتضحية بالحق فى حياة شخص آخر أولى بالاعتبار ( مما يخوله القانون حق الدفاع الشرعى ) . وكذلك الشأن فى التوازن بين العقوبة وجسامة الجريمة(9)
كما تكون هذه الحماية فى إطار التوازن مع المصلحة العامة المتمثلة فى النظام العام بجميع جوانبه حين تطلب تنظيم ممارسة هذه الحقوق والحريات داخل حدود معينة مراعاة للصالح العام وتجريم الخروج عن هذه الحدود . وهو ما يمثل الضرورة الاجتماعية التى تتطلب التجريم والعقاب وبالقدر المتناسب مع الفعل الصادر الذى يتطلبه .
والثالث : هو ضمان التمتع ببعض الحقوق والحريات ، كقيد على الإجراءات الجنائية التى تتخذ
لاقتضاء حق الدولة فى العقاب تحقيقا للمصلحة العامة . فإذا تطلب الأمر من سلطة التحقيق القبض على المتهم أو تفتيشه ، فلا يجوز أن يتم ذلك بالتضيحة على نحو مطلق بحقه فى الحرية ، أو حقه فى سلامة المسكن . كما أن محاكمة المتهم لا يجوز ان تحرمه من حقوق الدفاع ، ومن التمتع بحقوقه الاخرى متوازنة مع سلطة الاتهام .
وفى هذا الصدد فإن الصراع دائم بين مقتضيات المصلحة العامة ومتطلبات تمتع الفرد بحقوقه وحرياته(
10)
وقد عبرت عن ذلك المحكمة الدستورية العليا قائلة بأن " إدانة المتهم بجريمة غنما تعرضه لأخطر القيود على حريته الشخصية وأكثرها تهديدا لحقه فى الحياة ، وهى مخاطر لا سبيل إلى توقيها إلا علىضوء ضمانات فعلية توازن بينحق الفرد فى الحرية من ناحية ، وحق الجماعة فى الدفاع عن مصالحها الاساسية من ناحية أخرى(11)
وتدق وظيفة القانون الجنائى أمام التطور الاجتماعى السريع الذى لحق بالمجتمعات الإنسانية خلال القرن التاسع عشر وفى أوائل القرن العشرين ، وما صاحبهما من تقدم علمى يمكن استخدامه بطريقة تضر بالإنسانية ، وقد انعكس هذا التطور فى تحديد نطاق المصلحة التى يجب ان يحميها قانون العقوبات ، وفى تحديد مدى مشروعية بعض الوسائل التكنولوجية الحديثة فى كشف الحقيقة .
ويؤدى القانون الجنائى وظيفته فى الدولة القانونية فى إطار الشرعية الدستورية ؛ فقانون العقوبات يحمى الحقوق التى قررها لادستور ويلتزم بالمبادئ التى يقررها فى مجالات التجريم والعقاب والإباحة والمسئولية ، كما يلتزم ايضا قانون الإجراءات الجنائية بالمبادئ الدستورية فى الحقوق والحريات العامة .
وفى إطار هذا الالتزام يتحدد دور كل من المشرع الجنائى ، والقاضى الجنائى . فالمشرع يقيم التوازن بين الحقوق والحريات والمصلحة العامة المتمثلة فى النظام العام الجنائى . والقاضى هو الحارس للحقوق والحريات ، ويجب ان يكفل حمايتها فى مواجهة مقتضيات المحاكمة .
3 – دور الشرعية الدستورية فى إحداث التوازن المطلوب :
إذا كانت الحماية الجنائية للحقوق والحريات ، وحماية النظام العام تتم من خلال التجريم والعقاب وكانت الإجراءات الجنائية تتخذ لتمكين الدولة من اقتضاء حقها فى العقاب ، فإن ذلك لا يعنى التضحية بحقوق وحريات الأفراد الذين يتم تجريم أفعالهم والعقاب عليها واتخاذ الإجراءات الجنائية فى مواجهتهم . ومن ناحية أخرى ، إذا كانت الحماية الجنائية للمصلحة العامة تتقرر حسب الأصل بقانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية ، فإن حماية الحقوق والحريات تتقرر بحسب الاصل بالدستور . ومن هنا كانت الشرعية الدستورية هى الضمان الأعلى لهذه العقوبات فجاء مؤتمرها الثانى عشر المنعقد فى هامبورج سنة 1979 فوضع عددا من القواعد التى تعتبر حدا أدنى من ضمانات المتهم ، وجاء مؤتمرها الرابع عشر المنعقد فى فيينا سنة 1989 فوضع عددا من
القواعد الخاصة بالعلاقة بين تنظيم العدالة الجنائية والإجراءات الجنائية ، وجاء مؤتمرها الخامس عشر المنعقد فى البرازيل سنة 1994 فبحث حركات الإصلاح فى الإجراءات الجنائية لحماية حقوق الإنسان .
وفى ضوء الشرعية الدستورية يجب أن يحدث التوازن بين الهدف الأول من اوراء التجريم والعقاب ومباشرة الإجراءات الجنائية والمتمثل فى حماية المصلحة لعامة ، وهذا الهدف الثانى المتمثل فى ضمان الحقوق والحريات . ويغير هذا التوازن ، يفقد التجيرم والعقاب ، والإجراءات الجنائية المصداقية والفاعلية فى الدولة القانونية . ولهذا يجب ان يتجاوب التجريم والعقاب وكذا مباشرة الإجراءات الجنائية مع مقتضيات حماية الحقوق والحريات فى جميع صورها واشكالها . وبدون هذه الحماية يكون التجريم والعقاب والإجراءات الجنائية أداة بطش وتحكم ، فتفقد الحقوق والحريات معناها وجدواها .
