من مياه البحيرات والمستنقعات الحبشية خرج تمساح عدواني شرس عض إصبع مصر.. وبعد سبع سنوات من "العضة" شعرت "أم الدنيا" بالألم.. وراحت تصرخ متأخرة.. فغالبية خلايا جسدها المترهل تيبست.. وفقدت الإحساس المبكر بالوجع.
فجأة.. وجدنا علي أحد منابع النيل في إثيوبيا سدودا عملاقة تحتجز ما يهدد بعضا من نصيبنا في المياه.. وتهدد حياة الناس في بلادنا بالموت عطشا.. كأن هذه السدود التي تبني في سنوات طويلة قد شيدت في غمضة عين بلمسة سحرية واحدة من عفريت خاتم سليمان.. كأنها توارت تحت طاقية الإخفاء فلم نرها إلا بعد أن أصبحت حقيقة أسمنتية.. تسد عين الشمس الاستوائية.. الحارقة.
لقد بنت الصين أكبر سد في إفريقيا علي مجري نهر التيكيزي الذي يشق غرب إثيوبيا واريتيريا ليصل إلي شمال شرق السودان فينضم إلي نهر عبرة ويندفعان معا إلي جنوب مصر.. حيث يكون من السهل علينا الحصول علي المياه.. سر الحياة..
كان رفض البنك الدولي لتمويل ذلك السد، خوفا من التورط في مشاكل بين دول حوض النيل ومنها مصر، جرس إنذار لم نسمعه.. وضوءاً أحمر لم نره.. ورسالة واضحة لم نقرأها.. فالحكومة الرشيدة مشغولة بتوفير المياه لملاعب الجولف التي تحيط بالقصور التي تسكنها بعيدة عن العيون.
والمصيبة الأشد أن إثيوبيا اتفقت في شهر يونيه الماضي مع مكتب استشاري أوروبي اسمه الكترو كونسلت لبناء سد جديد علي نفس النهر.. وبتمويل من الصين أيضا.. وتمتلك معظم اسهم ذلك المكتب شركة بكتيل الأمريكية التي تستعد للفوز بعملية بناء المحطة النووية في الضبعة مكافأة لها علي مضاعفة مساحة الصحراء في بلادنا.. وقتلنا بضربة جفاف.
وسوف تتسابق علي تلك المنطقة الحيوية من منابع النيل شركات متعددة الجنسيات وجدت هناك ثروة من مساقط المياه التي تولد كهرباء رخيصة تبيعها للدول المجاورة لأثيوبيا.. وتكسب من ورائها المليارات.
ولن يجدي أن نستضيف وزراء دول حوض النيل في الإسكندرية ليشموا البحر علي شاطئ المنتزه.. أو ليتفرجوا علي ما تبقي من البكيني هناك.. فالكارثة أكبر من الاجتماعات والتصريحات والاستقبالات.. فعندما يتعلق الأمر بقطرة الماء تصبح القضية.. قضية حياة أو موت.. لا نستبعد فيها التدخل الجراحي.. والحرب المسلحة.. فمن الأفضل أن نموت ونحن نقاتل عن أن نموت من شدة العطش.
ولعل في حضور الرئيس السوداني عمر البشير احتفال تخريج دفعة جديدة في الكلية الحربية رسالة وإشارة وعلامة.. إلي طريقة لغة الخرس.. وهي لغة لا تكفي في مثل هذه الحالات المهددة بصراحة ووقاحة للأمن القومي المصري. لقد كنت طفلا صغيرا في أسوان الخمسينيات عندما شاهدت بنفسي القطارات المكشوفة تحمل المدافع والدبابات والجنود تنتظر ساعة الصفر لترد بالقوة علي تهديدات الخرطوم المؤثرة علي المياه التي تصلنا من الجنوب.. ولم يفك جمال عبد الناصر حالة الطوارئ إلا بعد أن سقط نظام حكم إبراهيم عبود هناك.. وعادت المياه إلي مجاريها.
