حق الزوجة في النفقة
إن أحكام النفقة كما نص عليها الفقهاء تستلزم الحديث عن النواحي التالية:
· أحكام النفقة، والحديث فيها عن الحكم الشرعي للنفقة مع أدلته التفصيلية، ثم بعض ما يتعلق بهذا الحكم من أحكام وآثار.
· شروط وجوب النفقة على المنفق وموانعها، لأن حكم الوجوب متعلق بالمكلف، وليس كل مكلف صالح بأن تجب عليه النفقة، ولا كل امرأة بصالحة لأن ينفق عليها.
· الإجراءات القضائية التي يتخذها القاضي عند تخلي المكلف عن هذا الواجب، لأن مسألة النفقة لها شقان: شق ديني توجيهي، وشق قضائي.
· أنواع النفقة ومقاديرها المختلفة، باعتبارها مادة النفقة، حتى لا يتلاعب بها، ويتحول الوجوب صوريا بعدم مراعاتها.
وهي نواح يتضمنها تساؤل يطرحه كل من يريد أن يبحث عن النفقة، فيتساءل عن حكم النفقة؟ وعلى من تجب؟ وفيم تجب؟وما عقوبة من لم يؤدها؟
وهذه الأسئلة الأربعة، هي التي أفرزت هذا الفصل، وقد خصصنا للإجابة عن كل واحد منها مبحثا خاصا، ونعتذر لطول الفصل، لأن معظم المسائل فيه من المسائل المعاصرة المهمة التي يكثر السؤال عنها، وتعم بها البلوى، فلذلك كان لزاما أن لا تتركها مراعاة لقصر الفصل.
1 ـ أحكام النفقة
أولا ـ تعريف النفقة
لغة: يقال: نَفَقَ الفرسُ والدابةُ وسائر البهائم يَنْفُقُ نُفُوقاً: مات، ونَفَقَ البـيع نَفَاقاً: راج، ونَفَقت السِّلْعة تَنْفُق نَفاقاً، بالفتـح: غَلَتْ ورغب فـيها، وأَنْفَقَها هو، وأَنْفَقَ القوم: نَفَقت سوقهم، ونَفَق مالُه ودرهمه ونَفَقَتِ الدابة ماتت وبابه دخل ونَفَقَ البيع ينفُقُ بالضم نَفَاقا راج، والنِّفَاقُ بالكسر فعل المُنَافِقِ، وأَنْفَقَ الرجل افتقر وذهب ماله، ومنه قوله تعالى:﴿ إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق﴾
و أَنْفَقَ الـمال: صرفه، واسْتَنْفَقه: أَذهبه. والنَّفَقة: ما أُنفِق، والـجمع نفاق. حكى اللـحيانـي: نَفِدت نِفاقُ القوم ونَفَقاتهم، بالكسر، إِذا نفدت وفنـيت. والنِّفاقُ، بالكسر: جمع النَّفَقة من الدراهم، ونَفِقَ الزاد يَنْفَقُ نَفَقاً أَي نفد، وقد أَنفَقت الدراهم من النَّفَقة. ورجل مِنْفاقٌ أَي كثـير النَّفَقة. والنَّفَقة: ما أَنفَقْت، واستنفقت علـى العيال وعلـى نفسك[1].
اصطلاحا: ما تحتاج إليه الزوجة في معيشتها من طعام وكسوة ومسكن وخدمة وكل ما يلزم لها حسبما تعارفه الناس.
وعرفها بعض الحنفية بأنه الإدرار على شيء بما فيه بقاؤه[2].
وعرفها ابن عرفة بأنها: ما به قوام معتاد حال آدمي دون سرف[3]
ثانيا ـ حكم النفقة على الزوجة
اتفق الفقهاء على وجوب إنفاق الزوج على زوجته، واستدلوا على ذلك بما يلي:
من القرآن الكريم:
ورد التصريح بالأمر بالنفقة على الزوجة في الآيات التالية:
· قوله تعالى في شأن المطلقات: ﴿ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ﴾(الطلاق:6)، قال الطبري في معنى الآيةيقول تعالى ذكره أسكنوا مطلقات نسائكم من الموضع الذي سكنتم من وجدكم، يقول: من سعتكم التي تجدون، وإنما أمر الرجال أن يعطوهن مسكنا يسكنه مما يجدونه حتى يقضين عددهن) [4]، ودلالة الآية على وجوب النفقة وتحديدا نوعا منها، وهو السكن واضحة، لأن المطلقة قبل البينونة في حكم الزوجة، بل إنه إذا استحقت المطلقة هذا النوع من النفقة فالزوجة أولى منها بها.
· قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾(الطلاق:6)، ووجه الاستدلال بالآية، أن النفقة إن كانت واجبة على المطلقة الحامل، فأولى من ذلك الزوجة، وبما أن المطلقة تجب لها النفقة إجماعا، فأولى الزوجة، قال القرطبيأجمع أهل العلم على أن نفقة المطلقة ثلاثا أو مطلقة للزوج عليها رجعة وهي حامل واجبة) [5]
· قوله تعالى:﴿ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سيجعل الله بعد عسر يسرا ﴾(الطلاق: 7) في هذه الآية نلاحظ الأمر الصريح بالإنفاق، وإلزام الزوج به، ولكنه يحيط هذا الأمر بما يوحي بيسر هذا الدين وحنيفيته، وأن الزوج لا يكلف إلا بحدود طاقته، فإذا ما رزقه الله، فلا ينبغي أن يبخل على نفسه وأهله، وقد ورد في تأويل الآية وعمل الصحابة - رضي الله عنهم - بها مع زهدهم وورعهم، أن أبا سنان قال: سألت عمر بن الخطاب عن أبي عبيدة، فقيل: إنه يلبس الغليظ من الثياب، ويأكل أخشن الطعام، فبعث إليه بألف دينار، وقال للرسول: انظر ما يصنع بها إذا هو أخذها، فما لبث أن لبس اللين من الثياب، وأكل أطيب الطعام، فجاءه الرسول فأخبره، فقال: رحمه الله تعالى تأول هذه الآية:﴿ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ﴾ (الطلاق:7) [6]
من السنة النبوية الشريفة:
دلت النصوص النبوية الكثيرة على وجوب النفقة علىالزوجة، مما لا يمكن حصره هنا، ولكنا سنذكر في هذا المحل ما يدل خصوصا على وجوب النفقة أو على فضلها، لنعلم كيف عالجت السنة النبوية الشريفة موضوع النفقة، مع ما يقتضي ذلك من شرح أو تعليق، فمن النصوص الخاصة في ذلك:
· عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالإذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة) [7]، فقد نص - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث على أنه إذا أنفق الرجل على أهله أي زوجته وأقاربه، أو زوجته ومن هم ملحقون بها، وهو يحتسبها، أي والحال أنه يقصد بها الاحتساب، وهو طلب الثواب من الله تعالى كانت له صدقة، أي يثاب عليها كما يثاب على الصدقة، والملاحظ في الحديث كما في أكثر أحاديث الترغيب ربط الجزاء بالاحتساب، وذلك يدل على أن الغافل عن نية التقرب لا تكون له صدقة، ومثله نفقته على نفسه ودابته، فإن نوى بها وجه الله تعالىأثيب، وإلا لم يثب.
وقد تقع الشبهة على عدم وجوب النفقة من إطلاق لفظ الصدقة، وقد أجاب العلماء على ذلك من وجهين:
الوجه الأول: أن إطلاق الصدقة على الثواب مجاز، والصارف عن الحقيقة الإجماع على جواز النفقة على الزوجة الهاشمية التي حرمت الصدقة عليها، والعلاقة بين المعنى الموضوع له وبين المعنى المجازي ترتب الثواب عليهما، وتشابههما فيه، والتشبيه في أصل الثواب لا في كميته وكيفيته، فسقط ما قيل: الإنفاق واجب، والصدقة لا تطلق إلا على غيره فكيف يتشابهان.
الوجه الثاني: أن تسمية النفقة صدقة كتسمية الصداق نحلة، فلما كان احتياج المرأة للرجل كاحتياجه إليها في اللذة والتحصين وطلب الولد كان الأصل أن لا يلزمه لها شيء، لكنه تعالى خصه بالفضل والقيام عليها، فمن ثم أطلق على الصداق والنفقة صدقة[8].
· عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته في حجة الوداعفاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتن فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف) [9]،في هذا الحديث جمع - صلى الله عليه وسلم - حقوق الزوجية الواجبة، ومن بينها حق الزوجة في النفقة، وفيه تصريح بالوجوب، وتعليل لسببه.
