توكيلات الحزب الوطنى باطلة
تحقيق أحمد رجب ومروى ياسين ٢٨/ ٨/ ٢٠١٠
فى البدء كان سعد زغلول، الذى رفض أن يمضى قبل أن يطلق نبوءته الأشهر «مفيش فايدة»، فى البدء كانت التوكيلات للرد على المندوب السامى البريطانى، «نعم سعد زغلول ومن معه، ممثلون للشعب المصرى، من أجل الدفاع عن حرية مصر»، فى البدء كانت توكيلات انتهت بثورة، يصفها البعض، بالثورة الشعبية الأهم فى تاريخ المحروسة، المحروسة التى شهدت رحيل «سعد زغلول» ورحيل المندوب السامى، وبقاء التوكيلات، ولكن لاستخدامات مختلفة، مرة يستعملها «البرادعى» لتغيير الدستور، ومرة يستعملها أنصار جمال مبارك، لتثبيت الدستور، وقبلهما استخدمه د.نعمان جمعة رئيس حزب الوفد الأسبق كشكل دعائى فى انتخابات الرئاسة الماضية، وبعدهم استخدمها أحمد عز لتثبيت أركان تنظيمه الحزبى، ومنع أى تمرد أو استقلال للأعضاء، قد يدفع الحزب ثمنه غاليا فى دورة برلمانية، ترفع شعار «لا مجال للخطأ» و«صوت النائب أمانة.. للرئيس المقبل».
أساتذة القانون: شروط أحمد عز «غير دستورية» والتوكيلات سلب لحرية المرشحين ومصادرة لحقوقهم
لم يكن سعد زغلول وحيدا بل كان معه على شعراوى وعبدالعزيز فهمى، وفد صغير ذهب لعرض مشاكل المصريين فى فرنسا، فرفض المندوب السامى البريطانى، بحجة «من أنتم لتمثلوا مصر؟» وقبل أن يفكر الوفد فى الإجابة، انتشرت التوقيعات نارا على أوراق التوكيلات، وسافر زغلول، وعاد ليُنفى، وتقوم الثورة، شعبية، أعادت «سعد» ليتولى أرفع منصب فى البلاد، وقتها، كرئيس للوزراء.
فى الطريق، بقى الشعب والتوكيلات، ورحل «سعد» و«المندوب»، بقى الوفد وكبر وصار حزبا، يرأسه أستاذ القانون الدكتور نعمان جمعة، ومن الوفد عادت التوكيلات للظهور، ولكن فى صيغة مختلفة، عادت كنوع من الدعاية الانتخابية، على ورق ملصقات دعائية، كُتب عليها «العقد شريعة الناخبين» أعلن الوفد من خلالها عن ثمانية بنود يلتزم «جمعة» فور توليه منصبه بالعمل على تنفيذها، ولأن «جمعة» لم يفز، ولأن الشكل كان دعائياً أكثر منه توكيلاً قانونياً رسمياً، بقى الاختبار الثانى لفكرة التوكيلات معلقاً بين الفشل والنجاح.
ومن ثم جاء البرادعى، جاء على طائرة بيضاء، واٍستقبله الناس استقبال الفاتحين، وبعد فترة قصيرة، جاءت التوكيلات القانونية، تحولت بعد وقت إلى ما يمسى «تفويضات شعبية» الهدف منها إعطاء الدكتور القادم من وكالة الطاقة الذرية القوة والنفوذ للمطالبة بتعديلات دستورية جوهرية، وبصورة أقل ولكن أكثر شبها، عادت توكيلات الوفد للأذهان، بعدما قارب عدد الموقعين على ما أطلق عليه «بيان التغيير» المليون.
ولأن لا الرياح ولا التوكيلات تأتى بما تشتهى المعارضة، قرر عدد من المواطنين، لأهداف مختلفة، جمع توقيعات على تفويضات، تطالب جمال مبارك بالترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية، ووسط جدل عن نوايا ومحركى هذه التحركات، لم تتعد التوقيعات على التفويض، نسبة الـ١٠% من عدد الموقعين على بيان التغيير. قبل أن يفاجئ أمين تنظيم الحزب الوطنى، مؤرخى السياسة المصرية بنوع جديد من التوكيلات السياسية، يتنازل فيه عضو الحزب الوطنى، طواعية لأمين التنظيم وأمين المحافظة التابع لها، عن حقه فى ترشيح نفسه لانتخابات مجلس الشعب، بحيث يكون لأمين التنظيم وأمين المحافظة الحق، فى سحب استمارة ترشيح العضو.
