نقابة المحامين من أقدم النقابات المهنية في مصر، قدمت للحياة السياسية نخبة من ألمع الشخصيات التي لعبت دورا بارزا في الحياة السياسية المصرية، وقدمت للبرجوازية المصرية ممثليها الأكثر بروزا، وعددا لا بأس به من القيادات الوطنية، كما قدمت للطبقة العاملة مناضلين مخلصين تبنوا قضيتها ودافعوا عنها وضحوا في سبيلها.
ومن بين كل النقابات المهنية كانت النقابة الأشد تأثرا بالأحداث العامة والأكثر تفاعلا معها، واجهت النقابة سلطة السادات ورفضت سياسات الاستسلام للعدو الإسرائيلي أو التطبيع معه، كما لعبت دور المعارضة عالية الصوت في العديد من القضايا العامة واستمرت في مواقفها الاحتجاجية وذلك رغم وجود نقيب متفاهم مع السلطة ويجيد لعبة المناورة السياسية والمفاوضات والحلول الوسط أمام شدة ضغط المحامين.
وكانت النقابة أقرب إلى المنبر العام المفتوح أمام قوى المعارضة بأنواعها وقدمت لها دعما أدبيا هاما، كما فتحت أبوابها أمام الحركة الطلابية في بعض المناسبات.
وعلى ذلك فإنه من البديهي أن تحاول الحكومات المختلفة وضع القيود على حركة تلك النقابة المشاغبة، لاسيما وأن أزمة برجوازيتنا أزمة بنيوية، وتنعكس على كل الأصعدة، اقتصاد مأزوم يفرض على الحكومات المختلفة ميلا ثابتا إلى الاستبداد السياسي ومحاولة تهميش الجماهير ومنع تسييسها والحذر تجاه ظهور أي كيان مستقل عن السلطة، ناهيك عن أزمتها الوطنية في العلاقة مع الاستعمار الإسرائيلي، والموقف التابع لسياسات الإمبريالية الأمريكية في المنطقة.
لقد دفعت السلطة بالموالين لها للسيطرة على النقابة بكل السبل وسعت من جانبها لاستخدام البرلمان في إصدار تشريعات كابحة فأصدرت القانون 125 لسنة 81 الذي قضى بعدم دستوريته، وأما مؤامرات السلطة وتشريعاتها تحركت كتل المعارضة النقابية وعقدت مؤتمرات عديدة وقامات باعتصامات داخل النقابة، وكان رد رجال السلطة في المجلس هو إغلاق مقر النقابة العامة، لجأت المعارضة لنقابة القاهرة "الفرعية" لتواصل حركتها وتعقد اجتماعاتها، وعقدت المعارضة مؤتمرا حاشدا تحرك جمهوره لكسر الأقفال الموضوعة على النقابة رافعين شعار الشرعية في مواجهة الحكوميين واستطاعوا بذلك استعادة نقابتهم من أيدي عملاء النظام.
واستمرت المؤامرات "التشريعية" ضد النقابة حيث أصدرت الدولة قانونا جديدا هو القانون 17 لسنة 83 (لتفادي أثر سقوط القانون السابق) واستفز هذا القانون موجة جديدة من النضال النقابي في مواجهته، ولكن انتهى الأمر بتعديله بدلا من إلغائه، ويعود ذلك لانخفاض وتيرة الاحتجاج ضده.
أحمد الخواجه هو النقيب الذي دفعت به السلطة وذلك لقدرته على المناورة مع مختلف القوى، والحفاظ على النقابة بالشكل الذي لا يزعج النظام، استطاع الخواجه بسط سيطرته الإدارية وحاول خنق النشاط النقابي المعارض، ولف حوله عددا ضخما من انتهازيي اليسار وأصحاب المصالح والحكوميين وبطانة من المنتفعين، وتحت قيادته تشكل مجلس مارس أغلب صور الفساد النقابي والمحسوبية وتوزيع الخدمات على الموالين لهم — لا ينفي ذلك وجود بعض العناصر الشريفة داخل المجلس والعجزة عن تغيير هذا الوضع أو التأثير فيه — وبالمقابل تشكلت كتل معارضة لمجلس الخواجه شارك فيها الماركسيون والوفديون بنشاط بارز، خاصة وأن الخواجه قد عمل على شل الدور العام الذي تلعبه النقابة وتعطيل فاعليتها وأوقف نشاط لجان : الدفاع عن الحريات، الشئون العربية، اللجنة السياسية، لجنة المؤتمرات …الخ.
وأدت قدرة الخواجة على المناورة بين معارضيه وتردد المعارضة إلى تفككها، لكن ذلك لم يمنع الأحداث من التصاعد الذي جذب معه المعارضة إلى ما عرف بالانتفاضة حيث التف آلاف المحامين حول المعارضة مطالبين بإسقاط الخواجة وعقدوا مؤتمرات مكثفة وازدادت الحشود الغاضبة في لقاءات يومية بمحكمة الاستئناف ووصل مرجل الغضب إلى درجة الغليان، فدعت المعارضة إلى عقد جمعية عمومية غير عادية لسحب الثقة من الخواجة ومجلسه واختيار لجنة مؤقتة تدير النقابة حتى إجراء الانتخابات، وتم عقد الجمعية واختيار الدكتور محمد عصفور الوفدي البارز وآخرون. ورفض الخواجة قرارات الجمعية وبدأ في الاستعانة ببلطجية استخرج لهم بطاقات نقابية مزورة حتى يمنعوا المعارضة من استلام النقابة، وانتقل الصراع لساحات القضاء، عصفور يطلب استلام النقابة والخواجة يطعن في صحة الجمعية العمومية، وحصل عصفور على أحكام لصالحه لكن تواطؤ الأمن وبلطجية الخواجة حولوا الأحكام لأحكام رمزية لم تنفذ أبدا، وحاول أحمد ناصر الوفدي التصدي للبلطجية بالقوة وبالطبع تواطأ الأمن وفشل أحمد ناصر.
واستعاد الخواجة سيطرته على النقابة وسعى للتنكيل بخصومه وشطب أسماءهم من جدول المحامين، وعلى ذلك سكن الصراع قليلا، لكن الغضب والرفض لمجلس الخواجة ظلا يعتملان في الصدور حتى جاءت الانتخابات فأسقط المحامون أعوان أحمد الخواجة وإن كان هو استمر نقيبا. ونتوقف قليلا عند تلك الانتخابات.
