المحاماة بعد انشاء المحاكم الاهلية فى مصر رسالة بقلم حضرة صاحب السعادة توفيق دوس باشا
إلى سيادة المستشار / أحمد الـزنــد ... رئيس نادى القضاه وإلى شباب محامين مصر ..
ليعرفوا تاريخ المحاماه فى مصر لم تكن المحاماة قبل انشاء المحاكم الاهلية باحسن حالا من القضاء بل لم تكن – كما هى معروفة عندنا اليوم – معهودة فى تلك الازمان لان وجودها متوقف على وجود المحاكم المنظمة وكل ما فى الامر ان مظهرها كان محصورا فى تحرير عرائض الشكاوى بواسطة طائفة العرضحالجية واذا كان قوما منهم قد احترفوا حرفة التوكيل فقد بلغ من شرورهم ان كان يطلق عليهم لقب المزورين .
اما بعد انشاء المحاكم الاهلية فان لائحة ترتيبها التى لم تصدر بالفعل فى صيغتها النهائية الا فى 14يونيو سنة 1883 وكان من اسباب تاخر صدورها قيام الثورة العرابية قبيل ذلك التاريخ فقد نص فى المادة 24 منها على انه :-
( يجوز للاخصام ان يحضروا بانفسهم الى المحاكم او بواسطة وكلاء عنهم ) ونص فى المادة 25 على انه :- ( يجوز لكل محكمة الا تقبل فى التوكيل عن الاخصام من ترى فيهم عدم اللياقة والاستعداد للقيام بمهام التوكيل بحسب اللائحة )
ولكن لم تقل لائحة الترتيب ما هى حدود اللياقة ولا ما هو الاستعداد اللازم للقيام بمهمة التوكيل بل اجملت وتركت الراى للمحاكم وكذلك لم يرد فى قانون المرافعات الذى صدر فى سنة 1883 عقب اللائحة سوى نصوص مجيزة لحضور الاخصام امام المحاكم بانفسهم او بوكلاء عنهم يكون توكيلهم ثابتا ولا تعرض فيها للصفات الواجبة فى هؤلاء الى ان كانت سنة 1884 حيث صدرت لائحة الاجراءات الداخلية وفيها المواد 50 ، 51 ، 52 ، 53 وهى تتحدث عن وجوب تقديم توكيل مصدق عليه بوجه رسمى امام كاتب المحكمة وان يرد الوكيل لموكله متى انتهت وكالته كافة الاوراق والمستندات التى تكون سندا له بمصاريف على موكله .
وفى مارس سنة 1884 اصدرت محكمة استئناف مصر اعلانا نشر بالوقائع المصرية جاء فيه :-
( حيث ان احكام القوانين الجديدة لا تساعد على قبول كل من اراد التوكيل عن ارباب الدعاوى فى القضايا الجارى نظرها امام محكمة الاستئناف الا من يكون اسمه مندرجا فى بالجدول المعد لذلك بالمحكمة فينبغى على كل من اراد من الافوكاتية والوكلاء معرفته بهذه الصفة لدى المحكمة ان يقدم طلبه اليها للنظر فيه وقيده بالجدول الموجود فيها لهذا الغرض )
فأنهالت طلبات القيد على محكمة الاستئناف ممن هب ودب من الافوكاتية المقررين لدى المحاكم المختلطة ومعظمهم لم يكن يدرى من اللغة العربية شيئا ومن وكلاء الدعاوى الذين كانوا يشتغلون بالتوكيل لدى المجالس المحلية ومعظمهم ممن عرفت حالهم من الجهل ورقة الخلق وقد قيدتهم محكمة الاستئناف بالجدول بغير تدقيق ولا حسن انتقاء واطلق عليهم لقب " وكلاء الدعوى " .