توكيل جديد بطله أمين تنظيم الحزب الوطنى، وموقعوه هم أعضاء الحزب الوطنى، العريق منهم والمجهول، توكيل لا علاقة مباشرة له بـ«حرية مصر» ولن يقدم إلى «مندوب سامى» بريطانى.
فى شارع سياسى، لا يعترف بالبدع، ولا يخاف الضلالات، يجبر الحزب الوطنى أعضاءه على توقيع توكيلات قانونية لأمين تنظيم الحزب، وأمين المحافظة التابع لها كل عضو، تسمح لهم بشكل منفرد بسحب أوراق ترشيح العضو، ومنعه من ترشيح نفسه، طالما خسر فى المجمع الانتخابى.
محاولة لـ«لملمة» آثار «فضيحة المستقلين» الدورية، ولو من خلال توكيلات وصفها القانونيون بأنها «باطلة»، واستدل بها السياسيون على «ضعف وتآكل الحزب الوطنى من الداخل».. توكيلات تثير جدلا، وتعيد إلى الأذهان ذكرى أول توكيلات سياسية فى مصر، التى جمعها الشعب لصالح وفد «سعد زغلول»، وانتهت بأكبر ثورة شعبية عرفها التاريخ المصرى الحديث.
يرى جمال زهران عضو مجلس الشعب، وأستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، أن فكرة التوكيلات التى يصفها بـ«الباطلة»، «محاولة فاشلة من الحزب الوطنى لإخفاء عوراته»، وتساءل «زهران»: «لماذا يلجأ الحزب الحاكم إلى هذه الأساليب؟ التى أراها تعبيرا قويا عن حالة الانحدار التى وصل إليها الحزب، حيث لا توجد قيادات تثق فى الأعضاء، ولا نية للأعضاء للثقة فى القيادات.
ويكمل زهران: «ما حدث يعبر بشكل واضح عن المأزق الذى يتعرض له أعضاء الحزب الوطنى، فلا يمكن أن نجد إخوانياً يرفض قرار الجماعة بترشيحه من عدمه، وهل يوجد يسارى يقبل أن يرفض رأى حزبه فى أسماء المرشحين، بينما يتكرر هذا الأمر بشكل دورى فى الحزب الوطنى، والسبب الأساسى أن الحزب مجموعة من رجال المصالح والمنفعة، الذين انضموا للحزب للحصول على منافع مختلفة، وليس إيمانا بأفكار أو رؤى أو أيديولوجيات، ولهذا وعند أول تعطل لجريان هذه المصالح، ينشق العضو عن الحزب ويترشح مستقلا، لأن المصلحة أهم من الالتزام الحزبى».
الالتزام الحزبى، مصطلح سياسى تقرأ خلفيته المصرية، الدكتورة منار الشوربجى، أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية، التى تقول: الالتزام الحزبى فى كل دول العالم، مختلف عن الالتزام الحزبى فى مصر، لأن الالتزام الحزبى يقوم أساسا على فكرة أن الحزب يساند العضو فى الدائرة، بكوادره فى الدائرة الانتخابية، وبتمويل حملته، ولهذا يظل العضو مدينا للحزب بالفضل فى الفوز، ويظل الحزب الطرف الأقوى لأنه قادر على ترشيح الاسم الذى يريده وضمان النجاح له من خلال القاعدة الجماهيرية التى يملكها فى الدوائر الانتخابية، ولكن فى مصر، الوضع مقلوب، فأعضاء الحزب الوطنى يتقدمون بتبرعات للحزب، وقاعدة العضو فى الدائرة هى أهم أسباب نجاحه وليس قاعدة الحزب.
ومن زاوية قانونية خاصة، يصف القانونى «زياد العليمى» التوكيلات، بـ«الباطلة»، لأنها تتضارب مع مواد دستورية وقوانين أخرى، مثل قانون مباشرة الحقوق السياسية، الذى يعطى كل مواطن مصرى حقوقا لا يمكنه التنازل عنها برضاه أو باختياره، مثل حق التصويت فى الانتخابات» وأكد «العليمى» أن محاولة الحزب الوطنى الالتفاف على القوانين بهذه الصورة، تؤكد فشل الحزب فى إقناع نوابه، وفقدان الحزب ثقتهم، مما يؤدى عادة إلى هذا النوع من الحيل القانونية غير الصحيحة.