الانتخابات الأخيرة:
انقسم النشطاء والمعارضون حول تقييم أحداث "الانتفاضة" وحول الموقف من أحمد الخواجة وتزامن ذلك مع زحف معلن من أعضاء الحزب الوطني، وانضم للخواجة كتلة من اليسار الستاليني — أغلبهم أعضاء في حزب التجمع — وبعض رموز الناصريين، وتعالت الصيحات التي تدعو لإبعاد النقابة عن الاشتراك في القضايا العامة، ووجدت المعارضة نفسها في حالة تفكك وضعف وبالتالي تراجعت حركتها إلى حد كبير. وعلى المستوى العام كانت اللحظة السياسية لحظة هبوط حاد في جماهيرية اليسار الستاليني محليا ودوليا، وتحالفت رموزه مع الدولة واشهر إفلاسه السياسي ولم يعد لديه ما يقدمه للحركة الجماهيرية. وعلى الجانب الآخر كان التيار الإسلامي في لحظة صعوده الجماهيري وظهوره في صورة المعارض الأكثر جذرية والأشد جرأة للدولة والنظام. توزعت الحركة الدينية إلى ثلاثة اتجاهات، اتجاه دعائي صرف ممثل في "جماعة أنس بن مالك" واتجاه عسكري بدأ مع "جماعة المسلمين" المعروفة بالناجين من النار. وامتد إلى الجهاد والجماعة الإسلامية وبعض الجماعات الصغيرة، واتجاه "الإخوان" الذي عادت كوادره القديمة من دول الخليج محملة بالمال والأعمال، وقرروا البعد عن العمل المسلح ودخول حلبة الحياة السياسية واختراق المؤسسات المدنية (الأحزاب والنقابات المهنية)، ومن ثم قدموا مرشحين علنيين للبرلمان ومجالس الأحياء وبدءوا في كسب نفوذ وأنصار داخل النقابات بجانب الأنشطة المالية والتجارية الضخمة.
وفي اللحظة السابقة على انتخابات نقابة المحامين بدأت عناصر الإخوان في الظهور والحركة والتعبئة الواسعة، ساعدهم في ذلك تفكك مجمل خصومهم وكونهم القوى الأكثر تنظيما وانتشارا وقدرة، بجانب مناخ عام كان يلعب لصالحهم. وحيث أن العبث بميزانية النقابة ووجود شبهة فساد مالي كان أحد أسباب التذمر فقد دخل الإخوان من مدخل أنهم الاتجاه الأنظف يدا في المسائل المالية ورفعوا شعار "الأيدي المتوضئة" بجانب شعارهم العام "الإسلام هو الحل". وهبطوا على النقابة من وراء تاريخ الصراعات النقابية في صورة "المخلص" مستفيدين من خلو صفحتهم النقابية من أي تاريخ،وبقدرتهم المادية والمناورة مع بعض قوى المعارضة استطاعوا تحقيق فوزا ساحقا في الانتخابات وتحقيق أغلبية مطلقة مكنتهم من عزل معارضيهم ووضع أيديهم على كل فعاليات النقابة: الأمانة العامة، والصندوق والرحلات، والعلاج والنشر، وغيروا اللجان عدا لجنة الحريات وهمشوا الأعضاء غير الإخوانيين وكذلك الخواجة النقيب، بل وصارت الاجتماعات والقرارات تعقد وتتم بينهم فقط دون إبلاغ الآخرين، هكذا كانت سياسة الإخوان في إدارة النقابة، وهو أمر يرضي النظام بالطبع، لذلك لم يسبب لهم أي إزعاج في مستهل استلامهم النقابة.
قدم مجلس الأغلبية الإخوانية (أو الإخوان فقط في الواقع) وعودا ضخمة للمحامين، منها بناء مستشفى خاص ورفع المعاشات وضبط المالية والدفاع عن استقلال النقابة وغير ذلك، لكن المحصلة كانت مخيبة للآمال، فبدلا من المستشفى الخاص تعاقدوا مع أطباء مرتفعي التكلفة، وحملوا المحامي الجزء الأكبر من مصاريف العلاج، وتحت ذريعة زيادة المعاشات أقدموا على إجراء كان أحد أسباب التذمر من مجلس الخواجة وهو زيادة الاشتراكات والدمغات (أي مضاعفة الأعباء المالية على المحامي)، وفي الجانب المالي ظهرت مشكلات عديدة وممارسات جعلت شعار "طهارة اليد" مشكوك فيه، إذ أسندوا أعمال إلى مقاولين عن طريق التكليف المباشر بدلا من إجراء مناقصات، وطبعت مطبوعات النقابة بذات الأسلوب في مطبعة يملك الأمين العام (الإخواني) أغلب أسهمها. وكذلك خرجت من مالية النقابة بدلات ونفقات مبالغ فيها وأهدرت أموال ضخمة على معسكرات أعدت للدعاية الدينية، ودعموا رحلات حج اكتشف أن بعض المستفيدين منها ليسوا من المحامين ولا مرافقين لهم، وغير ذلك من الأمور التي أدت إلى ارتباك ضخم في ميزانية النقابة، ورفضت بعض البنوك صرف شيكات باسم النقابة،التي يفترض أنها أغنى النقابات المهنية،بسبب عدم وجود رصيد كافي. وبرز اسم مختار نوح - القطب الإخواني - كمسئول أساسي عن هذا الارتباك - إن لم نقل الفساد - المالي. ولتغطية المشكلات التي برزت في الميزانية قام الإخوان بعقد جمعية عمومية صورية لم يحدث فيها أي نقاش وإنما وزعت ورقة للتصويت عليها - هكذا على حالتها ودون مناقشة؟ - وزيادة المعاشات، وذلك في عبارة واحدة: هل توافق على ميزانية 93-1994 وزيادة المعاشات؟ والإجابة على كليهما معا إما بنعم أو لا… وبذلك استغلوا رغبة المحامين في زيادة المعاشات وأجبروهم على الموافقة على ميزانية لم تقرأ ولم تناقش في جمعية صورية أقرب إلى الاستفتاء. وحاولت عناصر يسارية وآخرون من المعارضة التصدي لهذا الأسلوب وفضحه لكن عناصر الإخوان تحرشت بهم وتم الإجراء المشوه للديمقراطية النقابية في أعلى صورها.
