فـــن المحاكمه ..
بسم الله الرحمن الرحيم
ندرك جيدا إن الحديث عن فن المحاكمة في منطقة لا تعير القضاء, بأكمله,
الأهمية التي يستحق, و لا تعترف له باستقلال ـ رغم النصوص الدستورية,
المعلقة ـ أو بأي قدر من احترام.. وليس لقضاته مهام القضاء المحددة
والمعروفة في دولة القانون. "السلطة" القضائية فيها لا تسمو إلى فاعلية
أية سلطة, وإنما قُلصت إلى جهاز, مجرد جهاز في خدمة المتحكمين بالدولة,
وتحت تصرفهم, كباقي الأجهزة المسخرة لهذه الغاية.
وندرك أن مثل هذه الكتابات قد تصل بشق الأنفس لبعض النشر, وبالصدفة
للقارئ, غير المؤمن بفعل الرؤية والتجربة, بما يسمى نزاهة القضاء أو
استقلاله. وان المدّاحين والمروجين, والنصوص "المُضمنة" في مدونات
(codes) الإجراءات والقوانين بأنواعها, و شعارات العدالة, وميزانها, كل
هذا لا يقيم عدالة حقيقة , ولا يبرهن على وجودها.
وندرك أن الحديث في هذه المواضيع وما يشبهها, ليس من قبيل الترف
الفكري. فنحن في منطقة لم تقم الدولة فيها بعد, رغم مظاهرها, والحاجة
كبيرة لمعرفة كل ما يجب توفره لبناء الدولة الحديثة, وفي شتى المجالات
ومنها, بشكل خاص, الحديث عن القضاء والقضاة.
و ندرك أيضا أن كل عمل مخلص يتوخى وضع لبنة في بناء دولة القانون
والعدالة, المؤسسة على الديمقراطية, وحقوق الإنسان, وفي أي مجال, هو
جهد غير ضائع ومرحب به. فالبناء لا يستقيم إن لم تقام كل جوانبه على
أسس سليمة. وبجهود الجميع, دون إقصاء أو استثناء.
كما ندرك أهمية وضع تجارب الآخرين وخبراتهم في خدمة مجتمعاتنا, خاصة
وأننا أصبحنا الضفة الأخرى, الجنوبية, الساعية للتوازن مع "شقيقتها
المنافقة" الضفة الأخرى, الشمالية, في اتحاد متوسطي.
وندرك في مجال القضاء, موضوع السطور القادمة, إن من المفيد متابعة ما
عرضناه في المقالات السابقة عن فن المحاكمة لمؤلفه غي توييه Guy
Thuillier , وعرض الفصول الأخيرة من كتاب يعتبر من الكتب الهامة
والقليلة في فن المحاكمة. هذا ما ندركه نحن على الأقل, راجين أن
يوافقنا القارئ في ذلك.
يتحدث المؤلف في الفصول الأخيرة عن النتائج, وتصورات القاضي, وقواعد
اللعبة, والمستقبل في هذا المجال.
1 ـ النتائج:
يرى أن قواعد "اللعبة" غامضة, قاتمة, إدراكها محدود, حتى مع توفر بعض
التجربة في المحاكمة. فالقاضي ليس دائما في مناطق واضحة لدى ممارسته
مهامه (وهذا مصدر قلق له). يعلم ما هو المطلوب منه. ويعلم, بقدر اقل,
ما يطلبه هو من ذاته. كما انه في شك حول الالتزامات التي يفرضها عليه
ضميره.
بعد تفحصه الملاحظات السابق تقديمها في الفصول السابقة, يخلص المؤلف
إلى تسجيل أربعة نتائج:
النتيجة الأولى:
وجود عدم يقين كبير حول المبادئ المتعلقة بفن المحاكمة. وهذا ما يؤكده
المؤلف متسائلا: هل يمكن لفن المحاكمة أن يكون واحدا, مها كان نوع
النظام القضائي ؟. من المعروف جيدا اختلاف ذهنية قاضي القضاء العادي عن
ذهنية القاضي الإداري. كما من المعروف أن المحاكمة في مرحلة الاستئناف
مختلفة عن المحاكمة في الدرجة الأولى. ولكن من غير المعروف, بما فيه
الكفاية, مدى وحدود الوكالة أو "المهمة" الموكولة للقاضي غير المهني,
الذي غالبا ما يشغل وظيفة أخرى غير القضاء, وله طرق مختلفة في
الاستدلال. لا احد يملك رؤية واضحة عن المحاكمة.
