فرمان من المرشد العام يمنع الخرباوي من الخروج من بيته طوال أيام لانتخابات ومحامي إخواني يتولي التجسس علي زملائه ويسجل ما يحدث وينقله إلي محمد طوسون
لكل شيء بداية.. ولكل شيء نهاية سطرها ثروت الخرباوي المحامي في تجربته التي وصفها بأنها شخصية في قلب الإخوان.. بدأها بكلمة وأنهاها بالرحيل وما بينهما يسرد الكثير من المفاجآت والأسرار التي لا تخلو من الحقائق والوقائع التي تبدو غائبة حتي عن كثير من المنتمين لذلك التنظيم المحظور وتتعامل مع تلك الجماعة من منظور الزجاج الشفاف.. الذي يعري نظرتهم للدين والسياسة والحياة.. صراعات وانقسامات وأقطاب تتلاعب بعموم الناس وتدغدغ عواطف الباحثين عن السياسة والمصالح بلغة دينية تخلط المصلحة بالغاية وتبرر بشعارات جوفاء ما يرتكبونه ضد المجتمع.
قلب الإخوان تجربة شخصية بالوقائع والوثائق والحقائق تكشف لمن لا يعرفون حقيقة التنظيم المحظور ملامح ووقائع تعري محاكم تفتيش الجماعة.
قلبي لم يكن مستريحا, فقد أحسست أن هناك شيئا مايدور في الخفاء لا أعلمه ولا أدري ماهو, لا شك أن غياب عبد السلام دياب عن اللقاء أصابني بالدهشة ذلك أنه كان أكبر المتحمسين للاتفاق مع عاشور وقد كان غيابه مثيرا للحنق والغيظ حتي لعاشور نفسه, كما أنه لم يكن في الترتيب أن يحضر معنا الأخ عليش المحامي الإخواني الذي يعمل بمكتب شقير وكان أثناء جلوسه يتحسس بين الفينة والفينة جيوب الجاكيت الذي يرتديه وكأنه يضع فيه شيئا ثمينا.. ورغم أنني طردت الهواجس التي انتابتني إلا أن هواجسي لم تتوقع أبدا أن يكون اللقاء بكامله مسجلا بالصوت, لم يدر بخلدي أن عليش كان جاسوسا إخوانيا رصد اللقاء وسجله ثم ذهب بالتسجيل الي محمد طوسون, وكأن هناك في الإخوان من صنع جهازا أمنيا يضارع مباحث أمن الدولة هو مباحث أمن الدعوة.
شتان بين من يطلب الحق فيخطئه وبين من يطلب الباطل فيصيبه.. الأول أخطأ والثاني أصاب, ولكن خطأ الأول صواب لأنه اجتهد للحق وصواب الثاني خطأ لأنه انتصر للباطل
تمت انتخابات المحامين في مرحلتها الأولي وتأجلت أسبوعا لعدم اكتمال الجمعية العمومية حيث قرر المستشار المشرف علي الانتخابات تأجيلها ليوم2001/2/24, وفي صباح اليوم التالي وجدت من يطرق باب بيتي.. كان الطارق هو المهندس أحمد شوشة الذي كان في وقت سابق عضوا معي في أسرتي الإخوانية حينما كان مسئول منطقة مدينة نصر ثم أصبح فيما بعد مسئول قسم التربية داخل التنظيم عن محافظة القاهرة.. أثارت زيارة أحمد شوشة لي دون سابق موعد دهشتي إذ كانت صلتي به تباعدت منذ فترة ليست بالقريبة خاصة بعد أن شغلته مسئولياته التنظيمية التي تدرج إليها وصعد سلالمها درجة درجة ولم يعد هناك بالتالي متسع من الوقت للتواصل المباشر بيننا.
كان أحمد شوشة قيادة إخوانية بارعة في العمل التنظيمي ومتطلباته وبيروقراطيته وقد ارتبط بالمهندس خيرت الشاطر ارتباطا وثيقا منذ كان طالبا في كلية الهندسة جامعة المنصورة, وقتها كان خيرت الشاطر معيدا بهذه الكلية وكان قد بدأ يخطو إلي الوجهة الإسلامية, وبسبب براعة الشاطر وذكائه وثقافته فقد استطاع اجتذاب قطاع عريض من الطلبة إلي ناحيته وكان شوشة من هؤلاء الطلبة الذين تعلقوا بأهدابه, وتوثقت عري أحمد شوشة بالإخوان خاصة أن صلات ما قامت بينه وبين عدد من كبار الإخوان بمحافظة دمياط التي ينتمي إليها حيث ارتبط تنظيميا بالحاج أسعد زهران مسئول الإخوان بهذه المحافظة التليدة إخوانيا, كما أنه ـ الحاج أسعد زهران ـ أحد القيادات التاريخية للجماعة وأحد أكثر المرتبطين تنظيميا بالحاج مصطفي مشهور, وبعد أن التحق شوشة بالإخوان وسبر غورها أصبح من المرتبطين بالشاطر تنظيميا خاصة بعد أن جمعتهما منطقة واحدة هي منطقة مدينة نصر, وبعد أن أصبح الشاطر ملء السمع والبصر وصاحب قرار داخل الإخوان أصبح أحمد شوشة بدوره صاحب مواقع قيادية فيها فأصبح مثلا مسئول منطقة مدينة نصر ثم مسئول قسم التربية عن محافظة القاهرة.