وعلى صعيد الدفاع عن استقلال النقابة ومصالح المحامين، فقد كانت معركة قتل عبد الحارث مدني المحامي المنتمي لتنظيم الجهاد حالة كاشفة. إذ اقتحمت المباحث مكتبه دون إذن من النيابة أو إبلاغ المجلس كما ينص القانون، وبعد العبث بالملفات اقتادوه ومات في ظروف غامضة بمقر أمن الدولة، واستفز ذلك جماهير المحامين الذين اعتبروها مسألة اعتداء على حقوق محامي وقضية نقابية ومهنية تتعلق بحقوق المحامي وضمانات ممارسة مهنته، وحاول الإخوان "لم الموضوع" وإدخاله في دائرة الشكاوي والتحقيقات الرسمية وإصدار بيان "إدانة" لكن المحامين الغاضبين توافدوا على النقابة مطالبين بمحاكمة المسئولية والإضراب عن العمل حتى يتم التحقيق وتحديد المسئولين عن قتل المحامي، ولم تفلح محاولات الإخوان في كبح غضب المحامين أو احتوائه، وبالمشاركة مع بعض الشباب الوفدي شكل شباب اليسار لجنة لعبت دورا هاما في الأحداث، وأحجم أغلب اليساريين القدامى عن المشاركة بزعم أنها قضية تخص التيار الديني وحده ولا يجب أن نساعده… ودفع اليساريون الشبان الأحداث في اتجاه الخروج بمسيرة من النقابة لقصر عابدين احتجاجا، ولم تنجح محاولات الإخوان في احتواء فكرة المسيرة، وتحت ضغط الأحداث وشدة غضب المحامين أجبر الإخوان على اتخاذ قرار المسيرة حتى لا ينهار صيدهم لدى جمهور المحامين. وفي اليوم المحدد تجمع حوالي خمسة آلاف محامي في مبنى النقابة بحضور ومشاركة أعضاء من المجلس، وأحاط مبنى النقابة من كل الجهات ما يزيد عن عشرة آلاف جندي أمن مركزي مدججين بالسلاح وفرق كاراتيه وقوات خاصة، وإعلان حالة الطوارئ على مستوى وزارة الداخلية بكل أقسامها، واستعدت قوات أخرى لاستقبال المسيرة عند قصر عابدين، وخرج كبار المحامين وأعضاء المجلس في المقدمة حاملين الورود وقدموها إلى ضباط الأمن أمام المبنى، تردد الأمن في أخذ الورود، وأخذها بعضهم ثم أصدروا أوامرهم بالضرب، فانهالت القنابل على المبنى وعلى حشود المحامين بلا حساب، وتلاها الرصاص المطاطي وفرق الكاراتيه، تراجع المحامون إلى داخل المبنى ولكن القصف استمر لمدة ساعتين عليهم وعلى المبنى، وأصيب عدد كبير من المحامين وتم القبض على بعضهم وتوالى القبض ليلا.
ولم تهدأ الأحداث بل استمرت للمطالبة بالإفراج عن المقبوض عليهم، وتحولت محكمة القاهرة إلى ساحة احتجاج وتظاهر، وأضرب عدد من المحامين اليساريين والإسلاميين وغيرهم عن الطعام داخل مقر النقابة، وتقاعس الإخوان عن تقديم أي دعم للإضراب بل أغلقوا الحجرات أمام المضربين في أيام الإضراب الأولى. وبدخول نقيب القاهرة الوفدي في الإضراب اكتسب قوة واهتماما إعلاميا واسعا، وخضعت الحكومة فأفرجت عن المحامين مما نجم عنه هدوء نسب في حركة المحامين. وبدلا من إصرار المجلس على حق المحامين في الاحتجاج وإدانة الاعتداء على النقابة سعى الإخوان لتلطيف العلاقة مع السلطة واقترحوا إرسال وفد لإزالة "سوء التفاهم" الذي حدث… وصرح الأمين العام الإخواني أن "الشيوعيين همه اللي ورطونا في المظاهرة". وتحولت عناصر الإخوان إلى إسفنجة تحاول امتصاص الغضب النقابي لإرضاء السلطة وخلق جسور تفاهم معها.
أضف إلى ذلك الموقف المتقاعس في مواجهة القانون 100 لسنة 1993 الذي أمم النقابات المهنية ووجه بغضب ضخم من كل المهنيين، حاول الإخوان امتصاص الغضب وعدم اللجوء إلى المواجهة المتصاعدة أو الضغط على السلطة، وهو الأمر الذي مس استقلال النقابة ومهد للسلطة طريقة شرعية لتعويم الانتخابات النقابية ووضعها تحت يد ووصاية الجهاز القضائي، وبغض النظر عن الحراسة يمكن بهذا القانون وحده تعطيل الانتخابات في كل النقابات المهنية.
الحراسة:
تحت ذريعة الخطر الداهم للتيار الديني على المجتمع المدني استطاعت الدولة تدجين وتجنيد الجزء الأكبر من المعارضة الرسمية والمثقفين أصحاب التاريخ الليبرالي أو العلماني، وهزمت الليبرالية المصرية نفسها بأن سخرت أقلامها للدفاع عن الدولة و "الشرعية"، وفي الواقع هو دفاع عن السلطة القائمة والنظام، أجلت المعارضة مواقفها وتخلت عن استقلالها والتحقت بقاطرة النظام لمواجهة خصومه من التيار الديني في تحالف مشبوه وتعاون مباشر مع قيادات الداخلية التي تولت تنظيم المعركة بأقلام المثقفين تنسيقا مع التصفية الجسدية والتعذيب، وحركت الدولة العناصر الموالية لها في النقابات المهنية لرفع دعاوى حراسة على مالية النقابات لشل قدرة الإخوان في التصرف فيها وفي المقدمة نقابة المحامين الأكثف عددا والأعلى صوتا. والهدف الحقيقي هو شل كل قدرة للنقابات ذاتها، وباتفاق معين لم تتحرك المستندات التي تدين فساد الإخوان مقابل انسحاب الإخوان تماما من النقابة. وبالفعل ترك الإخوان كل شيء - وليس المالية فقط كما ينص حكم الحراسة - بيد الحراس وانسحبوا من مكاتبهم ومن المبنى نفسه كليا. وصارت كل اختصاصات المجلس في يد الحراس عمليا، وبذلك سيطر الحراس تماما على النقابة ككل.
