عقود الاذعان
بحث مقدمة إلى الدورة الرابعة عشرة لمجمع الفقه الإسلامي
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
1- المسألة محل البحث :
اقتضت طبيعة الحياة المعاصرة، وترتب على تعاظم دور المؤسسات (العامة والخاصة) في النشاط الاقتصادي، ان صارت الشخصيات الاعتبارية (وبخاصة الشركات التجارية) طرفاً في اكثر معاقدات الناس بين فرد وآخر قليلة غير ذات بال. ولقد أدت الدافعية لتعظيم الأرباح لدى تلك المؤسسات إلى سعي لا يعرف الكلل نحو مزيد من الكفاءة في أداء الأعمال والضغط على تكاليف الإنتاج والنفقات الإدارية بما في ذلك عمليات التعاقد في البيع بالشراء والإجارة وغير ذلك. ومن أهم نتائج ذلك ما يسمى "بالتنميط". إن منتجات تلك الشركات وعملياتها المختلفة عندما ينتج منها وحدات "نمطية" تعد بمئات الآلاف أو بالملايين، فإن تكلفة الوحدة الواحدة –سواء كانت سعلة أو خدمة- تصبح قليلة جداً.
ومن ذلك العقود التي تقدم تلك المؤسسات بناء عليها الخدمات والسلع، فقد أضحت عقوداً نمطية ليس على الطرف الآخر (الفرد) عند طلبه السلعة أو الخدمة إلا ان يؤشر على مربعات فيها أو يوقع في المكان المخصص لذلك.
مثل هذا الترتيب يختلف عما تصوره الفقهاء قديماً وحديثاً وبسطوا الكلام عنه في كتبهم من ناحية تكوين العقد وتحقق أركانه وتوافره على شرائط الصحة وبخاصة الرضا. إن تباين القوة التفاوضية بين طرفي هذه العقود والطريقة التي تنعقد بها من حيث النمطية وافتقارها إلى المجاذبة بين البائع والمشتري على شروط العقد جعلها مظنة الإكراه والشك في تعيب الرضا فيها الذي هو أساس صحة عقود المعاوضات ومعلوم أن تعيب الرضا سبب من أسباب فساد العقود. ومن هذا اكتسب الموضوع أهميته واحتاج إلى نظر وتأمل وبحث شامل.
2- معنى الإذعان :
قال في لسان العرب : الإذعان هو الإسراع مع الطاعة، والإذعان، الانقياد وأذعن الرجل انقاد وسلس. وقال في المعجم الوجيز أذعن انقاد وسلب وأذعن بالحق أقر به وقال في مختار الصحاح: أذعن خضع وذل.
3- تعريف عقود الإذعان :
عقود الإذعان هي صيغة من صيغ إبرام العقود تعتمد على استخدام أنموذج نمطي للعقد يعده أحد طرفي العلاقة التعاقدية بصورة منفردة ويعرضه على الطرف الآخر الذي ليس له إلا الموافقة عليه كما هو أو رفضه دون ان يكون له ان يغير في العبارات الواردة فيه أو الشروط والأحكام التي يتضمنها ولا أن يدخل في مجاذبة أو مساومة حقيقية على شروطه مع الطرف المعد لهذا العقد، ومن هذا وصفت هذه العقود "بالإذعان". وقيل ان أول من سماها كذلك القانوني الفرنسي سالي في مطلع القرن العشرين(1).
وأهم عنصر في هذه العقود، وهوا لذي جعلها مظنة الإذعان، هو طريقة عرض العقد من قبل معدة على الطرف الآخر إذ لسان حالة يقول : "أقبله كما هو أو اتركه كما هو" وهو ما يـقال عنه باللغة الإنجليزية Take it-or Leave it"”. ونحن نقول إن هذا النوع من العقود هو مظنة الإذعان، لأنها لا تكون من عقود الإذعان إلا إذا تضمنت شروطاً ما كان للطرف الآخر إن يقبل بها لو أعطي حرية المساومة ومن ثم يمكن القول بتعيب الرضا فيها. فإذا تُحقق من حصول الرضا فيها لم تعد من الإذعان بأي وصفٍ كانت.
4- الصيغ النمطية للعقود :
قال في لسان العرب: النمط الطريقة والضرب من الضروب، والنمط جماعة من الناس أمرهم واحد. وقال في المغرب: والنمط الطريقة والمذهب ومنه "تكلموا على نمط واحد"، وعندي قاع من هذا النمط أي من هذا النوع. وفي الحديث عن علي "خير هذه الأمة النمط الأوسط يلحق بهم التالي ويرجع إليهم الغالي(2) .