أدركت من أول وهلة أن هذه الزيارة التي باغتني بها شوشة وراءها ما وراءها, فقلت في نفسي وعند جهينة الخبر اليقين
أخذ المهندس شوشة في حديثه معي يطيل في مقدمات أدركت منها أن هناك مستجدات من شأنها أن تعكر الماء حتما ولكنني تركته يتحدث بلكنته الدمياطية المحببة دون أن أقاطعه حتي صك أذني بخبره الذي جاء من أجله.
صدر قرار من المرشد يا أخي الحبيب بمنعك من الخروج من بيتك حتي تنتهي الانتخابات.. وساد الصمت بيننا إذ سلب الذهول عقلي للحظة... ثم ما لبثت الدهشة أن غلبتني حتي سيطرت علي فؤادي ثم أنقلبت الدهشة إلي ابتسامة وكادت الابتسامة تتحول إلي قهقهة كبيرة ترج حوائط البيت لولا أن غالبت نفسي وتحكمت في انفعالي واعتصمت بالصمت حتي لا تفضحني تلك القهقهات المكتومة, وفي الوقت الذي كنت فيه أغالب ضحكاتي كان المهندس شوشة ينظر إلي وجهي متفرسا عله يري أثر الخبر الذي ألقاه علي سمعي, وبعد فترة من الصمت استطرد المهندس شوشة قائلا: أعلم يا أخي الحبيب أن هذا القرار ظالم وليس له سابقة في تاريخ الإخوان وأنا وكل إخوانك في مدينة نصر يرفضونه لكننا جميعا لا نملك شيئا إزاء هذا القرار ولا نستطيع إلا السمع والطاعة.. ثم أردف وكأنه يبرر القرار: ماذا نفعل في إخوانك من المحامين لقد أوصلوا للحاج مصطفي أنك كنت تحارب قائمة الإخوان,وقالوا له أن هذه الحرب من شأنها أن تؤثر في نجاحهم وأنت تعلم أن الحاج مصطفي مريض وليس في إمكانه أن يتحمل الإلحاح وتحت ضغط بعض الإخوة أصدر هذا القرار.. وأكمل قائلا: كلنا يعلم أن هناك في الإخوان من ارتكب موبقات تنجس البحر المتوسط ومع ذلك لم يصدر ضده مثل هذا القرار, ولكننا نريد هنا في منطقتنا أن نضرب المثل علي الالتزام ونثبت لإخواننا وقادتنا أننا نسمع ونطيع حتي ولو كان القرار ظالما.. وأنت ستضرب لنا جميعا المثل وستكون قدوتنا في السمع والطاعة وتنفذ هذا القرار خاصة أن مدته ستة أيام فقط.. وكلنا يا أخي الحبيب يثق في أنك ستساعدنا بحسن طاعتك علي أن نرد كيد إخوانك من المحامين.
واستطرد يشجعني علي الطاعة: أذكر يا أخي أنني سمعت قولا من أشياخي في الإخوان ظل ساكنا في فؤادي بل اتخذته دستور حياتي هو الأخ بين يدي مرشده كالميت بين يدي مغسله يقلبه كيف يشاء.. وليدع الواحد منا رأيه فإن خطأ مرشده أنفع له من صوابه في نفسه.
اختلطت في قلبي مشاعر متنوعة إذ فكرت أن أقول له مالي ومالكم.. كيف طاوعني عقلي أن أنضم لجماعة هذا هو تفكير قائدها الأعلي؟!