وبرؤية مختلفة، تقول الدكتورة مى قاسم، أستاذة العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية: «من وجهة نظر أكاديمية، ما يفعله قيادات الحزب الحاكم، مقبول سياسيا، لأنه، وفى ظل المنافسة الديمقراطية للأحزاب فى الحياة السياسية الطبيعية، فى دولة مثل أمريكا، ليس مطلوبا من الأحزاب ممارسة الديمقراطية الداخلية بشكل كامل، ولكن بعض الأحزاب تضطر إلى استخدام القوة لتفرض سيطرتها على الأعضاء، وهو ما يقوم به الحزب الوطنى، رغم اختلاف الظروف، وفى حالة قانونية هذه التوكيلات، فإن هذه الخطوة عادية وتحدث أشياء مماثلة لها طوال الوقت فى الأحزاب البريطانية على سبيل المثال، التى لها مطلق الحرية فى محاولة السيطرة على أعضائها بأى طريقة» وتؤكد «قاسم» أنه «لابد من التأكيد على اختلاف الظروف بين الحزب الوطنى والأحزاب فى أوروبا وأمريكا، خاصة أنه إذا كانت هذه الخطوة مقبولة سياسيا، فإن ما يحدث فى باقى الساحة السياسية غير مقبول على الإطلاق».
ويحلل حسين عبدالرازق، القيادى فى حزب التجمع، خطوة التوكيلات ويقول: «هذا المنهج فى التعامل مع راغبى الترشيح فى الحزب الوطنى يعكس إدراك قيادات الحزب عجزهم عن تحقيق الانضباط والالتزام الحزبى» ويكمل «رغم أن الحزب يضم عضوية بالملايين كما يحلو لقيادات الحزب التفاخر، فإن التوكيلات تعكس أن العضوية المليونية ليست عن قناعة برؤى أو مبادئ، ولكن بحثا عن مصالحهم الخاصة، التى فى حال تعارضها مع مصلحة الحزب، ينشق الأعضاء لتحقيق أولوياتهم هم» ويتساءل «عبدالرازق» «لماذا ارتكن قيادات الحزب الوطنى كل هذه الفترة ولم يعملوا على بناء كوادر حقيقية بدلا من العضوية المزيفة الباحثة عن مصالحها الشخصية؟»، وهو نفس السؤال الذى طرحه النائب «جمال زهران» وقال: لماذا لا يقوم منظرو الفكر الجديد فى الحزب الحاكم بخطوات حقيقية لإنشاء جيل جديد من القيادات التى تؤمن بالأفكار والمبادئ بدلا من الإيمان بلغة المصالح؟ ولماذا تخرج هذه القيادات بصورة شبه يومية على شاشات التليفزيون للحديث عن الفكر الجديد، وعند انتخابات مجلس الشعب يعيدون إنتاج نفس الوجوه العجوزة البليدة؟
شق سياسى لأزمة التوكيلات، وصّفه وشخّصه سياسيون وأكاديميون، وشق قانونى يصف فيه الدكتور محمد نور فرحات الفقيه الدستورى «التوكيل المطلوب توقيعه لأمين التنظيم المركزى» بأنه غير أخلاقى ويتنافى مع روح الدستور، وأشار إلى أن الشرط يعنى أن الحزب يريد أن يفرض وصايته على أعضائه بمنعهم من ترشيح أنفسهم كمستقلين، لافتا إلى أن الحزب لجأ إلى حيلة صغار المحامين للتلاعب بإرادة المواطن أمام المحاكم، وكان أولى بالحزب أن يحتفظ لنفسه بإنهاء عضوية العضو الذى يرشح نفسه مستقلا بدلاً من أن يجبره على عمل توكيل خاص يسلبه حريته، وذكر فرحات أن من حق الحزب أن يضع الإجراءات التى يراها مناسبة من أجل تنظيم عملية الترشيح داخل الحزب، مع العلم أن هذه الجراءات ينبغى ألا تخل بأى مادة من مواد الدستور.