وفى 18 ديسمبر سنة 1888 اصدرت الحكومة لائحة المحاماة امام المحاكم الاهلية وهى اول وثيقة رسمية اطلق فيها على هذه الصناعة اسم " حرفة المحاماة " وعلى الممارسين لها لقب " المحامين " وقد اشترطت اللائحة المذكورة على من يريد ان يقيد اسمه فى جدول المحامين " ان تكون سنه 21 سنة على الاقل وان يكون حسن السير والسلوك والا تكون صدرت عليه احكام قضائية او تاديبية ماسة بالشرف وان يكون ذا كفاءة تامة فى فن المحاماة " ولتقدير هذه الكفاءة شكلت لجنة فى محكمة الاستئناف دعيت باللجنة المستديمة مهمتها امتحان من يريد قيد اسمه فى جدول المحامين وقد بينت اللائحة واجبات المحامين كما نظمت طرق تاديبهم ولعل هذه اللائحة هى اول درجة صعدت عليها هذه المهنة لترقى الى المستوى اللائق بها ولو ان تساهل اللجنة المستديمة فى الامتحان كان غير حميد الاثر فى النتيجة المرجوة من انشائها .
وبعد سنوات خمس من ذلك التاريخ وجدت الحكومة ان القضاء قد خطا خطوات واسعة نحو الكمال فرات ان تخطو بالمحاماة كذلك فاصدرت للمحامين قانونا فى 6 ربيع اول سنة 1311 – 16 سبتمبر سنة 1893 الغت به قانون سنة 1888 واطلقت عليه اسم " الافوكاتية " اسوة بزملائهم امام المحاكم المختلطة ووضعت شروطا جديدة لقبول المحامين امام المحاكم اهمها ان يكون طالب القيد حائزا لشهادة من مدرسة الحقوق الخديوية دالة على اتمام دراسته او شهادة من احدى المدارس الاجنبية بشرط ان تقرر اللجنة المشكلة لنظر طلبات المحامين انها تقوم مقام الشهادة المذكورة اولا وان يكون حسن السمعة والسير .
ولقد عنيت اللائحة المذكورة ببيان ما للمحامين من الحقوق وما عليهم من الواجبات فنوهت بشرف الطائفة وفرضت عقوبات تاديبية على من يخل بشرفها كما نصت على عدم جواز الجمع بين المحاماة وبين اى عمل اخر يحط من قدر المحامى وعلى واجب الدفاع عن الفقراء مجانا وعلى واجب المحافظة على سر المهنة وعلى اتعاب المحامى الخ ....
وتقدير الشارع المصرى فى ذلك الحين لشان المحامين يظهر جليا من تقريره فى الامر العالى الصادر بتاريخ 4 نوفمبر سنة 1893 انه :-
" لا يعين احد لوظيفة مساعد نيابة الا اذا الحق باحد اقلام الكتاب بالمحاكم او بالنيابة العمومية مدة سنة او اشتغل مدة سنتين بمكتب احد الافوكاتية المقبولين امام المحاكم المصرية باعمال المحاماة الخ ..........."
وفى سنة 1910 صدر القانون رقم 9 مكرر سنة 1910 بشان المحامين غير الحائزين على شهادات ولكنهم اثبتوا كفاءة تؤهلهم للمساواة بزملائهم فقرر ان " الاشخاص المقبولين الان فى التوكيل عن الاخصام امام محكمة الاستئناف يعتبرون كالمحامين الذين يقبلون امام المحكمة المذكورة بمقتضى امرنا هذا وتكتب اسمائهم بجدول المحامين والاشخاص المقبولون فى التوكيل عن الاخصام امام محكمة ابتدائية واحدة او اكثر يكون لهم الحق فى المرافعة امام المحاكم الاخرى التى من درجتها وفى الارتداء بالبنش .....