والصيغ النمطية هي صيغ معدة من قبل أحد طرفي العلاقة التعاقدية، تتضمن أحكام وشروط المعاقدة يعرضها على الطرف الآخر في حال الرغبة في الدخول في العقد دون إن يكون للأخير إلا الحد الأدنى من الاختيار.
وقد انتشرت العقود النمطية في المعاملات التي تجري بين الناس وبخاصة في مجالات الاستهلاك. وقد قدر بعض الباحثين عام 1971 إن الصيغ النمطية الجاهزة للعقود تغطي نحو 99% من المعاقدات التي تجري في البلاد الغربية(3). أما العقود التي تنعقد بالطريقة التي نتصورها نظرياً أو تلك التي تعدها كتب الفقه الصيغ الأساس للمعاقدات فإنها تكاد تكون قد اختفت تماماً من حياة الناس المعاصرة. فالعقود التي تقع بين الناس سواء وقع الإيجاب والقبول به طرفيها مكتوباً أو ملفوظاً أو كانت بالمعاطاه تجري على نمط معد مسبقاً ونظام مرتب إقتضته معطيات التطور الاقتصادي والتكنولوجي. ولم يعد يقع بين الناس اليوم تلك المساومة والمجاذبة على شروط العقد التي يفترض ان تكون دليلاً على تحقق الرضا.
5- فوائد تنميط العقود :
ما كان اتجاه الناس إلى "تنميط العقود" إلا لما ظهر فيها من فوائد تعود على طرفي العلاقة التعاقدية يمكن إن نعد منها:
اختصار الوقت وتقليل الإجراءات الإدارية إذ إن وجود صيغة جاهزة جرى الموافقة المسبقة عليها من الجهة المعينة من المؤسسة يؤدي إلى زيادة كفاءة العمل. وبخاصة ان المعاقدات التي تجري بين الناس في يوم الناس هذا لم تعد كما كانت قديماً. فالمبايعات في الزمان القديم كانت تتم بيسر وسهولة لبساطة محل المعاقدة. أما اليوم فإن السلع الالكترونية والميكانيكية والخدمات الطبية وعمليات الصيانة والتشغيل والمقاولات جميعاً تتضمن تفاصيل كثيرة يصعب ان تكون محل مساومة في كل مرة. أضف الى ذلك الحجم العظيم من الأعمال الذي ترتب على التزايد الكبير للسكان في كل بلد.
خفض تكاليف المعاقدات وبخاصة في الحالات ذات الطبيعة المعقدة مثل عقود بيع المعدات والعقارات والآلات الطبية والطائرات والى آخر ذلك التي تمتد سنوات لارتباطها بترتيبات صيانة وتجديد وتدريب وما الى ذلك. وهذا يسهل العمل ويغني عن المجاذبة والمساومة، كل مرة يقع فيها بيع.
ملائمة حاجات الميكنه واستخدام برامج الحاسوب من قبل بائعي السلع والخدمات في اتمام المعاملات في كافة القطاعات الصناعية والخدمية. ولا يتصور لذلك من سبيل إلا تنميط الاجراءات وصيغ العقود حتى يسهل على الآله التعامل معها.
يؤدي التنميط الى جعل العلاقة بين المؤسسة وعملائها ذات طبيعة موحدة، وعندئذٍ يمكن معاملة جميع العملاء أو الموظفين بصورة جماعية بدلاً من نشؤ علاقة مختلفة مع كل واحد منهم. ومن ثم تفادي التفرق بين الناس بحسب قوتهم التفاوضية.
إن التنميط يقلل الوقوع في الأخطاء، لان العناية بالنمط المعتمد تكون عظيمة وان تكرر العمل به يخلصه من بعض ما يلاحظ عليه من نقص أو خلل لمعاودة انظر فيه وتكرره. كما إن العقود النمطية لما تلقاه من عناية المشخصين تكون أوضح في الصياغة وأدق في العبارة ومن ثم أيسر في الفهم.
وكل ذلك يسهل عمل المحاكم وجهات فض المنازعات في كل الاختلاف لان هذه الأحكام المتشابهة واللغة الموحدة والمعايير المعتمدة تسد الذرائع الى النزاع كما انها تسهل فضه إن وقع.
6- أنواع العقود النمطية :
ويمكن التفريق بين العقود النمطية بطريقتين :
أولاً : من حيث العلم بشروط العقد وأحكامه وتنقسم الى صنفين :
تلك التي يطلع الطرف القابل بها على نصوص العقد المزمع توقيعه مع الطرف الآخر. ويتمكن من العلم بكافة الشروط الواردة فيه مع عدم السماح له بمناقشة محتوياته أو تغيير أي شرط في ذلك العقد، وانما له ان يوافق على جميع ما جاء فيه فينعقد بينهما العقد، أو يعترض على بعض أو كل ما جاء في العقد فلا ينعقد بينهما عقد.