وتتجلى أهمية ضمان الحقوق والحريات فى أن النظام العام يقتضى تقييد حرية الفرد من خلال التجريم والعقاب . فالتجريم يمس حرية الفرد فى مباشرة أنواع معينة من السلوك لأنه يخضعه لضوابط اجتماعية معينة ، هذا بالإضافة إلى العقاب ، فإنه يمس الحرية الشخصية للفرد .
وفى هذا الصدد قد يتعرض الفرد لمخاطر التجيرم إذا ما تعرض للنوايا أو امتد إلى الحالة النفسية للنشاط الإنسانى ، أو ظهرت نصوصه غامضة أو غير دقيقة ، أو امتد التجريم بأثر رجعى إلى وقائع سابقة على نصوص التجريم ، أو تقررت مسئولية الشخص عن جريمة لم يسهم فى ارتكابها ، أو إذا قضى عليه بعقوبة عن فعل لم يقارفه ، أو جاءت العقوبة قاسية أو مهينة ، أو غير متناسبة مع جرمه .
ولا يقتصر المساس بالحرية على مخاطر التجريم والعقاب ، ولكنه يمتد أيضا إلى النظام الإجرائى الجنائى ، وذلك من خلال إجراءات الخصومة الجنائية التى تباشرها الدولة بعد وقوع الجريمة من أجل كشف الحقيقة وإقرار حقها فى العقاب ، وإجراءات التنفيذ العقابى بعد إقرار حق الدولة فى العقاب .
وهكذا يتضح أن النظام الجنائى بأسره ( العقابى والإجرائى ) يرعض بطبيعته الحريات اللخطر ، سواء عندما تباشر الدولة سلطتها فى التجريم والعقاب أو عند مباشرة الخصومة لجنايئة والتنفيذ العقابى . وخشية التحكم فى مباشرة هذه السلطات وتجاوزها القدر الضرورى للدفاع عن المجتمع ، يتعين توفير الضمانات للفرد لحماية حريته من خطر التحكم وتجاوز السلطة . وهذا هو ما يجب أن يتكفل به النظام القانونى من خلال علاقة التناسب التى يحدثها داخل القاعدة القانونية أو بين مختلف القواعد القانونية فى النظام القانونى .
ويتوقف هذا التناسب على مدى ما يتمتع به الفرد من حرية . ففى نظر الفكر التسلطى الذى يعطى للدولة جميع الحقوق والسلطات ويتجاهل قيمة الفرد فى المجتمع – لا مجال للحديث عن حرية الفرد . هذا بخلاف الفكر الحر الذى يعطى الفرد مكانته فى المجتمع ويوجب احترام جوهر حريته .
والواقع من الأمر أن الدولة القانونية بحكم وظيفتها عليها أن تحمى جميع المصالح القانونية ، وهى ليست قاصرة على الدولة وحدها بل إنها تشمل أيضا حقوق الفرد وحرياته ، فالحقوق والحريات يجب أن يحميها القانون ، ولا يجوز إهدارها بدعوى المحافظة على مصلحة المجتمع ، بل يتعين التوفيق بين المصلحتين فى إطار العلاقات الاجتماعية التى تحكم المجتمع . وقد عنى الدستور المصرى ضمانا لحماية الحقوق والحريات بأن ينص فى المادة 57 منه على أن الاعتداء على هذه الحقوق والحريات جريمة لا تسقط دعواها الجنائية ولا المدنية بالتقادم ، وأن تكفل الدولة تعويضا عادلا لمن وقع عليه الاعتداء .
على أن النظم الديكتاتورية لم تعرف هذه النظرة ، فقد أعطت الأولوية لتحقيق مصلحة الدولة وفقاً لنظام ثابت ومستقر . وقد تطلب ذلك التسليم بمبدأ تفوق الدولة عوضا عن مبدأ التناسب بين هذه المصلحة وحقوق الافراد وحرياتهم ، وهو ما لا يمكن إقراره إلا باستعمال القوة أو العنف ، ولهذا اهتمت هذه الدولة بإعادة ترتيب نظامها الجنائى الإجرائى من أجل تقوية سلطة الدولة فى المحاكمات الجنائية وتجريد الفرد من ضمانات حريته ، فأصبح قانون الإجراءات الجنائية فى هذه النظم أداة للسلطة وليس أداة لتحقيق محاكمة منصفة يتم فيها ضمان الحقوق والحريات(12)
ويتجلى ذلك فى بعض نماذج هذه النظم البائدة وهى النظام الفاشى ،والنظام النازى,والنظام الشيوعى ,والنظام العنصرى(13)
4 - دور المحكمة الدستورية العليا فى حماية التوازن بين الحقوق والحريات والمصلحة العامة :
لئن كانت الشرعية الدستويرة كما حددها الدستور هى التى تحدد الإطار الدستورى للتوازن بين الحقوق والحريات والمصلحة العامة ، إلا أن إنفاذ أحكام هذه الشرعية يحتاج إلى قضاء دستورى يصونها ويحددهامدلولها ، استطاعت من خلاله ان تستجلى كثيرا من القيم والمبادئ التى تقتوم عليها الشرعيةالدستورية . وقد أدت المحكمة الدستورية العليا رسالتها فى هذا الشأن بالنظر إلى أن نصوص الدستور – تنطوى عليه من مبادئ أساسية وضمان تكيف هذه المبادئ مع سائر القيم الدستورية التى يحميها الدستور(14)
وقد عنيت المحكمة الدستورية العليا بمصر فى مجال تطبيق الشرعية الدستورية التى تحكم القانون الجنائى بأن تستجلى تميز هذا القانون عن غيره من القوانين فى تنظيم علاقات الأفراد بالمجتمع وفيما بين بعضهم البعض ، فأكدت تميزه فى اتخاذ العقوبة أداة لتقويم الأفعال التى يأتونها بما يناقض أوامره ونواهيه ، ويتطلب ذلك أن يكون الجزاء الجنائى ضروريا من الوجه الاجتماعية ومتناسبا فى ذات الوقت .