وتسرى عليهم احكام هذا الامر فيما يتعلق بما للمحامين من الحقوق وما عليهم من الواجبات وكذلك فيما يتعلق بتاديبهم ويلزم ان يكون فى كل محكمة ابتدائية خلاف جدول المحامين كشف يشتمل على اسماء الاشخاص المقبولين فى التوكيل عن الاخصام امامها وامام المحاكم التى من درجتها "
وفى سنة 1912 خطت الحكومة خطوتها الاخيرة لرفع شان المحاماة فسنت لها القانون المعمول به الان وانشات لها فيما انشات نقابة تمثل عموم المحامين لها جمعية عمومية ومجلس وصندوق وقرر القانون وجوب حضور عضوين من مجلس النقابة فى لجنة قبول المحامين كما خول مجلس النقابة حق التحقيق مع المحامين فى الشكاوى التى تقدم ضدهم وانذارهم وطلب رفع الدعوى التاديبية عليهم واعتبر مجلس النقابة شخصا معنويا ينوب عن النقابة ويدافع عن مصالحها ويعمل باسمها كما اعتبره سلطة ادارية من بعض الوجوه . الى هذا الحد وصل التشريع للمحاماة ويمكن القول بان المحاماة فى مصر بلغت مبلغا يضارع ما وصلت اليه حال المحامين فى البلاد الاخرى من حيث الكفاءة والمعرفة باوضاع القانون ومختلف الشرائع بل ربما كان المحامى فى مصر على علم بدراسة القوانين المختلفة بدرجة اوسع نطاقا نظرا لتشعب جهات القضاء فى مصر واختلاف نوع ما لكل منها من الولاية حيث يوجد فى مصر المحاكم الاهلية والمحاكم المختلطة والمحاكم الشرعية والمجالس الحزبية والبطريكخانات والمحاكم القنصلية على اختلاف انواعها ولكل واحدة من هؤلاء ترتيب خاص وقانون خاص ومن المفروض على المحامى المصرى ان يلم بهذه الانظمة ولو فى الجملة الماما كافيا فالعبىء على المحامى فى مصر ثقيل ولكن له من مختلف الشرائع فى بلده تشريعا مقارنا يجعل العقلية قانونية لديه اكثر اتساعا وانسجاما منها لدى زميله المحامى فى اى بلد اخر واذا صرفنا النظر عن تطور دراسة القانون فى مصر وما وصلت اليه من التقدم واسباب البحث القانونى بحكم انشاء كلية الحقوق فان لغة المحاماة بلغت مبلغا جديرا بالتقدير والاعتبار حتى ليمكن القوول بانه اصبح للمحاماة وللغة المحاماة ادب خاص واية ذلك ما هو مشاهد من التطور فى لغة المرافعات والمذكرات وما يعرض فيها من بحوث فقهية وهذا الترقى فى لغة المحاماة يلمسه الانسان بمراجعة ما كانت عليه الحال مما كان يكتب فى التقارير قبل انشاء المحاكم الاهلية وما تجرى به المرافعات امام المحاكم الان مما لا حاجة بنا الى ايراد الامثلة عليه .
ولقد كان من الطبيعى بحكم رقى المهنة وبحكم القوانين التى نهضت بها ان ترقى ارتقاء ظاهرا فى عقلية المحامين وحبهم لمهنتهم واحترامهم لها وتمسكهم باسباب الكرامة فيها والغيرة على ما فيه صالحها ولقد سرى هذا التطور الى عقلية جمهور المتقاضين وصلاتهم بالمحامين اذ يرى الموكل الان فى شخص محاميه رسول يهديه سواء السبيل ويتولى عنه ابلاغ رسالة الحق الى القاضى ولم يعد فى نظره مجرد اجير لرص الكلام .
