محاضرة ألقاها الأستاذ أحمد بك مصطفى المحامي على المحامين تحت التمرين في يوم الجمعة 12 إبريل سنة 1920
كفى المحامي شرفًا تعريفه بأنه الكفيل بالدفاع لأبناء وطنه عن الشرف والنفس والحرية أو المال، ويقينًا أن مهنته تجعله أمام مواطنيه من أكبر رجال الشرف وأكثرهم حرية وهي لذاتها معدودة من أهم الطبقات الضرورية في الهيئة الاجتماعية ذات النظامات القويمة الدستورية.
مما يؤثر عن العلامة ماريون دي بانسيه من طيب القول فيما دونه عن المحامي كلمات هن أم الكتاب فقد نعته بأنه (حر من القيود التي تأسر غيره من الناس، فخور بأنه يكتنف من يحميهم، وأنه لا سيد ولا مسود، وهو الإنسان بكرامته الأصلية إذا كان في الوجود بين الناس من يمثل معنى الإنسان) وإليكم نص كلماته.
شرف يتعالى مع عزة النفس ويترفع عن الألقاب فأنعم به من امتياز وسمو مقام بلا مظاهر خارجية فالمعنى أرقى والمراتب أسمى (وأني لتعروني هزة عند هذا المقال ولا يتاح لي خلع تلك النعال - (الحكومية)).
ولهذه الصناعة تاريخ مجيد في كل الأزمان قد يضيق المقام عن سرد ماضيها ففي حاضرها ما يغني عن غابرها فحيثما كان القضاء كانت المحاماة وإني وجدت العدالة وجد المحامي وليس ذلك بغريب على من كان شعاره الأدب وحليته العلم وقد تسمو به مداركه لقصر جهاده على تنقيح العلوم كما وصل إليه أبناء هذه المهنة في تخصيص أنفسهم لخدمة العلم بسلامة الذوق ومتانة الرأي (Avocat consultant) مما قد يقضي به تقدم السن وكثرة التجارب وقد ينتهي بهم حب العلم والعمل به إلى التدريس فقط.
ولما كان موضوع محاضرتي في بيان مزايا المحامي فقصر القول على ما ينبغي لصناعة المرافعة من المعدات لمن تيسرت له أسبابها وكملت فيه صفاتها كافٍ حتى تكون أعماله جارية على النهج المطلوب وافية بالغرض المقصود.
وهذه المعدات وتلك الأسباب منها ما يكون فطريًا في بعض الناس يمنحه الله له بلا معاناة اكتساب ولا تجشم استعداد، ومنها ما يكون كسبيًا لا يحصل عليه الإنسان إلا بواسطة الاكتساب والأخذ في الأسباب.
في المعدات الفطرية
ينبغي لطالب هذا الفن كي ما يقدم عليه أن تكون المعدات المهيئة له حاضرة لديه وهي أمور ثلاثة:
الأمر الأول: في القوى الجسدية.
الأمر الثاني: في القوى العقلية.
الأمر الثالث: القوى الخلقية.
1 - في القوى الجسدية:
إذا لم يكن الإنسان جيد الصحة سليم البنية خليًا من الأمراض المؤلمة فلا تبلغ قوة الفكر حد كمالها ولا يكون لأعماله نظام مضبوط ولا تأثير حسن لأن قوة الجسد أساس كل القوى وقلما ينفع البناء إذا لم يقوِ الأساس فلا بد للمشتغل بصناعة المرافعة أن تكون أطرافه سليمة وأعضاؤه نشيطة حتى يسهل عليه التردد على دوائر القضاء المختلفة والانتقال إلى مراكزه المتعددة ويؤدي أعماله بسرعة وخفة حركة ولطف إشارة وأن يكون بصره قويًا (إلا من وهب الله الفطنة وحدة الذهن في المدركة....) لأنه لا يستغني عن مراجعة كتب الشرائع ونصوص القوانين ومؤلفات الشراح وقراءة أوراق القضايا - (دوسيهات الجنايات من قلم النسخ) والسهر في تجهيز المدافعة فيها وتحضير مذكراتها وتحرير ما لا بد من كتابته، وأن تكون أدوات نطقه كالحنجرة واللسان والأسنان والشفتين صحيحة وصوته معتدلاً حتى تخرج الحروف من مخارجها ويميز الكلمات بعضها من بعض ويؤدي العبارات صريحة بإلقاء محسن مؤثر في نفوس السامعين لأن المدار في المحاكم على الخطابة وحسن الإلقاء.