تحالف الفتوري والطهطاوي:
بدأت الحراسة على النقابة العامة فقط بثلاثة حراس منهم الخواجة نفسه وسليم العوا المفكر الإسلامي، وانسحب العوا بعد قليل ومات الخواجة وتولى الفتوري، وهو أحمد رضا الفتوري عضو الحزب الوطني، وقد زعم أنه سيعمل فقط على تنقية جداول الانتخابات ثم يرسلها لرئيس محكمة القاهرة لإجراء انتخابات، وبتلك الذريعة استطاع تهدئة وخداع بعض عناصر المعارضة وحول النقابة إلى ما يشبه الجثة، وتحرك عملاء آخرون للدولة لفرض الحراسة على النقابات الفرعية، خاصة وأن المعارضة بدأت في استخدام نقابة القاهرة البديل التقليدي للمعارضة، وجاء بدر الطهطاوي حارسا على القاهرة، وانسحب النقيب الوفدي تاركا له كل الاختصاصات عمليا، ومع الطهطاوي دخلت الحراسة منعطف جديد، فالطهطاوي بلطجي ويلف حوله مجموعة من البلطجية ويستخدم العنف والضرب مع خصومه وعلاقته بالدولة علاقة مرشد رخيص بضباط أمن. وضع الفتوري رجل المناورات يده مع الطهطاوي رجل البلطجة وخلقوا حولهم عددا كبيرا من الأتباع الذين باعوا أنفسهم للحراس نظموهم فيما يسمى "اللجان النقابية" التي تحولت لقوات فض الشغب والتصدي لتجمعات المعارضة وهي لعبة أول من استخدمها الخواجة نفسه، أعلن الطهطاوي رفضه وتصديه لأي عمل سياسي يتم في النقابة وأي وجود لاتجاهات سياسية، والولاء الكامل للسلطة، واستخدم أموال النقابة في شراء الموالين فكثر عددهم ووصل الأمر إلى حد اقتحام اعتصام احتجاجي قامت به المعارضة وفضه بالقوة والاعتداء على المشاركين فيه، ولم تعد الدولة في حاجة لأمنها المركزي لمواجهة المعارضة، فها هو الطهطاوي وبلطجيته يتولون ذات المهمة ويبدو المشهد أمام الرأي العام مجرد نزاع داخلي بين المحامين.
المعارضة… والحراسة:
عملت الحراسة على منع أي نشاط سياسي أو نقابي في نقابة المحامين، واستخدمت في ذلك المحامين الموالين للحراسة والمستفيدين من وجودها، وبالمقابل تجمعت كتل المعارضة التي استشعرت عمق خطر الحراسة وتعرض استقلال النقابة للضياع. جماعة المحامين الديمقراطية تحولت إلى لجنة "إنقاذ النقابة" التي طالبت بإنهاء الحراسة وفتح باب الانتخابات، لكن نشاط اللجنة اقتصر أساسا على لقاء أسبوعي في محكمة الاستئناف وتكرار النقاش والخطب الاستعراضية المضجرة، ضمت اللجنة عناصر إسلامية خارج الإخوان وماركسيين ووفديين وغيرهم، لكن نشاطها - أو بالأحرى غياب نشاطها - أدى إلى انكماشها وانفضاض المحامين عنها، وحيث لم تستشعر الحراسة وجود خطر حقيقي لم تدخل في صدام معها، وفي المرة الوحيدة التي دعت فيها اللجنة لمؤتمر واسع، جاء الطهطاوي بمئات من أتباعه واحتلوا القاعة، ولم يأت لحضور مؤتمر اللجنة سوى بضع عشرات قليلة للغاية. وبين ذلك عجز تلك اللجنة عن القيام بمواجهة جدية للحراسة أو التأثير على جمهور المحامين.
قام د. عصفور وآخرين من كتل المعارضة باتخاذ خطوة أكثر جدية من حيث المظهر إذ دعوا إلى عقد جمعية عمومية غير عادية لإنهاء الحراسة وتشكيل لجنة مؤقتة لإدارة النقابة حتى فتح باب الانتخابات وحضرها مئات المحامين فلم تجازف الحراسة بالتصدي لها، وانتخبت الجمعية عصفور وآخرين وانفضت الجمعية بعد اتخاذ بعض القرارات ولم تظهر بعد ذلك لا هي ولا المجلس المؤقت ولا القرارات!!!!
وبعد ذلك بشهور قليلة قام سامح عاشور الناصري البرلماني والساعي لترشيح نفسه نقيبا للمحامين في الانتخابات بالدعوة لجمعية عمومية أخرى، وبنفس الأهداف تقريبا وغالبا لرفع رصيده الانتخابي لا أكثر، إلا أن الأمن منعها وأغلقوا أمامه مقر نقابة القاهرة حيث كان مقررا عقدها، فعقدت على الرصيف المواجه للمحكمة، وخطب سامح عاشور في المحامين من شرفة مكتبه أمام المحكمة فسميت الجمعية بجمعية الرصيف، وسامح بنقيب البلكونة، وانتهت كسابقتها إلى مجموعة من قرارات لا أكثر.
وفي محاولة من المعارضة لتطوير احتجاجها تقرر عقد اعتصام في 20 أبريل للتعبير عن رفض الحراسة، وفي نفس التاريخ دعا الطهطاوي لجانه النقابية لمؤتمر مبايعة لمبارك، وبدلا من يافطات المبايعة علق الطهطاوي يافطات مكتوب عليها لا للاعتصام، لا حزبية في النقابة، يسقط الاعتصام، ولكن المعارضة صممت على الاعتصام وبدأت الدفة تتحول لصالحها، حاول الطهطاوي المناورة على المعتصمين، وهتف معهم تسقط الحراسة، ولما شعر بفشله جمع بعض أعوانه واقتحم المبنى وفض الاعتصام بالقوة. على أثر ذلك قررت المعارضة تجميع صفوفها وخلق جبهة واسعة لمواجهة الحراسة وإجراء انتخابات، أسفرت الفكرة عن تشكيل لجنة وحدة المحامين وضمت اللجنة عناصر حكومية! وأخوان بما فيهم مختار نوح، وفديين وماركسيين وناصريين وبعض المستقلين النشطين، ورغم أن الأهداف التي حددتها اللجنة أهداف عامة ومتواضعة (إنهاء الحراسة، إجراء انتخابات) إلا أن مرشح الدولة المحتمل (رجائي عطية) انسحب من اللجنة بعد أول اجتماع، ورغم حماس الأخوان في البداية ومشاركتهم الرمزية في اعتصام أبريل إلا أنه لم يلاحظ وجود أي ممثل لهم في مؤتمر 17/6 الذي علقت اللجنة على نجاحه آمال كبيرة، جاء المؤتمر هزيلا ولم يتجاوز عدد الحضور بضع عشرات وهو الأمر الدال على ضعف نفوذ اللجنة وأن الرموز النقابية المشاركة فيها ، مثل سامح عاشور، وأحمد ناصر، ومختار نوح، غير جادة في التعبئة وفي حشد أنصارهم على الأقل بسبب المنافسات الانتخابية الموضوعة في اعتبارهم، فشل المؤتمر رغم وجود تذمر حقيقي بين المحامين من استمرار الحراسة ورغم التحركات الإقليمية بين المحامين في المحفظات المحرومين تقريبا من أي خدمات نقابية، وصار استمرار اللجنة مهددا ما لم تتدارك جوانب القصور في عملها.