وقد ظهر الآن نوع جديد من العقود النمطية لا يتاح للطرف القابل بها حتى الاطلاع على نصوص العقد أو على صيغته أو شروطه بل يجب عليه إن يوافق على العقد وما جاء فيه مقدماً وقبل اطلاعه على النص. وقد جاء هذا النوع من عقود الإذعان مع انتشار برامج الكمبيوتر، كما سيأتي تفصيله فيما بعد.
ثانياً : من حيث وجود المساومة وعدمه وتنقسم الى قسمين :
ومنها ما لا يكون للطرف القابل ان يناقش شيئاً البتة كخدمات الكهرباء ونحوها بينما ان اكثرها يقتصر المجاذبة بين الطرفين على الثمن أما باقي الشروط فلا نقاش فيها.
ما لا يكون فيه مجال للمساومة او المناقشة في أي شئ كعقود خدمات الكهرباء والماء ونحوها.
7- نمطية العقود ليست دليلاً على تعيب الرضا فيها :
ليس للتنميط في العقود تأثير على صحتها إذ انها مجرد صيغة مستحدثة لتسهيل المعاملات بين الناس يقول ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى : " القول الثالث: انها ]أي العقود[ تنعقد بكل ما دل على مقصودها من قول او فعل فكل ماعد الناس بيعاً و اجارة فهو بيع واجارة وان اختلف اصطلاح الناس في الالفاظ والافعال انعقد العقد عند كل قوم بما يفهمونه بينهم من الصيغ والافعال وليس لذلك حد مستمر لا في شرع ولا في لغة بل بتنوع اصطلاح الناس كما تتنوع لغاتهم.." ثم قال "وهذا هو الغالب على أصول مالك وظاهر مذهب أحمد".
وقد اتجه بعض الكتاب إلى القول بان جميع العقود النمطية هي من عقود الإذعان لافتقارها إلى المناقشة والمساومة بين طرفيها، ولان معدها وهو دائماً الطرف الأقوى ويرجح فيها مصالحه وهو غير مستعد لإحداث أي تغيير فيها وفي كثير من الأحيان لا تقبل حتى مناقشة محتوياتها بصورة تفصيلية.
لا يمكن إطلاق الحكم على صيغة العقد بأنها تفتقد الى الرضا لمجرد كونها نمطية، أو لأنها قد أعدت من قبل طرفي العلاقة أو أنها تحتوي شروطاً قد تبدو مرجحة لمصلحة طرف على الطرف الآخر. ذلك ان تحقق الرضا من طرفيها على ما فيها أمر محتمل.
قال ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى بعد الكلام عن الرضا : "... ولم يشترط لفضاً ولا فعلاً معيناً يدل على التراضي وعلى طيب النفس ونحن نعلم بالاضطرار من عادات الناس في أقوالهم وأفعالهم انهم يعلمون التراضي وطيب النفس..".
فإذا حصل ذلك خرجت عن وصف الإذعان إلى الصحة بافتراض انها في الأصل من العقود المباحة. إلا ان الخلل ربما دخل عليها من جهة أخرى وهي وجود مبرر لادعاء أحد طرفيها بعدم حصول الرضا وكونه مكرهاً على التعاقد.
8- مجالات عقود الإذعان :
أضحت اكثر معاقدات الناس في يوم الناس هذا هي من العقود النمطية التي هي مظنة الاذعان من عقود الإذعان، إذ ان هذه العقود يعدها طرف واحد ويضمنها الشروط المحققة لغاياته والمرجحة لمصلحته على مصالح الطرف الآخر. ويمكن القول بصفة عامة ان العلاقات التعاقدية بين الأفراد والشخصيات الاعتبارية تقوم جميعها على أساس صيغ جاهزة للعقود تعدها الشركات والمؤسسات والهيئات ولا تتضمن إمكانية المجاذبة على الشروط أو المراوضة على العقد. ولذلك كانت مجالات عقود الإذعان هي السلع والخدمات الاستهلاكية وكذلك عقود العمل والاستخدام التي يرتبط الفرد فيها مع مؤسسة أو جهة عامة. فالمعاقدات التي تجري بين فرد وشخصية اعتبارية سواء كانت خاصة أو حكومية هي في اغلب حالاتها محكومة بعقد جاهز (هو مظنة الإذعان). أما المعاقدات التي تجري بين الشركات والحكومات أو الشركات والحكومات مع بعضها البعض فهي لما تزل معتمدة على المساومة والمناقشة والتراضي على الشروط في العقد في غالب أحوالها. إذا خلصنا إلى القول بان عقود الإذعان هي تلك التي تتضمن شروطاً ما كان للقابل لها إن يرضى بها لو كان له الحرية التامة في المساومة بشأنها. يمكننا القول عندئذٍ إن مثل هذه العقود يكثر العمل بها في حالات معينة تتسم بما يلي :
كون القوة التفاوضية بين طرفي العلاقة التعاقدية متفاوتة تفاوتاً عظيماً، مثال ذلك الفرد العادي أمام شركة عظيمة لا يمثل ما يشتريه ذلك الفرد منها إلا قدراً لا يكاد يذكر ولا تأثير له عليها.