من جانبه أكد الدكتور مصطفى عفيفى، أستاذ القانون الدستورى، عميد كلية الحقوق بجامعة طنطا الأسبق، أن ذلك الشرط يعد مخالفا للمادة ٦٢ من الدستور التى تنص على حرية الانتخاب وحرية الترشيح، مؤكدا أنه لا يصح لأى جهة حرمان المرشح من خوض الانتخابات لأن ذلك يعد مخالفة دستورية، حتى إن كان العضو وقع التوكيل بإرادته ووافق على بنوده، فلا يحق الاتفاق على أى شرط يخالف الدستور، وبالتالى فإن الشرط الذى وضعه الحزب الوطنى يعد باطلا ومن ثم فإن التوكيل المزعوم أيضا باطل ولا يجوز الأخذ به.
فيما رأى الدكتور إبراهيم درويش، أستاذ القانون الدستورى، أن الحزب الوطنى بهذ الشرط أراد أن يمنع تسرب أعضائه أثناء الانتخابات وترشيح أنفسهم مستقلين إذا لم يقع عليهم الاختيار من الحزب، وأشار درويش إلى أن الانتخابات السابقة للحزب الوطنى أثبتت نجاح ٣٥% فقط من الأعضاء الذين اختارهم الحزب، فى حين نجح غالبية أعضاء الحزب الذين خاضوا الانتخابات كمستقلين، ووصف درويش هذا الشرط بأنه سلب للحرية، مؤكدا أنه من حق أى حزب أن يضع شروطه، ولكن ليس بهذه الاستفزازات التى تسلب العضو حريته وحقه فى ممارسة حقوقه التى يكفلها له الدستور، وتابع يقول: «هذا الشرط يعتبر مصادرة على حرية التعبير متمثلة فى صيغة عقد إذعان وسيطرة مطلقة تؤكد أن النظام السياسى الآن هو نظام قائم على أساس الحزب الواحد الذى انقرض فى كل الدول».
وأشار درويش إلى أن هذا الشرط يؤكد مدى تفكك الحزب الوطنى ومدى فقد سيطرته الداخلية فى الحزب.
وذكر درويش أن المادة ٩٦ من الدستور تؤكد بطلان عضو مجلس الشعب من عضويته، إذا ما فقد أى صفة من الصفات التى ترشح عليها، وبالتالى فإن كل عضو قد ترشح من قبل على أنه مستقل وانضم لأى حزب يعد مخالفاً ينبغى إسقاط عضويته خاصة أن المواطنين رشحوه على صفات معينة وبالتالى فإن الإخلال بها لا يعنى سوى بطلان العضوية.
من جانبه أكد الدكتور عاطف البنا، أستاذ القانون الدستورى، أن هذا التوكيل مخالف للقواعد والمبادئ القانونية لأن التوكيل متعلق بالحق السياسى، والتوكيل يكون فى أمور خاصة لا تتعلق بالحرية أو الترشح إلى الانتخابات من عدمه، ولكن التوكيل فى أن يتنازل عنه شخص ما مهما كانت صفته، فهى مسألة لا تتفق مع المبادئ القانونية ولا يجوز توكيل الغير بها، وخصوصا إذا كان التوكيل غير قابل للإلغاء فهو أمر للمبادئ الدستورية.
وعن فكرة أن التوكيل غير قابل للإلغاء قال البنا: «إن من يكتب التوكيل الآن يستطيع أن يتقدم للترشح كمستقل دون الالتفات إلى ذلك التوكيل لأنه باطل، ولكنه سيواجه مشكلات تتعلق بهؤلاء الذين يتلقون طلبات الترشيح داخل لجان الانتخابات، لأنه بموجب التوكيل يعد متنازلا عن الترشيح وسيرفضون ترشيحه، هنا يصبح له الحق فى أن يطعن أمام مجلس الدولة فى قرار رفض ترشيحه لأن التوكيل مخالف للقانون والدستور ويعد اعتداء على الحقوق السياسية».
ووصف البنا ما وضعه الحزب الوطنى من شروط بأنه أمر غريب موضحا: «كيف يدعى الحزب الوطنى أنه حزب الأغلبية وفى نفس الوقت يصادر حرية المواطنين وحقوقهم»، ولفت إلى أن ذلك بمثابة مقدمة للتلاعب فى الانتخابات، على حد تعبيره، مثلما حدث فى انتخابات مجلس الشورى الأخيرة.