وربما يدرك المرافع بعذوبة خطابته وجودة تأديته ما لا يدركه غيره بكثرة البراهين وسرد القوانين إذا كان في حروفه اختلال وفي صوته بشاعة، وأن يكون صدوره ورئتاه في سلامة من العلل حتى لا يحول ضيق نفسه عن استرساله في الكلام ولا تعوقه العلل عن إظهار صوته بكيفيات مختلفة من جهر وتخافت وشدة ولين وتوسط حسبما تقتضيه المقامات وما لم يكن الصدر سليمًا فلا سبيل إلى حسن الإلقاء، وبالجملة متى كان الإنسان متمتعًا بقوة جسده لم يكن له اهتمام إلا فيما هو بصدده من إحكام العمل وضبطه بخلاف ما إذا كان متألمًا بالأمراض فإنه يكون دائمًا مفكرًا في نفسه مشغولاً بأمره وهيهات أن يحسن ما يعهد إليه من أعمال هذه الصناعة، والخلاصة أن العقل السليم في الجسم السليم وواجب الرياضة البدنية وتنظيم أوقات الأعمال العقلية موجب للرياضة النفسية.
2 - في القوى العقلية:
القوى العقلية هي التي يترتب عليها نجاح المرافعة الشفهية مباشرةً وإصابة الغرض إصالة وإنما القوى الجسدية مهاد لها ومتكأ تتكئ عليه كالجسم تقوم به الروح المدبرة لشؤون الحياة وهو بدونها لا يقصد، وأنواع القوى العقلية عديدة والمهم منها في هذا المقام ثلاث:
القوى الحافظة:
حاجة المرافع إلى القوة الحافظة شديدة إذ كثير ما يطلب منه سرد نصوص القوانين والأحكام الشرعية وقد يرجع أحيانًا إلى الأوامر العالية واللوائح والقرارات استشهادًا على مدعاه وتأييدًا لما يراه فيلزمه أن يكون حافظًا لتلك النصوص وتواريخ صدورها ليعلم الناسخ منها والمنسوخ لأن القول قد يجر بعضه بعضًا فربما انتقل الكلام إلى ما يحتاج بعض الأمر إلى الاستشهاد بنص لائحة مثلاً.
فإن لم يكن لديه من قوة الحافظة ما يجعل ذهنه حاضرًا وقع في الارتباك، لا سيما وعلمكم بمواعيد قانون المرافعات مما لا يخلو الحال من حفظه (صم) ويحتاج أيضًا أن يذكر أمام المحكمة على التعاقب مجمل ما في أوراق القضايا التي استعد للمرافعة فيها، فإذا لم يكن حفظه جيدًا وقع لا محالة في المكاره:
أولاً: أن يضطر في كل قضية إلى التقلب والنظر في مفردات الأوراق مرة أو مرارًا والبحث عما يحتاج إليه منها ليتلوه بحروفه على القضاء، ولا يخفى ما يستوجبه هذا الصنع من إضاعة الزمن وإيقاع السامعين في الملل.
ثانيًا: أنه يقع في الاضطراب إذا كانت هذه القضايا متشابهة وينقل نظره من قضية لأخرى فيختلط عليه الأمر لا سيما في قضايا الحساب.