ثم جاء مجلس عاشور لنا فيه من النقاط الكثير انتظرونا
ومن بين كل النقابات المهنية كانت النقابة الأشد تأثرا بالأحداث العامة والأكثر تفاعلا معها، واجهت النقابة سلطة السادات ورفضت سياسات الاستسلام للعدو الإسرائيلي أو التطبيع معه، كما لعبت دور المعارضة عالية الصوت في العديد من القضايا العامة واستمرت في مواقفها الاحتجاجية وذلك رغم وجود نقيب متفاهم مع السلطة ويجيد لعبة المناورة السياسية والمفاوضات والحلول الوسط أمام شدة ضغط المحامين.
وكانت النقابة أقرب إلى المنبر العام المفتوح أمام قوى المعارضة بأنواعها وقدمت لها دعما أدبيا هاما، كما فتحت أبوابها أمام الحركة الطلابية في بعض المناسبات.
وعلى ذلك فإنه من البديهي أن تحاول الحكومات المختلفة وضع القيود على حركة تلك النقابة المشاغبة، لاسيما وأن أزمة برجوازيتنا أزمة بنيوية، وتنعكس على كل الأصعدة، اقتصاد مأزوم يفرض على الحكومات المختلفة ميلا ثابتا إلى الاستبداد السياسي ومحاولة تهميش الجماهير ومنع تسييسها والحذر تجاه ظهور أي كيان مستقل عن السلطة، ناهيك عن أزمتها الوطنية في العلاقة مع الاستعمار الإسرائيلي، والموقف التابع لسياسات الإمبريالية الأمريكية في المنطقة.
لقد دفعت السلطة بالموالين لها للسيطرة على النقابة بكل السبل وسعت من جانبها لاستخدام البرلمان في إصدار تشريعات كابحة فأصدرت القانون 125 لسنة 81 الذي قضى بعدم دستوريته، وأما مؤامرات السلطة وتشريعاتها تحركت كتل المعارضة النقابية وعقدت مؤتمرات عديدة وقامات باعتصامات داخل النقابة، وكان رد رجال السلطة في المجلس هو إغلاق مقر النقابة العامة، لجأت المعارضة لنقابة القاهرة "الفرعية" لتواصل حركتها وتعقد اجتماعاتها، وعقدت المعارضة مؤتمرا حاشدا تحرك جمهوره لكسر الأقفال الموضوعة على النقابة رافعين شعار الشرعية في مواجهة الحكوميين واستطاعوا بذلك استعادة نقابتهم من أيدي عملاء النظام.
واستمرت المؤامرات "التشريعية" ضد النقابة حيث أصدرت الدولة قانونا جديدا هو القانون 17 لسنة 83 (لتفادي أثر سقوط القانون السابق) واستفز هذا القانون موجة جديدة من النضال النقابي في مواجهته، ولكن انتهى الأمر بتعديله بدلا من إلغائه، ويعود ذلك لانخفاض وتيرة الاحتجاج ضده.
أحمد الخواجه هو النقيب الذي دفعت به السلطة وذلك لقدرته على المناورة مع مختلف القوى، والحفاظ على النقابة بالشكل الذي لا يزعج النظام، استطاع الخواجه بسط سيطرته الإدارية وحاول خنق النشاط النقابي المعارض، ولف حوله عددا ضخما من انتهازيي اليسار وأصحاب المصالح والحكوميين وبطانة من المنتفعين، وتحت قيادته تشكل مجلس مارس أغلب صور الفساد النقابي والمحسوبية وتوزيع الخدمات على الموالين لهم — لا ينفي ذلك وجود بعض العناصر الشريفة داخل المجلس والعجزة عن تغيير هذا الوضع أو التأثير فيه — وبالمقابل تشكلت كتل معارضة لمجلس الخواجه شارك فيها الماركسيون والوفديون بنشاط بارز، خاصة وأن الخواجه قد عمل على شل الدور العام الذي تلعبه النقابة وتعطيل فاعليتها وأوقف نشاط لجان : الدفاع عن الحريات، الشئون العربية، اللجنة السياسية، لجنة المؤتمرات …الخ.
وأدت قدرة الخواجة على المناورة بين معارضيه وتردد المعارضة إلى تفككها، لكن ذلك لم يمنع الأحداث من التصاعد الذي جذب معه المعارضة إلى ما عرف بالانتفاضة حيث التف آلاف المحامين حول المعارضة مطالبين بإسقاط الخواجة وعقدوا مؤتمرات مكثفة وازدادت الحشود الغاضبة في لقاءات يومية بمحكمة الاستئناف ووصل مرجل الغضب إلى درجة الغليان، فدعت المعارضة إلى عقد جمعية عمومية غير عادية لسحب الثقة من الخواجة ومجلسه واختيار لجنة مؤقتة تدير النقابة حتى إجراء الانتخابات، وتم عقد الجمعية واختيار الدكتور محمد عصفور الوفدي البارز وآخرون. ورفض الخواجة قرارات الجمعية وبدأ في الاستعانة ببلطجية استخرج لهم بطاقات نقابية مزورة حتى يمنعوا المعارضة من استلام النقابة، وانتقل الصراع لساحات القضاء، عصفور يطلب استلام النقابة والخواجة يطعن في صحة الجمعية العمومية، وحصل عصفور على أحكام لصالحه لكن تواطؤ الأمن وبلطجية الخواجة حولوا الأحكام لأحكام رمزية لم تنفذ أبدا، وحاول أحمد ناصر الوفدي التصدي للبلطجية بالقوة وبالطبع تواطأ الأمن وفشل أحمد ناصر.
واستعاد الخواجة سيطرته على النقابة وسعى للتنكيل بخصومه وشطب أسماءهم من جدول المحامين، وعلى ذلك سكن الصراع قليلا، لكن الغضب والرفض لمجلس الخواجة ظلا يعتملان في الصدور حتى جاءت الانتخابات فأسقط المحامون أعوان أحمد الخواجة وإن كان هو استمر نقيبا. ونتوقف قليلا عند تلك الانتخابات.