وبوجه خاص عنيت المحكمة الدستورية العليا باستجلاء مبدأ عدم رجعية قانون العقوبات ، وأعطاء القيمة الدستورية لرجعية القانون الأصلح للمتهم ، وتأكيد القيمة الدستورية لعدم جواز القياس فى تفسير نصوص قانون العقوبات ، وتأكيد مبدأ شخصية المسئولية الجنائية مما لا يجوز معه فرض قرائن قانونية لإسناد الجريمة إلى غير مرتكبها الحقيقى . كما سنحت الفرصة للمحكمة الدستورية العليا أن تغوص فى أعماق الشرعية الدستورية التى تؤكد مبدأ حماية الحرية الشخصية والحق فى المحاكمة المنصفة وحق الدفاع وأصل البراءة فى المتهم وغير ذلك من الضمانات التى أحاط بها الدستور الإجراءات الجنائية .
وإذا كانت الشرعية الدستورية هى الإطار الذى يستظل به النظام القانونى ، فإن المحكمة الدستورية العليا تنفرد دون سائر جهات القضاء بحمايتها على نوع فريد . فبالنسبة إلى القضاء الإدارى ، فإنه – وإن تميز بسلطة الإلغاء – فإن هذا الإلغاء لا يرد إلا على القرارات الإدارية الفردية ، أو على اللوائح إذا خالفت التشريع وحده . أما المحكمة الدستورية العليا ، فإن قضاءها بعدم الدستورية يرد على نصوص تشريعية بما يؤدى إلى إلغاء أثرها التشريعى ، كما أنها حين تمتد سلطتها فى هذا الشأن إلى اللوائح ، يكون ذلك بالنظر إلى مخالفتها للدستور . ومن ناحية أخرى ، تختلف وظيفة المحكمة الدستورية العليا عن وظيفة محكمة النقض ، فهما وإن اشتركا معا فى حماية الحقوق والحريات – إلا أن الأولى تبطل أثر النصوص التشريعية حين تقضى بعدم دستوريتها ، بخلاف الثانية ، فإنها لا تلغى سوى الأحكام التى تخالف النصوص التشريعية . ولا غرابة فى كل ما تقدم ؛ بخلاف جهات القضاء الأخرى ، فإنها قاضى التشريع وتحاكم أحكام المحاكم الأدنى درجة .
ونحن فى هذا المؤلف حين نستجلى الضمانات الدستورية التى تحكم القانون الجنائى ، إنما نعتمد أساسا على قضاء المحكمة الدستورية العليا فى دراسة مقارنة مع القضاء الدستورى فى كل من فرنسا وألمانيا وإيطاليا والنمسا وأسبانيا – كلما اقتضى الامر ذلك . أما أحكام القضاء العادى – وخاصة محكمة النقض – فإننا نبينها فى موضوعها عند الاقتضاء لتأكيد التطبيق القضائى السليم للتشريع المطابق للدستور فيما يتعلق بالضمانات التى أتى بها التشريع إنفاذا لحكم الدستور .
5 – خطة البحث :
نقسم دراستنا للقانون الجنائى الدستورى إلى قسمين : ( الأول ) الشرعية الدستورية فى قانون العقوبات . ونبحث فيه الضمانات الدستورية فى قانون العقوبات . ( الثانى ) الشرعية الدستورية فى قانون الإجراءات الجنائية . ونبحث فيه لاضمانات الدستورية فى قانون الإجراءات الجنائية .</BLOCKQUOTE>
الشرعية الدستورية فى قانون الإجراءات الجنائية
إعداد/ دكتور / أحمد فتحى سرور
مقدمة المرجع الفقهي
<BLOCKQUOTE>مقدمة
1– موضوع البحث :
تتوقف الحماية الدستورية على التوازن بين كل من القيم الدستورية للحقوق والحريات ، والقيم الدستورية للمصلحة العامة ، على نحو يضمن عدم التفريط فى أى من هذه القيم المختلفة . وعلى المشرع مسئولية تنظيم ممارسة الضمانات الدستورية من خلال شكل التوازن الذى يجريه بين مختلف الحقوق والحريات وبين المصلحة العامة ، وذلك تحت رقابة القضاء الدستورى .
ويعد التشريع الجنائى من أهم المجالات التى يبدو فيها بعض الاختلاف بين مختلف الحقوق والحريات من جهة وبينها وبين المصلحة العامة من جهة أخرى . فهذا التشريع يتحمل مسئولية تحقيق التوازن الذى يوقف هذا الصراع ويكفل حماية كل من الحقوق والحريات والمصلحة العامة بقدر متناسب . ويلتزم المشرع فى سبيل كفالة هذه الحماية باحترام الضمانات التى ينص عليها الدستور .
فقانون العقوبات من خلال التجريم والعقاب يحمى كلا من حقوق المجنى عليه والمصلحة العامة بحكم الضرورة الاجتماعية التى تتطلب هذه الحماية ، ويفرض الجزاء الجنائى المناسب الذى يتسم بالمعقولية ، ولا ينافى الحدود المنطقية التى ينبغى أن تكون إطارا له . وكل ذلك يتم من خلال معايير ينص عليها الدستور تتمثل فى ضمانات يتعين على المشرع العقابى الالتزام بها.