كان الحال كذلك حتى قامت الحرب العالمية ونال مصر منها ما نالها واعلنت الدولة البريطانية حمايتها على القطر ثم اعقب ذلك اعلان الاحاكم العرفية الانجليزية فاضيف الى القوانين المعمول بها فى مصر القانون الجنائى الانجليزى فقام المحامى المصرى بمهمته اذ ذاك قياما يفخر به حتى شهد كبار المحامين الانجليز لبعض المحامين المصريين انهم يقومون بواجبهم امام المجالس العسكرية البريطانية على خير ما يمكن ان يقوم به زملائهم فى بلاد الانجليز ثم اعلنت الهدنة ونهضت مصر نهضتها الوطنية الكبرى فكان المحامون فى الطليعة لبثوا يبثون فى الامة روح الوطنية والاستقلال بما طبعوا عليه بحكم مهنتهم من القوة الخطابية ومن اتصالهم بالجمهور اتصالا وثيقا جعل لدعوتهم اياه اثرا فى نفسه ادى الى نفخ تلك الروح فى البلد اجمع فلما بدأت الحركة الوطنية ان تسير سيرها تقدم ثلاثة رجال يطلبون بحق مصر من الدولة ويعرضون على المندوب السامى ان يصرح لوفد مصرى بالسفر الى مؤتمر السلام فكان احد هؤلاء الثلاثة محاميا ولما سافر الوفد الى باريس كان من اعضائه عدد من المحامين تركوا اعمالهم فى سبيل الذود عن حياض الوطن والمطالبة بحقوقهم المقدسة حتى اذا الغيت الحماية واعلن استقلال مصر وصدرت ارادة جلالة الملك بوضع دستور للبلاد تالفت لجنة لوضعه كان بين اعضائها الاثنين والثلاثين عدد من المحامين قاموا بعملهم على الوجه الاكمل فلما صدر الدستور وجرت الانتخابات للبرلمان تقدم المحامون لخدمة بلادهم فظهر تقدير مواطنيهم لمجهودهم العظيم فى انتخاب عدد كبير منهم فى تلك المجالس فقد انتخب فى الهيئة النيابية الاولى 56 محاميا وبالثانية 47 وبالثالثة 57 وبالرابعة 68 وكان من الطبيعى وقد ساهم المحامون فى الحركة السياسية الوطنية هذا المبلغ من المساهمة ان انفتح امامهم باب المناصب السياسية الكبرى فارتقى كرسى الوزارة منهم منذ انشاء الدستور للان اربعة عشر محاميا بل ان بعضهم تولى رياسة الحكومة غير مرة كما ان بعضهم تولى رياسة مجلس النواب ولقد طالما راينا المحامى يترك مكتبه ليقوم بواجبه الوطنى فى خدمة بلاده فى كرسى الوزارة حتى اذا سقطت عاد الى كرسيه فى مكتبه لا يجد فرقا بين هذا الكرسى وذاك .
ولم يكن تبوء المحامين كراسى الوزارة نتيجة لمساهمتهم فى الحركة السياسية فقط بل كان كذلك نتيجة لرقيهم العلمى القانونى ومقدرتهم الفائقة فى تصريف الامور لذلك رأيناهم قد خطبتهم دور القضاء العليا ليكونوا بين رجالها ورايناهم ينتقلون من مكاتبهم الى كراسى الاستشارة فى محكمة الاستئناف او محكمة النقض والابرام بل ان المحاماة لتفتخر بان احد اعضائها ولى اكبر مركز قضائى فى مصر وهو رياسة محكمة النقض والابرام .
ولقد ساهم المحامون كذلك فى الحركة العلمية القانونية فاصدروا عدة مجلات قانونية كانت هدى ونبراسا للمتقاضين والمحامين ورجال القضاء نذكر منها مجلات الحقوق والاحكام والمحاكم والشرائع والقضاء والاستقلال وميزان الاعتدال والدليل وكلية الحقوق والجريدة القضائية وغيرها كما ان نقابة المحامين اصدرت مجلة " المحاماة " وهى تضارع بلا شك ارقى المجلات القضائية الاوربية بما تحويه من ابحاث متنوعة فى جميع فروع القانون وبما تعلق به على احكام المحاكم من وجهتها القانونية كما ان للمحامين فى عالم التاليف كتبا ورسائل وابحاث عديدة فى كثير من المسائل المدنية والجنائية والتجارية والمرافعات والمسائل الدولية .
هذه هى حال المحامين بعد انشاء المحاكم الاهلية ظلوا يرتقون بمهنتهم وبانفسهم سلما سلما حتى اصبح لقب المحامى الان علما على حرية الرأى والشجاعة فى القيام بالواجب والدفاع عن المظلوم والاخذ بيد المهضوم الحق سواء اكان ذلك فى القضايا الخاصة او فى المسائل العمومية بعد ان كانوا يلقبون قبل انشاء المحاكم الاهلية بالمزورين والنصابين والدجالين ولا نشك مطلقا فى انهم سيثابرون على خطة الرقى بمهنتهم وبلادهم والسير بها الى الامام حتى تصبح مصر فى المستوى اللائق بها بين الامم وحتى تصبح العائلة القضائية فيها بوجه عام وعائلة المحاماة على الخصوص فى طليعة مثيلاتها فى العالم .