كون السلع أو الخدمات محل العلاقة ضرورية بصفة عامة كخدمات الكهرباء والماء والهاتف أو كونها ضرورية عند توقيع العقد مثل الخدمات الطبية في الحالات الطارئة التي لا يكون للطرف القابل قوة تفاوضية حقيقية لحاجته الماسة للعناية العلاجية العاجلة.
9- أمثلة على عقود يعدها الناس من عقود الإذعان :
أ- عقود الاشتراك في الخدمات العامة :
كعقد الاشتراك في خدمة الكهرباء والماء والهاتف ونحو ذلك إذ يعرض مقدم الخدمة سواء كان شركة عامة أو خاصة عقداً نمطياً لا يقبل من المستفيد من الخدمة إلا التوقيع عليه بدون مناقشة أو رفضه بدون مناقشة، وليس فيه مجال لاختلاف الثمن او شروط العقد.
ب- عقود المصارف وشركات التأمين :
ومنها عقود فتح الحسابات المصرفية بأنواعها وإصدار بطاقات الائتمان وشهادات التأمين بنوعيه التجاري والتعاوني.
وان كان في هذه إمكانيات المساومة على الرسوم ونوعية الخدمات بحسب القوة التفاوضية للعميل. ولكن يبقى ان العقد نمطي لا يتغير.
ج- عقود العمل :
من المعتاد لدى الشركات ان تعد عقداً نمطياً تطلب إلى جميع العاملين فيها التوقيع عليه ولا يكون لطالب العمل فرصة المناقشة لما يرد فيه من شروط وأحكام. وكذا الحال في العمل لدى الحكومة أو المؤسسات العامة إذ يحكم الوظيفة لوائح عامة تسري على جميع العاملين دون ان يكون لهم حق الاعتراض على أي منها.
د- العقود المتعلقة باستخدامات برامج الحاسوب :
لبرامج الحاسوب طبيعة خاصة ولدت صيغة جديدة للتعاقد بين طرفي العقد فيها. قام استخدام برامج الكمبيوتر قام ليس على أساس ما يسمى "حق الاستخدام لمدة محددة" فلم يجعلوه بيعاً للبرامج ولا إجارة له. ولعل الباعث على ذلك ان البيع (والإجارة) كلاهما يرتب حقوقاً للمشتري (والمستأجر) لا تتلاءم مع طبيعة البرامج الحاسوبية. ذلك ان استخدام هذه البرامج خلال المدة مشروط بعدم التصرف فيها بالتغيير، أو تطوير برامج جديدة معتمدة عليها، أو نسخها أو إتاحة استخدامها للغير وفي نفس الوقت البراءة من كل عيوبها وعدم التعهد بصلاحيتها لأي شئ أو بتحمل الأضرار التي قد تلحقها تلك البرامج بجهاز المستخدم. ونظراً إلى ان هذا المستخدم سيتمكن من استخدام البرنامج والتصرف فيه بالطريقة التي يشاء بمجرد فتحه للغلاف البلاستيكي المحيط بالقرص الذي يحتوي ذلك البرنامج، دون ان يكون لمالك البرنامج القدرة على منعه من الاستخدامات التي قد تلحق الضرر بالمالك اتجه القوم الى التمسك بالحماية القانونية المبالغ فيها لحقوقهم. لذلك فقد وجدت شركات الكمبيوتر ان تمكين المستخدم من فتح ذلك الغلاف قبل إلزامه بعلاقة تعاقدية تحمي حقوق الشركة يتضمن مخاطرة ضياع تلك الحقوق اذ يصعب عليها لو انها اضطرت إلى المرافعة لدى المحاكم ان تثبيت جرمه اذ لم يلتزم بعد بعلاقة تعاقدية. لذلك اتجهت إلى النص على الغلاف الخارجي ان مجرد فتح الغلاف يعني القبول والموافقة على نصوص العقد الموجود داخل الظرف (أو ضمن محتويات القرص). وعلى ذلك المستخدم إن يوافق على نصوص العقد قبل ان يطلع عليها ودليل موافقته فتحه لغلاف المظروف اذ يكتب عليه "اذ لم تكن موافقاً فامتنع عن فتحه". فجمعت هذه الصيغة للعقود مساوئ عقود الإذعان إضافة الى وقوع المعاقدة فيها على شروط مجهولة، تلزم القابل بها قبل ان يطلع عليها.