· عن معاوية القشيري - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: (أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت، أو اكتسبت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت) [10]، وفي هذا الحديث عد لما يجب على الرجل نحو زوجته، وقد ذكر منها نفقة الطعام والكسوة، وفيه دليل على أنه لا يكلف في ذلك إلا بطاقته، فلا يطعمها إلا كما يطعم، ولا يكسوا إلا كما اكتسى، وللحديث تفاصيل أخرى نراها في محلها من هذا الجزء.
· قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة ودينار تصدقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك) [11]، في هذا الحديث تقديم لنفقة الأهل على كل النفقات الأخرى، وهو دليل على فضل النفقة ووجوبها، قال المناوي: (والنفقة على الأهل أعم من كون نفقتهم واجبة أو مندوبة، فهي أكثر الكل ثوابا، واستدل به على أن فرض العين أفضل من الكفاية، لأن النفقة على الأهل التي هي فرض عين أفضل من النفقة في سبيل الله، وهو الجهاد الذي هو فرض كفاية) [12]
· عن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل: (ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا) [13]، في هذا الحديث دليل على وجوب النفقة لأنه رتبها مباشرة بعد الإنفاق على النفس، مما يدل على توكيدها، قال النوويفي هذا الحديث فوائد منها الابتداء في النفقة بالمذكور على هذا الترتيب، ومنها أن الحقوق والفضائل إذا تزاحمت قدم الأوكد فالأوكد، ومنها أن الأفضل في صدقة التطوع أن ينوعها في جهات الخير ووجوه البر بحسب المصلحة ولا ينحصر في جهة بعينها) [14]ويوضح الجانب من هذا الحديث الحديث التالي:
· عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تصدقوا،قال: رجل عندي دينار،قال: تصدق به على نفسك، قال: عندي دينار آخر،قال: تصدق به على زوجتك قال: عندي دينار آخر،قال: تصدق به على ولدك قال: عندي دينار آخر قال تصدق به على خادمك، قال عندي دينار آخر قال: أنت أبصر به[15]، وفي هذا الحديث تعليم منه - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه لكيفية تنظيم المصاريف حتى لا يطغى جانب عل جانب.
· قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت[16])[17]، ودلالة هذا الحديث واضحة على وجوب النفقة لربطه - صلى الله عليه وسلم - الإثم العظيم الذي يكتفى به جراء التفريط، قال المناوي: وهذا صريح في وجوب نفقة من يقوت لتعليقه الإثم على تركه، لكن إنما يتصور ذلك في موسر لا معسر، فعلى القادر السعي على عياله لئلا يضيعهم، فمع الخوف على ضياعهم، هو مضطر إلى الطلب لهم، لكن لا يطلب لهم إلا قدر الكفاية[18].
الإجماع:
انعقد إجماع الأمة في كل العصور على وجوب نفقة الزوجة على زوجها، ولم يخالف في ذلك أحد لما سبق من النصوص الصريحة في ذلك.
وقت تسليم النفقة:
ويختلف ذلك باختلاف نوع النفقة، وقد اتفق الفقهاء على أن الكسوة تقدم للزوجة بحسب وقتها من صيف أو شتاء كما سيأتي، واختلفوا في غير ذلك من النفقات على أقوال منها:
القول الأول: أن تسلم النفقة للزوجة يوميا، وهو قول الظاهرية، وبمثله قال الشافعية، وقد ذهب ابن حزم إلى أنه إن تعدى من أجل ذلك وأخر عنها الغداء , أو العشاء أدب على ذلك.
ونص الشافعية على أن نفقة الزوجة وخادمها تجب بطلوع الفجر كل يوم ; لأنها تستحقها يوما فيوما لكونها في مقابلة التمكين الحاصل في اليوم، فلها المطالبة بها عند طلوع الفجر، وقد نصوا على أنها تجب به وجوبا موسعا كالصلاة،أو أنه إن قدر وجب عليه التسليم لكن لا يحبس ولا يخاصم، وإذا أراد سفرا طويلا فلها مطالبته بنفقتها لمدة ذهابه ورجوعه كما لا يخرج إلى الحج حتى يترك لها هذا القدر, ولو أنه هيأ ذلك إلى نائبه ليدفعه إليها يوما بيوم كفى، ولا يكلف إعطاءه لها دفعة واحدة.
وقد استدل ابن حزم لهذا القول بما يلي:
· أن من قضى لها بأكثر من نفقة المياومة، فقد قضى بالظلم الذي لم يوجبه الله تعالى , وأي حد حد - من جمعة أو شهر أو سنة - كلف البرهان على ذلك من القرآن , أو من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يجده.
· أن ما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبيع نخل بني النضير ويحبس لأهله قوت سنتهم، أو ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعطي أزواجه كل سنة ثمانين وسقا من تمر وعشرين وسقا من شعير، فليس في هذا بيان أنه كان يدفعه إليهن مقدما.
القول الثاني: أن ذلك يقدر بحاله من يوم , أو جمعة، أو شهر, أو سنة، بحسب الزوج، وبحسب الوقت الذي ينال فيه أجرته، وهو قول المالكية، وقد أجاز ابن القاسم أن يفرض سنة، وقال سحنون: لا يفرض سنة ; لأن الأسواق تتحول، والأسعار تتغير[19].
القول الثالث: أن وقت تسليم النفقة مهما كان نوعها هو أول وقت الحاجة , فإن اتفقا على تأخيرها جاز ; لأن الحق لها في ذلك , فإذا رضيت بتأخيره جاز، وإن اتفقا على تعجيل نفقة عام أو شهر , أو أقل من ذلك أو أكثر , أو تأخيره , جاز ; لأن الحق لهما , لا يخرج عنهما , فجاز من تعجيله وتأخيره ما اتفقا عليه، قال ابن قدامةوليس بين أهل العلم في هذا خلاف علمناه) [20]، لكن ما ذكرناه من الأقوال السابقة يشير إلى الخلاف في المسألة خاصة قول الظاهرية.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو أن ذلك يخضع في الحالة العادية للعرف الذي تعارفوا عليه، أما في حال الخصومة في النفقة، فالعبرة بحاجتها، وبقدرة الزوج، وبنوع النفقة، وسنفصل كيفية ذلك في الأحكام القضائية المتعلقة بالنفقة.
فالقوت الأساسي تكون الحاجة إليه يومية، وهناك أقوات تحتمل التعجيل كمؤونة البيت، وهناك نفقات قد تكون سنوية كالكسوة.
وقول ابن حزم بالمياومة مع ذلك له ناحية مصلحية معتبرة، فقد نص على أنه لو تطوع الزوج بتعجيل النفقة قبل موعدها دون قضاء قاض، فتلف بغير عدوان منها، فإن عليه نفقتها ثانية , وكسوتها ثانية, لأنها لم تتعد , فلا شيء عليها وحقها باق قبله , إذ لم يعطه إياها بعد.
وهي ناحية مهمة، فالعبرة بتوفير حاجة الزوجة اليومية، أما أن تكلف بضمان التالف وحراسته، ثم عقوبتها بالحرمان من النفقة في حال التلف، فإن فيه مضرة بالغة عليها.
حكم رد النفقة المعجلة عند زوال الموجب:
اختلف الفقهاء فيما لو عجل لها نفقة شهر أو عام , ثم طلقها , أو ماتت قبل انقضائه, أو بانت بفسخ أو إسلام أحدهما أو ردته، فهل له أن يسترجع نفقة سائر الشهر أم لا؟ على قولين:
القول الأول: له أن يسترجع نفقة سائر الشهر، وهو قول الشافعي، ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل بشرط أن يعلمها أنها نفقة الشهر، فإن لم يعلمها لا يسترجع نفقته، لأنه تبرع بدفع ما لا يلزمه من غير إعلام الآخذ بتعجيله، فلم يرجع به، كمعجل الزكاة، بل ذهب ابن حزم إلى أنه (إن أعطاها أكثر من حقها، فماتت , أو طلقها ثلاثا , أو طلقها قبل المسيس, أو أتمت عدتها وعندها فضل يوم أو غداء أو عشاء قضي عليها برده إليه، لأنه ليس من حقها قبله, وإنما جعله عندها عدة لوقت مجيء استحقاقها إياه, فإذا لم يأت ذلك الوقت ولها عليه نفقة فهو عندها أمانة، ولا ظلم أكثر من أن لا يقضى عليها برد ما لم تستحقه قبله) [21]
واستدلوا على ذلك بما يلي:
· أنه سلم إليها النفقة سلفا عما يجب في الثاني , فإذا وجد ما يمنع الوجوب , ثبت الرجوع , كما لو أسلفها إياها فنشزت , أو عجل الزكاة إلى الساعي فتلف ماله قبل الحول.
· أنها عوض عن التمكين , وقد فات التمكين.