نهدى الرسالة الى السيد المستشار / احمد الزنـد
( منقول من الكتاب الذهبى للمحاكم الاهلية – الطبعة الثانية 1990 )
إلى سيادة المستشار / أحمد الـزنــد ... رئيس نادى القضاه وإلى شباب محامين مصر ..
ليعرفوا تاريخ المحاماه فى مصر لم تكن المحاماة قبل انشاء المحاكم الاهلية باحسن حالا من القضاء بل لم تكن – كما هى معروفة عندنا اليوم – معهودة فى تلك الازمان لان وجودها متوقف على وجود المحاكم المنظمة وكل ما فى الامر ان مظهرها كان محصورا فى تحرير عرائض الشكاوى بواسطة طائفة العرضحالجية واذا كان قوما منهم قد احترفوا حرفة التوكيل فقد بلغ من شرورهم ان كان يطلق عليهم لقب المزورين .
اما بعد انشاء المحاكم الاهلية فان لائحة ترتيبها التى لم تصدر بالفعل فى صيغتها النهائية الا فى 14يونيو سنة 1883 وكان من اسباب تاخر صدورها قيام الثورة العرابية قبيل ذلك التاريخ فقد نص فى المادة 24 منها على انه :-
( يجوز للاخصام ان يحضروا بانفسهم الى المحاكم او بواسطة وكلاء عنهم ) ونص فى المادة 25 على انه :- ( يجوز لكل محكمة الا تقبل فى التوكيل عن الاخصام من ترى فيهم عدم اللياقة والاستعداد للقيام بمهام التوكيل بحسب اللائحة )
ولكن لم تقل لائحة الترتيب ما هى حدود اللياقة ولا ما هو الاستعداد اللازم للقيام بمهمة التوكيل بل اجملت وتركت الراى للمحاكم وكذلك لم يرد فى قانون المرافعات الذى صدر فى سنة 1883 عقب اللائحة سوى نصوص مجيزة لحضور الاخصام امام المحاكم بانفسهم او بوكلاء عنهم يكون توكيلهم ثابتا ولا تعرض فيها للصفات الواجبة فى هؤلاء الى ان كانت سنة 1884 حيث صدرت لائحة الاجراءات الداخلية وفيها المواد 50 ، 51 ، 52 ، 53 وهى تتحدث عن وجوب تقديم توكيل مصدق عليه بوجه رسمى امام كاتب المحكمة وان يرد الوكيل لموكله متى انتهت وكالته كافة الاوراق والمستندات التى تكون سندا له بمصاريف على موكله .
وفى مارس سنة 1884 اصدرت محكمة استئناف مصر اعلانا نشر بالوقائع المصرية جاء فيه :-
( حيث ان احكام القوانين الجديدة لا تساعد على قبول كل من اراد التوكيل عن ارباب الدعاوى فى القضايا الجارى نظرها امام محكمة الاستئناف الا من يكون اسمه مندرجا فى بالجدول المعد لذلك بالمحكمة فينبغى على كل من اراد من الافوكاتية والوكلاء معرفته بهذه الصفة لدى المحكمة ان يقدم طلبه اليها للنظر فيه وقيده بالجدول الموجود فيها لهذا الغرض )
فأنهالت طلبات القيد على محكمة الاستئناف ممن هب ودب من الافوكاتية المقررين لدى المحاكم المختلطة ومعظمهم لم يكن يدرى من اللغة العربية شيئا ومن وكلاء الدعاوى الذين كانوا يشتغلون بالتوكيل لدى المجالس المحلية ومعظمهم ممن عرفت حالهم من الجهل ورقة الخلق وقد قيدتهم محكمة الاستئناف بالجدول بغير تدقيق ولا حسن انتقاء واطلق عليهم لقب " وكلاء الدعوى " .