بحث مقدمة إلى الدورة الرابعة عشرة لمجمع الفقه الإسلامي
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
1- المسألة محل البحث :
اقتضت طبيعة الحياة المعاصرة، وترتب على تعاظم دور المؤسسات (العامة والخاصة) في النشاط الاقتصادي، ان صارت الشخصيات الاعتبارية (وبخاصة الشركات التجارية) طرفاً في اكثر معاقدات الناس بين فرد وآخر قليلة غير ذات بال. ولقد أدت الدافعية لتعظيم الأرباح لدى تلك المؤسسات إلى سعي لا يعرف الكلل نحو مزيد من الكفاءة في أداء الأعمال والضغط على تكاليف الإنتاج والنفقات الإدارية بما في ذلك عمليات التعاقد في البيع بالشراء والإجارة وغير ذلك. ومن أهم نتائج ذلك ما يسمى "بالتنميط". إن منتجات تلك الشركات وعملياتها المختلفة عندما ينتج منها وحدات "نمطية" تعد بمئات الآلاف أو بالملايين، فإن تكلفة الوحدة الواحدة –سواء كانت سعلة أو خدمة- تصبح قليلة جداً.
ومن ذلك العقود التي تقدم تلك المؤسسات بناء عليها الخدمات والسلع، فقد أضحت عقوداً نمطية ليس على الطرف الآخر (الفرد) عند طلبه السلعة أو الخدمة إلا ان يؤشر على مربعات فيها أو يوقع في المكان المخصص لذلك.
مثل هذا الترتيب يختلف عما تصوره الفقهاء قديماً وحديثاً وبسطوا الكلام عنه في كتبهم من ناحية تكوين العقد وتحقق أركانه وتوافره على شرائط الصحة وبخاصة الرضا. إن تباين القوة التفاوضية بين طرفي هذه العقود والطريقة التي تنعقد بها من حيث النمطية وافتقارها إلى المجاذبة بين البائع والمشتري على شروط العقد جعلها مظنة الإكراه والشك في تعيب الرضا فيها الذي هو أساس صحة عقود المعاوضات ومعلوم أن تعيب الرضا سبب من أسباب فساد العقود. ومن هذا اكتسب الموضوع أهميته واحتاج إلى نظر وتأمل وبحث شامل.
2- معنى الإذعان :
قال في لسان العرب : الإذعان هو الإسراع مع الطاعة، والإذعان، الانقياد وأذعن الرجل انقاد وسلس. وقال في المعجم الوجيز أذعن انقاد وسلب وأذعن بالحق أقر به وقال في مختار الصحاح: أذعن خضع وذل.
3- تعريف عقود الإذعان :
عقود الإذعان هي صيغة من صيغ إبرام العقود تعتمد على استخدام أنموذج نمطي للعقد يعده أحد طرفي العلاقة التعاقدية بصورة منفردة ويعرضه على الطرف الآخر الذي ليس له إلا الموافقة عليه كما هو أو رفضه دون ان يكون له ان يغير في العبارات الواردة فيه أو الشروط والأحكام التي يتضمنها ولا أن يدخل في مجاذبة أو مساومة حقيقية على شروطه مع الطرف المعد لهذا العقد، ومن هذا وصفت هذه العقود "بالإذعان". وقيل ان أول من سماها كذلك القانوني الفرنسي سالي في مطلع القرن العشرين(1).
وأهم عنصر في هذه العقود، وهوا لذي جعلها مظنة الإذعان، هو طريقة عرض العقد من قبل معدة على الطرف الآخر إذ لسان حالة يقول : "أقبله كما هو أو اتركه كما هو" وهو ما يـقال عنه باللغة الإنجليزية Take it-or Leave it"”. ونحن نقول إن هذا النوع من العقود هو مظنة الإذعان، لأنها لا تكون من عقود الإذعان إلا إذا تضمنت شروطاً ما كان للطرف الآخر إن يقبل بها لو أعطي حرية المساومة ومن ثم يمكن القول بتعيب الرضا فيها. فإذا تُحقق من حصول الرضا فيها لم تعد من الإذعان بأي وصفٍ كانت.
4- الصيغ النمطية للعقود :
قال في لسان العرب: النمط الطريقة والضرب من الضروب، والنمط جماعة من الناس أمرهم واحد. وقال في المغرب: والنمط الطريقة والمذهب ومنه "تكلموا على نمط واحد"، وعندي قاع من هذا النمط أي من هذا النوع. وفي الحديث عن علي "خير هذه الأمة النمط الأوسط يلحق بهم التالي ويرجع إليهم الغالي(2) .
والصيغ النمطية هي صيغ معدة من قبل أحد طرفي العلاقة التعاقدية، تتضمن أحكام وشروط المعاقدة يعرضها على الطرف الآخر في حال الرغبة في الدخول في العقد دون إن يكون للأخير إلا الحد الأدنى من الاختيار.