القول الثاني: ليس له أن يسترجع نفقة سائر الشهر، وهو قول أبي حنيفة , وأبي يوسف، واستدلوا على ذلك بأنها صلة , فإذا قبضتها , لم يكن له الرجوع فيها , كصدقة التطوع.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو أن حكم المسألة يتغير بحسب حال المنفق، وحال المنفق عليها، والسبب المفرق بينهما والذي قيل بموجبه بلزوم الرد، ونع النفقة التي يطالب الزوج بردها، ولكنه في الأحوال العادية العامة نرى أن المرأة إذا كان لها مسكن خاص، أي ليست مرتبطة في نفقها بغيرها من أهل الزوج، ثم قيل لها هذه نفقتك مثلا، فإنه من الحرج الشديد مطالبتها بها بعد حصول الفراق، لأن النفقة وإن كان ظاهرها معاوضة منفعة المرأة بها، فتزول بزوال المنفعة إلا أنها أقرب إلى الصلة منها إلى المعاوضة، بل نرى من الخطأ التعامل مع حقوق الزوجية بمثل التعامل مع المعاوضات المالية، فلا جامع بينهما أصلا حتى يصح القياس بينهما.
صفة وجوب النفقة:
اتفق الفقهاء على أن المسكن إمتاع للزوجة وليس تمليكا لها، واختلفوا في سائر أنواع النفقات، هل هي تمليك للزوجة أم إمتاع لها على قولين:
القول الأول: أنها إمتاع للمرأة، وليست تمليكا، ولا يجب أن يفرض لها شيئا ; بل يطعمها ويكسوهما بالمعروف، وهو آراء وتوجيهات في المذاهب الفقهية المختلفة، وبحسب نوع النفقة:
فالشافعية ـ مثلا ـ نصوا في الشراب على أنه إمتاع لا تمليك، قال في أسنى المطالبيكون إمتاعا لا تمليكا، حتى لو مضت عليه مدة , ولم تشربه لم تملكه , وإذا شرب غالب أهل البلد ماء ملحا وخواصها عذبا وجب ما يليق بالزوج) [22]، ثم قال (ومقتضى كلام الشيخين وغيرهما أنه تمليك)
وهو قول ابن حزم في مستلزمات الفراش، واستدل على ذلك بأن عليه إسكانها , وذلك يقتضي أن عليه من الفرش والغطاء ما يكون دافعا لضرر الأرض عن الساكن فهو له , لأن ذلك لا يسمى كسوتها، ثم استدل لذلك بنص صريح في المسألة وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم من تكرهونه) [23]، فنسب - صلى الله عليه وسلم - الفرش إلى الزوج فواجب عليه أن يقوم لها به, وهو للزوج لا تملكه هي.
وقد ورد مثل هذا الخلاف في بعض المسائل عند الحنابلة[24]، وقد رجحه ابن تيمية[25]، واستدلوا على ذلك بما يلي:
· أن هذه عادة المسلمين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه، لا يعلم قط أن رجلا فرض لزوجته نفقة ; بل يطعمها ويكسوها، وإذا كان كذلك كان له ولاية الإنفاق عليها , كما له ولاية الإنفاق على سائر من تجب نفقته.
· النصوص الدالة على سيادة الزوج، ومنها قول الله تعالى:﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ (النساء:34)، ولهذا أباح الله للرجل بنص القرآن أن يضربها , وإنما يؤدب غيره من له عليه ولاية، قال زيد بن ثابتالزوج سيد في كتاب الله وقرأ قوله تعالى: ﴿ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ﴾(يوسف: من الآية25)، وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (النكاح رق ; فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته)، ويدل على ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -اتقوا الله في النساء , فإنهن عوان عندكم , وإنكم أخذتموهن بأمانة الله , واستحللتم فروجهن بكلمة الله) [26] فقد أخبر أن المرأة عانية عند الرجل ; والعاني الأسير وأن الرجل أخذها بأمانة الله , فهو مؤتمن عليها.
· النصوص التي قرنت نفقة الزوجة بالمماليك، كقوله - صلى الله عليه وسلم -لهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف)، ومثله قال المملوكوكسوته بالمعروف)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (حقها أن تطعمها إذ طعمت , وتكسوها إذا اكتسيت) كما قال في المماليك: (إخوانكم خولكم , جعلهم الله تحت أيديكم , فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس) [27]
القول الثاني: أنها تمليك لها بحسب الحاجة إليها، وهو ظاهر قول جمهور العلماء، قال في أسنى المطالبكيفية الإنفاق في هذه الواجبات وكل ما يستهلك كطعام وأدم وطيب يستحق تمليكه لها بأن يسلمه له بقصد أداء ما لزمه، كسائر الديون من غير افتقار إلى لفظ وكذا الكسوة والفرش والآلة أي آلة الطعام والشراب والتنظيف كمشط ودهن واعتبر في ذلك التمليك) [28]
وهو ظاهر قول ابن حزم في الكسوة، فقد قال فيهاأما الكسوة - فإنها إذا وجبت لها فهي حقها , وإذ هو حقها فهو لها , فسواء ماتت إثر ذلك أو طلقها ثلاثا , أو أتمت عدتها , أو طلقها قبل أن يطأها: ليس عليها ردها , لأنه لو وجب عليها ردها لكانت غير مالكة لها حين تجب لها - وهذا باطل. وكذلك لو أخلقت ثيابها أو أصابتها وليست من مالها فهي لها , فإذا جاء الوقت الذي يعهد في مثله إخلاق تلك الكسوة فهي لها , ويقضى لها عليه بأخرى - فلو امتهنتها ضرارا أو فسادا حتى أخلقت قبل الوقت الذي يعهد فيه إخلاق مثلها فلا شيء لها عليه, إنما عليه رزقها وكسوتها بالمعروف والمعروف هو الذي قلنا)
واستدلوا على ذلك بما يلي:
· أنه من المعاشرة بالمعروف.
· القياس على الكسوة في الكفارة ; لأن الله تعالى جعل كسوة الأهل أصلا للكسوة في الكفارة كالطعام , والكسوة تمليك منها فوجب هنا مثله بخلاف المسكن فإنه إمتاع ; لأنه لمجرد الانتفاع كالخادم ; ولأن الزوج يسكنه بخلاف تلك الأشياء فإنها تدفع إليها.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة الجمع بين القولين، فكلاهما له ناحية حق يرجح على أساسها، ففي الحالة العادية التي لا تقع فيها الخصومة بين الزوجين بسبب النفقة، وهو معظم أحوال الناس لا حق للمرأة بالمطالبة بتمليك النفقة لأنها تتمكن منها كلما احتاجت إليها.
أما في حال الخصومة، أو حال شح الزوج على زوجته بالنفقة أو مضارته لها بذلك، فإن الأرجح في هذه الحال هو تمليكها النفقة بمقاديرها التي نص عليها العلماء، والتي سنتكلم عنها عند الحديث عن أنواع النفقة ومقاديرها.
