لا تلعنوا السماءْ إذا تخلّت عنكمُ..
لا تلعنوا الظروفْ
فالله يؤتي النصرَ من يشاءْ
وليس حدّاداً لديكم.. يصنعُ السيوفْ
السيف والقلم والمقاومة ، والتاريخ يلتقط أنفاسه ليدون عدد القتلى والمجروحين ، وما بقى من غزة ، ماذا بقى من بحرها ورملها ، وصدفها ؟ ماذا بقى من هذه الفراشة الخرافية الألوان ؟ ماذا بقى من صبوات درويش ونمنمات أدونيس ، وصلوات فيروز ؟ ماذا بقى من البجعة البيضاء سوى ريشها الفضى المتناثر، وسوى دموعها الممتزجة بمياة البحر؟
آه .. ما أصعب موت البجع !!
السيف والقلم إذن، وصراع على السبق فى المقاومة ، ترى هل يبقى القلم قادرًا على الصمود أمام جرافات ومدافع بلا قلب ؟ هل تقف الكلمات فى حلق عدو غاشم، فترده عن غيه مكسوراً ، هل تنجح القصيدة فى توحيد أمة ، لم تجتمع حتى فى " بيت " واحد من أبياتها ؟ هل يمكن للقلم أن يفعل ، أم ينتحى جانبًا ، تاركا للسيف كلمته ؟ رحلة دامية نغوص من خلالها فى قلب وعقل شعرائنا ، علها ترطب بعضًا من جراحنا ، وعلها أيضا تدمينــــــــا .
الشاعره فاطمه ناعوت تبدأ متساءلة :الشعر؟ وهل أبلغُ شعرا من عشرات المظاهرات التي انطلقتْ، ومئات الليترات من الدماء التي سالتْ من السواعد حبًّا وكرامة لتتدفق في الأجساد الجرحى، وهل أبلغُ قولا من مئات الأعلام الصهيونية التي ديست بالأقدام الغاضبة حتى تفتّتت أوصالُ أنجمِها السداسية؟ وهل أقوى قصيدا من ملايين الحناجر التي زلزلت الأرضَ هتافا من المحيط إلى الخليج، بل وفي أوروبا والشرق الأقصى وأمريكا. إن لم يكن كلُّ هذا شعرا، فلا كان الشعرُ! عن أي شعر نسأل، وعلى أيّ شعر نراهن؟ ليس كلُّ الشعرِ ما يكتبه الشعراء. الشعرُ سلوكٌ ورؤية وطريقةُ نظر إلى العالم. وقد كُتب الشعرُ بالفعل على أيدي هؤلاء.
نحن الشعراء قد نكتبُ الشعرَ التعبويّ التحريضي من أجل أن يحدث كلُّ هذا، أو بعضُه، أما وقد حدث من تلقاء ذاته، فذاك يعني أنه هو الشعر ذاتُه ولا شيء سواه. أما المُرهص لتلك القصيدة الكونية الضخمة التي كتبها المتظاهرون فهو مشهدُ طفلٍ واحد تقتله قذيفةٌ، وهو بعدُ لم يعِ معنى كلمة "وطن" ومعنى كلمة "حرب" ومعنى كلمة "وحشية". فتأملوا معي كم من المرهصات كتبتْ تلك القصيدةَ الكبرى التي لن يمحوها الزمانُ ولن ينساها التاريخ!
ثم تستطرد فاطمة ناعوت : للمرة الألف تثبت لنا إسرائيل كم هي كيانٌ مُنفّر مقزز حين حصدت آلتها العسكرية أرواح مدنيين من أطفالٍ وعجائزَ ونساء. وللمرة الألف تجعلنا نفهم لماذا مقتتها أوروبا فألقت بها في أرضنا كمن يتخلص من كارثة وجودية لا حلّ لها سوى الإبادة. أمقتُ مثل هذا الكلام اللاإنساني، لكن إسرائيل قادرةٌ على وضع أفظع الكلمات على ألسن الأنبياء حتى، بأفعالها غير المعقولة التي لم يسجل التاريخُ مثلها من قبل. قالت ليفني في مصر: enough is enough بعدما فاض بها الكيلُ من حماس. فما بالها تشوّه الأطفال وتقتّلهم وتدكّ البيوتَ فوق رؤوس المدنيين العُزّل؟!