وقانون الإجراءات الجنائية بما يضعه من قواعد تهدف إلى تحديد الإجراءات التى يتم بواسطتها استعمال حق الدولة فى العقاب يحمى حقوق كل من المتهم والمجنى عليه ويكفل حماية المصلحة العامة . ونظراً إلى أن الإجراءات الجنائية من شأنها أن تمس بعض الحقوق والحريات فإنه يتعين كفالتها بحكم أن الأصل فى المتهم البراءة ، وبناء على أن القاضى هو الحارس الطبيعى للحريات ، وذلك فى إطار محاكمة منصفة . وكل ذلك يتم من خلال معايير ينص عليها الدستور تتمثل فى ضمانات يتعين على المشرع الإجراءات الجنائى الالتزام بها .
ونهدف من هذا المؤلف إلى إلقاء الضوء على المبادئ الدستورية التى يخضع لها القانون الجنائى بفرعية ( قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية ) ، وهو أمر لم ينل عناية كبيرة من الفقه المصرى ، وإن كان قد حظى باهتمام المحكمة الدستورية العليا فى مصر التى قدمت حصلية فائقة من المبادئ الدستورية فى هذا الشأن .
وهناك علاقة وثيقة بين القانون الدستورى والقانون الجنائى ، لأن المبادئ الدستورية تسهم فى تحديد مضمون القانون الجنائى ذاته بحيث يتوقف تحديد الجرائم على تطوير المبادئ الدستورية أكثر من اعتماده على تطور القيم والمصالح الاجتماعية .
كما أنه طالما كان الدستور هو القانون الأساسى فإنه يحمل فى طياته تحديد القيم الأساسية للمجتمع ، والحقوق والحريات مما يوجب على القانون الجنائى أن يكفل من خلال الأدوات التى ينظمها ( العقوبات والإجراءات الجنائية ) حماية هذه القيم ضمان حماية الحقوق والحريات على نحو يتفق مع المبادئ التى يكفلها الدستور ، فلا يجوز أن يقوم قانون العقوبات بتحريم سلوك لا يلحق ضررا بالمجتمع أو يهدده بالخطر ، أو ينص على عقوبات مبالغ فيها ، فمراعاة الضرورة والتناسب فى التجريم والعقاب أمس يحتمه الدستور كما لا يجوز أن يقوم قانون الإجراءات الجنائية بتنظيم إجراءات تمس الحريات بغير كفالة ضماناتها .
ومع ذلك فقد لوحظ أن فقه القانون الجنائى بفرعية ( العقوبات والإجراءات ) قد مر بمرحلتين : الأولى يحكمها الفن القانونى لمواجهة الضرر الذى أحدثه الجانى ، وقد ارتكز على مفهوم الجريمة من الناحية المادية . والثانية تحكمها نتائج علم الإجرام ، وقد ارتكزت على مفهوم شخصية المجرم . وفى ضوء ذلك ، فقد ارتكزت الدراسات الى تناولت مفاهيمه ، وعالجت موضوعاته فى ضوء نظريات مختلفة ترتد إما إلى نظرة مادية بحتة ترتكز على السلوك الإجرامى ذات النشاط الخارجى وتنطلق من نظرة تجريدية يحكمها الفن القانونى المجرد ، أو تنبعث من نظرة نفسية أو اجتماعية ترتكز على السلوك الإجرامى ذات النشاط الخارجى وتنطلق من نظرة نفسية أو اجتماعية ترتكز على شخص المجرم . وقد أدت هذه النظرة الأخيرة إلى إضعاف الطابع القانونى للقانون الجنائى بالمقارنة مع غيره من فروع القانون ، مما أثر فى مدى الاهتمام بتدريسه فى فرنسا(1)
وأيا كانت المرحلة التى يعيشها القانون الجنائى ، فلا يجوز أن يغيب عن البال أن هذا القانون جزء من النظام القانونى ، وتتحدد أحكامه فى ضوء طبيعة العلاقة بين الفرد والدولة ، فالفرد هو إما المجنى عليه أو المتهم ، والدولة هى صاحبة الحق فى العقاب وهى صاحبة السلطة الإجرائية .
وتحدد المبادئ والقواعد الدستورية طبيعة العلاقة بين الفرد والدولة والتى تحكم مضمون قواعد القانون الجنائى ، لكى تجعلها أكثر انضباطا مع الإرادة العامة للشعبالمتمثلةفى الدستور وتأكيد حماية الحقوق والحريات والمصلحة العامة من خلال إحداث توازن فيما بينها (2) ، وهذا التوازن يتحقق من خلال معيار التناسب “ proportionnalite” الذى يحقق علاقة
منطقية بين الوسائل والغايات(3)
ولا يتناقض الالتزام الدستورى للقانون الجنائى مع تطويره وفق مبادئ علم الإجرام ، طالما أن التجريم والعقاب الذى يقرره قانون العقوبات تحكمه موجبات الضرورة والتناسب بالمفهوم الدستورى لتحقيق التوازن بين الحقوق والحريات والمصلحة العامة ، وطالما حافظ قانون الإجراءات الجنائية على الضمانات الدستورية للحقوق والحريات فى توازن بينها وبين المصلحة العامة . وكل ذلك يأتى إيذانا بمرحلة جديدة لفقه القانون الجنائى ، يعطى فيها الصدارة للمبادئ الدستورية التى تحكم القانون الجنائى ، لكى تضبط قواعده التى تتأثر بطبيعة العلاقة بين الفرد والدولة فى ضوء النظام الدستورى ، سواء تلك التى ترتك على مفهوم الجريمة أو تلك التى تقوم على مفهوم المجرم ، لكى تأتى محققة للتوازن بين الحقوق والحريات والمصلحة العامة . ونستهدف من هذه الدراسة تأصيل العلاقة بين الفرد والدولة حتى نربط دراسة القانون الجنائى بالشرعية الدستورية ، تأكيدا لوحدة النظام القانونى الذى يحكمه الدستور . ومن خلال هذا الارتباط الضوء على جوانب جديدة فى هذا القانون تربطه بسائر فروع القانون ، فلا يكون هائما بعيدا عنها أو منفلتا منعزلا عن ضوابطها ، بل مرتبطا معها بحكم علاقته معها داخل النظام القانونى الذى يقف الدستور على قمته . وفى هذا الإطار لا يكون كل من قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية أداة للقهر أو للتحكم ، وإنما أداة لحماية الحقوق والحريات بالإضافة إلى تحقيق المصلحة العامة(4)
وبهذا الارتباط يتأكد الوضع المهم الذى يحتله القانون الجنائى فى النظام القانونى وفى نظرية القانون ، وهو ما جهله البعض حين تخيلوا أن دراسة هذا القانون يعنى مجرد دراسة أفكار لو مبروزو(5)
ومن ناحية أخرى ، فإن الدستور ، إذ يحمى الحقوق والحريات ، يأتى المشرع بعده ليوفر الضمانات الكافية لهذه الحماية ، ويرسم للقاضى دوره لتأمين هذه الحماية والمحافظة عليها .