ولعل كلا الفريقين نظر إلى المسألة من ناحية من النواحي فقال بقوله نتيجة له، ويكون الخلاف بذلك صوريا، فقد قال ابن تيمية، وهو من المناصرين للتمكينلو طلبت المرأة أن يفرض لها نفقة يسلمها إليها مع العلم بأنه ينفق عليها بالمعروف فالصحيح من قولي العلماء في هذه الصورة أنه لا يفرض لها نفقة, ولا يجب تمليكها ذلك , كما تقدم ; فإن هذا هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار المبني على العدل) [29]
وقد نص على هذا الجمع بين التمكين والتمليك السرخسي في قوله: (طريق إيصال النفقة إليها شيئان التمكين أو التمليك , حتى إذا كان الرجل صاحب مائدة وطعام كثير , تتمكن هي من تناول مقدار كفايتها , فليس لها أن تطالب الزوج بفرض النفقة , فإن لم يكن بهذه الصفة فخاصمته في النفقة , فرض لها عليه من النفقة كل شهر ما يكفيها بالمعروف ; لأن النفقة مشروعة للكفاية. فإنما يفرض بمقدار ما يعلم أنه تقع به الكفاية. ويعتبر المعروف في ذلك , وهو فوق التقتير ودون الإسراف ; لأنه مأمور بالنظر من الجانبين وذلك في المعروف , وكذلك يفرض لها من الكسوة ما يصلح لها للشتاء والصيف فإن بقاء النفس بهما وكما لا تبقى النفس بدون المأكول عادة لا تبقى بدون الملبوس عادة والحاجة إلى ذلك تختلف باختلاف الأوقات والأمكنة فيعتبر المعروف في ذلك.) [30]
ومع ذلك فإن الخلاف له بعض الثمار العملية كاختلافهم في الكسوة إذا انقضت السنة , وهي صحيحة فهل عليه كسوة السنة أم لا يلزمه، قال المرداوي نقلا عن الرعايةإن قلنا هي تمليك: لزمه. وإن قلنا إمتاع: فلا , كالمسكن وأوعية الطعام والماعون والمشط) [31]، وقال السرخسيإن أخذت الكسوة ورمت بها حتى جاء الوقت وقد بقيت تلك الكسوة عندها يفرض لها كسوة أخرى ; لأنها لو لبست لتخرق ذلك فبأن لم تلبس لا يسقط حقها , ويجعل تجدد الوقت كتجدد الحاجة) [32]
ونفس الخلاف يجري في عكس هذه المسألة، وهو ما لو بليت قبل ذلك , لكثرة استعمالها, فإنه على القول بالتمليك لا يلزمه إبدالها ; لأنه ليس بوقت الحاجة إلى الكسوة في العرف[33]، وقد علل ذلك السرخسي بقولهذا أعطاها كسوة فعجلت تمزيقها , أو هلكت منها لم يكن عليه أن يكسوها حتى يأتي الوقت ; لما بينا أن أحوال الناس تختلف في صيانة الثياب وتمزيقها فيتعذر تعليق الحكم بحقيقة تجدد الحاجة فيقام الوقت مقامه تيسيرا فما لم يأت الوقت لا تتجدد الحاجة فلا يتجدد سبب الوجوب لها، فلم يكن لها أن تطالبه بشيء.) [34]
ومثل ذلك في سائر أنواع النفقات، والقائلون بالتمليك يوجبون على الزوجة نفقة جديدة ـ خلافا للقائلين بالتمكين ـ إذا أخذت المرأة نفقة شهر فلم تنفقها , ثم جاء الشهر الثاني وهي معها , فلها أن تطالبه بنفقة الشهر الثاني، وهذا خلافا لقولهم في نفقة الأقارب، وقد بين الكرابيسي الفرق بينهما بقولهوالفرق أنها استغنت بما عندها عن مال الزوج , ونفقة الزوجة تجب مع الغنى , فجاز أن تجب، وليس كذلك نفقة ذوي الأرحام, لأنه استغنى بما عنده عن مال القريب , ونفقة ذوي الأرحام لا تجب مع الغنى , كما لو كان غنيا في الأصل) [35]
والأرجح في هذه الحالة القول بالتمكين إلا أن يكون ميسور الحال فيستحب الإحسان إلى زوجته بالتوسيع في النفقة، بغض النظر عن الحاجة التي قد تدعو إلى ذلك، أما الأخذ بقول من يرى التمليك فإن فيه مشقة كبيرة، لأن الزوج ملزم بكسوة كاملة للشتاء، وكسوة مثلها للصيف كل سنة، ومثل ذلك قد لا يطيقه الكثير من الناس في كثير من المجتمعات.
كيفية تفادي التقصير في النفقة:
اختلف الفقهاء فيمن ترك الإنفاق الواجب لزوجته مدة , هل يسقط بذلك, أو يبقى ذلك التقصير دينا في ذمته على قولين[36]:
القول الأول: أنه لا يسقط بذلك، بل يبقى دينا في ذمته سواء ترك النفقة لعذر أو غير عذر , ودين النفقة يتغير بتغير حال الزوج من اليسر والإعسار، فإن ترك الإنفاق عليها مع يساره , فعليه النفقة بكمالها , وإن تركها لإعساره , لم يلزمه إلا نفقة المعسر ; لأن الزائد سقط بإعساره، وهو قول الحسن ومالك , والشافعي , وإسحاق , وابن المنذر ورواية عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:
· أن عمر - رضي الله عنه - كتب إلى أمراء الأجناد , في رجال غابوا عن نسائهم , يأمرهم بأن ينفقوا أو يطلقوا , فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما مضى[37].
· أنها حق يجب مع اليسار والإعسار , فلم يسقط بمضي الزمان , كأجرة العقار والديون.
· أنه لا يوجد دليل يضاهي الأدلة التي ثبتت بها النفقة، قال ابن المنذرهذه نفقة وجبت بالكتاب والسنة والإجماع , ولا يزول ما وجب بهذه الحجج إلا بمثلها) [38]
· أنه لا يصح قياسها على نفقة الأقارب، لأنها عوض واجب فأشبهت الأجرة، واختلفت عن نفقة الأقارب لأنها صلة يعتبر فيها اليسار من المنفق والإعسار ممن تجب له , وهي وقتية فإذا مضى زمنها استغنى عنها بخلاف النفقة على الزوجة.
القول الثاني: تسقط نفقتها إلا إذا كان الحاكم قد فرضها لها، وهو قول أبي حنيفة ورواية عند الحنابلة وروي عن مالك[39]، واستدلوا على ذلك بما يلي:
· أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتعذر عليه نفقة أهله أياما حتى سألته إياها , ولم يقل لهن: هي باقية في ذمتي حتى يوسع الله وأقضيكن , ولما وسع الله عليه لم يقض لامرأة منهن ذلك , ولا قال لها: هذا عوض عما فاتك من الإنفاق.
· أنه لم يعرف أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ مع أنهم أئمة الناس في الورع والتخلص من الحقوق والمظالم ـ أنه قضى لامرأة بنفقة ماضية، أو استحل امرأة منها، أما قول عمر - رضي الله عنه - للغياب: (إما أن تطلقوا وإما أن تبعثوا بنفقة ما مضى)، فإن في ثبوته نظر , ولو قدرت صحته فهو حجة عليهم , ودليل على أنهم إذا طلقوا لم يلزمهم بنفقة ما مضى[40].
· أن مثال هذه المرأة كرجل حاز دارا متصرفا فيها مدة طويلة، وهو ينسبها إلى نفسه ويضيفها إلى ملكه، ثم جاء بعد تلك المدة إنسان كان حاضرا يراه ويشاهد أفعاله فيها طول هذه المدة , دون أن يعارضه فيها , ولا مانع يمنعه من خوف أو شركة في ميراث , ونحو ذلك , فادعاها لنفسه , فدعواه غير مسموعة فضلا عن إقامة بينته، فكذلك إذا كانت المرأة مع الزوج مدة سنين يشاهده الناس والجيران داخلا بيته بأنواع النفقة , ثم ادعت بعد ذلك أنه لم ينفق عليها في هذه المدة ; فدعواها غير مسموعة , فضلا عن أن يحلف لها , أو يسمع لها بينة.
· أن نفقة الماضي قد استغني عنها بمضي وقتها , فتسقط , كنفقة الأقارب.
· أن كل دعوى ينفيها العرف وتكذبها العادة مرفوضة غير مسموعة.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو التفصيل بين الحالة العادية، حين تدعي الزوجة نفقة ماضية على زوجها المعسر، وتطالبه بالوفاء بها مع إعساره، فإن الأرجح في هذه الحالة هو القول بعدم وجوب الوفاء بذلك.
أما إن كان الزوج ميسور الحال، ومنعها حقها من النفقة مع قدرته على ذلك، فإن حق الماضي لا يسقط بالتقادم إلا إذا سمحت فيه الزوجة.
وقد قال بهذا التفصيل، وجمع به بين القولين ابن القيم، فقالإن الأزواج إذا امتنعوا من الواجب عليهم مع قدرتهم عليه لم يسقط بالامتناع ولزمهم ذلك، وأما المعذور العاجز فلا يحفظ عن أحد من الصحابة أنه جعل النفقة دينا في ذمته أبدا)، وعقب على ذلك بقولهوهذا التفصيل هو أحسن ما يقال في هذه المسألة) [41]
وقد ذكر ابن القيم مع تشدده في إنكار الحيل حيلتين للتخلص من دعوى الزوجة دين النفقة على زوجها بغير حق، كشأنه في كثير من الحيل الشرعية التي تحفظ بها الحقوق، فقال: (يحتاج الزوج إلى طريق تخلصه من هذه الدعوى , ولا ينفعه دعوى النشوز , فإن القول فيه قول المرأة , ولا يخلصه دعوى عدم التسليم الموجب للإنفاق لتمكن المرأة من إقامة البينة عليه ; فله حيلتان)،ثم ذكر الحيلتين، وهما:
الحيلة الأولى: أن يقيم البينة على نفقته وكسوته لتلك المدة , بالاستفاضة والقرائن المفيدة للقطع ; فإن الشاهد يشهد بما علمه بأي طريق علمه , وليس على الحاكم أن يسأل البينة عن مستند التحمل , ولا يجب على الشاهد أن يبين مستنده في الشهادة.
الحيلة الثانية: أن ينكر التمكين الموجب لثبوت المدعى به في ذمته , ويكون صادقا في هذا الإنكار ; فإن التمكين الماضي لا يوجب عليه ما ادعت به الزوجة إذا كان قد أداه إليها، والتمكين الذي يوجب ما ادعت به لا حقيقة له ; فهو صادق في إنكاره.