تحقيق أحمد رجب ومروى ياسين ٢٨/ ٨/ ٢٠١٠
فى البدء كان سعد زغلول، الذى رفض أن يمضى قبل أن يطلق نبوءته الأشهر «مفيش فايدة»، فى البدء كانت التوكيلات للرد على المندوب السامى البريطانى، «نعم سعد زغلول ومن معه، ممثلون للشعب المصرى، من أجل الدفاع عن حرية مصر»، فى البدء كانت توكيلات انتهت بثورة، يصفها البعض، بالثورة الشعبية الأهم فى تاريخ المحروسة، المحروسة التى شهدت رحيل «سعد زغلول» ورحيل المندوب السامى، وبقاء التوكيلات، ولكن لاستخدامات مختلفة، مرة يستعملها «البرادعى» لتغيير الدستور، ومرة يستعملها أنصار جمال مبارك، لتثبيت الدستور، وقبلهما استخدمه د.نعمان جمعة رئيس حزب الوفد الأسبق كشكل دعائى فى انتخابات الرئاسة الماضية، وبعدهم استخدمها أحمد عز لتثبيت أركان تنظيمه الحزبى، ومنع أى تمرد أو استقلال للأعضاء، قد يدفع الحزب ثمنه غاليا فى دورة برلمانية، ترفع شعار «لا مجال للخطأ» و«صوت النائب أمانة.. للرئيس المقبل».
أساتذة القانون: شروط أحمد عز «غير دستورية» والتوكيلات سلب لحرية المرشحين ومصادرة لحقوقهم
لم يكن سعد زغلول وحيدا بل كان معه على شعراوى وعبدالعزيز فهمى، وفد صغير ذهب لعرض مشاكل المصريين فى فرنسا، فرفض المندوب السامى البريطانى، بحجة «من أنتم لتمثلوا مصر؟» وقبل أن يفكر الوفد فى الإجابة، انتشرت التوقيعات نارا على أوراق التوكيلات، وسافر زغلول، وعاد ليُنفى، وتقوم الثورة، شعبية، أعادت «سعد» ليتولى أرفع منصب فى البلاد، وقتها، كرئيس للوزراء.
فى الطريق، بقى الشعب والتوكيلات، ورحل «سعد» و«المندوب»، بقى الوفد وكبر وصار حزبا، يرأسه أستاذ القانون الدكتور نعمان جمعة، ومن الوفد عادت التوكيلات للظهور، ولكن فى صيغة مختلفة، عادت كنوع من الدعاية الانتخابية، على ورق ملصقات دعائية، كُتب عليها «العقد شريعة الناخبين» أعلن الوفد من خلالها عن ثمانية بنود يلتزم «جمعة» فور توليه منصبه بالعمل على تنفيذها، ولأن «جمعة» لم يفز، ولأن الشكل كان دعائياً أكثر منه توكيلاً قانونياً رسمياً، بقى الاختبار الثانى لفكرة التوكيلات معلقاً بين الفشل والنجاح.
ومن ثم جاء البرادعى، جاء على طائرة بيضاء، واٍستقبله الناس استقبال الفاتحين، وبعد فترة قصيرة، جاءت التوكيلات القانونية، تحولت بعد وقت إلى ما يمسى «تفويضات شعبية» الهدف منها إعطاء الدكتور القادم من وكالة الطاقة الذرية القوة والنفوذ للمطالبة بتعديلات دستورية جوهرية، وبصورة أقل ولكن أكثر شبها، عادت توكيلات الوفد للأذهان، بعدما قارب عدد الموقعين على ما أطلق عليه «بيان التغيير» المليون.
ولأن لا الرياح ولا التوكيلات تأتى بما تشتهى المعارضة، قرر عدد من المواطنين، لأهداف مختلفة، جمع توقيعات على تفويضات، تطالب جمال مبارك بالترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية، ووسط جدل عن نوايا ومحركى هذه التحركات، لم تتعد التوقيعات على التفويض، نسبة الـ١٠% من عدد الموقعين على بيان التغيير. قبل أن يفاجئ أمين تنظيم الحزب الوطنى، مؤرخى السياسة المصرية بنوع جديد من التوكيلات السياسية، يتنازل فيه عضو الحزب الوطنى، طواعية لأمين التنظيم وأمين المحافظة التابع لها، عن حقه فى ترشيح نفسه لانتخابات مجلس الشعب، بحيث يكون لأمين التنظيم وأمين المحافظة الحق، فى سحب استمارة ترشيح العضو.