وفى 18 ديسمبر سنة 1888 اصدرت الحكومة لائحة المحاماة امام المحاكم الاهلية وهى اول وثيقة رسمية اطلق فيها على هذه الصناعة اسم " حرفة المحاماة " وعلى الممارسين لها لقب " المحامين " وقد اشترطت اللائحة المذكورة على من يريد ان يقيد اسمه فى جدول المحامين " ان تكون سنه 21 سنة على الاقل وان يكون حسن السير والسلوك والا تكون صدرت عليه احكام قضائية او تاديبية ماسة بالشرف وان يكون ذا كفاءة تامة فى فن المحاماة " ولتقدير هذه الكفاءة شكلت لجنة فى محكمة الاستئناف دعيت باللجنة المستديمة مهمتها امتحان من يريد قيد اسمه فى جدول المحامين وقد بينت اللائحة واجبات المحامين كما نظمت طرق تاديبهم ولعل هذه اللائحة هى اول درجة صعدت عليها هذه المهنة لترقى الى المستوى اللائق بها ولو ان تساهل اللجنة المستديمة فى الامتحان كان غير حميد الاثر فى النتيجة المرجوة من انشائها .
وبعد سنوات خمس من ذلك التاريخ وجدت الحكومة ان القضاء قد خطا خطوات واسعة نحو الكمال فرات ان تخطو بالمحاماة كذلك فاصدرت للمحامين قانونا فى 6 ربيع اول سنة 1311 – 16 سبتمبر سنة 1893 الغت به قانون سنة 1888 واطلقت عليه اسم " الافوكاتية " اسوة بزملائهم امام المحاكم المختلطة ووضعت شروطا جديدة لقبول المحامين امام المحاكم اهمها ان يكون طالب القيد حائزا لشهادة من مدرسة الحقوق الخديوية دالة على اتمام دراسته او شهادة من احدى المدارس الاجنبية بشرط ان تقرر اللجنة المشكلة لنظر طلبات المحامين انها تقوم مقام الشهادة المذكورة اولا وان يكون حسن السمعة والسير .
ولقد عنيت اللائحة المذكورة ببيان ما للمحامين من الحقوق وما عليهم من الواجبات فنوهت بشرف الطائفة وفرضت عقوبات تاديبية على من يخل بشرفها كما نصت على عدم جواز الجمع بين المحاماة وبين اى عمل اخر يحط من قدر المحامى وعلى واجب الدفاع عن الفقراء مجانا وعلى واجب المحافظة على سر المهنة وعلى اتعاب المحامى الخ ....
وتقدير الشارع المصرى فى ذلك الحين لشان المحامين يظهر جليا من تقريره فى الامر العالى الصادر بتاريخ 4 نوفمبر سنة 1893 انه :-
" لا يعين احد لوظيفة مساعد نيابة الا اذا الحق باحد اقلام الكتاب بالمحاكم او بالنيابة العمومية مدة سنة او اشتغل مدة سنتين بمكتب احد الافوكاتية المقبولين امام المحاكم المصرية باعمال المحاماة الخ ..........."
وفى سنة 1910 صدر القانون رقم 9 مكرر سنة 1910 بشان المحامين غير الحائزين على شهادات ولكنهم اثبتوا كفاءة تؤهلهم للمساواة بزملائهم فقرر ان " الاشخاص المقبولين الان فى التوكيل عن الاخصام امام محكمة الاستئناف يعتبرون كالمحامين الذين يقبلون امام المحكمة المذكورة بمقتضى امرنا هذا وتكتب اسمائهم بجدول المحامين والاشخاص المقبولون فى التوكيل عن الاخصام امام محكمة ابتدائية واحدة او اكثر يكون لهم الحق فى المرافعة امام المحاكم الاخرى التى من درجتها وفى الارتداء بالبنش .....