الانتخابات الأخيرة:
انقسم النشطاء والمعارضون حول تقييم أحداث "الانتفاضة" وحول الموقف من أحمد الخواجة وتزامن ذلك مع زحف معلن من أعضاء الحزب الوطني، وانضم للخواجة كتلة من اليسار الستاليني — أغلبهم أعضاء في حزب التجمع — وبعض رموز الناصريين، وتعالت الصيحات التي تدعو لإبعاد النقابة عن الاشتراك في القضايا العامة، ووجدت المعارضة نفسها في حالة تفكك وضعف وبالتالي تراجعت حركتها إلى حد كبير. وعلى المستوى العام كانت اللحظة السياسية لحظة هبوط حاد في جماهيرية اليسار الستاليني محليا ودوليا، وتحالفت رموزه مع الدولة واشهر إفلاسه السياسي ولم يعد لديه ما يقدمه للحركة الجماهيرية. وعلى الجانب الآخر كان التيار الإسلامي في لحظة صعوده الجماهيري وظهوره في صورة المعارض الأكثر جذرية والأشد جرأة للدولة والنظام. توزعت الحركة الدينية إلى ثلاثة اتجاهات، اتجاه دعائي صرف ممثل في "جماعة أنس بن مالك" واتجاه عسكري بدأ مع "جماعة المسلمين" المعروفة بالناجين من النار. وامتد إلى الجهاد والجماعة الإسلامية وبعض الجماعات الصغيرة، واتجاه "الإخوان" الذي عادت كوادره القديمة من دول الخليج محملة بالمال والأعمال، وقرروا البعد عن العمل المسلح ودخول حلبة الحياة السياسية واختراق المؤسسات المدنية (الأحزاب والنقابات المهنية)، ومن ثم قدموا مرشحين علنيين للبرلمان ومجالس الأحياء وبدءوا في كسب نفوذ وأنصار داخل النقابات بجانب الأنشطة المالية والتجارية الضخمة.
وفي اللحظة السابقة على انتخابات نقابة المحامين بدأت عناصر الإخوان في الظهور والحركة والتعبئة الواسعة، ساعدهم في ذلك تفكك مجمل خصومهم وكونهم القوى الأكثر تنظيما وانتشارا وقدرة، بجانب مناخ عام كان يلعب لصالحهم. وحيث أن العبث بميزانية النقابة ووجود شبهة فساد مالي كان أحد أسباب التذمر فقد دخل الإخوان من مدخل أنهم الاتجاه الأنظف يدا في المسائل المالية ورفعوا شعار "الأيدي المتوضئة" بجانب شعارهم العام "الإسلام هو الحل". وهبطوا على النقابة من وراء تاريخ الصراعات النقابية في صورة "المخلص" مستفيدين من خلو صفحتهم النقابية من أي تاريخ،وبقدرتهم المادية والمناورة مع بعض قوى المعارضة استطاعوا تحقيق فوزا ساحقا في الانتخابات وتحقيق أغلبية مطلقة مكنتهم من عزل معارضيهم ووضع أيديهم على كل فعاليات النقابة: الأمانة العامة، والصندوق والرحلات، والعلاج والنشر، وغيروا اللجان عدا لجنة الحريات وهمشوا الأعضاء غير الإخوانيين وكذلك الخواجة النقيب، بل وصارت الاجتماعات والقرارات تعقد وتتم بينهم فقط دون إبلاغ الآخرين، هكذا كانت سياسة الإخوان في إدارة النقابة، وهو أمر يرضي النظام بالطبع، لذلك لم يسبب لهم أي إزعاج في مستهل استلامهم النقابة.
قدم مجلس الأغلبية الإخوانية (أو الإخوان فقط في الواقع) وعودا ضخمة للمحامين، منها بناء مستشفى خاص ورفع المعاشات وضبط المالية والدفاع عن استقلال النقابة وغير ذلك، لكن المحصلة كانت مخيبة للآمال، فبدلا من المستشفى الخاص تعاقدوا مع أطباء مرتفعي التكلفة، وحملوا المحامي الجزء الأكبر من مصاريف العلاج، وتحت ذريعة زيادة المعاشات أقدموا على إجراء كان أحد أسباب التذمر من مجلس الخواجة وهو زيادة الاشتراكات والدمغات (أي مضاعفة الأعباء المالية على المحامي)، وفي الجانب المالي ظهرت مشكلات عديدة وممارسات جعلت شعار "طهارة اليد" مشكوك فيه، إذ أسندوا أعمال إلى مقاولين عن طريق التكليف المباشر بدلا من إجراء مناقصات، وطبعت مطبوعات النقابة بذات الأسلوب في مطبعة يملك الأمين العام (الإخواني) أغلب أسهمها. وكذلك خرجت من مالية النقابة بدلات ونفقات مبالغ فيها وأهدرت أموال ضخمة على معسكرات أعدت للدعاية الدينية، ودعموا رحلات حج اكتشف أن بعض المستفيدين منها ليسوا من المحامين ولا مرافقين لهم، وغير ذلك من الأمور التي أدت إلى ارتباك ضخم في ميزانية النقابة، ورفضت بعض البنوك صرف شيكات باسم النقابة،التي يفترض أنها أغنى النقابات المهنية،بسبب عدم وجود رصيد كافي. وبرز اسم مختار نوح - القطب الإخواني - كمسئول أساسي عن هذا الارتباك - إن لم نقل الفساد - المالي. ولتغطية المشكلات التي برزت في الميزانية قام الإخوان بعقد جمعية عمومية صورية لم يحدث فيها أي نقاش وإنما وزعت ورقة للتصويت عليها - هكذا على حالتها ودون مناقشة؟ - وزيادة المعاشات، وذلك في عبارة واحدة: هل توافق على ميزانية 93-1994 وزيادة المعاشات؟ والإجابة على كليهما معا إما بنعم أو لا… وبذلك استغلوا رغبة المحامين في زيادة المعاشات وأجبروهم على الموافقة على ميزانية لم تقرأ ولم تناقش في جمعية صورية أقرب إلى الاستفتاء. وحاولت عناصر يسارية وآخرون من المعارضة التصدي لهذا الأسلوب وفضحه لكن عناصر الإخوان تحرشت بهم وتم الإجراء المشوه للديمقراطية النقابية في أعلى صورها.