توكيل جديد بطله أمين تنظيم الحزب الوطنى، وموقعوه هم أعضاء الحزب الوطنى، العريق منهم والمجهول، توكيل لا علاقة مباشرة له بـ«حرية مصر» ولن يقدم إلى «مندوب سامى» بريطانى.
فى شارع سياسى، لا يعترف بالبدع، ولا يخاف الضلالات، يجبر الحزب الوطنى أعضاءه على توقيع توكيلات قانونية لأمين تنظيم الحزب، وأمين المحافظة التابع لها كل عضو، تسمح لهم بشكل منفرد بسحب أوراق ترشيح العضو، ومنعه من ترشيح نفسه، طالما خسر فى المجمع الانتخابى.
محاولة لـ«لملمة» آثار «فضيحة المستقلين» الدورية، ولو من خلال توكيلات وصفها القانونيون بأنها «باطلة»، واستدل بها السياسيون على «ضعف وتآكل الحزب الوطنى من الداخل».. توكيلات تثير جدلا، وتعيد إلى الأذهان ذكرى أول توكيلات سياسية فى مصر، التى جمعها الشعب لصالح وفد «سعد زغلول»، وانتهت بأكبر ثورة شعبية عرفها التاريخ المصرى الحديث.
يرى جمال زهران عضو مجلس الشعب، وأستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، أن فكرة التوكيلات التى يصفها بـ«الباطلة»، «محاولة فاشلة من الحزب الوطنى لإخفاء عوراته»، وتساءل «زهران»: «لماذا يلجأ الحزب الحاكم إلى هذه الأساليب؟ التى أراها تعبيرا قويا عن حالة الانحدار التى وصل إليها الحزب، حيث لا توجد قيادات تثق فى الأعضاء، ولا نية للأعضاء للثقة فى القيادات.
ويكمل زهران: «ما حدث يعبر بشكل واضح عن المأزق الذى يتعرض له أعضاء الحزب الوطنى، فلا يمكن أن نجد إخوانياً يرفض قرار الجماعة بترشيحه من عدمه، وهل يوجد يسارى يقبل أن يرفض رأى حزبه فى أسماء المرشحين، بينما يتكرر هذا الأمر بشكل دورى فى الحزب الوطنى، والسبب الأساسى أن الحزب مجموعة من رجال المصالح والمنفعة، الذين انضموا للحزب للحصول على منافع مختلفة، وليس إيمانا بأفكار أو رؤى أو أيديولوجيات، ولهذا وعند أول تعطل لجريان هذه المصالح، ينشق العضو عن الحزب ويترشح مستقلا، لأن المصلحة أهم من الالتزام الحزبى».
الالتزام الحزبى، مصطلح سياسى تقرأ خلفيته المصرية، الدكتورة منار الشوربجى، أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية، التى تقول: الالتزام الحزبى فى كل دول العالم، مختلف عن الالتزام الحزبى فى مصر، لأن الالتزام الحزبى يقوم أساسا على فكرة أن الحزب يساند العضو فى الدائرة، بكوادره فى الدائرة الانتخابية، وبتمويل حملته، ولهذا يظل العضو مدينا للحزب بالفضل فى الفوز، ويظل الحزب الطرف الأقوى لأنه قادر على ترشيح الاسم الذى يريده وضمان النجاح له من خلال القاعدة الجماهيرية التى يملكها فى الدوائر الانتخابية، ولكن فى مصر، الوضع مقلوب، فأعضاء الحزب الوطنى يتقدمون بتبرعات للحزب، وقاعدة العضو فى الدائرة هى أهم أسباب نجاحه وليس قاعدة الحزب.
ومن زاوية قانونية خاصة، يصف القانونى «زياد العليمى» التوكيلات، بـ«الباطلة»، لأنها تتضارب مع مواد دستورية وقوانين أخرى، مثل قانون مباشرة الحقوق السياسية، الذى يعطى كل مواطن مصرى حقوقا لا يمكنه التنازل عنها برضاه أو باختياره، مثل حق التصويت فى الانتخابات» وأكد «العليمى» أن محاولة الحزب الوطنى الالتفاف على القوانين بهذه الصورة، تؤكد فشل الحزب فى إقناع نوابه، وفقدان الحزب ثقتهم، مما يؤدى عادة إلى هذا النوع من الحيل القانونية غير الصحيحة.