وتسرى عليهم احكام هذا الامر فيما يتعلق بما للمحامين من الحقوق وما عليهم من الواجبات وكذلك فيما يتعلق بتاديبهم ويلزم ان يكون فى كل محكمة ابتدائية خلاف جدول المحامين كشف يشتمل على اسماء الاشخاص المقبولين فى التوكيل عن الاخصام امامها وامام المحاكم التى من درجتها "
وفى سنة 1912 خطت الحكومة خطوتها الاخيرة لرفع شان المحاماة فسنت لها القانون المعمول به الان وانشات لها فيما انشات نقابة تمثل عموم المحامين لها جمعية عمومية ومجلس وصندوق وقرر القانون وجوب حضور عضوين من مجلس النقابة فى لجنة قبول المحامين كما خول مجلس النقابة حق التحقيق مع المحامين فى الشكاوى التى تقدم ضدهم وانذارهم وطلب رفع الدعوى التاديبية عليهم واعتبر مجلس النقابة شخصا معنويا ينوب عن النقابة ويدافع عن مصالحها ويعمل باسمها كما اعتبره سلطة ادارية من بعض الوجوه . الى هذا الحد وصل التشريع للمحاماة ويمكن القول بان المحاماة فى مصر بلغت مبلغا يضارع ما وصلت اليه حال المحامين فى البلاد الاخرى من حيث الكفاءة والمعرفة باوضاع القانون ومختلف الشرائع بل ربما كان المحامى فى مصر على علم بدراسة القوانين المختلفة بدرجة اوسع نطاقا نظرا لتشعب جهات القضاء فى مصر واختلاف نوع ما لكل منها من الولاية حيث يوجد فى مصر المحاكم الاهلية والمحاكم المختلطة والمحاكم الشرعية والمجالس الحزبية والبطريكخانات والمحاكم القنصلية على اختلاف انواعها ولكل واحدة من هؤلاء ترتيب خاص وقانون خاص ومن المفروض على المحامى المصرى ان يلم بهذه الانظمة ولو فى الجملة الماما كافيا فالعبىء على المحامى فى مصر ثقيل ولكن له من مختلف الشرائع فى بلده تشريعا مقارنا يجعل العقلية قانونية لديه اكثر اتساعا وانسجاما منها لدى زميله المحامى فى اى بلد اخر واذا صرفنا النظر عن تطور دراسة القانون فى مصر وما وصلت اليه من التقدم واسباب البحث القانونى بحكم انشاء كلية الحقوق فان لغة المحاماة بلغت مبلغا جديرا بالتقدير والاعتبار حتى ليمكن القوول بانه اصبح للمحاماة وللغة المحاماة ادب خاص واية ذلك ما هو مشاهد من التطور فى لغة المرافعات والمذكرات وما يعرض فيها من بحوث فقهية وهذا الترقى فى لغة المحاماة يلمسه الانسان بمراجعة ما كانت عليه الحال مما كان يكتب فى التقارير قبل انشاء المحاكم الاهلية وما تجرى به المرافعات امام المحاكم الان مما لا حاجة بنا الى ايراد الامثلة عليه .
ولقد كان من الطبيعى بحكم رقى المهنة وبحكم القوانين التى نهضت بها ان ترقى ارتقاء ظاهرا فى عقلية المحامين وحبهم لمهنتهم واحترامهم لها وتمسكهم باسباب الكرامة فيها والغيرة على ما فيه صالحها ولقد سرى هذا التطور الى عقلية جمهور المتقاضين وصلاتهم بالمحامين اذ يرى الموكل الان فى شخص محاميه رسول يهديه سواء السبيل ويتولى عنه ابلاغ رسالة الحق الى القاضى ولم يعد فى نظره مجرد اجير لرص الكلام .
كان الحال كذلك حتى قامت الحرب العالمية ونال مصر منها ما نالها واعلنت الدولة البريطانية حمايتها على القطر ثم اعقب ذلك اعلان الاحاكم العرفية الانجليزية فاضيف الى القوانين المعمول بها فى مصر القانون الجنائى الانجليزى فقام المحامى المصرى بمهمته اذ ذاك قياما يفخر به حتى شهد كبار المحامين الانجليز لبعض المحامين المصريين انهم يقومون بواجبهم امام المجالس العسكرية البريطانية على خير ما يمكن ان يقوم به زملائهم فى بلاد الانجليز ثم اعلنت الهدنة ونهضت مصر نهضتها الوطنية الكبرى فكان المحامون فى الطليعة لبثوا يبثون فى الامة روح الوطنية والاستقلال بما طبعوا عليه