النتيجة الثانية:
الحديث عن فن المحاكمة قد يُدهش. فالاعتقاد السائد إن الأمر متعلق
بتطبيق شبه آلي للقواعد القانونية. (هذه الفكرة منتشرة في أوساط
المحامين الذين يحاولون دفع القاضي بهذا الاتجاه, مروجين بان ليس له
حرية المناورة, وهذا ما يغضب كثيرا القضاة ). مع رفض الاعتبارات التي
تفرضها الحياة الخاصة والنفسية للقاضي. وجرت العادة على إتباع طرق
التحليل التربوي (وهو ما يفسر دون شك إن المؤلفات القانونية لا تتحدث
عن فن المحاكمة, مثلما لا تتحدث مؤلفات العلوم السياسية عن فن
السياسة).
ليس هناك فينومولوجيا phénoménologie (علم يدرس الظاهرات كما تبدو بصرف
النظر عما وراءها من حقائق) للمحاكمة. ولا احد يعلم عنها شيئا لنقص
المصادر ذات المصداقية (لا توجد مذكرات قضاة, ولا تحقيقات شفهية دقيقة
حول الموضوع).
كيف يعمل ذهن القاضي؟. ما هي توجهات أفكاره ابتداء من اتصاله الأول
بالملف وصولا إلى تحريره الحكم أو القرار؟. ويستشهد هنا بالرئيس
Bernard Chenot( وللتنويه, هذا الأخير رئيس في محكمة النقض الفرنسية,
وليس رئيس الجمهورية كما يفهم عندنا للوهلة الأولى, حيث الرئيس هو
الرئيس و لا رئيس إلا هو, فرؤساء الجمهوريات في غير عالمنا العربي ليست
لديهم الموهبة الشاملة لصياغة كل شيء, بما فيه فن المحاكمة, أو حتى
لصياغتها تحت رعايتهم وتوجيهاتهم) الذي أبدى بعض الملاحظات ضد مفبركي
الأنظمة في المحاكمة, وحول الممارسات الفعلية للقضاة الإداريين, مذكرا
أن التجربة تبين تعقيد المحاكمات, فالتردد , والزلات, والعثرات,
والأرق, والمناقشات مع الآخرين قبل وخلال المداولات, والحساسيات
الشخصية, كل هذا إضافة للمبادئ الأخلاقية , تنعكس جوانب منها على
الأحكام والقرارات الصادرة عن القضاة. كما أن لكل قاض, من حيث المبدأ,
طريقته في المحاكمة, وليس من السهل تقييمها.
ويمضي المؤلف للقول بضرورة الاعتراف بالجهل في هذا المجال: لأن لا أحد
يمكنه أن يفهم القاضي إلا إذا كان هو نفسه قاض.
(وقد لاحظ العميد جورج فيدال عندما كان قاض في المجلس الدستوري أنه عمل
سابقا كمحام, وبأنه بروفسور في كليات الحقوق, ولكنه وجد في مهنته كقاض
دستوري مهنة جديدة كليا عليه ..) فالمنطقة ضبابية و لا يخصص لها ما
يكفي من الإضاءة لوضوح الرؤية. التفكير المنصب عليها غير كاف. وعليه ,
يرى من الضروري بذل مزيد من الجهود للتأمل والتفكير بأمور هامة, تتعلق
بالبحث عن الأسباب المؤدية لعدم نزاهة القاضي, و لانحرافه, وكذلك لعدم
كفأته حين لا يكون في مستوى الأعباء الموكولة إليه.