وعلى صعيد الدفاع عن استقلال النقابة ومصالح المحامين، فقد كانت معركة قتل عبد الحارث مدني المحامي المنتمي لتنظيم الجهاد حالة كاشفة. إذ اقتحمت المباحث مكتبه دون إذن من النيابة أو إبلاغ المجلس كما ينص القانون، وبعد العبث بالملفات اقتادوه ومات في ظروف غامضة بمقر أمن الدولة، واستفز ذلك جماهير المحامين الذين اعتبروها مسألة اعتداء على حقوق محامي وقضية نقابية ومهنية تتعلق بحقوق المحامي وضمانات ممارسة مهنته، وحاول الإخوان "لم الموضوع" وإدخاله في دائرة الشكاوي والتحقيقات الرسمية وإصدار بيان "إدانة" لكن المحامين الغاضبين توافدوا على النقابة مطالبين بمحاكمة المسئولية والإضراب عن العمل حتى يتم التحقيق وتحديد المسئولين عن قتل المحامي، ولم تفلح محاولات الإخوان في كبح غضب المحامين أو احتوائه، وبالمشاركة مع بعض الشباب الوفدي شكل شباب اليسار لجنة لعبت دورا هاما في الأحداث، وأحجم أغلب اليساريين القدامى عن المشاركة بزعم أنها قضية تخص التيار الديني وحده ولا يجب أن نساعده… ودفع اليساريون الشبان الأحداث في اتجاه الخروج بمسيرة من النقابة لقصر عابدين احتجاجا، ولم تنجح محاولات الإخوان في احتواء فكرة المسيرة، وتحت ضغط الأحداث وشدة غضب المحامين أجبر الإخوان على اتخاذ قرار المسيرة حتى لا ينهار صيدهم لدى جمهور المحامين. وفي اليوم المحدد تجمع حوالي خمسة آلاف محامي في مبنى النقابة بحضور ومشاركة أعضاء من المجلس، وأحاط مبنى النقابة من كل الجهات ما يزيد عن عشرة آلاف جندي أمن مركزي مدججين بالسلاح وفرق كاراتيه وقوات خاصة، وإعلان حالة الطوارئ على مستوى وزارة الداخلية بكل أقسامها، واستعدت قوات أخرى لاستقبال المسيرة عند قصر عابدين، وخرج كبار المحامين وأعضاء المجلس في المقدمة حاملين الورود وقدموها إلى ضباط الأمن أمام المبنى، تردد الأمن في أخذ الورود، وأخذها بعضهم ثم أصدروا أوامرهم بالضرب، فانهالت القنابل على المبنى وعلى حشود المحامين بلا حساب، وتلاها الرصاص المطاطي وفرق الكاراتيه، تراجع المحامون إلى داخل المبنى ولكن القصف استمر لمدة ساعتين عليهم وعلى المبنى، وأصيب عدد كبير من المحامين وتم القبض على بعضهم وتوالى القبض ليلا.
ولم تهدأ الأحداث بل استمرت للمطالبة بالإفراج عن المقبوض عليهم، وتحولت محكمة القاهرة إلى ساحة احتجاج وتظاهر، وأضرب عدد من المحامين اليساريين والإسلاميين وغيرهم عن الطعام داخل مقر النقابة، وتقاعس الإخوان عن تقديم أي دعم للإضراب بل أغلقوا الحجرات أمام المضربين في أيام الإضراب الأولى. وبدخول نقيب القاهرة الوفدي في الإضراب اكتسب قوة واهتماما إعلاميا واسعا، وخضعت الحكومة فأفرجت عن المحامين مما نجم عنه هدوء نسب في حركة المحامين. وبدلا من إصرار المجلس على حق المحامين في الاحتجاج وإدانة الاعتداء على النقابة سعى الإخوان لتلطيف العلاقة مع السلطة واقترحوا إرسال وفد لإزالة "سوء التفاهم" الذي حدث… وصرح الأمين العام الإخواني أن "الشيوعيين همه اللي ورطونا في المظاهرة". وتحولت عناصر الإخوان إلى إسفنجة تحاول امتصاص الغضب النقابي لإرضاء السلطة وخلق جسور تفاهم معها.
أضف إلى ذلك الموقف المتقاعس في مواجهة القانون 100 لسنة 1993 الذي أمم النقابات المهنية ووجه بغضب ضخم من كل المهنيين، حاول الإخوان امتصاص الغضب وعدم اللجوء إلى المواجهة المتصاعدة أو الضغط على السلطة، وهو الأمر الذي مس استقلال النقابة ومهد للسلطة طريقة شرعية لتعويم الانتخابات النقابية ووضعها تحت يد ووصاية الجهاز القضائي، وبغض النظر عن الحراسة يمكن بهذا القانون وحده تعطيل الانتخابات في كل النقابات المهنية.
الحراسة:
تحت ذريعة الخطر الداهم للتيار الديني على المجتمع المدني استطاعت الدولة تدجين وتجنيد الجزء الأكبر من المعارضة الرسمية والمثقفين أصحاب التاريخ الليبرالي أو العلماني، وهزمت الليبرالية المصرية نفسها بأن سخرت أقلامها للدفاع عن الدولة و "الشرعية"، وفي الواقع هو دفاع عن السلطة القائمة والنظام، أجلت المعارضة مواقفها وتخلت عن استقلالها والتحقت بقاطرة النظام لمواجهة خصومه من التيار الديني في تحالف مشبوه وتعاون مباشر مع قيادات الداخلية التي تولت تنظيم المعركة بأقلام المثقفين تنسيقا مع التصفية الجسدية والتعذيب، وحركت الدولة العناصر الموالية لها في النقابات المهنية لرفع دعاوى حراسة على مالية النقابات لشل قدرة الإخوان في التصرف فيها وفي المقدمة نقابة المحامين الأكثف عددا والأعلى صوتا. والهدف الحقيقي هو شل كل قدرة للنقابات ذاتها، وباتفاق معين لم تتحرك المستندات التي تدين فساد الإخوان مقابل انسحاب الإخوان تماما من النقابة. وبالفعل ترك الإخوان كل شيء - وليس المالية فقط كما ينص حكم الحراسة - بيد الحراس وانسحبوا من مكاتبهم ومن المبنى نفسه كليا. وصارت كل اختصاصات المجلس في يد الحراس عمليا، وبذلك سيطر الحراس تماما على النقابة ككل.