راودتني نفسي أن أقول له قل لمرشدك أنه حول الجماعة إلي تنظيم خاص وأنه آن لي أن أمد قدمي لأترككم تنهلون من عسكريتكم التي قلبتم بها وجه الجماعة.. أف لكم وما تتبعون.. إلا أنني طردت كل ما اعتمل في فؤادي حيث حدثتني نفسي قائلة.. فلأسايره للنهاية حتي أري ما في جعبتهم.. ثم قلت له بصوت خفيض وأنا أصطنع الهدوء.. ولكنني أعمل يا أخي الكريم في المحاماة ولي مكتبي الذي يجب أن أذهب إليه يوميا وعندي العديد من القضايا التي يلزم أن أتابعها وأحضر جلساتها بنفسي وهذه القضايا هي محض مصالح لعامة ناس ارتبطت معهم بعقود والقرآن يحضنا علي الوفاء بالعقود فالله سبحانه وتعالي قال لنا في كتابه الكريم( أوفوا بالعقود) فكيف أنقطع عن هذا وكيف لا أذهب إلي عملي الذي هو مصدر دخلي وقوتي وقوت أولادي فذهابي فقط للمكتب يضمن لي دخلا ماليا من الاستشارات أعتبره هو الأساس عندي ؟ أيعقل هذا!!
احتار المهندس شوشة بطيبته المعهودة في الجواب ولكنه أمسك بالهاتف واتصل بالمهندس ممدوح الحسيني الذي كان وقتها مسئول منطقة مدينة نصر وطلب منه أن يستأذن الحاج مصطفي مشهور في أن أذهب فقط للمكتب ولجلساتي في المحكمة, إلا أن الحاج مصطفي مشهور لم يأذن رغم وجاهة الطلب إذ كان يتصرف وكأنه الحاكم والقائد الأعلي تجاه أحد الجنود الذين خالفوا قواعد العسكرية الصارمة.. وهنا عادت ذاكرتي القهقري عندما كنت أخطو قدما في سلك الإخوان أثناء وجودي بمنطقة الزيتون في النصف الثاني من الثمانينيات عندما تم التحقيق مع الأخ عمر التلاوي ـ وقد كان وقتها مسئولا عن إحدي الشعب الإخوانية ـ لأنه تجرأ وخرج عن أوامر قيادات منطقة شرق القاهرة التي كانت تلزم الجميع بالتصويت للحاج مصطفي مشهور في انتخابات شوري الإخوان!! مع أن فلسفة الانتخابات تقوم علي الاختيار الحر لا علي التكليف والأمر وإلا فقد التصويت قيمته.. ونظرا لأن الأخ قد صدق أن التصويت يتم بشكل حر فقام بإعطاء صوته لآخر كان يري أنه يستحق أكثر من مصطفي مشهور فكانت الطامة الكبري وتم وقفه لمدة عام وتجريده من درجته الإخوانية.
وتذكرت الأخ فوزي الجزار المحامي ـ رحمه الله ـ الذي كان شخصية إخوانية لها حضورها الطاغي والمؤثر في منطقة إمبابة وكان عضوا بمجلس نقابة المحامين الفرعية بالجيزة.. وحدث أن قامت زوجته في جلسة مع الأخوات بانتقاد تصريح سياسي للحاج مصطفي مشهور فوصل الانتقاد عن طريق الجاسوسات لقيادات الإخوان التي طلبت في أمر صارم تجرد من المشاعر من الأخ فوزي تطليق زوجته التي خرجت عن جادة الصواب وانتقدت الحاج مصطفي في جمع من الأخوات!! وعندما رفض الأخ ما طلبوه قامت الجماعة بفصله وحاربته في رزقه وأمرت كل الإخوان بسحب قضاياهم من مكتبه...( وبعد خمس سنوات مات فوزي الجزار كمدا يتجرع جحود الإخوة.. وقد كان هذا الجحود عنده ـ كما قال لي قبيل وفاته ـ أشد قسوة عليه من مرض السرطان الذي نخر في جسده.. مازلت أذكره وهو يتجرع الحسرة في نزعه الأخير.. حينها قال لي وهو يغتصب ابتسامة مجهدة.. وظلم ذوي القربي أشد مضاضة علي النفس من وقع الحسام المهند... وبعدها بأيام فاضت نفسه)
توالت هذه الذكريات علي خاطري أثناء مفاوضات الإخوة مع الحاج مصطفي مشهور.. وأخيرا قبل الرجل أن أذهب للمحكمة فقط دون المكتب فقد أقنعوه أن عندي قضايا هامة يستحيل تركها فوافق بشرط أن يرافقني أحد الإخوة في الذهاب للمحكمة والإياب منها.