وبرؤية مختلفة، تقول الدكتورة مى قاسم، أستاذة العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية: «من وجهة نظر أكاديمية، ما يفعله قيادات الحزب الحاكم، مقبول سياسيا، لأنه، وفى ظل المنافسة الديمقراطية للأحزاب فى الحياة السياسية الطبيعية، فى دولة مثل أمريكا، ليس مطلوبا من الأحزاب ممارسة الديمقراطية الداخلية بشكل كامل، ولكن بعض الأحزاب تضطر إلى استخدام القوة لتفرض سيطرتها على الأعضاء، وهو ما يقوم به الحزب الوطنى، رغم اختلاف الظروف، وفى حالة قانونية هذه التوكيلات، فإن هذه الخطوة عادية وتحدث أشياء مماثلة لها طوال الوقت فى الأحزاب البريطانية على سبيل المثال، التى لها مطلق الحرية فى محاولة السيطرة على أعضائها بأى طريقة» وتؤكد «قاسم» أنه «لابد من التأكيد على اختلاف الظروف بين الحزب الوطنى والأحزاب فى أوروبا وأمريكا، خاصة أنه إذا كانت هذه الخطوة مقبولة سياسيا، فإن ما يحدث فى باقى الساحة السياسية غير مقبول على الإطلاق».
ويحلل حسين عبدالرازق، القيادى فى حزب التجمع، خطوة التوكيلات ويقول: «هذا المنهج فى التعامل مع راغبى الترشيح فى الحزب الوطنى يعكس إدراك قيادات الحزب عجزهم عن تحقيق الانضباط والالتزام الحزبى» ويكمل «رغم أن الحزب يضم عضوية بالملايين كما يحلو لقيادات الحزب التفاخر، فإن التوكيلات تعكس أن العضوية المليونية ليست عن قناعة برؤى أو مبادئ، ولكن بحثا عن مصالحهم الخاصة، التى فى حال تعارضها مع مصلحة الحزب، ينشق الأعضاء لتحقيق أولوياتهم هم» ويتساءل «عبدالرازق» «لماذا ارتكن قيادات الحزب الوطنى كل هذه الفترة ولم يعملوا على بناء كوادر حقيقية بدلا من العضوية المزيفة الباحثة عن مصالحها الشخصية؟»، وهو نفس السؤال الذى طرحه النائب «جمال زهران» وقال: لماذا لا يقوم منظرو الفكر الجديد فى الحزب الحاكم بخطوات حقيقية لإنشاء جيل جديد من القيادات التى تؤمن بالأفكار والمبادئ بدلا من الإيمان بلغة المصالح؟ ولماذا تخرج هذه القيادات بصورة شبه يومية على شاشات التليفزيون للحديث عن الفكر الجديد، وعند انتخابات مجلس الشعب يعيدون إنتاج نفس الوجوه العجوزة البليدة؟
شق سياسى لأزمة التوكيلات، وصّفه وشخّصه سياسيون وأكاديميون، وشق قانونى يصف فيه الدكتور محمد نور فرحات الفقيه الدستورى «التوكيل المطلوب توقيعه لأمين التنظيم المركزى» بأنه غير أخلاقى ويتنافى مع روح الدستور، وأشار إلى أن الشرط يعنى أن الحزب يريد أن يفرض وصايته على أعضائه بمنعهم من ترشيح أنفسهم كمستقلين، لافتا إلى أن الحزب لجأ إلى حيلة صغار المحامين للتلاعب بإرادة المواطن أمام المحاكم، وكان أولى بالحزب أن يحتفظ لنفسه بإنهاء عضوية العضو الذى يرشح نفسه مستقلا بدلاً من أن يجبره على عمل توكيل خاص يسلبه حريته، وذكر فرحات أن من حق الحزب أن يضع الإجراءات التى يراها مناسبة من أجل تنظيم عملية الترشيح داخل الحزب، مع العلم أن هذه الجراءات ينبغى ألا تخل بأى مادة من مواد الدستور.