وقد انتشرت العقود النمطية في المعاملات التي تجري بين الناس وبخاصة في مجالات الاستهلاك. وقد قدر بعض الباحثين عام 1971 إن الصيغ النمطية الجاهزة للعقود تغطي نحو 99% من المعاقدات التي تجري في البلاد الغربية(3). أما العقود التي تنعقد بالطريقة التي نتصورها نظرياً أو تلك التي تعدها كتب الفقه الصيغ الأساس للمعاقدات فإنها تكاد تكون قد اختفت تماماً من حياة الناس المعاصرة. فالعقود التي تقع بين الناس سواء وقع الإيجاب والقبول به طرفيها مكتوباً أو ملفوظاً أو كانت بالمعاطاه تجري على نمط معد مسبقاً ونظام مرتب إقتضته معطيات التطور الاقتصادي والتكنولوجي. ولم يعد يقع بين الناس اليوم تلك المساومة والمجاذبة على شروط العقد التي يفترض ان تكون دليلاً على تحقق الرضا.
5- فوائد تنميط العقود :
ما كان اتجاه الناس إلى "تنميط العقود" إلا لما ظهر فيها من فوائد تعود على طرفي العلاقة التعاقدية يمكن إن نعد منها:
اختصار الوقت وتقليل الإجراءات الإدارية إذ إن وجود صيغة جاهزة جرى الموافقة المسبقة عليها من الجهة المعينة من المؤسسة يؤدي إلى زيادة كفاءة العمل. وبخاصة ان المعاقدات التي تجري بين الناس في يوم الناس هذا لم تعد كما كانت قديماً. فالمبايعات في الزمان القديم كانت تتم بيسر وسهولة لبساطة محل المعاقدة. أما اليوم فإن السلع الالكترونية والميكانيكية والخدمات الطبية وعمليات الصيانة والتشغيل والمقاولات جميعاً تتضمن تفاصيل كثيرة يصعب ان تكون محل مساومة في كل مرة. أضف الى ذلك الحجم العظيم من الأعمال الذي ترتب على التزايد الكبير للسكان في كل بلد.
خفض تكاليف المعاقدات وبخاصة في الحالات ذات الطبيعة المعقدة مثل عقود بيع المعدات والعقارات والآلات الطبية والطائرات والى آخر ذلك التي تمتد سنوات لارتباطها بترتيبات صيانة وتجديد وتدريب وما الى ذلك. وهذا يسهل العمل ويغني عن المجاذبة والمساومة، كل مرة يقع فيها بيع.
ملائمة حاجات الميكنه واستخدام برامج الحاسوب من قبل بائعي السلع والخدمات في اتمام المعاملات في كافة القطاعات الصناعية والخدمية. ولا يتصور لذلك من سبيل إلا تنميط الاجراءات وصيغ العقود حتى يسهل على الآله التعامل معها.
يؤدي التنميط الى جعل العلاقة بين المؤسسة وعملائها ذات طبيعة موحدة، وعندئذٍ يمكن معاملة جميع العملاء أو الموظفين بصورة جماعية بدلاً من نشؤ علاقة مختلفة مع كل واحد منهم. ومن ثم تفادي التفرق بين الناس بحسب قوتهم التفاوضية.
إن التنميط يقلل الوقوع في الأخطاء، لان العناية بالنمط المعتمد تكون عظيمة وان تكرر العمل به يخلصه من بعض ما يلاحظ عليه من نقص أو خلل لمعاودة انظر فيه وتكرره. كما إن العقود النمطية لما تلقاه من عناية المشخصين تكون أوضح في الصياغة وأدق في العبارة ومن ثم أيسر في الفهم.
وكل ذلك يسهل عمل المحاكم وجهات فض المنازعات في كل الاختلاف لان هذه الأحكام المتشابهة واللغة الموحدة والمعايير المعتمدة تسد الذرائع الى النزاع كما انها تسهل فضه إن وقع.
6- أنواع العقود النمطية :
ويمكن التفريق بين العقود النمطية بطريقتين :
أولاً : من حيث العلم بشروط العقد وأحكامه وتنقسم الى صنفين :
تلك التي يطلع الطرف القابل بها على نصوص العقد المزمع توقيعه مع الطرف الآخر. ويتمكن من العلم بكافة الشروط الواردة فيه مع عدم السماح له بمناقشة محتوياته أو تغيير أي شرط في ذلك العقد، وانما له ان يوافق على جميع ما جاء فيه فينعقد بينهما العقد، أو يعترض على بعض أو كل ما جاء في العقد فلا ينعقد بينهما عقد.