النتيجة الثالثة:
وجوب الاهتمام الدائم بمسألة الخطأ الذي يشوب الأحكام: لماذا ينزلق
القاضي إلى الخطأ؟. بالتأكيد أن الخطأ شيء غير واضح, حتى ولو أن قاضي
الاستئناف رقيب على الأخطاء في الشكل والموضوع, فلا نعرف كيف يصفه,
ليست هناك نظريات تتعلق بالخطأ. و لا نعرف الآليات التي تقود إليه.
ولكن الخطأ ممكن توقعه كما أن هناك معدلا من الخطأ يمكن التسامح به
بالتوافق: وهذا ما يثير بالضرورة بعض المشاكل. مصدر الخطأ يعود غاليا
للطبيعة الإنسانية الضعيفة. ولشروط تكوين واختيار القاضي. وللطرق
المعتادة في الاستنتاج. والى جنوح خيال القضاة.
النتيجة الرابعة:
تقتضي المحاكمة الجيدة, من حيث المبدأ, الرؤية المسبقة والتقدير الصحيح
للنتائج التي ستترتب على الأحكام والقرارات, وهذا يتطلب الإلمام الجيد
بممارسة مهنة القضاء, ومعرفة دقيقة للمبادئ . فعلى القاضي توقع, في
الوقت المناسب, الإخطار المتربة على هذا القرار أو ذاك, متسائلا إذا
اتخذت هذا القرار فهذه النتائج التي ستترب عليه. وإذا اتخذت القرار
الآخر فهل ستكون النتائج أكثر خطورة؟. إذن لا يستطيع القاضي, مهما كانت
درجته, إن لا يهتم بالنتائج المترتبة على قراراته.
لا شك أن القوانين, والقرارات الوزارية, المصاغة بشكل معيب تقود إلى
الخطأ. فيترتب عليها غالبا تفسيرات غير موفقة, مما يتسبب في صدور أحكام
ظالمة. مثل هذه القوانين والقرارات مسؤولة كذلك عن خطأ القاضي وإيقاعه
فيه. فتوجهه للحكم طبقا لقواعد الإنصاف, وبحثه عن الأخطاء المتوقعة, قد
يقود إلى الفوضى في المبادئ. ولكن هل يوجد قاض لم يتجشم الصعوبات في
محاولاته الحكم بالعدل ؟, وعندما يحاول تعويض النقص الذي تركه المشرع,
أو الوزير, بإحلال مبادئه محل القانون الساري, لا نعلم عندها, بشكل
جيد, إذا ما كان قد احترم, في هذه الحالة, الوكالة الممنوحة له, أو
النظام القانوني الذي تقوم عليه أساسا مشروعيته. ولا مقدار المتاعب
التي يعرض نفسه لها.
فالقاضي , مهما كانت درجته, عليه أن يتساءل عن مدى حدود وكالته, مهما
كانت الضغوط الواقعة عليه, الإيديولوجي منها أو السياسي. وعن مقدار
اتساع الهامش الذي يمكنه المناورة فيه؟ وهي تساؤلات تبقى مصدر نقاش
فقهي غير محدود. وعلى كل في مجاله وفي موقعه في النظام القضائي التفكير
العميق فيها: هناك ما هو ما وراء au-delà المحاكمة, وهو ما لا يجب
إهماله.
2
ـ تصورات القاضي
يرى المؤلف أن إذا ما أريد تأليف مؤلف عن فن المحاكمة, توجب مقدما,
تخصيص جزء منه للحديث عن تصورات القاضي وتخيلاته. ولكن كيف يمكن وصف
هذه التصورات و التخيلات ؟ خاصة ونحن هنا في منطقة داكنة, أو حتى
سوداء, مع مشاعر قلما تكون ملائمة, أو تنزع للبوح عن وجودها. فالقاضي
لا يرغب في ملاحظة "فوضاه الداخلية" وبحكم تكوينه المهني يصعب عليه فهم
وقبول الفوضى وانعدام النظام. (هناك الكثير من التناقضات والأشياء
الغامضة, ومشاعر نابعة من الحياة اليومية للقاضي: الفوضى أشكالها
متنوعة جدا كتنوع الأشخاص). التصور, والشطط في التخيلات, وأحيانا تسلط
المشاعر وضغوطها, كل هذا يلعب, كما يرى, دورا في المحاكمة, وبالتالي
للانحراف بالأحكام نحو الخطأ.