إن أحكام النفقة كما نص عليها الفقهاء تستلزم الحديث عن النواحي التالية:
· أحكام النفقة، والحديث فيها عن الحكم الشرعي للنفقة مع أدلته التفصيلية، ثم بعض ما يتعلق بهذا الحكم من أحكام وآثار.
· شروط وجوب النفقة على المنفق وموانعها، لأن حكم الوجوب متعلق بالمكلف، وليس كل مكلف صالح بأن تجب عليه النفقة، ولا كل امرأة بصالحة لأن ينفق عليها.
· الإجراءات القضائية التي يتخذها القاضي عند تخلي المكلف عن هذا الواجب، لأن مسألة النفقة لها شقان: شق ديني توجيهي، وشق قضائي.
· أنواع النفقة ومقاديرها المختلفة، باعتبارها مادة النفقة، حتى لا يتلاعب بها، ويتحول الوجوب صوريا بعدم مراعاتها.
وهي نواح يتضمنها تساؤل يطرحه كل من يريد أن يبحث عن النفقة، فيتساءل عن حكم النفقة؟ وعلى من تجب؟ وفيم تجب؟وما عقوبة من لم يؤدها؟
وهذه الأسئلة الأربعة، هي التي أفرزت هذا الفصل، وقد خصصنا للإجابة عن كل واحد منها مبحثا خاصا، ونعتذر لطول الفصل، لأن معظم المسائل فيه من المسائل المعاصرة المهمة التي يكثر السؤال عنها، وتعم بها البلوى، فلذلك كان لزاما أن لا تتركها مراعاة لقصر الفصل.
1 ـ أحكام النفقة
أولا ـ تعريف النفقة
لغة: يقال: نَفَقَ الفرسُ والدابةُ وسائر البهائم يَنْفُقُ نُفُوقاً: مات، ونَفَقَ البـيع نَفَاقاً: راج، ونَفَقت السِّلْعة تَنْفُق نَفاقاً، بالفتـح: غَلَتْ ورغب فـيها، وأَنْفَقَها هو، وأَنْفَقَ القوم: نَفَقت سوقهم، ونَفَق مالُه ودرهمه ونَفَقَتِ الدابة ماتت وبابه دخل ونَفَقَ البيع ينفُقُ بالضم نَفَاقا راج، والنِّفَاقُ بالكسر فعل المُنَافِقِ، وأَنْفَقَ الرجل افتقر وذهب ماله، ومنه قوله تعالى:﴿ إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق﴾
و أَنْفَقَ الـمال: صرفه، واسْتَنْفَقه: أَذهبه. والنَّفَقة: ما أُنفِق، والـجمع نفاق. حكى اللـحيانـي: نَفِدت نِفاقُ القوم ونَفَقاتهم، بالكسر، إِذا نفدت وفنـيت. والنِّفاقُ، بالكسر: جمع النَّفَقة من الدراهم، ونَفِقَ الزاد يَنْفَقُ نَفَقاً أَي نفد، وقد أَنفَقت الدراهم من النَّفَقة. ورجل مِنْفاقٌ أَي كثـير النَّفَقة. والنَّفَقة: ما أَنفَقْت، واستنفقت علـى العيال وعلـى نفسك[1].
اصطلاحا: ما تحتاج إليه الزوجة في معيشتها من طعام وكسوة ومسكن وخدمة وكل ما يلزم لها حسبما تعارفه الناس.
وعرفها بعض الحنفية بأنه الإدرار على شيء بما فيه بقاؤه[2].
وعرفها ابن عرفة بأنها: ما به قوام معتاد حال آدمي دون سرف[3]
ثانيا ـ حكم النفقة على الزوجة
اتفق الفقهاء على وجوب إنفاق الزوج على زوجته، واستدلوا على ذلك بما يلي:
من القرآن الكريم:
ورد التصريح بالأمر بالنفقة على الزوجة في الآيات التالية:
· قوله تعالى في شأن المطلقات: ﴿ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ﴾(الطلاق:6)، قال الطبري في معنى الآيةيقول تعالى ذكره أسكنوا مطلقات نسائكم من الموضع الذي سكنتم من وجدكم، يقول: من سعتكم التي تجدون، وإنما أمر الرجال أن يعطوهن مسكنا يسكنه مما يجدونه حتى يقضين عددهن) [4]، ودلالة الآية على وجوب النفقة وتحديدا نوعا منها، وهو السكن واضحة، لأن المطلقة قبل البينونة في حكم الزوجة، بل إنه إذا استحقت المطلقة هذا النوع من النفقة فالزوجة أولى منها بها.
· قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾(الطلاق:6)، ووجه الاستدلال بالآية، أن النفقة إن كانت واجبة على المطلقة الحامل، فأولى من ذلك الزوجة، وبما أن المطلقة تجب لها النفقة إجماعا، فأولى الزوجة، قال القرطبيأجمع أهل العلم على أن نفقة المطلقة ثلاثا أو مطلقة للزوج عليها رجعة وهي حامل واجبة) [5]
· قوله تعالى:﴿ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سيجعل الله بعد عسر يسرا ﴾(الطلاق: 7) في هذه الآية نلاحظ الأمر الصريح بالإنفاق، وإلزام الزوج به، ولكنه يحيط هذا الأمر بما يوحي بيسر هذا الدين وحنيفيته، وأن الزوج لا يكلف إلا بحدود طاقته، فإذا ما رزقه الله، فلا ينبغي أن يبخل على نفسه وأهله، وقد ورد في تأويل الآية وعمل الصحابة - رضي الله عنهم - بها مع زهدهم وورعهم، أن أبا سنان قال: سألت عمر بن الخطاب عن أبي عبيدة، فقيل: إنه يلبس الغليظ من الثياب، ويأكل أخشن الطعام، فبعث إليه بألف دينار، وقال للرسول: انظر ما يصنع بها إذا هو أخذها، فما لبث أن لبس اللين من الثياب، وأكل أطيب الطعام، فجاءه الرسول فأخبره، فقال: رحمه الله تعالى تأول هذه الآية:﴿ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ﴾ (الطلاق:7) [6]
من السنة النبوية الشريفة:
دلت النصوص النبوية الكثيرة على وجوب النفقة علىالزوجة، مما لا يمكن حصره هنا، ولكنا سنذكر في هذا المحل ما يدل خصوصا على وجوب النفقة أو على فضلها، لنعلم كيف عالجت السنة النبوية الشريفة موضوع النفقة، مع ما يقتضي ذلك من شرح أو تعليق، فمن النصوص الخاصة في ذلك:
· عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالإذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة) [7]، فقد نص - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث على أنه إذا أنفق الرجل على أهله أي زوجته وأقاربه، أو زوجته ومن هم ملحقون بها، وهو يحتسبها، أي والحال أنه يقصد بها الاحتساب، وهو طلب الثواب من الله تعالى كانت له صدقة، أي يثاب عليها كما يثاب على الصدقة، والملاحظ في الحديث كما في أكثر أحاديث الترغيب ربط الجزاء بالاحتساب، وذلك يدل على أن الغافل عن نية التقرب لا تكون له صدقة، ومثله نفقته على نفسه ودابته، فإن نوى بها وجه الله تعالىأثيب، وإلا لم يثب.
وقد تقع الشبهة على عدم وجوب النفقة من إطلاق لفظ الصدقة، وقد أجاب العلماء على ذلك من وجهين:
الوجه الأول: أن إطلاق الصدقة على الثواب مجاز، والصارف عن الحقيقة الإجماع على جواز النفقة على الزوجة الهاشمية التي حرمت الصدقة عليها، والعلاقة بين المعنى الموضوع له وبين المعنى المجازي ترتب الثواب عليهما، وتشابههما فيه، والتشبيه في أصل الثواب لا في كميته وكيفيته، فسقط ما قيل: الإنفاق واجب، والصدقة لا تطلق إلا على غيره فكيف يتشابهان.
الوجه الثاني: أن تسمية النفقة صدقة كتسمية الصداق نحلة، فلما كان احتياج المرأة للرجل كاحتياجه إليها في اللذة والتحصين وطلب الولد كان الأصل أن لا يلزمه لها شيء، لكنه تعالى خصه بالفضل والقيام عليها، فمن ثم أطلق على الصداق والنفقة صدقة[8].
· عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته في حجة الوداعفاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتن فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف) [9]،في هذا الحديث جمع - صلى الله عليه وسلم - حقوق الزوجية الواجبة، ومن بينها حق الزوجة في النفقة، وفيه تصريح بالوجوب، وتعليل لسببه.