أما الشاعر مصطفى الجارحى فقال :المثقفون ، وخاصة الشعراء منهم ، كان لهم السبق فى التعبير عن مثل هذه القضايا الوطنية ، ربما قبل أن يتحرك الساسة سواء كانوا حكوميين أو حزبيين أو حتى مهتمين بالشأن العام .
وظلت قضية تحرير فلسطين منذ الاحتلال تحتل المشهد الشعرى بوصفها الشغل الشاغل للشعراء، فضلاً عما حدث بالعراق ولبنان.. ونستطيع القول باختصار إنه ما من شاعر إلا وكتب فى مثل هذه القضية أكثر من قصيدة، وأكثر من أغنية بغرض التعبئة أو التحريض، أو لمجرد التعاطف ولفت الأنظارلما يجرى فى الأرض المحتلة على يدى الصهاينة بدعم من الأمريكان.
ويستكمل الجارحى قائلاً : والشعر ـ فى رأيى ـ هو الالهام الأول لحركات التمرد والتحرر والجهاد والمقاومة ضد الاستعمار ، وفى بعض الأحيان وجدنا القصيدة تسير كتفًا بكتف مع البندقية، وإلا ما عرفنا توفيق زياد وسميح القاسم، كشاعرين كبيرين، وما استمعنا الى القصائد التى تغنت بها فيروز ، تلك التى ألهبت حماس الجميع.. والشعر هو الاشارة الوحيدة علىالبقاء وهو البشارة بالنصرعلى الرغم من الضحايا والخراب وممارسات القمع والقهر والارهاب..فالشعر وحده ينبىء بأن الشعوب لا تموت وأنها أشبه بطائر الفينيق الذى ينتفض مرة أخرى من الرماد .
ويقول الشاعر فـارس خضـر مع خزلان السياسة وخنوعها ، كيف يمكن لأى فرد أن يؤدى دوره؟ هل يمكن للفنان، مهما كان مجال إبداعه، أن يقف بأعماله فى مواجهة القتل ؟ وهل يمكن أن يبدع بشكل مباشر لحظة وقوع الحدث؟ كانت هناك أشعار للمقاومة، فهل تعتقد أنه بعد درويش يمكن أن يعلو أى صوت ؟
ماذا يفعل الفن أمام المجازر؟ قد يخلد التاريخ ما نفعل وما نكتب ، ولكن هل نقول لأطفالنا أننا لم نكن متواطئين؟ مع أننا لحظة وقوع الحدث كنا بالفعل متواطئين ، فهل يمكن للفن أن يبرىء ساحتنا، أو يمنح لنا صك غفران ؟ الفن لا يمنح صكوك الغفران إلا للمجرمين الفعليين ، ونحن العرب خاضعون لسلطات منهارة وحكومات شائخة مترهلة ، أكلها الصدأ وما زالت تسير بقوة الدفع ، وننتظر صكوك الغفران .
أما الشاعر إسلام شمس الدين فيقول ماذا يفعل الشعر مع قصف مدرسة للأطفال فى غزة ؟ وهل نحن محتاجون أن نسمع الآن قصائد عن فلسطين وعن غزة ؟ الشعراء حاليًا يتاجرون بالقضية ، وقصيدة مثل " الأرض " لمحمود درويش كان لها قوتها وتأثيرها لأن درويش خرج بصوته الى المحافل الدولية ، حاملاً قضية وطنه، فهل تعتقد أن اشعارنا الآن قد تؤثر وأنت تشاهد كل لحظة طفل يموت؟
الشعر العربى فى أحط عصوره لأننا نكتب لأنفسنا ، وتخيل كم من شاعر يلهبك بقصائده الحماسية، تأثراً بما يحدث، ثم يخرج ليرتاد المواخير والبارات يشرب ويسكر، هل يمكن أن تسمع له حتى كمتلق عادى؟ الشعر لا يقف أمام طلقات الرصاص والشعارات الجوفاء التى نعتمد عليها ، وأننا سنحرق اسرائيل وندمر ونقصف و.... هى شعارات جوفاء لن تقدم أو تؤخر، ما أخذ بالقوة ، لا يسترد إلا بالقوة وفى وقت المعركة لا صوت يعلو فوق صوت البندقية .