ويحاول المؤلف تحليل الأشكال المتعددة للتصورات أو التخيلات ليلخصها في
خمسة أشكال:
بسم الله الرحمن الرحيم
ندرك جيدا إن الحديث عن فن المحاكمة في منطقة لا تعير القضاء, بأكمله,
الأهمية التي يستحق, و لا تعترف له باستقلال ـ رغم النصوص الدستورية,
المعلقة ـ أو بأي قدر من احترام.. وليس لقضاته مهام القضاء المحددة
والمعروفة في دولة القانون. "السلطة" القضائية فيها لا تسمو إلى فاعلية
أية سلطة, وإنما قُلصت إلى جهاز, مجرد جهاز في خدمة المتحكمين بالدولة,
وتحت تصرفهم, كباقي الأجهزة المسخرة لهذه الغاية.
وندرك أن مثل هذه الكتابات قد تصل بشق الأنفس لبعض النشر, وبالصدفة
للقارئ, غير المؤمن بفعل الرؤية والتجربة, بما يسمى نزاهة القضاء أو
استقلاله. وان المدّاحين والمروجين, والنصوص "المُضمنة" في مدونات
(codes) الإجراءات والقوانين بأنواعها, و شعارات العدالة, وميزانها, كل
هذا لا يقيم عدالة حقيقة , ولا يبرهن على وجودها.
وندرك أن الحديث في هذه المواضيع وما يشبهها, ليس من قبيل الترف
الفكري. فنحن في منطقة لم تقم الدولة فيها بعد, رغم مظاهرها, والحاجة
كبيرة لمعرفة كل ما يجب توفره لبناء الدولة الحديثة, وفي شتى المجالات
ومنها, بشكل خاص, الحديث عن القضاء والقضاة.
و ندرك أيضا أن كل عمل مخلص يتوخى وضع لبنة في بناء دولة القانون
والعدالة, المؤسسة على الديمقراطية, وحقوق الإنسان, وفي أي مجال, هو
جهد غير ضائع ومرحب به. فالبناء لا يستقيم إن لم تقام كل جوانبه على
أسس سليمة. وبجهود الجميع, دون إقصاء أو استثناء.
كما ندرك أهمية وضع تجارب الآخرين وخبراتهم في خدمة مجتمعاتنا, خاصة
وأننا أصبحنا الضفة الأخرى, الجنوبية, الساعية للتوازن مع "شقيقتها
المنافقة" الضفة الأخرى, الشمالية, في اتحاد متوسطي.
وندرك في مجال القضاء, موضوع السطور القادمة, إن من المفيد متابعة ما
عرضناه في المقالات السابقة عن فن المحاكمة لمؤلفه غي توييه Guy
Thuillier , وعرض الفصول الأخيرة من كتاب يعتبر من الكتب الهامة
والقليلة في فن المحاكمة. هذا ما ندركه نحن على الأقل, راجين أن
يوافقنا القارئ في ذلك.
يتحدث المؤلف في الفصول الأخيرة عن النتائج, وتصورات القاضي, وقواعد
اللعبة, والمستقبل في هذا المجال.
1 ـ النتائج:
يرى أن قواعد "اللعبة" غامضة, قاتمة, إدراكها محدود, حتى مع توفر بعض
التجربة في المحاكمة. فالقاضي ليس دائما في مناطق واضحة لدى ممارسته
مهامه (وهذا مصدر قلق له). يعلم ما هو المطلوب منه. ويعلم, بقدر اقل,
ما يطلبه هو من ذاته. كما انه في شك حول الالتزامات التي يفرضها عليه
ضميره.