ثالثًا: أنه يضطر إلى استعداد جديد كلما أخرت هذه القضايا لنسيانه مدة ما بين الأجلين ما كان أعده أولاً وكذلك يحتاج لأن يحفظ إثبات الخصم أو أوجه دفعه وجهًا فوجهًا فيمكنه بعد انتهاء كلامه أن يرد عليها على الترتيب ولو علق عليها بمذكرة يدون فيها الدفوع، وربما يلزم الرد على عدة خصوم كل منهم يأتي بجملة أو وجه فإذا لم يكن واعيًا كل ما أتوا به من الدلائل كانت مرافعته ناقصة وحجته ضعيفة ولا يكفي أن يأتي على وجه أو وجهين ويقول ليس في باقي الكلام ما يوجب الرد كما يقع من كثير لأن هذا يدل على ضيق الفطن ومثله لا يعد حجة عند العقلاء بل لا بد من التعرض إجمالاً أو تفصيلاً لكل وجه بالإفساد إن كان قابلاً وإلا فالسكوت يعد تسليمًا.
وعلى المرافع إذا آنس من نفسه النسيان أن يكتب أثناء مرافعة الخصم رؤوس المسائل وإشارات الدلائل ليتذكر منها باقيها فلا تغرب عنه إذا أراد المناقشة فيها.
القوة المذكرة:
أقوى سلاح يتقي به الإنسان عاديات المرافعة الفجائية هو القوة المفكرة لأن ما يرتبه بقوة فكره ويقيده بقوة حفظه إنما يظهر أثره إذا كانت المرافعة في موضوع الدعوى ومن الدور الأول منها.
أما إذا كانت دفوع فرعية خارجة عن الموضوع أو في الموضوع وبعد انتهاء الدور الأول من الكلام فلا يجديه ذلك الاستعداد نفعًا، والمدار إذا ذاك على ما يتذكره المرافع من حوادث وإجراءات ربما بعد العهد بها ومن دلائل نقلية أو عقلية ربما لم يكن في حسبانه الاستناد عليها في ذلك الوقت.
فإذا كان ضعيف الذاكرة عجز عن تسديد الدليل ولزمته الحجة وقد قيل ليس الخطيب بأول كلام يلقيه بل بما يليه.
القوة المفكرة:
إذا اتسع فكر المرافع وانفسح مجال تصرفه في المعقولات برع في الجدال وترتيب الأقوال ومهر في تنسيق الأدلة وانتزاعها من أقوال الخصوم وأوراق القضايا وعبارات القوانين.
وتفاضل أرباب هذه الصناعة ذاتيًا إنما هو بالقوى المفكرة، إذ بها يكون تطبيق الحوادث على النصوص القانونية، وليس كل من حفظ القانون أو فهمه يجيد ذلك ولنا في القضايا التي ترفع إلى محكمة الاستئناف أو إلى النقض والإبرام شواهد عديدة على خطأ التطبيق الأول أو نقص الإجراءات ومخالفة روح القانون وإهمال بعض الطلبات في قضايا الالتماس ما يدل على الخطأ الواقع من القضاة أو المرافعين (من أعضاء النيابة أو منا نحن المحامين) وبها يهتدي إلى طريق العدل والاتصاف إذا كان الحكم المطلوب ليس له نص في القانون كما يكثر ذلك في الدعاوى المدنية المحتاجة للصرف وبها يختار الأصلح والأوفق إذا أمكن سلوك طريقين أو طرق نتائجها متفاوتة كما إذا صلحت الحادثة للانطباق على مادتين مؤداهما مختلف فترويج إيقاع الحكم على مقتضى إحداهما يحتاج إلى استعمال قوة الفكر، وكما إذا أمكن أن تؤول المادة الواحدة تأويلين متغايرين فترجيح أحدهما على الآخر لا يكون إلا لمرجحات ينتزعها الفكر الصائب وبها يمكن التوفيق بين النصوص المتضاربة والمواد المتناقضة وحملها على ما يوافق المصلحة وبها ننتزع الحجج الإلزامية والإقناعات الجدلية من أقوال الخصوم توصلاً إلى إفحامهم ونقض كلامهم وأكثر ما تمس الحاجة إلى ذلك إذا ألجأ الإنسان للمرافعة قبل أن يستعد لها أو بوغت في أثناء المرافعة بما لم يحط به خبرًا أو إذا لم يكن له في الواقع برهان حقيقي لينتج مطلوبه، والمرافع النبيه لا يعدم طريقة للمناقشة في أدلة الأخصام وإلزامهم من كلامهم ولو بعض الإلزام.