واذن الحاج ايضا ـ رحمه الله ـ تكرمه منه أن أخرج من بيتي صلاة الجماعة علي أن يكون ذلك بالمسجد القريب من بيتي!!, ومن عجب أنني علمت فيما بعد أن قرار حظر الخروج ومنع التجول كان خلفه اثنان من العقليات الاكاديمية العلمية في الجماعة من المتخصصين في علم الجيولوجيا هما الدكتور محمد حبيب والدكتور رشاد بيومي عضوا مكتب الإرشاد!! فهل للجيولوجيا وفروعها علاقة بهذا القرار العسكري!! هذا أمر ينبغي أن يخضع لتحليل وتنقيب.. لاشك أن هذا القرار العرفي وفقا للناظر في تاريخ الجماعة هو أعجب وأغرب القرارات التي صدرت في تاريخ الإخوان. ومن قدر الله أن كان هذا القرار من نصيبي تلقفته كما أتلقف كرة ملتهبة من النار إلا أن هذه الكرة النارية أكدت لي بما لايدع مجالا للشك أن الجماعة انقلبت إلي وجهها الذي كان مستترا عني وعن كثيرين غيري, كنت قد دخلت الاخوان من أجل نهج دعوي دون أن أحفل ببعض مظاهر تنظيمية تحض علي الطاعة إذ ظننت ـ كما ظن غيري ـ أن الفهم مقدم علي الطاعة وأن الطاعة هي طاعة محبة لا طاعة عسكرة وأن العمل الدعوي يشفع طاعة منزوية في قاع الجماعة, ويكفي أن الدعوة تغلغلت في شرايين الجماعة إذ كان ظني أنها جماعة مدنية.. وأظن أنها كانت كذلك إلي أن سيطر عليها ذلك الفريق الذي قال عنه الدكتور السيد عبدالستار المليجي ـ القيادي الإخواني البارز ـ فيما بعد( إنهم مجموعة خطفت الجماعة), وقال عنهم المهندس أبو العلا ماضي( الإخوان طائرة تم خطفها من أفراد التنظيم الخاص).
كان إعلان الحكم العرفي الصادر بمنعي من التجول لمدة ستة أيام داعيا إلي تعقيب وتنويه المفكر الإسلامي الدكتور محمد سليم العوا في جريدة الأهرام إذ كتب يوم الاثنين الموافق2008/3/5 وهو يحلل نتيجة انتخابات نقابة المحامين وقد وقف تيار إسلامي كله بثقله.. وتنظيمه المحكم.. في أوساط المحامين يؤيد الأستاذ رجائي عطية.. وحين تصرف بعض المحامين المنتسبين إليها في الجولة الأولي علي غير مقتضي موقفها المعلن.. طلب منهم وامتثلوا!! أن يعتزلوا الناس كافة فيما بين جولتي الانتخابات, ويلزموا بيوتهم حتي لايؤثر سلوكهم في موقف المحامين الآخرين من الجماعة نفسها.
أسرعت إلي الدكتور توفيق الشاوي أستشيره وأبثه لواعج نفسي وأحكي له ما حدث من جماعته أو بالأحري ما حدث من جماعتنا.. وكنت قد ذهبت إليه قبل وبعد انتهاء المحاكمات العسكرية عدة مرات ووجدت منه استنارة فريدة وحكمة بالغة وسعة أفق, إلا أنني انقطعت عنه منذ آخر زيارة لفترة طويلة لم أره فيها ولم أتحدث معه, وعندما تصاعد دخان الأحداث وصدر المنع من التجول تحرقت شوقا لإخباره بالمستجدات حتي أن سيارتي كانت تستبق الزمن وأنا في الطريق إلي بيته وكأنها مثلي تتحرق شوقا له, أنصت الدكتور بعمقه المعهود ثم قال: كاد الهلع يصيبني من هول ما سمعت.. يحدث الآن ماتخوفت منه يابني.. لقد تمت عسكرة الجماعة رغما عن أنفها.. ثم تمتم قائلا بصوت مبحوح: وكأنما لم يكن لدي شك أن الجماعة علي يد الحاج مصطفي ومن هم علي شاكلته الفكرية في طريقها إلي العسكرة.. فهكذا نشأ الرجل وعلي هذا جبل هو وهم.
قلت له وأنا أضغط علي الحروف بصوت خفيض يكاد يرتعش من التوتر: ولكن ألا يوجد في الجماعة من يقف ضد هذه العسكرة؟ أليس فيهم رجل رشيد؟
قال الأستاذ وقد استصحب في قوله سنين خبرته وتجربته: لن يتمكن الإصلاحيون من الوصول إلي مانصبو إليه إلا إذا حل جيل محل جيل وهذا أمر يصعب تحقيقه مع تلك المعادلة الفكرية التي اجتاحت قلب الجماعة.. ليس في طوق أحد الان أن يجري تعديلا بالشكل التنظيمي المتعارف عليه.. نحتاج يابني إلي ثورة تنظيمية وفكرية.. ثورة تعيد الجماعة إلي قلبها الأصلي.