· عن معاوية القشيري - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: (أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت، أو اكتسبت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت) [10]، وفي هذا الحديث عد لما يجب على الرجل نحو زوجته، وقد ذكر منها نفقة الطعام والكسوة، وفيه دليل على أنه لا يكلف في ذلك إلا بطاقته، فلا يطعمها إلا كما يطعم، ولا يكسوا إلا كما اكتسى، وللحديث تفاصيل أخرى نراها في محلها من هذا الجزء.
· قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة ودينار تصدقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك) [11]، في هذا الحديث تقديم لنفقة الأهل على كل النفقات الأخرى، وهو دليل على فضل النفقة ووجوبها، قال المناوي: (والنفقة على الأهل أعم من كون نفقتهم واجبة أو مندوبة، فهي أكثر الكل ثوابا، واستدل به على أن فرض العين أفضل من الكفاية، لأن النفقة على الأهل التي هي فرض عين أفضل من النفقة في سبيل الله، وهو الجهاد الذي هو فرض كفاية) [12]
· عن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل: (ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا) [13]، في هذا الحديث دليل على وجوب النفقة لأنه رتبها مباشرة بعد الإنفاق على النفس، مما يدل على توكيدها، قال النوويفي هذا الحديث فوائد منها الابتداء في النفقة بالمذكور على هذا الترتيب، ومنها أن الحقوق والفضائل إذا تزاحمت قدم الأوكد فالأوكد، ومنها أن الأفضل في صدقة التطوع أن ينوعها في جهات الخير ووجوه البر بحسب المصلحة ولا ينحصر في جهة بعينها) [14]ويوضح الجانب من هذا الحديث الحديث التالي:
· عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تصدقوا،قال: رجل عندي دينار،قال: تصدق به على نفسك، قال: عندي دينار آخر،قال: تصدق به على زوجتك قال: عندي دينار آخر،قال: تصدق به على ولدك قال: عندي دينار آخر قال تصدق به على خادمك، قال عندي دينار آخر قال: أنت أبصر به[15]، وفي هذا الحديث تعليم منه - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه لكيفية تنظيم المصاريف حتى لا يطغى جانب عل جانب.
· قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت[16])[17]، ودلالة هذا الحديث واضحة على وجوب النفقة لربطه - صلى الله عليه وسلم - الإثم العظيم الذي يكتفى به جراء التفريط، قال المناوي: وهذا صريح في وجوب نفقة من يقوت لتعليقه الإثم على تركه، لكن إنما يتصور ذلك في موسر لا معسر، فعلى القادر السعي على عياله لئلا يضيعهم، فمع الخوف على ضياعهم، هو مضطر إلى الطلب لهم، لكن لا يطلب لهم إلا قدر الكفاية[18].
الإجماع:
انعقد إجماع الأمة في كل العصور على وجوب نفقة الزوجة على زوجها، ولم يخالف في ذلك أحد لما سبق من النصوص الصريحة في ذلك.
وقت تسليم النفقة:
ويختلف ذلك باختلاف نوع النفقة، وقد اتفق الفقهاء على أن الكسوة تقدم للزوجة بحسب وقتها من صيف أو شتاء كما سيأتي، واختلفوا في غير ذلك من النفقات على أقوال منها:
القول الأول: أن تسلم النفقة للزوجة يوميا، وهو قول الظاهرية، وبمثله قال الشافعية، وقد ذهب ابن حزم إلى أنه إن تعدى من أجل ذلك وأخر عنها الغداء , أو العشاء أدب على ذلك.
ونص الشافعية على أن نفقة الزوجة وخادمها تجب بطلوع الفجر كل يوم ; لأنها تستحقها يوما فيوما لكونها في مقابلة التمكين الحاصل في اليوم، فلها المطالبة بها عند طلوع الفجر، وقد نصوا على أنها تجب به وجوبا موسعا كالصلاة،أو أنه إن قدر وجب عليه التسليم لكن لا يحبس ولا يخاصم، وإذا أراد سفرا طويلا فلها مطالبته بنفقتها لمدة ذهابه ورجوعه كما لا يخرج إلى الحج حتى يترك لها هذا القدر, ولو أنه هيأ ذلك إلى نائبه ليدفعه إليها يوما بيوم كفى، ولا يكلف إعطاءه لها دفعة واحدة.
وقد استدل ابن حزم لهذا القول بما يلي:
· أن من قضى لها بأكثر من نفقة المياومة، فقد قضى بالظلم الذي لم يوجبه الله تعالى , وأي حد حد - من جمعة أو شهر أو سنة - كلف البرهان على ذلك من القرآن , أو من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يجده.
· أن ما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبيع نخل بني النضير ويحبس لأهله قوت سنتهم، أو ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعطي أزواجه كل سنة ثمانين وسقا من تمر وعشرين وسقا من شعير، فليس في هذا بيان أنه كان يدفعه إليهن مقدما.
القول الثاني: أن ذلك يقدر بحاله من يوم , أو جمعة، أو شهر, أو سنة، بحسب الزوج، وبحسب الوقت الذي ينال فيه أجرته، وهو قول المالكية، وقد أجاز ابن القاسم أن يفرض سنة، وقال سحنون: لا يفرض سنة ; لأن الأسواق تتحول، والأسعار تتغير[19].
القول الثالث: أن وقت تسليم النفقة مهما كان نوعها هو أول وقت الحاجة , فإن اتفقا على تأخيرها جاز ; لأن الحق لها في ذلك , فإذا رضيت بتأخيره جاز، وإن اتفقا على تعجيل نفقة عام أو شهر , أو أقل من ذلك أو أكثر , أو تأخيره , جاز ; لأن الحق لهما , لا يخرج عنهما , فجاز من تعجيله وتأخيره ما اتفقا عليه، قال ابن قدامةوليس بين أهل العلم في هذا خلاف علمناه) [20]، لكن ما ذكرناه من الأقوال السابقة يشير إلى الخلاف في المسألة خاصة قول الظاهرية.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو أن ذلك يخضع في الحالة العادية للعرف الذي تعارفوا عليه، أما في حال الخصومة في النفقة، فالعبرة بحاجتها، وبقدرة الزوج، وبنوع النفقة، وسنفصل كيفية ذلك في الأحكام القضائية المتعلقة بالنفقة.
فالقوت الأساسي تكون الحاجة إليه يومية، وهناك أقوات تحتمل التعجيل كمؤونة البيت، وهناك نفقات قد تكون سنوية كالكسوة.
وقول ابن حزم بالمياومة مع ذلك له ناحية مصلحية معتبرة، فقد نص على أنه لو تطوع الزوج بتعجيل النفقة قبل موعدها دون قضاء قاض، فتلف بغير عدوان منها، فإن عليه نفقتها ثانية , وكسوتها ثانية, لأنها لم تتعد , فلا شيء عليها وحقها باق قبله , إذ لم يعطه إياها بعد.
وهي ناحية مهمة، فالعبرة بتوفير حاجة الزوجة اليومية، أما أن تكلف بضمان التالف وحراسته، ثم عقوبتها بالحرمان من النفقة في حال التلف، فإن فيه مضرة بالغة عليها.
حكم رد النفقة المعجلة عند زوال الموجب:
اختلف الفقهاء فيما لو عجل لها نفقة شهر أو عام , ثم طلقها , أو ماتت قبل انقضائه, أو بانت بفسخ أو إسلام أحدهما أو ردته، فهل له أن يسترجع نفقة سائر الشهر أم لا؟ على قولين:
القول الأول: له أن يسترجع نفقة سائر الشهر، وهو قول الشافعي، ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل بشرط أن يعلمها أنها نفقة الشهر، فإن لم يعلمها لا يسترجع نفقته، لأنه تبرع بدفع ما لا يلزمه من غير إعلام الآخذ بتعجيله، فلم يرجع به، كمعجل الزكاة، بل ذهب ابن حزم إلى أنه (إن أعطاها أكثر من حقها، فماتت , أو طلقها ثلاثا , أو طلقها قبل المسيس, أو أتمت عدتها وعندها فضل يوم أو غداء أو عشاء قضي عليها برده إليه، لأنه ليس من حقها قبله, وإنما جعله عندها عدة لوقت مجيء استحقاقها إياه, فإذا لم يأت ذلك الوقت ولها عليه نفقة فهو عندها أمانة، ولا ظلم أكثر من أن لا يقضى عليها برد ما لم تستحقه قبله) [21]
واستدلوا على ذلك بما يلي:
· أنه سلم إليها النفقة سلفا عما يجب في الثاني , فإذا وجد ما يمنع الوجوب , ثبت الرجوع , كما لو أسلفها إياها فنشزت , أو عجل الزكاة إلى الساعي فتلف ماله قبل الحول.
· أنها عوض عن التمكين , وقد فات التمكين.