كفى المحامي شرفًا تعريفه بأنه الكفيل بالدفاع لأبناء وطنه عن الشرف والنفس والحرية أو المال، ويقينًا أن مهنته تجعله أمام مواطنيه من أكبر رجال الشرف وأكثرهم حرية وهي لذاتها معدودة من أهم الطبقات الضرورية في الهيئة الاجتماعية ذات النظامات القويمة الدستورية.
مما يؤثر عن العلامة ماريون دي بانسيه من طيب القول فيما دونه عن المحامي كلمات هن أم الكتاب فقد نعته بأنه (حر من القيود التي تأسر غيره من الناس، فخور بأنه يكتنف من يحميهم، وأنه لا سيد ولا مسود، وهو الإنسان بكرامته الأصلية إذا كان في الوجود بين الناس من يمثل معنى الإنسان) وإليكم نص كلماته.
شرف يتعالى مع عزة النفس ويترفع عن الألقاب فأنعم به من امتياز وسمو مقام بلا مظاهر خارجية فالمعنى أرقى والمراتب أسمى (وأني لتعروني هزة عند هذا المقال ولا يتاح لي خلع تلك النعال - (الحكومية)).
ولهذه الصناعة تاريخ مجيد في كل الأزمان قد يضيق المقام عن سرد ماضيها ففي حاضرها ما يغني عن غابرها فحيثما كان القضاء كانت المحاماة وإني وجدت العدالة وجد المحامي وليس ذلك بغريب على من كان شعاره الأدب وحليته العلم وقد تسمو به مداركه لقصر جهاده على تنقيح العلوم كما وصل إليه أبناء هذه المهنة في تخصيص أنفسهم لخدمة العلم بسلامة الذوق ومتانة الرأي (Avocat consultant) مما قد يقضي به تقدم السن وكثرة التجارب وقد ينتهي بهم حب العلم والعمل به إلى التدريس فقط.
ولما كان موضوع محاضرتي في بيان مزايا المحامي فقصر القول على ما ينبغي لصناعة المرافعة من المعدات لمن تيسرت له أسبابها وكملت فيه صفاتها كافٍ حتى تكون أعماله جارية على النهج المطلوب وافية بالغرض المقصود.
وهذه المعدات وتلك الأسباب منها ما يكون فطريًا في بعض الناس يمنحه الله له بلا معاناة اكتساب ولا تجشم استعداد، ومنها ما يكون كسبيًا لا يحصل عليه الإنسان إلا بواسطة الاكتساب والأخذ في الأسباب.
في المعدات الفطرية
ينبغي لطالب هذا الفن كي ما يقدم عليه أن تكون المعدات المهيئة له حاضرة لديه وهي أمور ثلاثة:
الأمر الأول: في القوى الجسدية.
الأمر الثاني: في القوى العقلية.
الأمر الثالث: القوى الخلقية.
1 - في القوى الجسدية:
إذا لم يكن الإنسان جيد الصحة سليم البنية خليًا من الأمراض المؤلمة فلا تبلغ قوة الفكر حد كمالها ولا يكون لأعماله نظام مضبوط ولا تأثير حسن لأن قوة الجسد أساس كل القوى وقلما ينفع البناء إذا لم يقوِ الأساس فلا بد للمشتغل بصناعة المرافعة أن تكون أطرافه سليمة وأعضاؤه نشيطة حتى يسهل عليه التردد على دوائر القضاء المختلفة والانتقال إلى مراكزه المتعددة ويؤدي أعماله بسرعة وخفة حركة ولطف إشارة وأن يكون بصره قويًا (إلا من وهب الله الفطنة وحدة الذهن في المدركة....) لأنه لا يستغني عن مراجعة كتب الشرائع ونصوص القوانين ومؤلفات الشراح وقراءة أوراق القضايا - (دوسيهات الجنايات من قلم النسخ) والسهر في تجهيز المدافعة فيها وتحضير مذكراتها وتحرير ما لا بد من كتابته، وأن تكون أدوات نطقه كالحنجرة واللسان والأسنان والشفتين صحيحة وصوته معتدلاً حتى تخرج الحروف من مخارجها ويميز الكلمات بعضها من بعض ويؤدي العبارات صريحة بإلقاء محسن مؤثر في نفوس السامعين لأن المدار في المحاكم على الخطابة وحسن الإلقاء.