ولا شك أن أخطر ما يهدد الحقوق والحريات يبدو فى المواد الجنائية ، سواء من خلال العقوبات أو الإجراءات الجنائية وسوف نفرد هذا المؤلف لبحث القانون الجنائى الدستورى لاستجلاء الحماية الدستورية للحقوق والحريات فى كل من التجريم والعقاب ، والإجراءات الجنائية ، والتى تكون فى مجموعها فرعا جديدا من فروع القانون ، هو القانون الجنائى الدستورى(6) . والهدف من هذا الفرع هو تأصيل القواعد الدستورية للقانون الجنائى ، على نحو يوضح التوازن بين الحقوق والحريات والمصلحة العامة فى ضوء معيار التناسب بين الوسائل والغايات(7)
وإن كانت هذه الضمانات من حيث المصدر ترتكز فى الدستور ، مما قد يوحى بإطلاق اسم " القانون الدستورى الجنائى " على هذا الفرع من القانون ، إلا أنها من حيث المضمون تؤثر مباشرة فى قواعد القانون الجنائى ، مما يجعلنا نفضل تسميته بالقانون الجنائى الدستورى . وتعد هذه القواعد بمثابة القسم العام الدستورى للقانون الجنائى برمته ، ويجب إعطاء كل الاهتمام لبحثها وتعميقها فى إطار دراسة القانون الجنائى حتى تؤكد ما
قاله البعض(8 ) من أننا " لا يجوز أن تنسى أنه بداخل القانون الجنائى يوجد قانون " .
2 – دور القانون الجنائى فى إحداث التوازن بين الحقوق والحريات ، والمصلحة العامة :
يهدف القانون الجنائى بفرعية ( قانون العقوبات ، وقانون الإجراءات الجنائية ) إلى إحداث التوازن بين حماية المصلحة العامة التى تمس كيان الدولة أو المجتمع ، وبين حماية الحقوق والحريات والمصالح الخاصة بالأفراد .
ويتميز هذا القانون بأن قواعد تتسم بقوة التأثير على السلوك الاجتماعى . ويبدو ذلك واضحا فى قانون العقوبات الذى يفرض إنماطا من السلوك ويرتب عقوبات على مخالفتها . كما يتجلى هذا المعنى أيضا فى قانون الإجراءات الجنائية بما ينظمه من قواعد إجرائية تمس حقوق وحريات المواطنين فى سبيل كشف الحقيقة وإقرار حق الدولة فى العقاب .
على أن قوة التأثير التى تتسم بها قواعد القانون الجنائى على السلوك الاجتماعى لا تخفى طابعه الحقيقى ، وهو حماية المصلحة الاجتماعية . وتتجلى هذه المصلحة فى قانون العقوبات بما يفرضه من انماطا السلوك المختلفة لحماية المصالح والقيم الاجتماعية وحماية الحقوق والحريات ، بما يفرضه من جزاء قانونى لضمان احترام هذه الأنماط .
وتتوقف فعالية قانون العقوبات فى أداء هذه الوظيفة على معيارين ، هما : مدى حسن تعبيره عن المصالح والقيم الحالية للمجتمع ، ومدى تنظيمه للجزاء الجنائى .
أما عن المعيار الأول ، فإن قانون العقوبات يمر حاليا بأزمة التكيف مع متطلبات المجتمع ، فهو يواجه صدمة التغيرات السريعة التى تمس مصالح المجتمع وقيمه ، الامر الذى يقتضى أن يواجه القانون بصفة دائمة هذه التغييرات وأن يداوم على التعايش مع تطوير المجتمع الذى يحيا فيه . وبالنسبة إلى المعيار الثانى ، فإن الجزاء يجب أن يخضع لسياسة جنائية تكفل بوضوح خدمة هذا للهدف الاجتماعى من قواعد التجريم ، وحتى يكفل احترام المصالح والقيم الاجتماعية التى تعبر عنها هذه القواعد وحماية الحقوق والحريات التى تنظمها .
وبالنسبة إلى قانون الإجراءات الجنائية ، فإنه يهدف بوجه عام إلى حماية المصلحة الاجتماعية من خلال ما ينظمه من إجراءات لكشف الحقيقة وإقرار حق الدولة فى العقاب ، من خلال الضمانات التى يقررها حماية الحقوق وحريات المتهم التى تتعرض للخطر من جراء هذه الإجراءات .