تحالف الفتوري والطهطاوي:
بدأت الحراسة على النقابة العامة فقط بثلاثة حراس منهم الخواجة نفسه وسليم العوا المفكر الإسلامي، وانسحب العوا بعد قليل ومات الخواجة وتولى الفتوري، وهو أحمد رضا الفتوري عضو الحزب الوطني، وقد زعم أنه سيعمل فقط على تنقية جداول الانتخابات ثم يرسلها لرئيس محكمة القاهرة لإجراء انتخابات، وبتلك الذريعة استطاع تهدئة وخداع بعض عناصر المعارضة وحول النقابة إلى ما يشبه الجثة، وتحرك عملاء آخرون للدولة لفرض الحراسة على النقابات الفرعية، خاصة وأن المعارضة بدأت في استخدام نقابة القاهرة البديل التقليدي للمعارضة، وجاء بدر الطهطاوي حارسا على القاهرة، وانسحب النقيب الوفدي تاركا له كل الاختصاصات عمليا، ومع الطهطاوي دخلت الحراسة منعطف جديد، فالطهطاوي بلطجي ويلف حوله مجموعة من البلطجية ويستخدم العنف والضرب مع خصومه وعلاقته بالدولة علاقة مرشد رخيص بضباط أمن. وضع الفتوري رجل المناورات يده مع الطهطاوي رجل البلطجة وخلقوا حولهم عددا كبيرا من الأتباع الذين باعوا أنفسهم للحراس نظموهم فيما يسمى "اللجان النقابية" التي تحولت لقوات فض الشغب والتصدي لتجمعات المعارضة وهي لعبة أول من استخدمها الخواجة نفسه، أعلن الطهطاوي رفضه وتصديه لأي عمل سياسي يتم في النقابة وأي وجود لاتجاهات سياسية، والولاء الكامل للسلطة، واستخدم أموال النقابة في شراء الموالين فكثر عددهم ووصل الأمر إلى حد اقتحام اعتصام احتجاجي قامت به المعارضة وفضه بالقوة والاعتداء على المشاركين فيه، ولم تعد الدولة في حاجة لأمنها المركزي لمواجهة المعارضة، فها هو الطهطاوي وبلطجيته يتولون ذات المهمة ويبدو المشهد أمام الرأي العام مجرد نزاع داخلي بين المحامين.
المعارضة… والحراسة:
عملت الحراسة على منع أي نشاط سياسي أو نقابي في نقابة المحامين، واستخدمت في ذلك المحامين الموالين للحراسة والمستفيدين من وجودها، وبالمقابل تجمعت كتل المعارضة التي استشعرت عمق خطر الحراسة وتعرض استقلال النقابة للضياع. جماعة المحامين الديمقراطية تحولت إلى لجنة "إنقاذ النقابة" التي طالبت بإنهاء الحراسة وفتح باب الانتخابات، لكن نشاط اللجنة اقتصر أساسا على لقاء أسبوعي في محكمة الاستئناف وتكرار النقاش والخطب الاستعراضية المضجرة، ضمت اللجنة عناصر إسلامية خارج الإخوان وماركسيين ووفديين وغيرهم، لكن نشاطها - أو بالأحرى غياب نشاطها - أدى إلى انكماشها وانفضاض المحامين عنها، وحيث لم تستشعر الحراسة وجود خطر حقيقي لم تدخل في صدام معها، وفي المرة الوحيدة التي دعت فيها اللجنة لمؤتمر واسع، جاء الطهطاوي بمئات من أتباعه واحتلوا القاعة، ولم يأت لحضور مؤتمر اللجنة سوى بضع عشرات قليلة للغاية. وبين ذلك عجز تلك اللجنة عن القيام بمواجهة جدية للحراسة أو التأثير على جمهور المحامين.
قام د. عصفور وآخرين من كتل المعارضة باتخاذ خطوة أكثر جدية من حيث المظهر إذ دعوا إلى عقد جمعية عمومية غير عادية لإنهاء الحراسة وتشكيل لجنة مؤقتة لإدارة النقابة حتى فتح باب الانتخابات وحضرها مئات المحامين فلم تجازف الحراسة بالتصدي لها، وانتخبت الجمعية عصفور وآخرين وانفضت الجمعية بعد اتخاذ بعض القرارات ولم تظهر بعد ذلك لا هي ولا المجلس المؤقت ولا القرارات!!!!
وبعد ذلك بشهور قليلة قام سامح عاشور الناصري البرلماني والساعي لترشيح نفسه نقيبا للمحامين في الانتخابات بالدعوة لجمعية عمومية أخرى، وبنفس الأهداف تقريبا وغالبا لرفع رصيده الانتخابي لا أكثر، إلا أن الأمن منعها وأغلقوا أمامه مقر نقابة القاهرة حيث كان مقررا عقدها، فعقدت على الرصيف المواجه للمحكمة، وخطب سامح عاشور في المحامين من شرفة مكتبه أمام المحكمة فسميت الجمعية بجمعية الرصيف، وسامح بنقيب البلكونة، وانتهت كسابقتها إلى مجموعة من قرارات لا أكثر.
وفي محاولة من المعارضة لتطوير احتجاجها تقرر عقد اعتصام في 20 أبريل للتعبير عن رفض الحراسة، وفي نفس التاريخ دعا الطهطاوي لجانه النقابية لمؤتمر مبايعة لمبارك، وبدلا من يافطات المبايعة علق الطهطاوي يافطات مكتوب عليها لا للاعتصام، لا حزبية في النقابة، يسقط الاعتصام، ولكن المعارضة صممت على الاعتصام وبدأت الدفة تتحول لصالحها، حاول الطهطاوي المناورة على المعتصمين، وهتف معهم تسقط الحراسة، ولما شعر بفشله جمع بعض أعوانه واقتحم المبنى وفض الاعتصام بالقوة. على أثر ذلك قررت المعارضة تجميع صفوفها وخلق جبهة واسعة لمواجهة الحراسة وإجراء انتخابات، أسفرت الفكرة عن تشكيل لجنة وحدة المحامين وضمت اللجنة عناصر حكومية! وأخوان بما فيهم مختار نوح، وفديين وماركسيين وناصريين وبعض المستقلين النشطين، ورغم أن الأهداف التي حددتها اللجنة أهداف عامة ومتواضعة (إنهاء الحراسة، إجراء انتخابات) إلا أن مرشح الدولة المحتمل (رجائي عطية) انسحب من اللجنة بعد أول اجتماع، ورغم حماس الأخوان في البداية ومشاركتهم الرمزية في اعتصام أبريل إلا أنه لم يلاحظ وجود أي ممثل لهم في مؤتمر 17/6 الذي علقت اللجنة على نجاحه آمال كبيرة، جاء المؤتمر هزيلا ولم يتجاوز عدد الحضور بضع عشرات وهو الأمر الدال على ضعف نفوذ اللجنة وأن الرموز النقابية المشاركة فيها ، مثل سامح عاشور، وأحمد ناصر، ومختار نوح، غير جادة في التعبئة وفي حشد أنصارهم على الأقل بسبب المنافسات الانتخابية الموضوعة في اعتبارهم، فشل المؤتمر رغم وجود تذمر حقيقي بين المحامين من استمرار الحراسة ورغم التحركات الإقليمية بين المحامين في المحفظات المحرومين تقريبا من أي خدمات نقابية، وصار استمرار اللجنة مهددا ما لم تتدارك جوانب القصور في عملها.
ثم جاء مجلس عاشور لنا فيه من النقاط الكثير انتظرونا