وربما يدرك المرافع بعذوبة خطابته وجودة تأديته ما لا يدركه غيره بكثرة البراهين وسرد القوانين إذا كان في حروفه اختلال وفي صوته بشاعة، وأن يكون صدوره ورئتاه في سلامة من العلل حتى لا يحول ضيق نفسه عن استرساله في الكلام ولا تعوقه العلل عن إظهار صوته بكيفيات مختلفة من جهر وتخافت وشدة ولين وتوسط حسبما تقتضيه المقامات وما لم يكن الصدر سليمًا فلا سبيل إلى حسن الإلقاء، وبالجملة متى كان الإنسان متمتعًا بقوة جسده لم يكن له اهتمام إلا فيما هو بصدده من إحكام العمل وضبطه بخلاف ما إذا كان متألمًا بالأمراض فإنه يكون دائمًا مفكرًا في نفسه مشغولاً بأمره وهيهات أن يحسن ما يعهد إليه من أعمال هذه الصناعة، والخلاصة أن العقل السليم في الجسم السليم وواجب الرياضة البدنية وتنظيم أوقات الأعمال العقلية موجب للرياضة النفسية.
2 - في القوى العقلية:
القوى العقلية هي التي يترتب عليها نجاح المرافعة الشفهية مباشرةً وإصابة الغرض إصالة وإنما القوى الجسدية مهاد لها ومتكأ تتكئ عليه كالجسم تقوم به الروح المدبرة لشؤون الحياة وهو بدونها لا يقصد، وأنواع القوى العقلية عديدة والمهم منها في هذا المقام ثلاث:
القوى الحافظة:
حاجة المرافع إلى القوة الحافظة شديدة إذ كثير ما يطلب منه سرد نصوص القوانين والأحكام الشرعية وقد يرجع أحيانًا إلى الأوامر العالية واللوائح والقرارات استشهادًا على مدعاه وتأييدًا لما يراه فيلزمه أن يكون حافظًا لتلك النصوص وتواريخ صدورها ليعلم الناسخ منها والمنسوخ لأن القول قد يجر بعضه بعضًا فربما انتقل الكلام إلى ما يحتاج بعض الأمر إلى الاستشهاد بنص لائحة مثلاً.
فإن لم يكن لديه من قوة الحافظة ما يجعل ذهنه حاضرًا وقع في الارتباك، لا سيما وعلمكم بمواعيد قانون المرافعات مما لا يخلو الحال من حفظه (صم) ويحتاج أيضًا أن يذكر أمام المحكمة على التعاقب مجمل ما في أوراق القضايا التي استعد للمرافعة فيها، فإذا لم يكن حفظه جيدًا وقع لا محالة في المكاره:
أولاً: أن يضطر في كل قضية إلى التقلب والنظر في مفردات الأوراق مرة أو مرارًا والبحث عما يحتاج إليه منها ليتلوه بحروفه على القضاء، ولا يخفى ما يستوجبه هذا الصنع من إضاعة الزمن وإيقاع السامعين في الملل.
ثانيًا: أنه يقع في الاضطراب إذا كانت هذه القضايا متشابهة وينقل نظره من قضية لأخرى فيختلط عليه الأمر لا سيما في قضايا الحساب.