من جانبه أكد الدكتور مصطفى عفيفى، أستاذ القانون الدستورى، عميد كلية الحقوق بجامعة طنطا الأسبق، أن ذلك الشرط يعد مخالفا للمادة ٦٢ من الدستور التى تنص على حرية الانتخاب وحرية الترشيح، مؤكدا أنه لا يصح لأى جهة حرمان المرشح من خوض الانتخابات لأن ذلك يعد مخالفة دستورية، حتى إن كان العضو وقع التوكيل بإرادته ووافق على بنوده، فلا يحق الاتفاق على أى شرط يخالف الدستور، وبالتالى فإن الشرط الذى وضعه الحزب الوطنى يعد باطلا ومن ثم فإن التوكيل المزعوم أيضا باطل ولا يجوز الأخذ به.
فيما رأى الدكتور إبراهيم درويش، أستاذ القانون الدستورى، أن الحزب الوطنى بهذ الشرط أراد أن يمنع تسرب أعضائه أثناء الانتخابات وترشيح أنفسهم مستقلين إذا لم يقع عليهم الاختيار من الحزب، وأشار درويش إلى أن الانتخابات السابقة للحزب الوطنى أثبتت نجاح ٣٥% فقط من الأعضاء الذين اختارهم الحزب، فى حين نجح غالبية أعضاء الحزب الذين خاضوا الانتخابات كمستقلين، ووصف درويش هذا الشرط بأنه سلب للحرية، مؤكدا أنه من حق أى حزب أن يضع شروطه، ولكن ليس بهذه الاستفزازات التى تسلب العضو حريته وحقه فى ممارسة حقوقه التى يكفلها له الدستور، وتابع يقول: «هذا الشرط يعتبر مصادرة على حرية التعبير متمثلة فى صيغة عقد إذعان وسيطرة مطلقة تؤكد أن النظام السياسى الآن هو نظام قائم على أساس الحزب الواحد الذى انقرض فى كل الدول».
وأشار درويش إلى أن هذا الشرط يؤكد مدى تفكك الحزب الوطنى ومدى فقد سيطرته الداخلية فى الحزب.
وذكر درويش أن المادة ٩٦ من الدستور تؤكد بطلان عضو مجلس الشعب من عضويته، إذا ما فقد أى صفة من الصفات التى ترشح عليها، وبالتالى فإن كل عضو قد ترشح من قبل على أنه مستقل وانضم لأى حزب يعد مخالفاً ينبغى إسقاط عضويته خاصة أن المواطنين رشحوه على صفات معينة وبالتالى فإن الإخلال بها لا يعنى سوى بطلان العضوية.
من جانبه أكد الدكتور عاطف البنا، أستاذ القانون الدستورى، أن هذا التوكيل مخالف للقواعد والمبادئ القانونية لأن التوكيل متعلق بالحق السياسى، والتوكيل يكون فى أمور خاصة لا تتعلق بالحرية أو الترشح إلى الانتخابات من عدمه، ولكن التوكيل فى أن يتنازل عنه شخص ما مهما كانت صفته، فهى مسألة لا تتفق مع المبادئ القانونية ولا يجوز توكيل الغير بها، وخصوصا إذا كان التوكيل غير قابل للإلغاء فهو أمر للمبادئ الدستورية.
وعن فكرة أن التوكيل غير قابل للإلغاء قال البنا: «إن من يكتب التوكيل الآن يستطيع أن يتقدم للترشح كمستقل دون الالتفات إلى ذلك التوكيل لأنه باطل، ولكنه سيواجه مشكلات تتعلق بهؤلاء الذين يتلقون طلبات الترشيح داخل لجان الانتخابات، لأنه بموجب التوكيل يعد متنازلا عن الترشيح وسيرفضون ترشيحه، هنا يصبح له الحق فى أن يطعن أمام مجلس الدولة فى قرار رفض ترشيحه لأن التوكيل مخالف للقانون والدستور ويعد اعتداء على الحقوق السياسية».
ووصف البنا ما وضعه الحزب الوطنى من شروط بأنه أمر غريب موضحا: «كيف يدعى الحزب الوطنى أنه حزب الأغلبية وفى نفس الوقت يصادر حرية المواطنين وحقوقهم»، ولفت إلى أن ذلك بمثابة مقدمة للتلاعب فى الانتخابات، على حد تعبيره، مثلما حدث فى انتخابات مجلس الشورى الأخيرة.