قلت بشغف: أتقصد ثورة يقودها جيل الشباب من أجل أن يصل إلي المقاعد العليا.
قاطعني: ليس الشباب هنا مرحلة سنية ولكنه نمط في التفكير ومنهج وعقيدة.. فأولئك الذين نقصدهم غرسوا مفاهيمهم الدخيلة في عقول الأجيال الجديدة فأصبح الجديد كالقديم وكأنك تقلب الجورب علي وجهه الآخر ولكنه مازال هو هو نفس الجورب.
نظرت إلي برواز معلق علي الحائط الأمامي يحتوي علي صورة نادرة للشيخ حسن البنا وأطلت النظر فيها ثم قلت له: الم ينشئ حسن البنا ذلك النظام الخاص الذي أفرز تلك النوعية التي تقصدها والتي عسكرت الجماعة؟
قال الأستاذ: من الظلم لحسن البنا أن نجعله قديسا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فلقد أخطأ البنا في أشياء كثيرة إلا أن من كتب تاريخ الإخوان من جماعتنا كتبوه بعقلية المريد لا بعقلية الباحث لذلك تتكرر الأخطاء.. البنا أخطأ لاشك في مسألة التنظيم الخاص وقد اعترف لي ولآخرين قبل موته بهذا الخطأ وقال( لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أنشأت النظام الخاص).
قاطعته بأدب: وأين يكمن الداء الآن ياأستاذي؟ لا أظن أن الجماعة فيها تدريبات عسكرية الآن.
عادت إليه الابتسامة وهو يقول: ليست العسكرة هي التدريب علي السلاح ولكن العسكرة نمط في التفكير وآلية في الإدارة وآيات العسكرة كثيرة قلت له وأنا أرشف الشاي: مثل ماذا؟
قال: دعك من قرار منعك من الخروج من بيتك فهذا كشف عن الداء العسكري الذي أحاط بالجماعة, ولكن قرار حظرك هذا لم ينشئه.. آيات العسكرة ياعزيزي تظهر قبل هذا وذاك في انعدام قنوات الشوري داخل الجماعة, واختفاء الحوار الجاد, وإفراغ الساحة الداخلية لمن يقدمون الولاء العاطفي فهؤلاء وحدهم هم أصحاب الحق في الترقي, مما منح الفرصة لنماذج انتهازية خالية من أي قدر من الكفاءة لكي يكون لها موقع الصدارة في الجماعة في كل التشكيلات, وهاهم أولاء يمنعونك من الخروج من بيتك لأنك اختلفت معهم في الرأي.
قلت مؤكدا: أري أيضا يا أستاذنا الحبيب أن الشكل التنظيمي يقترب من الأشكال العسكرية فعندنا قيادة وجنود, كتائب ومخيمات ومعسكرات, ومفاهيم ترفع من شأن الطاعة والثقة وكأننا جحافل من الأمن المركزي.. فهل الأمر بحاجة لهذه العسكرة؟ هل نحن في مواجهة مع استعمار؟ لسنا يا سيدي الأستاذ كتائب شبه عسكرية المفروض أننا جماعة مدنية دعوية فكرية ولن نحصد من العسكرة إلا القمع والمواجهات الأمنية والاستغراق في خصومات لاطائل من ورائها, ولم نعد قادرين علي تحمل كلفتها الباهظة.
قال الأستاذ معقبا: لقد قال لهم المرحوم محمود عبدالحليم مثل ما تقول الآن وكان جزاؤه الإبعاد عن أي موقع وكان التلمساني رحمه الله يؤمن بهذا ولكنهم أحكموا الخناق علي الجماعة واستلبوها لأنفسهم, وأنا نفسي أين تراني؟ رغم تاريخي وسبقي في الجماعة إلا أنني أجلس في ضفة وهم يجلسون في ضفة أخري وما ذلك إلا لأنني أؤمن بغير ما يؤمنون به.. أنا صاحب عقلية مدنية وهم أصحاب عقلية عسكرية.. وهنا اختنق صوته أو كاد وقال وهو يحاول أن يرفع صوته: هاهي الأيام تؤكد أن الجماعة قد تم خطفها وعسكرتها.
بعد انصرافي من عند الدكتور عقدت العزم علي رفض قرار حظر التجول إذ ليس هناك مبرر يدعوني إلي قبول مثل هذا الاستبداد.. إلا أن اتجاه تفكيري تغير عندما أخبرني أحد أصدقائي من المحامين الإخوان عن أمر نوي أن يفعله محمد طوسون, فقلت في نفسي آن للرمح أن يرتد إليهم.. وفي المساء ذهبت للمهندس ممدوح الحسيني في مكتبه الهندسي بمدينة نصر وكان عنده وقتها المهندس أحمد شوشة وقلت لهما بعد أن أضمرت ما في نفسي: سأطيع القرار وسأنفذ ما طلبتما مني فاستبشرا خيرا وقبلاني.