بحكم مهنتهم من القوة الخطابية ومن اتصالهم بالجمهور اتصالا وثيقا جعل لدعوتهم اياه اثرا فى نفسه ادى الى نفخ تلك الروح فى البلد اجمع فلما بدأت الحركة الوطنية ان تسير سيرها تقدم ثلاثة رجال يطلبون بحق مصر من الدولة ويعرضون على المندوب السامى ان يصرح لوفد مصرى بالسفر الى مؤتمر السلام فكان احد هؤلاء الثلاثة محاميا ولما سافر الوفد الى باريس كان من اعضائه عدد من المحامين تركوا اعمالهم فى سبيل الذود عن حياض الوطن والمطالبة بحقوقهم المقدسة حتى اذا الغيت الحماية واعلن استقلال مصر وصدرت ارادة جلالة الملك بوضع دستور للبلاد تالفت لجنة لوضعه كان بين اعضائها الاثنين والثلاثين عدد من المحامين قاموا بعملهم على الوجه الاكمل فلما صدر الدستور وجرت الانتخابات للبرلمان تقدم المحامون لخدمة بلادهم فظهر تقدير مواطنيهم لمجهودهم العظيم فى انتخاب عدد كبير منهم فى تلك المجالس فقد انتخب فى الهيئة النيابية الاولى 56 محاميا وبالثانية 47 وبالثالثة 57 وبالرابعة 68 وكان من الطبيعى وقد ساهم المحامون فى الحركة السياسية الوطنية هذا المبلغ من المساهمة ان انفتح امامهم باب المناصب السياسية الكبرى فارتقى كرسى الوزارة منهم منذ انشاء الدستور للان اربعة عشر محاميا بل ان بعضهم تولى رياسة الحكومة غير مرة كما ان بعضهم تولى رياسة مجلس النواب ولقد طالما راينا المحامى يترك مكتبه ليقوم بواجبه الوطنى فى خدمة بلاده فى كرسى الوزارة حتى اذا سقطت عاد الى كرسيه فى مكتبه لا يجد فرقا بين هذا الكرسى وذاك .
ولم يكن تبوء المحامين كراسى الوزارة نتيجة لمساهمتهم فى الحركة السياسية فقط بل كان كذلك نتيجة لرقيهم العلمى القانونى ومقدرتهم الفائقة فى تصريف الامور لذلك رأيناهم قد خطبتهم دور القضاء العليا ليكونوا بين رجالها ورايناهم ينتقلون من مكاتبهم الى كراسى الاستشارة فى محكمة الاستئناف او محكمة النقض والابرام بل ان المحاماة لتفتخر بان احد اعضائها ولى اكبر مركز قضائى فى مصر وهو رياسة محكمة النقض والابرام .
ولقد ساهم المحامون كذلك فى الحركة العلمية القانونية فاصدروا عدة مجلات قانونية كانت هدى ونبراسا للمتقاضين والمحامين ورجال القضاء نذكر منها مجلات الحقوق والاحكام والمحاكم والشرائع والقضاء والاستقلال وميزان الاعتدال والدليل وكلية الحقوق والجريدة القضائية وغيرها كما ان نقابة المحامين اصدرت مجلة " المحاماة " وهى تضارع بلا شك ارقى المجلات القضائية الاوربية بما تحويه من ابحاث متنوعة فى جميع فروع القانون وبما تعلق به على احكام المحاكم من وجهتها القانونية كما ان للمحامين فى عالم التاليف كتبا ورسائل وابحاث عديدة فى كثير من المسائل المدنية والجنائية والتجارية والمرافعات والمسائل الدولية .
هذه هى حال المحامين بعد انشاء المحاكم الاهلية ظلوا يرتقون بمهنتهم وبانفسهم سلما سلما حتى اصبح لقب المحامى الان علما على حرية الرأى والشجاعة فى القيام بالواجب والدفاع عن المظلوم والاخذ بيد المهضوم الحق سواء اكان ذلك فى القضايا الخاصة او فى المسائل العمومية بعد ان كانوا يلقبون قبل انشاء المحاكم الاهلية بالمزورين والنصابين والدجالين ولا نشك مطلقا فى انهم سيثابرون على خطة الرقى بمهنتهم وبلادهم والسير بها الى الامام حتى تصبح مصر فى المستوى اللائق بها بين الامم وحتى تصبح العائلة القضائية فيها بوجه عام وعائلة المحاماة على الخصوص فى طليعة مثيلاتها فى العالم .
نهدى الرسالة الى السيد المستشار / احمد الزنـد
( منقول من الكتاب الذهبى للمحاكم الاهلية – الطبعة الثانية 1990 )