وعندما تغير النظام السياسي الإمبراطوري في الحبشة وسيطر عليه منجستو هريا مريام وسعت موسكو للعب معه في منابع النيل نكاية في مصر.. خرج أنور السادات ليقول : سأضربهم بطائراتي في عقر دارهم.. وراح يساعد المتمردين في الصومال الغربي ليظلوا شوكة في قلب أديس أبابا.. ومدت مخابراته يدها إلي داخل الحدود ولعبت مع السوفيت في القرن الإفريقي.
وقد زرت تلك المناطق في نهاية السبعينيات وعرفت لأول مرة أن الدفاع عن محبس المياه التي نحيا بها يبدأ من منابع النيل.. ووجدت آثار حملة محمد علي العسكرية إلي الهضبة الاستوائية لا تزال قائمة.. ومستمرة.. إن سحارات المياه التي تشرب منها القري الجبلية والمدن الساحلية حتي الآن بناها المصريون منذ أكثر من قرنين من الزمان.. فوفرة المياه دون شبكات ومواسير تحرم الأهالي من الشرب.. وتهدد مواشيهم بالموت.. وأراضيهم الخصبة بالبوار.. فهم يعانون من العطش رغم ان الكأس قريب منهم.. ينتظرون أن نوصله إليهم.. مقابل أن نقتسمها معهم.
ومشي جمال عبد الناصر علي تلك الاستراتيجية كمن يمشي علي خط مستقيم لا يحيد عنه.. ولم يعامل دول الحوض بنظرياته الأيديولوجية اليسارية وإنما عاملها بواقعية وبراجماتية.. فكان إمبراطور الحبشة هيلاسي لا سي ــ وهو علي أقصي يمين السياسة الناصرية ــ ضيفا رفيع المستوي نخرج ونحن تلاميذ في المدارس لتحية موكبه المكشوف في الشوارع.. والمرة الأولي التي ظهرت فيها قرينة الرئيس كانت في عشاء رسمي كان علي شرفه.
وتضاعف اهتمام الكنيسة القبطية بالكنيسة التابعة لها في الحبشة.. لقد كانت كنيستنا هي التي تتوج ملوك أديس ابابا وتعين مطرانها الأكبر وتمنحه البركة.. وعندما امتنعت عن ذلك منذ قرون مضت بقيت أثيوبيا دون ملك خمسين سنة.. وفي دير مار مينا القريب من برج العرب وجدت ثوبا بابويا موشي بالذهب أهداه هيلاسي لا سي للبابا كيرلس السادس.. لم يرتده الراهب الأعظم ومات وهو يستر جسده بثياب خشنة.. وينتعل خفا ثقبه طول المشي.. فلم يكن قداسته مشغولا بقضية الفتنة الطائفية وتوريث السلطة.. مثل البابا شنودة.
ولو كانت المتاعب الطائفية كشفت عن تهديد حقيقي للوحدة الوطنية فإن العبث بمنابع النيل كشف عن تهديد أصعب للحياة المصرية.. وفي ظل حكومات متعاقبة شغلت نفسها بصراعات الثروة والسلطة ليس هناك مفر من عودة الملفين للاهتمام اليومي المباشر لرئيس الجمهورية بمشاركة من يمتلك رؤية استراتيجية هو عمر سليمان.
لقد تبنت دبلوماسية المخابرات نظرية تأمين الحدود المباشرة لمصر مع ليبيا والسودان وفلسطين.. وتجاوزت بأفعالها الصامتة التصريحات الأخري الصاخبة.. لكن.. عليها الآن أن تدرك تمدد الحدود لتصل إلي إثيوبيا.. وتغير الأسلوب لتخلق مصالح لها معنا.. فقد جري إهمال العلاقات العريقة بين البلدين.. فتحولت المشاعر من الحب إلي الكراهية.. وعمقت إسرائيل من ذلك الانقلاب الإنساني.. فهي تعرض شراء حصة من المياه الضائعة هناك لتنقل عبر مجري النيل مرورا بالسحارات التي تحت قناة السويس إلي صحراء النقب.. مقابل أن تدفع لنا رسوم العبور أسوة بأنابيب البترول.