أصبحت في الإخوان من أهل الخطوة
كان صبح اليوم التالي قد أوشك علي الرحيل حيث بدأ في سحب بساطه الذي تغلفه برودة محببة ولم تكن الشمس قد توسطت السماء بعد حينما أمسكت بالهاتف وحدثت المهندس ممدوح الحسيني:
أخي الكريم أريدك أن تمر علي بالبيت لأمر غاية في الخطورة.
ـ علي الرحب والسعة أخي الحبيب سأمر عليك إن شاء الله قبل صلاة العصر ولك أن تتحدث معي بما شئت ثم سنذهب بعد حديثنا لصلاة العصر في مسجد موسي بن نصير القريب من بيتك إن شاء المولي عز وجل.
ـ جزاك الله خيرا.
وسرعان ما حضر المهندس الحسيني قبيل موعده المضروب يبدي بحميمية واضحة ومحبة زائدة رغبته في الاستماع لما عندي.
نزح المهندس ممدوح الحسيني إلي مدينة نصر من منطقة حدائق القبة حيث كان مسئولا عنها وما إن حل برحله إلي مدينة نصر حتي أصبح المسئول الأول عنها, وكان أميز ما يميز المهندس الحسيني أنه يحمل قدرا من العلم الشرعي فقد تخرج من هندسة عين شمس في أوائل السبعينيات, ثم سافر إلي المملكة السعودية للعمل وهناك التحق بالإخوان وعاد إلي مصر ليلتحق بعد ذلك بالأزهر الشريف ويتخصص في أحد العلوم الشرعية وبذلك جمع بين تخصصين.. الهندسة والعلوم الشرعية, ولم تمر أشهر علي عودة الحاج مصطفي مشهور من خارج البلاد عام1986 بعد خمس سنوات من الغربة حتي استطاع استقطاب العديد من الشباب إليه والذين كانوا معه بمثابة فرسان المعبد, كان المهندس ممدوح الحسيني هو أحد هؤلاء الفرسان من الشباب الذين تقاطروا خلف مشهور يرفعون سيوفهم التنظيمية في مواجهة كل من يريد أن يقوض أركانهم.
بعد عبارات الترحيب المعتادة قلت للمهندس الحسيني وأنا أقدم له كوب الشاي وقطعة الكيك: لقد عرفت من بعض إخواني من المحامين الإخوان أن محمد طوسون ومعه بعض الإخوان المحامين من فريقه سيقدمون عقيب الانتخابات شكوي جديدة ضدي للمرشد وسيدعون فيها أنني خالفت قرار الحاج مصطفي المتضمن منعي من الخروج من بيتي وسيزعمون أنني خرجت وذهبت للنقابة يوم الانتخابات ووقفت أدعو ضد قائمة الإخوان!! فماذا تري يا أخي ؟
أمسك المهندس الحسيني كوب الشاي بيد مرتعشة وكأن رعشته تعبر عن ضجرة من هذه القصة التي أقحمته فيها القيادات دون حول ولا قوة منه..
إلا أنه قال وهو يتصنع الحكمة إنك تتحدث عن أمر مستقبلي في عالم الغيب حيث لا يستطيع أحد أن يجزم به ولا أن يؤكد وقوعه ولا أظنهم سيفعلون ذلك إلا إذا خالفت القرار بالفعل, هم في الأول والآخر إخوانك ولا يبتغون إلا صالح الدعوة فلماذا سيتعقبونك بالشكاوي ؟ أراك مغاليا في توقعاتك يا أخي الحبيب.
قاطعته قائلا: هذه ليست توقعات ولكنها معلومات.. ثم أردفت: ومع ذلك سأقترح عليك اقتراحا
ـ تفضل
ـ أظن أن الشكوي التي أعرف يقينا أنهم يعدون لها من الآن سيتم تقديمها للمرشد وستكون عن مخالفتي للقرار في يوم الانتخابات, والمسألة بسيطة يا أخي أقترح أن أقضي معك يوم الانتخابات في مكتبك الهندسي من الصباح باكرا وحتي اخر الليل حتي تكون شاهدا بعد الله سبحانه وتعالي علي موضع وجودي في يوم الانتخابات, فإن تقدموا بشكوي سيتضح للجميع أنهم يكذبون كما يتنفسون, وقتها سأطلب حقي منكم جميعا, وإن لم يتقدموا بشكوي كما تظن فلن نخسر شيئا يكفيني شرف الوجود في معيتك في هذا اليوم.