ويوازن القانون الجنائى بفرعيه بين المصلحة الخاصة للفرد والمصلحة العامة ، فيقر من المصلحتين ما يهم المجتمع ويضمن حسن سيره وفعاليته . ويتوقف تقدير ما يهم المجتمع من المصالح – وخاصة الفردية منها – على النظام السياسى والاجتماعى والاقتصادى للدولة .
ومن خلال التوازن الذى يقيمه القانون الجنائى بفرعية بين المصلحة العامة والحقوق والحريات ، فإن المشرع الجنائى لاى توانى عن حماية هذه الحقوق والحريات بثلاثة أساليب :
الأول : الحماية الجنائية للحقوق والحريات ، من خلال تجريم أفعال المساس بها والمعاقبة عليها ، مثل المساس بالحق فى الحياة الخاصة ، أو الحق فى الحياة ، أو الحق فى سلامة الجسم ، أو الحق فى الحرية الشخصية ، أو الحق فى الثقة والاعتبار . وتنطوى هذه الحماية الجنائية فى ذات الوقت على حماية النظام العام الذى يتاذى من المساس به ، ومن المساس بالحقوق والحريات.
الثانى : أن تتم الحماية الجنائية للحقوق والحريات من خلال التوازن فيما بينها من ناحية ، وفيما بينها وبين المصلحة العامة من ناحية اخرى ، فلا يجوز أن تكون حماية المصلحة العامة أو حماية حقوق الغير وسيلة للعصف بالحقوق والحريات ، مثل حرية التعبير ، وحق نشر الاخبار ، وحرية البحث العلمى ، وحق النقد ، وحق مخاطبة السلطات العامة ، وحق الدفاع ، فالتوازن بين الحقوق والحريات المحمية يحدد سلطة المشرع الجنائى فى التجريم والعقاب . مثال ذلك ان تجريم المساس بالحق فى الثقة والاعتبار لا يجوز أن يمس حرية التعبير ، كما أن تجريم المساس بالحق فى سلامة لاجسم لا يجوز أن يمس الحق فى العلاج . وتجريم المساس بالحق فى الحياة لا يجوز أن يتم بالتضحية بالحق فى حياة شخص آخر أولى بالاعتبار ( مما يخوله القانون حق الدفاع الشرعى ) . وكذلك الشأن فى التوازن بين العقوبة وجسامة الجريمة(9)
كما تكون هذه الحماية فى إطار التوازن مع المصلحة العامة المتمثلة فى النظام العام بجميع جوانبه حين تطلب تنظيم ممارسة هذه الحقوق والحريات داخل حدود معينة مراعاة للصالح العام وتجريم الخروج عن هذه الحدود . وهو ما يمثل الضرورة الاجتماعية التى تتطلب التجريم والعقاب وبالقدر المتناسب مع الفعل الصادر الذى يتطلبه .
والثالث : هو ضمان التمتع ببعض الحقوق والحريات ، كقيد على الإجراءات الجنائية التى تتخذ
لاقتضاء حق الدولة فى العقاب تحقيقا للمصلحة العامة . فإذا تطلب الأمر من سلطة التحقيق القبض على المتهم أو تفتيشه ، فلا يجوز أن يتم ذلك بالتضيحة على نحو مطلق بحقه فى الحرية ، أو حقه فى سلامة المسكن . كما أن محاكمة المتهم لا يجوز ان تحرمه من حقوق الدفاع ، ومن التمتع بحقوقه الاخرى متوازنة مع سلطة الاتهام .
وفى هذا الصدد فإن الصراع دائم بين مقتضيات المصلحة العامة ومتطلبات تمتع الفرد بحقوقه وحرياته(
10)
وقد عبرت عن ذلك المحكمة الدستورية العليا قائلة بأن " إدانة المتهم بجريمة غنما تعرضه لأخطر القيود على حريته الشخصية وأكثرها تهديدا لحقه فى الحياة ، وهى مخاطر لا سبيل إلى توقيها إلا علىضوء ضمانات فعلية توازن بينحق الفرد فى الحرية من ناحية ، وحق الجماعة فى الدفاع عن مصالحها الاساسية من ناحية أخرى(11)
وتدق وظيفة القانون الجنائى أمام التطور الاجتماعى السريع الذى لحق بالمجتمعات الإنسانية خلال القرن التاسع عشر وفى أوائل القرن العشرين ، وما صاحبهما من تقدم علمى يمكن استخدامه بطريقة تضر بالإنسانية ، وقد انعكس هذا التطور فى تحديد نطاق المصلحة التى يجب ان يحميها قانون العقوبات ، وفى تحديد مدى مشروعية بعض الوسائل التكنولوجية الحديثة فى كشف الحقيقة .
ويؤدى القانون الجنائى وظيفته فى الدولة القانونية فى إطار الشرعية الدستورية ؛ فقانون العقوبات يحمى الحقوق التى قررها لادستور ويلتزم بالمبادئ التى يقررها فى مجالات التجريم والعقاب والإباحة والمسئولية ، كما يلتزم ايضا قانون الإجراءات الجنائية بالمبادئ الدستورية فى الحقوق والحريات العامة .
وفى إطار هذا الالتزام يتحدد دور كل من المشرع الجنائى ، والقاضى الجنائى . فالمشرع يقيم التوازن بين الحقوق والحريات والمصلحة العامة المتمثلة فى النظام العام الجنائى . والقاضى هو الحارس للحقوق والحريات ، ويجب ان يكفل حمايتها فى مواجهة مقتضيات المحاكمة .