وقد ظهر الآن نوع جديد من العقود النمطية لا يتاح للطرف القابل بها حتى الاطلاع على نصوص العقد أو على صيغته أو شروطه بل يجب عليه إن يوافق على العقد وما جاء فيه مقدماً وقبل اطلاعه على النص. وقد جاء هذا النوع من عقود الإذعان مع انتشار برامج الكمبيوتر، كما سيأتي تفصيله فيما بعد.
ثانياً : من حيث وجود المساومة وعدمه وتنقسم الى قسمين :
ومنها ما لا يكون للطرف القابل ان يناقش شيئاً البتة كخدمات الكهرباء ونحوها بينما ان اكثرها يقتصر المجاذبة بين الطرفين على الثمن أما باقي الشروط فلا نقاش فيها.
ما لا يكون فيه مجال للمساومة او المناقشة في أي شئ كعقود خدمات الكهرباء والماء ونحوها.
7- نمطية العقود ليست دليلاً على تعيب الرضا فيها :
ليس للتنميط في العقود تأثير على صحتها إذ انها مجرد صيغة مستحدثة لتسهيل المعاملات بين الناس يقول ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى : " القول الثالث: انها ]أي العقود[ تنعقد بكل ما دل على مقصودها من قول او فعل فكل ماعد الناس بيعاً و اجارة فهو بيع واجارة وان اختلف اصطلاح الناس في الالفاظ والافعال انعقد العقد عند كل قوم بما يفهمونه بينهم من الصيغ والافعال وليس لذلك حد مستمر لا في شرع ولا في لغة بل بتنوع اصطلاح الناس كما تتنوع لغاتهم.." ثم قال "وهذا هو الغالب على أصول مالك وظاهر مذهب أحمد".
وقد اتجه بعض الكتاب إلى القول بان جميع العقود النمطية هي من عقود الإذعان لافتقارها إلى المناقشة والمساومة بين طرفيها، ولان معدها وهو دائماً الطرف الأقوى ويرجح فيها مصالحه وهو غير مستعد لإحداث أي تغيير فيها وفي كثير من الأحيان لا تقبل حتى مناقشة محتوياتها بصورة تفصيلية.
لا يمكن إطلاق الحكم على صيغة العقد بأنها تفتقد الى الرضا لمجرد كونها نمطية، أو لأنها قد أعدت من قبل طرفي العلاقة أو أنها تحتوي شروطاً قد تبدو مرجحة لمصلحة طرف على الطرف الآخر. ذلك ان تحقق الرضا من طرفيها على ما فيها أمر محتمل.
قال ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى بعد الكلام عن الرضا : "... ولم يشترط لفضاً ولا فعلاً معيناً يدل على التراضي وعلى طيب النفس ونحن نعلم بالاضطرار من عادات الناس في أقوالهم وأفعالهم انهم يعلمون التراضي وطيب النفس..".
فإذا حصل ذلك خرجت عن وصف الإذعان إلى الصحة بافتراض انها في الأصل من العقود المباحة. إلا ان الخلل ربما دخل عليها من جهة أخرى وهي وجود مبرر لادعاء أحد طرفيها بعدم حصول الرضا وكونه مكرهاً على التعاقد.
8- مجالات عقود الإذعان :
أضحت اكثر معاقدات الناس في يوم الناس هذا هي من العقود النمطية التي هي مظنة الاذعان من عقود الإذعان، إذ ان هذه العقود يعدها طرف واحد ويضمنها الشروط المحققة لغاياته والمرجحة لمصلحته على مصالح الطرف الآخر. ويمكن القول بصفة عامة ان العلاقات التعاقدية بين الأفراد والشخصيات الاعتبارية تقوم جميعها على أساس صيغ جاهزة للعقود تعدها الشركات والمؤسسات والهيئات ولا تتضمن إمكانية المجاذبة على الشروط أو المراوضة على العقد. ولذلك كانت مجالات عقود الإذعان هي السلع والخدمات الاستهلاكية وكذلك عقود العمل والاستخدام التي يرتبط الفرد فيها مع مؤسسة أو جهة عامة. فالمعاقدات التي تجري بين فرد وشخصية اعتبارية سواء كانت خاصة أو حكومية هي في اغلب حالاتها محكومة بعقد جاهز (هو مظنة الإذعان). أما المعاقدات التي تجري بين الشركات والحكومات أو الشركات والحكومات مع بعضها البعض فهي لما تزل معتمدة على المساومة والمناقشة والتراضي على الشروط في العقد في غالب أحوالها. إذا خلصنا إلى القول بان عقود الإذعان هي تلك التي تتضمن شروطاً ما كان للقابل لها إن يرضى بها لو كان له الحرية التامة في المساومة بشأنها. يمكننا القول عندئذٍ إن مثل هذه العقود يكثر العمل بها في حالات معينة تتسم بما يلي :
كون القوة التفاوضية بين طرفي العلاقة التعاقدية متفاوتة تفاوتاً عظيماً، مثال ذلك الفرد العادي أمام شركة عظيمة لا يمثل ما يشتريه ذلك الفرد منها إلا قدراً لا يكاد يذكر ولا تأثير له عليها.