لم يكن أمام المهندس الحسيني إلا أن يوافق علي الفكرة فورا إلا أنه أضاف اقتراحا بأن أنوي الصيام في هذا اليوم. وأكمل قائلا: إن الصالحين من عباد الله سبحانه وتعالي يحاربون المعاصي بالطاعات وما يحدث في نقابة المحامين بينكم الآن هو من أعلي المعاصي ولذلك يجب أن نتزود بالطاعة ثم استطرد: سنفطر معا في هذا اليوم ثم نستمر في المكتب لصلاة العشاء علي أن نصلي مع مجموعة من الإخوة سيحضرون لمكتبي آنذاك ثم سيمكثون معي بعد انصرافك لبعض شأنهم التنظيمي.
وأضاف أنه سيقوم بإبلاغ المرشد بخبر هذه الفكرة حتي يستأذن منه في خروجي من البيت يوم الانتخابات للمكوث معه إذ تقتضي القواعد أن يتم الحصول علي موافقة المرشد لإضافة هذا الاستثناء.
كان لابد مما ليس منه بد, رغم أنني كنت قد عقدت العزم علي أن أخفي الأخبار عن مختار نوح وعن باقي الإخوة في محبسهم إلا أن تطور الأحداث دفعني إلي كتابة خطاب يحتوي علي كل التفصيلات كبيرها وصغيرها واستطعت بطريقتي الخاصة أن أرسل له هذا الخطاب بعيدا عن أعين الرقيب الأمني داخل السجن وقد احتوي خطابي علي شرح تفصيلات قرار المرشد بمنعي من الخروج من البيت لأسبوع ثم شرحت مبررات قبولي للقرار وأضفت في نهاية الخطاب ذلك الذي انتويته بقضاء يوم الانتخابات في مكتب المهندس ممدوح الحسيني وشرحت الأسباب التي دفعتني لاتخاذ هذا القرار.
وجاء يوم الانتخابات
كان شهر فبراير في هذا العام يعبر عن فصل الشتاء خير تعبير وكأنه ممثله الشخصي ومندوبه السامي إلا أن يوم الرابع والعشرين منه كان كريما كأجود الكرماء إذ لم يرد أن يخوض المحامون غمار انتخاباتهم في جو بارد فأرسل فبراير سراح أشعة الشمس في هذا اليوم ليصبح الجو دافئا جوادا ولعل بعض دفئه انبثق من سخونة تلك الانتخابات التي اشتعل أوارها في نقابة المحامين.
وما ان ظهرت تباشير الصباح ترفل في السماء حتي أخذت مصحفي وذهبت إلي مكتب المهندس ممدوح الحسيني الذي لم يكن قد حضر بعد, وانشغلت بقراءة القرآن إلي أن حضر الرجل فأخذنا نتجاذب أطراف الحديث ثم تركني وانخرط في أعماله أما أنا فقد شغلت وقتي طوال اليوم بقراءة القرآن, وعند أذان المغرب صلينا جماعة مع بعض الإخوة حيث شاركنا بعضهم في طعام الإفطار وكان منهم الأخ صادق الشرقاوي الذي تم حبسه في وقت لاحق في القضية العسكرية التي حبس فيها خيرت الشاطر والمعروفة بالقضية رقم2 لسنة2007, وبعد صلاة العشاء جاء الخبر اليقيني بأن الاقتراع في النقابة قد انتهي وآن لي أن استرد حريتي وأن أغادر المكان فقد انتهت بانتهاء الاقتراع مدة الحظر وانقضي سبب منع التجول وأصبح من حقي أن أخرج كما أشاء وأمارس حياتي كما يحلو لي.
نجح سامح عاشور نقيبا للمحامين ونجحت قائمة الإخوان بأكملها!!
فأصبح عاشور نقيبا بلا مجلس وأصبح المجلس مجلسا بلا نقيب فقد بدأ الشقاق بين الفريقين وكأنهما فريقان يختضمان.
وبعد يومين طلبني المهندس الحسيني حثيثا واستسمحني في زيارته بمكتبه فذهبت إليه بعد أن كنت قد وليت وجهي صوب مكتبي.
وما إن شاهدني أدخل عليه حتي بادرني قائلا: حدث ما تخوفت منه
ـ كيف ذلك
تقدم طوسون ومعه آخرون من إخوانك بشكوي ضدك قدموها للحاج مصطفي مشهور
ـ يا الله وماذا قالوا في شكواهم ؟
الذي توقعته أنت.. قالوا إنك خالفت القرار وخرجت من بيتك يوم الانتخابات وذهبت للنقابة ووقفت تدعو ضد قائمة الإخوان وأن بعض الإخوان حاولوا مناقشتك للعدول عن مسلكك إلا أنك رفضت الاستماع لهم.