الشاعر طاهـر البرنبـالـى : الواقع فى كثير من الأحيان يكون أبلغ من الشعر ، وتشعر أنت كشاعر أنك قزم عاجز أمام هول الأحداث، ولكن لابد للشاعر أن يتفاعل قدر المستطاع مع هذه الأحداث معبراً عنها، ومعلقاً عليها ، ومشاركاً فيها، فقد تعطى القصيدة روحاً لقارئها، تساعده على مواصلة الدفاع عن نفسه وعن وطنه، الكلمة بكل أنواعها،المكتوبة والمغناه ، والمنفذة درامياً ، كلها تشارك وتتفاعل مع الأحداث الكبيرة .
أما شاعر العامية حسيـن جعفــر فيقول : السلاح هو الشعر الوحيد الذى يمكن أن يقف مع غزة هذه الأيام ، الشعر الحقيقى هو الذى يقف مع الناس والذى يخرج من أفواههم ، الشعر الحقيقى خرج على لسان امرأة بسيطة من السودان ظهرت على شاشات الفضائيات تصرخ فى وجه الحكام العرب " أعطونا السلاح وأفتحوا المعابر وخليكم أنتم فى قصوركم " هذا هو الشعر، أما ما يحدث الآن فهو تناحر بين الحكومة والمعارضة، بين فئات المثقفين ومدعى الثقافة ، ولتذهب غزة إلى الجحيم ، فلا وقت لديهم لمعرفة ما يحدث هناك ...
جوزها مات ولا سافر ولا عاجز
بس فايت ليها بيت وسط الخلا
وتلات عيال وسط الغـــلا
والريح بتدبح فى الشجــر
والبرد والضلمة عساكر الخطر
والعيال متلبشين .. ماسكين فى ديلها
والرضيع مابين ايديها ، نفسه بس فى رضعة منها
والديب بيعوى والست تصرخ
والخلا يرد الصريخ بصريخ
وسط الهواجس والشكوك
الفراخ من غير ديوك
الشاعرة والفنانة التشكيلية ايمــان يوســف تقول : سيد درويش عندما بدأ ، اشتهر لأنه لعب دور فى الحياة وليس لأنه غنى فقط ، مس شغاف القلوب بألحانة وادائه، نحن الآن نشجب وندين وقلوبنا مكسورة، لأن ما يحدث فى غزة هو نتاج سمعة أمة عربية لم يعد لها مكانة فى الدنيا ، وما سيعيدنا مرة أخرى أن نعمل وان نكتب ونقرأ ونغنى ، من خلال الثقافة يمكن أن تغير تفكير شعوب بأثرها ، يمكن أن نقاوم بالشعر وبالغناء ، الدنيا ليست بهذا السواد الفظيع ، واذا استطعنا ان نستلهم، مرة أخرى القيم والأخلاق والمبادىء من أشعار صلاح جاهين وبيرم وفؤاد حداد ونجم ، ربما نصل إلى أهداف ونحقق أحلام لم نكن نستطيع تحقيقها ولو بالقوة.
ترى هل يمكن أن نجهض حلم ايمان يوسف إذا ذكرناها بما قاله نزارقبانى :
ما الذى نكتب يا سيدتى ؟
نحن محكومون بالموت ، إذا نحن صدقنا ..
ثم محكومون بالموت ، إذا نحن كذبنا
ما الذى نكتب يا سيدتى ؟
نحن لا نملك أن نحتج ..
أو نصرخ ..
أو نبصق ..
أو نكشف عن خيبتنا ..
أو نتمنى ..
أخرستنا هذه الحرب التى من غير معنى ...