كون السلع أو الخدمات محل العلاقة ضرورية بصفة عامة كخدمات الكهرباء والماء والهاتف أو كونها ضرورية عند توقيع العقد مثل الخدمات الطبية في الحالات الطارئة التي لا يكون للطرف القابل قوة تفاوضية حقيقية لحاجته الماسة للعناية العلاجية العاجلة.
9- أمثلة على عقود يعدها الناس من عقود الإذعان :
أ- عقود الاشتراك في الخدمات العامة :
كعقد الاشتراك في خدمة الكهرباء والماء والهاتف ونحو ذلك إذ يعرض مقدم الخدمة سواء كان شركة عامة أو خاصة عقداً نمطياً لا يقبل من المستفيد من الخدمة إلا التوقيع عليه بدون مناقشة أو رفضه بدون مناقشة، وليس فيه مجال لاختلاف الثمن او شروط العقد.
ب- عقود المصارف وشركات التأمين :
ومنها عقود فتح الحسابات المصرفية بأنواعها وإصدار بطاقات الائتمان وشهادات التأمين بنوعيه التجاري والتعاوني.
وان كان في هذه إمكانيات المساومة على الرسوم ونوعية الخدمات بحسب القوة التفاوضية للعميل. ولكن يبقى ان العقد نمطي لا يتغير.
ج- عقود العمل :
من المعتاد لدى الشركات ان تعد عقداً نمطياً تطلب إلى جميع العاملين فيها التوقيع عليه ولا يكون لطالب العمل فرصة المناقشة لما يرد فيه من شروط وأحكام. وكذا الحال في العمل لدى الحكومة أو المؤسسات العامة إذ يحكم الوظيفة لوائح عامة تسري على جميع العاملين دون ان يكون لهم حق الاعتراض على أي منها.
د- العقود المتعلقة باستخدامات برامج الحاسوب :
لبرامج الحاسوب طبيعة خاصة ولدت صيغة جديدة للتعاقد بين طرفي العقد فيها. قام استخدام برامج الكمبيوتر قام ليس على أساس ما يسمى "حق الاستخدام لمدة محددة" فلم يجعلوه بيعاً للبرامج ولا إجارة له. ولعل الباعث على ذلك ان البيع (والإجارة) كلاهما يرتب حقوقاً للمشتري (والمستأجر) لا تتلاءم مع طبيعة البرامج الحاسوبية. ذلك ان استخدام هذه البرامج خلال المدة مشروط بعدم التصرف فيها بالتغيير، أو تطوير برامج جديدة معتمدة عليها، أو نسخها أو إتاحة استخدامها للغير وفي نفس الوقت البراءة من كل عيوبها وعدم التعهد بصلاحيتها لأي شئ أو بتحمل الأضرار التي قد تلحقها تلك البرامج بجهاز المستخدم. ونظراً إلى ان هذا المستخدم سيتمكن من استخدام البرنامج والتصرف فيه بالطريقة التي يشاء بمجرد فتحه للغلاف البلاستيكي المحيط بالقرص الذي يحتوي ذلك البرنامج، دون ان يكون لمالك البرنامج القدرة على منعه من الاستخدامات التي قد تلحق الضرر بالمالك اتجه القوم الى التمسك بالحماية القانونية المبالغ فيها لحقوقهم. لذلك فقد وجدت شركات الكمبيوتر ان تمكين المستخدم من فتح ذلك الغلاف قبل إلزامه بعلاقة تعاقدية تحمي حقوق الشركة يتضمن مخاطرة ضياع تلك الحقوق اذ يصعب عليها لو انها اضطرت إلى المرافعة لدى المحاكم ان تثبيت جرمه اذ لم يلتزم بعد بعلاقة تعاقدية. لذلك اتجهت إلى النص على الغلاف الخارجي ان مجرد فتح الغلاف يعني القبول والموافقة على نصوص العقد الموجود داخل الظرف (أو ضمن محتويات القرص). وعلى ذلك المستخدم إن يوافق على نصوص العقد قبل ان يطلع عليها ودليل موافقته فتحه لغلاف المظروف اذ يكتب عليه "اذ لم تكن موافقاً فامتنع عن فتحه". فجمعت هذه الصيغة للعقود مساوئ عقود الإذعان إضافة الى وقوع المعاقدة فيها على شروط مجهولة، تلزم القابل بها قبل ان يطلع عليها.