ـ الحمد لله بهذا يا أخي الحبيب ظهر الحق عيانا بيانا وأظن أن الحاج مصطفي عرف يقينا أن شكواهم كاذبة فقد كان يعلم أني في معيتك يومها.
قاطعني الرجل قائلا: مهلا يا أخي فهناك أكثر من ذلك
ـ ما هو ؟
لقد أحضروا شهودا من الإخوان المحامين ـ أحدهم صار عضوا بمجلس النقابة ـ يشهدون أنهم رأوك في النقابة وناقشوك في أمر دعايتك ضدهم وقد شهد هؤلاء بهذا في حضرة الأستاذ مأمون الهضيبي نائب المرشد وأقسموا علي صدق شهادتهم.
قلت ضاحكا: لا أظن أنني من أهل الخطوة أو أن لي قدرة علي الوجود في مكانين في آن واحد فالقدرة لا تتعلق بالمستحيل.
فبادلني الضحكات وقال في كلمات حاسمة: والله لن أتركهم وسيلقون غيا( وغيا هو واد في قعر جهنم)
كان ظاهر الأمر يوحي بأن أمواج اليم العاتي قد سكنت إلا أنني لم أكن أعلم وقتها أن بحر الإخوان يخفي العجائب التي لا تنفد والتي لا يمكن أن ترد علي قلب بشر.
الزيارة في العبارة
كان يوم الجمعة الذي جاء يتهادي بعد يوم الانتخابات يوما غير عادي, فقد تم فتح أبواب سجن طرة لتدلف إلي داخله سيارة مرسيدس فضية اللون تحمل في داخلها شخصين يرتدي كل منهما نظارة سوداء, أما الشخص الأول الذي بدا طويل القامة مشرئب العنق ذا شعر رمادي فقد كان سامح عاشور الذي أصبح نقيبا للمحامين, وكان الشخص الثاني الذي بدا مكتنزا بعض الشيء.. أبيض الوجه بحمرة تداعبها خصلات شعر أشقر فقد كان عاطف عواد.
وقفت السيارة أمام سجن ملحق مزرعة طرة الذي يقضي فيه الإخوان عقوبة الحبس في قضية النقابيين, وأمام السجن كان في انتظارهما ضابط أمن الدولة الذي هش لاستقبالهما واحتفي حفاوة خاصة بنقيب المحامين الجديد ثم قادهما إلي داخل السجن من أجل زيارة خاصة شديدة الأهمية ليس من أجل موضوعها ولكن من أجل أصحابها فالزائر هو سامح عاشور نقيب المحامين وبرفقته عاطف عواد الإخواني السابق والوسطي الحالي أما المزوران فهما مختار نوح وخالد بدوي وهما من هما, كان عاشور يحمل في يده علبة كبيرة تحتوي علي تورتة قام بتقديمها لنوح وخالد بدوي احتفالا منه بنجاحه العسير, ودار حوار طويل بينهم حكي فيه عاشور تفصيلات المعركة ودقائقها وكان خالد بدوي حريصا في كلماته علي أن يؤكد لسامح عاشور أنه لولا ثروت الخرباوي ومن معه لما نال عاشور نجاحا أو فلاحا, وعاشور بطبعه كان يقلل من أهمية دور هذا الفريق قائلا: لقد منعوه يا مولانا من الخروج من بيته.
ولكأنما كان لسان حال عاشور يصرخ( إنما أوتيته علي علم عندي) وكأنه هذه العبارة هي سبب حضوره ليؤكد أنه غير مدين لأحد.
فبادره خالد بدوي بكلمات عربية فصيحة وهو يطرق إلي الأرض:
والله الذي نفسي بيده إن جهد ثروت الخرباوي وعاطف عواد ومن كان في ركابيهما كان هو الأمر الفارق في الانتخابات ولايستطيع أحد أن ينكر ما تعرض له الخرباوي من مضايقات من أجل دعمك وقد كنت أنا وإخواني هنا في السجن ندعو له ونبارك عمله نحسبه من المخلصين والله حسيبه ولا نزكي علي الله أحدا .
بعيدا عن النوايا الا ان توقيت نشر الكتاب في هذا الزخم يلقي رواجا وأنتشارا له من الصدي والتأثير علي الجماعه قد لا يحمد عقباه ولكن الأهم هو الرد المناسب والسريع عما جاء فيه من أسرار قد تكون مؤثره اذا لم يكن هناك رد الفعل لها من الجماعه .