3 – دور الشرعية الدستورية فى إحداث التوازن المطلوب :
إذا كانت الحماية الجنائية للحقوق والحريات ، وحماية النظام العام تتم من خلال التجريم والعقاب وكانت الإجراءات الجنائية تتخذ لتمكين الدولة من اقتضاء حقها فى العقاب ، فإن ذلك لا يعنى التضحية بحقوق وحريات الأفراد الذين يتم تجريم أفعالهم والعقاب عليها واتخاذ الإجراءات الجنائية فى مواجهتهم . ومن ناحية أخرى ، إذا كانت الحماية الجنائية للمصلحة العامة تتقرر حسب الأصل بقانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية ، فإن حماية الحقوق والحريات تتقرر بحسب الاصل بالدستور . ومن هنا كانت الشرعية الدستورية هى الضمان الأعلى لهذه العقوبات فجاء مؤتمرها الثانى عشر المنعقد فى هامبورج سنة 1979 فوضع عددا من القواعد التى تعتبر حدا أدنى من ضمانات المتهم ، وجاء مؤتمرها الرابع عشر المنعقد فى فيينا سنة 1989 فوضع عددا من
القواعد الخاصة بالعلاقة بين تنظيم العدالة الجنائية والإجراءات الجنائية ، وجاء مؤتمرها الخامس عشر المنعقد فى البرازيل سنة 1994 فبحث حركات الإصلاح فى الإجراءات الجنائية لحماية حقوق الإنسان .
وفى ضوء الشرعية الدستورية يجب أن يحدث التوازن بين الهدف الأول من اوراء التجريم والعقاب ومباشرة الإجراءات الجنائية والمتمثل فى حماية المصلحة لعامة ، وهذا الهدف الثانى المتمثل فى ضمان الحقوق والحريات . ويغير هذا التوازن ، يفقد التجيرم والعقاب ، والإجراءات الجنائية المصداقية والفاعلية فى الدولة القانونية . ولهذا يجب ان يتجاوب التجريم والعقاب وكذا مباشرة الإجراءات الجنائية مع مقتضيات حماية الحقوق والحريات فى جميع صورها واشكالها . وبدون هذه الحماية يكون التجريم والعقاب والإجراءات الجنائية أداة بطش وتحكم ، فتفقد الحقوق والحريات معناها وجدواها .
وتتجلى أهمية ضمان الحقوق والحريات فى أن النظام العام يقتضى تقييد حرية الفرد من خلال التجريم والعقاب . فالتجريم يمس حرية الفرد فى مباشرة أنواع معينة من السلوك لأنه يخضعه لضوابط اجتماعية معينة ، هذا بالإضافة إلى العقاب ، فإنه يمس الحرية الشخصية للفرد .
وفى هذا الصدد قد يتعرض الفرد لمخاطر التجيرم إذا ما تعرض للنوايا أو امتد إلى الحالة النفسية للنشاط الإنسانى ، أو ظهرت نصوصه غامضة أو غير دقيقة ، أو امتد التجريم بأثر رجعى إلى وقائع سابقة على نصوص التجريم ، أو تقررت مسئولية الشخص عن جريمة لم يسهم فى ارتكابها ، أو إذا قضى عليه بعقوبة عن فعل لم يقارفه ، أو جاءت العقوبة قاسية أو مهينة ، أو غير متناسبة مع جرمه .
ولا يقتصر المساس بالحرية على مخاطر التجريم والعقاب ، ولكنه يمتد أيضا إلى النظام الإجرائى الجنائى ، وذلك من خلال إجراءات الخصومة الجنائية التى تباشرها الدولة بعد وقوع الجريمة من أجل كشف الحقيقة وإقرار حقها فى العقاب ، وإجراءات التنفيذ العقابى بعد إقرار حق الدولة فى العقاب .
وهكذا يتضح أن النظام الجنائى بأسره ( العقابى والإجرائى ) يرعض بطبيعته الحريات اللخطر ، سواء عندما تباشر الدولة سلطتها فى التجريم والعقاب أو عند مباشرة الخصومة لجنايئة والتنفيذ العقابى . وخشية التحكم فى مباشرة هذه السلطات وتجاوزها القدر الضرورى للدفاع عن المجتمع ، يتعين توفير الضمانات للفرد لحماية حريته من خطر التحكم وتجاوز السلطة . وهذا هو ما يجب أن يتكفل به النظام القانونى من خلال علاقة التناسب التى يحدثها داخل القاعدة القانونية أو بين مختلف القواعد القانونية فى النظام القانونى .
ويتوقف هذا التناسب على مدى ما يتمتع به الفرد من حرية . ففى نظر الفكر التسلطى الذى يعطى للدولة جميع الحقوق والسلطات ويتجاهل قيمة الفرد فى المجتمع – لا مجال للحديث عن حرية الفرد . هذا بخلاف الفكر الحر الذى يعطى الفرد مكانته فى المجتمع ويوجب احترام جوهر حريته .
والواقع من الأمر أن الدولة القانونية بحكم وظيفتها عليها أن تحمى جميع المصالح القانونية ، وهى ليست قاصرة على الدولة وحدها بل إنها تشمل أيضا حقوق الفرد وحرياته ، فالحقوق والحريات يجب أن يحميها القانون ، ولا يجوز إهدارها بدعوى المحافظة على مصلحة المجتمع ، بل يتعين التوفيق بين المصلحتين فى إطار العلاقات الاجتماعية التى تحكم المجتمع . وقد عنى الدستور المصرى ضمانا لحماية الحقوق والحريات بأن ينص فى المادة 57 منه على أن الاعتداء على هذه الحقوق والحريات جريمة لا تسقط دعواها الجنائية ولا المدنية بالتقادم ، وأن تكفل الدولة تعويضا عادلا لمن وقع عليه الاعتداء .