القول الثاني: ليس له أن يسترجع نفقة سائر الشهر، وهو قول أبي حنيفة , وأبي يوسف، واستدلوا على ذلك بأنها صلة , فإذا قبضتها , لم يكن له الرجوع فيها , كصدقة التطوع.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو أن حكم المسألة يتغير بحسب حال المنفق، وحال المنفق عليها، والسبب المفرق بينهما والذي قيل بموجبه بلزوم الرد، ونع النفقة التي يطالب الزوج بردها، ولكنه في الأحوال العادية العامة نرى أن المرأة إذا كان لها مسكن خاص، أي ليست مرتبطة في نفقها بغيرها من أهل الزوج، ثم قيل لها هذه نفقتك مثلا، فإنه من الحرج الشديد مطالبتها بها بعد حصول الفراق، لأن النفقة وإن كان ظاهرها معاوضة منفعة المرأة بها، فتزول بزوال المنفعة إلا أنها أقرب إلى الصلة منها إلى المعاوضة، بل نرى من الخطأ التعامل مع حقوق الزوجية بمثل التعامل مع المعاوضات المالية، فلا جامع بينهما أصلا حتى يصح القياس بينهما.
صفة وجوب النفقة:
اتفق الفقهاء على أن المسكن إمتاع للزوجة وليس تمليكا لها، واختلفوا في سائر أنواع النفقات، هل هي تمليك للزوجة أم إمتاع لها على قولين:
القول الأول: أنها إمتاع للمرأة، وليست تمليكا، ولا يجب أن يفرض لها شيئا ; بل يطعمها ويكسوهما بالمعروف، وهو آراء وتوجيهات في المذاهب الفقهية المختلفة، وبحسب نوع النفقة:
فالشافعية ـ مثلا ـ نصوا في الشراب على أنه إمتاع لا تمليك، قال في أسنى المطالبيكون إمتاعا لا تمليكا، حتى لو مضت عليه مدة , ولم تشربه لم تملكه , وإذا شرب غالب أهل البلد ماء ملحا وخواصها عذبا وجب ما يليق بالزوج) [22]، ثم قال (ومقتضى كلام الشيخين وغيرهما أنه تمليك)
وهو قول ابن حزم في مستلزمات الفراش، واستدل على ذلك بأن عليه إسكانها , وذلك يقتضي أن عليه من الفرش والغطاء ما يكون دافعا لضرر الأرض عن الساكن فهو له , لأن ذلك لا يسمى كسوتها، ثم استدل لذلك بنص صريح في المسألة وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم من تكرهونه) [23]، فنسب - صلى الله عليه وسلم - الفرش إلى الزوج فواجب عليه أن يقوم لها به, وهو للزوج لا تملكه هي.
وقد ورد مثل هذا الخلاف في بعض المسائل عند الحنابلة[24]، وقد رجحه ابن تيمية[25]، واستدلوا على ذلك بما يلي:
· أن هذه عادة المسلمين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه، لا يعلم قط أن رجلا فرض لزوجته نفقة ; بل يطعمها ويكسوها، وإذا كان كذلك كان له ولاية الإنفاق عليها , كما له ولاية الإنفاق على سائر من تجب نفقته.
· النصوص الدالة على سيادة الزوج، ومنها قول الله تعالى:﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ (النساء:34)، ولهذا أباح الله للرجل بنص القرآن أن يضربها , وإنما يؤدب غيره من له عليه ولاية، قال زيد بن ثابتالزوج سيد في كتاب الله وقرأ قوله تعالى: ﴿ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ﴾(يوسف: من الآية25)، وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (النكاح رق ; فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته)، ويدل على ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -اتقوا الله في النساء , فإنهن عوان عندكم , وإنكم أخذتموهن بأمانة الله , واستحللتم فروجهن بكلمة الله) [26] فقد أخبر أن المرأة عانية عند الرجل ; والعاني الأسير وأن الرجل أخذها بأمانة الله , فهو مؤتمن عليها.
· النصوص التي قرنت نفقة الزوجة بالمماليك، كقوله - صلى الله عليه وسلم -لهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف)، ومثله قال المملوكوكسوته بالمعروف)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (حقها أن تطعمها إذ طعمت , وتكسوها إذا اكتسيت) كما قال في المماليك: (إخوانكم خولكم , جعلهم الله تحت أيديكم , فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس) [27]
القول الثاني: أنها تمليك لها بحسب الحاجة إليها، وهو ظاهر قول جمهور العلماء، قال في أسنى المطالبكيفية الإنفاق في هذه الواجبات وكل ما يستهلك كطعام وأدم وطيب يستحق تمليكه لها بأن يسلمه له بقصد أداء ما لزمه، كسائر الديون من غير افتقار إلى لفظ وكذا الكسوة والفرش والآلة أي آلة الطعام والشراب والتنظيف كمشط ودهن واعتبر في ذلك التمليك) [28]
وهو ظاهر قول ابن حزم في الكسوة، فقد قال فيهاأما الكسوة - فإنها إذا وجبت لها فهي حقها , وإذ هو حقها فهو لها , فسواء ماتت إثر ذلك أو طلقها ثلاثا , أو أتمت عدتها , أو طلقها قبل أن يطأها: ليس عليها ردها , لأنه لو وجب عليها ردها لكانت غير مالكة لها حين تجب لها - وهذا باطل. وكذلك لو أخلقت ثيابها أو أصابتها وليست من مالها فهي لها , فإذا جاء الوقت الذي يعهد في مثله إخلاق تلك الكسوة فهي لها , ويقضى لها عليه بأخرى - فلو امتهنتها ضرارا أو فسادا حتى أخلقت قبل الوقت الذي يعهد فيه إخلاق مثلها فلا شيء لها عليه, إنما عليه رزقها وكسوتها بالمعروف والمعروف هو الذي قلنا)
واستدلوا على ذلك بما يلي:
· أنه من المعاشرة بالمعروف.
· القياس على الكسوة في الكفارة ; لأن الله تعالى جعل كسوة الأهل أصلا للكسوة في الكفارة كالطعام , والكسوة تمليك منها فوجب هنا مثله بخلاف المسكن فإنه إمتاع ; لأنه لمجرد الانتفاع كالخادم ; ولأن الزوج يسكنه بخلاف تلك الأشياء فإنها تدفع إليها.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة الجمع بين القولين، فكلاهما له ناحية حق يرجح على أساسها، ففي الحالة العادية التي لا تقع فيها الخصومة بين الزوجين بسبب النفقة، وهو معظم أحوال الناس لا حق للمرأة بالمطالبة بتمليك النفقة لأنها تتمكن منها كلما احتاجت إليها.
أما في حال الخصومة، أو حال شح الزوج على زوجته بالنفقة أو مضارته لها بذلك، فإن الأرجح في هذه الحال هو تمليكها النفقة بمقاديرها التي نص عليها العلماء، والتي سنتكلم عنها عند الحديث عن أنواع النفقة ومقاديرها.