ثالثًا: أنه يضطر إلى استعداد جديد كلما أخرت هذه القضايا لنسيانه مدة ما بين الأجلين ما كان أعده أولاً وكذلك يحتاج لأن يحفظ إثبات الخصم أو أوجه دفعه وجهًا فوجهًا فيمكنه بعد انتهاء كلامه أن يرد عليها على الترتيب ولو علق عليها بمذكرة يدون فيها الدفوع، وربما يلزم الرد على عدة خصوم كل منهم يأتي بجملة أو وجه فإذا لم يكن واعيًا كل ما أتوا به من الدلائل كانت مرافعته ناقصة وحجته ضعيفة ولا يكفي أن يأتي على وجه أو وجهين ويقول ليس في باقي الكلام ما يوجب الرد كما يقع من كثير لأن هذا يدل على ضيق الفطن ومثله لا يعد حجة عند العقلاء بل لا بد من التعرض إجمالاً أو تفصيلاً لكل وجه بالإفساد إن كان قابلاً وإلا فالسكوت يعد تسليمًا.
وعلى المرافع إذا آنس من نفسه النسيان أن يكتب أثناء مرافعة الخصم رؤوس المسائل وإشارات الدلائل ليتذكر منها باقيها فلا تغرب عنه إذا أراد المناقشة فيها.
القوة المذكرة:
أقوى سلاح يتقي به الإنسان عاديات المرافعة الفجائية هو القوة المفكرة لأن ما يرتبه بقوة فكره ويقيده بقوة حفظه إنما يظهر أثره إذا كانت المرافعة في موضوع الدعوى ومن الدور الأول منها.
أما إذا كانت دفوع فرعية خارجة عن الموضوع أو في الموضوع وبعد انتهاء الدور الأول من الكلام فلا يجديه ذلك الاستعداد نفعًا، والمدار إذا ذاك على ما يتذكره المرافع من حوادث وإجراءات ربما بعد العهد بها ومن دلائل نقلية أو عقلية ربما لم يكن في حسبانه الاستناد عليها في ذلك الوقت.
فإذا كان ضعيف الذاكرة عجز عن تسديد الدليل ولزمته الحجة وقد قيل ليس الخطيب بأول كلام يلقيه بل بما يليه.
القوة المفكرة:
إذا اتسع فكر المرافع وانفسح مجال تصرفه في المعقولات برع في الجدال وترتيب الأقوال ومهر في تنسيق الأدلة وانتزاعها من أقوال الخصوم وأوراق القضايا وعبارات القوانين.
وتفاضل أرباب هذه الصناعة ذاتيًا إنما هو بالقوى المفكرة، إذ بها يكون تطبيق الحوادث على النصوص القانونية، وليس كل من حفظ القانون أو فهمه يجيد ذلك ولنا في القضايا التي ترفع إلى محكمة الاستئناف أو إلى النقض والإبرام شواهد عديدة على خطأ التطبيق الأول أو نقص الإجراءات ومخالفة روح القانون وإهمال بعض الطلبات في قضايا الالتماس ما يدل على الخطأ الواقع من القضاة أو المرافعين (من أعضاء النيابة أو منا نحن المحامين) وبها يهتدي إلى طريق العدل والاتصاف إذا كان الحكم المطلوب ليس له نص في القانون كما يكثر ذلك في الدعاوى المدنية المحتاجة للصرف وبها يختار الأصلح والأوفق إذا أمكن سلوك طريقين أو طرق نتائجها متفاوتة كما إذا صلحت الحادثة للانطباق على مادتين مؤداهما مختلف فترويج إيقاع الحكم على مقتضى إحداهما يحتاج إلى استعمال قوة الفكر، وكما إذا أمكن أن تؤول المادة الواحدة تأويلين متغايرين فترجيح أحدهما على الآخر لا يكون إلا لمرجحات ينتزعها الفكر الصائب وبها يمكن التوفيق بين النصوص المتضاربة والمواد المتناقضة وحملها على ما يوافق المصلحة وبها ننتزع الحجج الإلزامية والإقناعات الجدلية من أقوال الخصوم توصلاً إلى إفحامهم ونقض كلامهم وأكثر ما تمس الحاجة إلى ذلك إذا ألجأ الإنسان للمرافعة قبل أن يستعد لها أو بوغت في أثناء المرافعة بما لم يحط به خبرًا أو إذا لم يكن له في الواقع برهان حقيقي لينتج مطلوبه، والمرافع النبيه لا يعدم طريقة للمناقشة في أدلة الأخصام وإلزامهم من كلامهم ولو بعض الإلزام.