على أن النظم الديكتاتورية لم تعرف هذه النظرة ، فقد أعطت الأولوية لتحقيق مصلحة الدولة وفقاً لنظام ثابت ومستقر . وقد تطلب ذلك التسليم بمبدأ تفوق الدولة عوضا عن مبدأ التناسب بين هذه المصلحة وحقوق الافراد وحرياتهم ، وهو ما لا يمكن إقراره إلا باستعمال القوة أو العنف ، ولهذا اهتمت هذه الدولة بإعادة ترتيب نظامها الجنائى الإجرائى من أجل تقوية سلطة الدولة فى المحاكمات الجنائية وتجريد الفرد من ضمانات حريته ، فأصبح قانون الإجراءات الجنائية فى هذه النظم أداة للسلطة وليس أداة لتحقيق محاكمة منصفة يتم فيها ضمان الحقوق والحريات(12)
ويتجلى ذلك فى بعض نماذج هذه النظم البائدة وهى النظام الفاشى ،والنظام النازى,والنظام الشيوعى ,والنظام العنصرى(13)
4 - دور المحكمة الدستورية العليا فى حماية التوازن بين الحقوق والحريات والمصلحة العامة :
لئن كانت الشرعية الدستويرة كما حددها الدستور هى التى تحدد الإطار الدستورى للتوازن بين الحقوق والحريات والمصلحة العامة ، إلا أن إنفاذ أحكام هذه الشرعية يحتاج إلى قضاء دستورى يصونها ويحددهامدلولها ، استطاعت من خلاله ان تستجلى كثيرا من القيم والمبادئ التى تقتوم عليها الشرعيةالدستورية . وقد أدت المحكمة الدستورية العليا رسالتها فى هذا الشأن بالنظر إلى أن نصوص الدستور – تنطوى عليه من مبادئ أساسية وضمان تكيف هذه المبادئ مع سائر القيم الدستورية التى يحميها الدستور(14)
وقد عنيت المحكمة الدستورية العليا بمصر فى مجال تطبيق الشرعية الدستورية التى تحكم القانون الجنائى بأن تستجلى تميز هذا القانون عن غيره من القوانين فى تنظيم علاقات الأفراد بالمجتمع وفيما بين بعضهم البعض ، فأكدت تميزه فى اتخاذ العقوبة أداة لتقويم الأفعال التى يأتونها بما يناقض أوامره ونواهيه ، ويتطلب ذلك أن يكون الجزاء الجنائى ضروريا من الوجه الاجتماعية ومتناسبا فى ذات الوقت .
وبوجه خاص عنيت المحكمة الدستورية العليا باستجلاء مبدأ عدم رجعية قانون العقوبات ، وأعطاء القيمة الدستورية لرجعية القانون الأصلح للمتهم ، وتأكيد القيمة الدستورية لعدم جواز القياس فى تفسير نصوص قانون العقوبات ، وتأكيد مبدأ شخصية المسئولية الجنائية مما لا يجوز معه فرض قرائن قانونية لإسناد الجريمة إلى غير مرتكبها الحقيقى . كما سنحت الفرصة للمحكمة الدستورية العليا أن تغوص فى أعماق الشرعية الدستورية التى تؤكد مبدأ حماية الحرية الشخصية والحق فى المحاكمة المنصفة وحق الدفاع وأصل البراءة فى المتهم وغير ذلك من الضمانات التى أحاط بها الدستور الإجراءات الجنائية .
وإذا كانت الشرعية الدستورية هى الإطار الذى يستظل به النظام القانونى ، فإن المحكمة الدستورية العليا تنفرد دون سائر جهات القضاء بحمايتها على نوع فريد . فبالنسبة إلى القضاء الإدارى ، فإنه – وإن تميز بسلطة الإلغاء – فإن هذا الإلغاء لا يرد إلا على القرارات الإدارية الفردية ، أو على اللوائح إذا خالفت التشريع وحده . أما المحكمة الدستورية العليا ، فإن قضاءها بعدم الدستورية يرد على نصوص تشريعية بما يؤدى إلى إلغاء أثرها التشريعى ، كما أنها حين تمتد سلطتها فى هذا الشأن إلى اللوائح ، يكون ذلك بالنظر إلى مخالفتها للدستور . ومن ناحية أخرى ، تختلف وظيفة المحكمة الدستورية العليا عن وظيفة محكمة النقض ، فهما وإن اشتركا معا فى حماية الحقوق والحريات – إلا أن الأولى تبطل أثر النصوص التشريعية حين تقضى بعدم دستوريتها ، بخلاف الثانية ، فإنها لا تلغى سوى الأحكام التى تخالف النصوص التشريعية . ولا غرابة فى كل ما تقدم ؛ بخلاف جهات القضاء الأخرى ، فإنها قاضى التشريع وتحاكم أحكام المحاكم الأدنى درجة .
ونحن فى هذا المؤلف حين نستجلى الضمانات الدستورية التى تحكم القانون الجنائى ، إنما نعتمد أساسا على قضاء المحكمة الدستورية العليا فى دراسة مقارنة مع القضاء الدستورى فى كل من فرنسا وألمانيا وإيطاليا والنمسا وأسبانيا – كلما اقتضى الامر ذلك . أما أحكام القضاء العادى – وخاصة محكمة النقض – فإننا نبينها فى موضوعها عند الاقتضاء لتأكيد التطبيق القضائى السليم للتشريع المطابق للدستور فيما يتعلق بالضمانات التى أتى بها التشريع إنفاذا لحكم الدستور .
5 – خطة البحث :
نقسم دراستنا للقانون الجنائى الدستورى إلى قسمين : ( الأول ) الشرعية الدستورية فى قانون العقوبات . ونبحث فيه الضمانات الدستورية فى قانون العقوبات . ( الثانى ) الشرعية الدستورية فى قانون الإجراءات الجنائية . ونبحث فيه لاضمانات الدستورية فى قانون الإجراءات الجنائية .</BLOCKQUOTE>