ولعل كلا الفريقين نظر إلى المسألة من ناحية من النواحي فقال بقوله نتيجة له، ويكون الخلاف بذلك صوريا، فقد قال ابن تيمية، وهو من المناصرين للتمكينلو طلبت المرأة أن يفرض لها نفقة يسلمها إليها مع العلم بأنه ينفق عليها بالمعروف فالصحيح من قولي العلماء في هذه الصورة أنه لا يفرض لها نفقة, ولا يجب تمليكها ذلك , كما تقدم ; فإن هذا هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار المبني على العدل) [29]
وقد نص على هذا الجمع بين التمكين والتمليك السرخسي في قوله: (طريق إيصال النفقة إليها شيئان التمكين أو التمليك , حتى إذا كان الرجل صاحب مائدة وطعام كثير , تتمكن هي من تناول مقدار كفايتها , فليس لها أن تطالب الزوج بفرض النفقة , فإن لم يكن بهذه الصفة فخاصمته في النفقة , فرض لها عليه من النفقة كل شهر ما يكفيها بالمعروف ; لأن النفقة مشروعة للكفاية. فإنما يفرض بمقدار ما يعلم أنه تقع به الكفاية. ويعتبر المعروف في ذلك , وهو فوق التقتير ودون الإسراف ; لأنه مأمور بالنظر من الجانبين وذلك في المعروف , وكذلك يفرض لها من الكسوة ما يصلح لها للشتاء والصيف فإن بقاء النفس بهما وكما لا تبقى النفس بدون المأكول عادة لا تبقى بدون الملبوس عادة والحاجة إلى ذلك تختلف باختلاف الأوقات والأمكنة فيعتبر المعروف في ذلك.) [30]
ومع ذلك فإن الخلاف له بعض الثمار العملية كاختلافهم في الكسوة إذا انقضت السنة , وهي صحيحة فهل عليه كسوة السنة أم لا يلزمه، قال المرداوي نقلا عن الرعايةإن قلنا هي تمليك: لزمه. وإن قلنا إمتاع: فلا , كالمسكن وأوعية الطعام والماعون والمشط) [31]، وقال السرخسيإن أخذت الكسوة ورمت بها حتى جاء الوقت وقد بقيت تلك الكسوة عندها يفرض لها كسوة أخرى ; لأنها لو لبست لتخرق ذلك فبأن لم تلبس لا يسقط حقها , ويجعل تجدد الوقت كتجدد الحاجة) [32]
ونفس الخلاف يجري في عكس هذه المسألة، وهو ما لو بليت قبل ذلك , لكثرة استعمالها, فإنه على القول بالتمليك لا يلزمه إبدالها ; لأنه ليس بوقت الحاجة إلى الكسوة في العرف[33]، وقد علل ذلك السرخسي بقولهذا أعطاها كسوة فعجلت تمزيقها , أو هلكت منها لم يكن عليه أن يكسوها حتى يأتي الوقت ; لما بينا أن أحوال الناس تختلف في صيانة الثياب وتمزيقها فيتعذر تعليق الحكم بحقيقة تجدد الحاجة فيقام الوقت مقامه تيسيرا فما لم يأت الوقت لا تتجدد الحاجة فلا يتجدد سبب الوجوب لها، فلم يكن لها أن تطالبه بشيء.) [34]
ومثل ذلك في سائر أنواع النفقات، والقائلون بالتمليك يوجبون على الزوجة نفقة جديدة ـ خلافا للقائلين بالتمكين ـ إذا أخذت المرأة نفقة شهر فلم تنفقها , ثم جاء الشهر الثاني وهي معها , فلها أن تطالبه بنفقة الشهر الثاني، وهذا خلافا لقولهم في نفقة الأقارب، وقد بين الكرابيسي الفرق بينهما بقولهوالفرق أنها استغنت بما عندها عن مال الزوج , ونفقة الزوجة تجب مع الغنى , فجاز أن تجب، وليس كذلك نفقة ذوي الأرحام, لأنه استغنى بما عنده عن مال القريب , ونفقة ذوي الأرحام لا تجب مع الغنى , كما لو كان غنيا في الأصل) [35]
والأرجح في هذه الحالة القول بالتمكين إلا أن يكون ميسور الحال فيستحب الإحسان إلى زوجته بالتوسيع في النفقة، بغض النظر عن الحاجة التي قد تدعو إلى ذلك، أما الأخذ بقول من يرى التمليك فإن فيه مشقة كبيرة، لأن الزوج ملزم بكسوة كاملة للشتاء، وكسوة مثلها للصيف كل سنة، ومثل ذلك قد لا يطيقه الكثير من الناس في كثير من المجتمعات.
كيفية تفادي التقصير في النفقة:
اختلف الفقهاء فيمن ترك الإنفاق الواجب لزوجته مدة , هل يسقط بذلك, أو يبقى ذلك التقصير دينا في ذمته على قولين[36]:
القول الأول: أنه لا يسقط بذلك، بل يبقى دينا في ذمته سواء ترك النفقة لعذر أو غير عذر , ودين النفقة يتغير بتغير حال الزوج من اليسر والإعسار، فإن ترك الإنفاق عليها مع يساره , فعليه النفقة بكمالها , وإن تركها لإعساره , لم يلزمه إلا نفقة المعسر ; لأن الزائد سقط بإعساره، وهو قول الحسن ومالك , والشافعي , وإسحاق , وابن المنذر ورواية عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:
· أن عمر - رضي الله عنه - كتب إلى أمراء الأجناد , في رجال غابوا عن نسائهم , يأمرهم بأن ينفقوا أو يطلقوا , فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما مضى[37].
· أنها حق يجب مع اليسار والإعسار , فلم يسقط بمضي الزمان , كأجرة العقار والديون.
· أنه لا يوجد دليل يضاهي الأدلة التي ثبتت بها النفقة، قال ابن المنذرهذه نفقة وجبت بالكتاب والسنة والإجماع , ولا يزول ما وجب بهذه الحجج إلا بمثلها) [38]
· أنه لا يصح قياسها على نفقة الأقارب، لأنها عوض واجب فأشبهت الأجرة، واختلفت عن نفقة الأقارب لأنها صلة يعتبر فيها اليسار من المنفق والإعسار ممن تجب له , وهي وقتية فإذا مضى زمنها استغنى عنها بخلاف النفقة على الزوجة.
القول الثاني: تسقط نفقتها إلا إذا كان الحاكم قد فرضها لها، وهو قول أبي حنيفة ورواية عند الحنابلة وروي عن مالك[39]، واستدلوا على ذلك بما يلي:
· أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتعذر عليه نفقة أهله أياما حتى سألته إياها , ولم يقل لهن: هي باقية في ذمتي حتى يوسع الله وأقضيكن , ولما وسع الله عليه لم يقض لامرأة منهن ذلك , ولا قال لها: هذا عوض عما فاتك من الإنفاق.
· أنه لم يعرف أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ مع أنهم أئمة الناس في الورع والتخلص من الحقوق والمظالم ـ أنه قضى لامرأة بنفقة ماضية، أو استحل امرأة منها، أما قول عمر - رضي الله عنه - للغياب: (إما أن تطلقوا وإما أن تبعثوا بنفقة ما مضى)، فإن في ثبوته نظر , ولو قدرت صحته فهو حجة عليهم , ودليل على أنهم إذا طلقوا لم يلزمهم بنفقة ما مضى[40].
· أن مثال هذه المرأة كرجل حاز دارا متصرفا فيها مدة طويلة، وهو ينسبها إلى نفسه ويضيفها إلى ملكه، ثم جاء بعد تلك المدة إنسان كان حاضرا يراه ويشاهد أفعاله فيها طول هذه المدة , دون أن يعارضه فيها , ولا مانع يمنعه من خوف أو شركة في ميراث , ونحو ذلك , فادعاها لنفسه , فدعواه غير مسموعة فضلا عن إقامة بينته، فكذلك إذا كانت المرأة مع الزوج مدة سنين يشاهده الناس والجيران داخلا بيته بأنواع النفقة , ثم ادعت بعد ذلك أنه لم ينفق عليها في هذه المدة ; فدعواها غير مسموعة , فضلا عن أن يحلف لها , أو يسمع لها بينة.
· أن نفقة الماضي قد استغني عنها بمضي وقتها , فتسقط , كنفقة الأقارب.
· أن كل دعوى ينفيها العرف وتكذبها العادة مرفوضة غير مسموعة.
الترجيح:
نرى أن الأرجح في المسألة هو التفصيل بين الحالة العادية، حين تدعي الزوجة نفقة ماضية على زوجها المعسر، وتطالبه بالوفاء بها مع إعساره، فإن الأرجح في هذه الحالة هو القول بعدم وجوب الوفاء بذلك.
أما إن كان الزوج ميسور الحال، ومنعها حقها من النفقة مع قدرته على ذلك، فإن حق الماضي لا يسقط بالتقادم إلا إذا سمحت فيه الزوجة.
وقد قال بهذا التفصيل، وجمع به بين القولين ابن القيم، فقالإن الأزواج إذا امتنعوا من الواجب عليهم مع قدرتهم عليه لم يسقط بالامتناع ولزمهم ذلك، وأما المعذور العاجز فلا يحفظ عن أحد من الصحابة أنه جعل النفقة دينا في ذمته أبدا)، وعقب على ذلك بقولهوهذا التفصيل هو أحسن ما يقال في هذه المسألة) [41]
وقد ذكر ابن القيم مع تشدده في إنكار الحيل حيلتين للتخلص من دعوى الزوجة دين النفقة على زوجها بغير حق، كشأنه في كثير من الحيل الشرعية التي تحفظ بها الحقوق، فقال: (يحتاج الزوج إلى طريق تخلصه من هذه الدعوى , ولا ينفعه دعوى النشوز , فإن القول فيه قول المرأة , ولا يخلصه دعوى عدم التسليم الموجب للإنفاق لتمكن المرأة من إقامة البينة عليه ; فله حيلتان)،ثم ذكر الحيلتين، وهما:
الحيلة الأولى: أن يقيم البينة على نفقته وكسوته لتلك المدة , بالاستفاضة والقرائن المفيدة للقطع ; فإن الشاهد يشهد بما علمه بأي طريق علمه , وليس على الحاكم أن يسأل البينة عن مستند التحمل , ولا يجب على الشاهد أن يبين مستنده في الشهادة.
الحيلة الثانية: أن ينكر التمكين الموجب لثبوت المدعى به في ذمته , ويكون صادقا في هذا الإنكار ; فإن التمكين الماضي لا يوجب عليه ما ادعت به الزوجة إذا كان قد أداه إليها، والتمكين الذي يوجب ما ادعت به لا حقيقة له ; فهو صادق في إنكاره.