ودخلت الصين بدبلوماسية المصالح في إفريقيا كلها.. استأجرت أراضي لتزرعها.. بنت سدوداً لتبيع طاقتها.. تاجرت في شحنات المياه الفائضة.. وصدرتها.. فتحت مدارس ومستشفيات وخطوط طيران ومراكز للطب البيطري.. وخاصمت الصراعات القبلية والعرقية.. ونسيت تماما أفكارها الشيوعية.
والمثير للدهشة أن الصين نفذت خطة مصر ــ جمال عبد الناصر ــ في الستينيات.. وراجعوا خبرات ومذكرات وملفات محمد فائق الذي تعيش إفريقيا تحت جلده.. وفي بصمته الوراثية.
لقد كان وصول شيخ من الأزهر مناسبة دينية نادرة يتقاتل للمشاركة فيها مسلمو الحبشة.. وكانت صلاة كاهن مصري في كنيسة من كنائسهم يوم بركة لا ينسونه.. وكسرت طائرات مصر للطيران التي تهبط في مطارات أديس أبابا الشعور بالعزلة بيننا وبينهم.. وساعد مهندسو الري المصريون الفلاحين والرعاة في حل مشاكلهم.. فكانوا أكثر شهرة من نجوم السينما والموسيقي.
لقد كانت مصر حاضرة.. ومع مرور الأيام غابت.. ومع تعاقب السنين انصرفت.. وغابت.. وفي السياسة كما في الحب.. البعيد عن العين بعيد عن القلب.
ولا جدال أن محاولة اغتيال الرئيس في أديس ابابا عام 1995 ضاعفت وزادت من الفجوة وضاعفت الفرقة.. لكن.. الرئيس سامح السودان الذي خطط ودبر ونفذ.. وأسكت طبول الحرب التي استغلت اللحظة الحرجة وراحت تصرخ طالبة الثأر.. فلماذا لا نسامح من اكتفي بتأجير عدة أمتار من أرضه خاصة أن حياتنا في يده ؟.
ولو كانت دول منابع النيل قد نفذت شعار " اطلبوا السدود لتوليد الكهرباء ولو من الصين " فإن مصر بكل خبراتها وقربها أقرب.. وتعرف السد الذي يضرها من السد الذي ينفعها.. وتعرف كيف تقتسم عائد بيع الكهرباء بحسبة تحقق العدالة لكل الأطراف وتضاعف من شعور المودة والحب بينهما.
وفي القريب العاجل يمكن استيراد اللحوم والعدس والفول المدمس من هناك.. ويمكن تأجير أفدنة شاسعة لا نهاية لها وزراعتها قمحا خاليا من الحشرات والسوس ودون كيماويات تسبب السرطان.. لكن.. بشرط.. أن نطهر أنفسنا من رجس العمولات والسمسرة والمصالح الضيقة التي لا تلتفت لمصالح عامة لا مفر من الانحياز عنها.. فقد اصبحت قضية حياة أو موت.
إن السياسات الحكومية الفاشلة في دول حوض النيل جرأت القوي والضعيف علي ما نأخذه من المياه بالذوق والود والتفاهم.. ولو استمرت هذه السياسات.. وقطعا ستستمر.. فإن التدهور في العلاقات بين المنبع والمصب سيصل إلي حد الحرب.. هذه حقيقة لن نقدر علي تغييرها إلا لو بدأنا نظرة جديدة علي إفريقيا تأخرنا فيها عشرات السنوات ولم يعد أمامنا سوي تعويضها وإلا فصمموا من الآن النصب التذكاري لشهداء المياه وليكن أمام فندق خمس نجوم يطل علي نيل القاهرة.. حيث يشرب مسئولون كبار في صحتنا.