بعد تفحصه الملاحظات السابق تقديمها في الفصول السابقة, يخلص المؤلف
إلى تسجيل أربعة نتائج:
النتيجة الأولى:
وجود عدم يقين كبير حول المبادئ المتعلقة بفن المحاكمة. وهذا ما يؤكده
المؤلف متسائلا: هل يمكن لفن المحاكمة أن يكون واحدا, مها كان نوع
النظام القضائي ؟. من المعروف جيدا اختلاف ذهنية قاضي القضاء العادي عن
ذهنية القاضي الإداري. كما من المعروف أن المحاكمة في مرحلة الاستئناف
مختلفة عن المحاكمة في الدرجة الأولى. ولكن من غير المعروف, بما فيه
الكفاية, مدى وحدود الوكالة أو "المهمة" الموكولة للقاضي غير المهني,
الذي غالبا ما يشغل وظيفة أخرى غير القضاء, وله طرق مختلفة في
الاستدلال. لا احد يملك رؤية واضحة عن المحاكمة.
النتيجة الثانية:
الحديث عن فن المحاكمة قد يُدهش. فالاعتقاد السائد إن الأمر متعلق
بتطبيق شبه آلي للقواعد القانونية. (هذه الفكرة منتشرة في أوساط
المحامين الذين يحاولون دفع القاضي بهذا الاتجاه, مروجين بان ليس له
حرية المناورة, وهذا ما يغضب كثيرا القضاة ). مع رفض الاعتبارات التي
تفرضها الحياة الخاصة والنفسية للقاضي. وجرت العادة على إتباع طرق
التحليل التربوي (وهو ما يفسر دون شك إن المؤلفات القانونية لا تتحدث
عن فن المحاكمة, مثلما لا تتحدث مؤلفات العلوم السياسية عن فن
السياسة).
ليس هناك فينومولوجيا phénoménologie (علم يدرس الظاهرات كما تبدو بصرف
النظر عما وراءها من حقائق) للمحاكمة. ولا احد يعلم عنها شيئا لنقص
المصادر ذات المصداقية (لا توجد مذكرات قضاة, ولا تحقيقات شفهية دقيقة
حول الموضوع).
كيف يعمل ذهن القاضي؟. ما هي توجهات أفكاره ابتداء من اتصاله الأول
بالملف وصولا إلى تحريره الحكم أو القرار؟. ويستشهد هنا بالرئيس
Bernard Chenot( وللتنويه, هذا الأخير رئيس في محكمة النقض الفرنسية,
وليس رئيس الجمهورية كما يفهم عندنا للوهلة الأولى, حيث الرئيس هو
الرئيس و لا رئيس إلا هو, فرؤساء الجمهوريات في غير عالمنا العربي ليست
لديهم الموهبة الشاملة لصياغة كل شيء, بما فيه فن المحاكمة, أو حتى
لصياغتها تحت رعايتهم وتوجيهاتهم) الذي أبدى بعض الملاحظات ضد مفبركي
الأنظمة في المحاكمة, وحول الممارسات الفعلية للقضاة الإداريين, مذكرا
أن التجربة تبين تعقيد المحاكمات, فالتردد , والزلات, والعثرات,
والأرق, والمناقشات مع الآخرين قبل وخلال المداولات, والحساسيات
الشخصية, كل هذا إضافة للمبادئ الأخلاقية , تنعكس جوانب منها على
الأحكام والقرارات الصادرة عن القضاة. كما أن لكل قاض, من حيث المبدأ,
طريقته في المحاكمة, وليس من السهل تقييمها.
ويمضي المؤلف للقول بضرورة الاعتراف بالجهل في هذا المجال: لأن لا أحد
يمكنه أن يفهم القاضي إلا إذا كان هو نفسه قاض.
(وقد لاحظ العميد جورج فيدال عندما كان قاض في المجلس الدستوري أنه عمل
سابقا كمحام, وبأنه بروفسور في كليات الحقوق, ولكنه وجد في مهنته كقاض
دستوري مهنة جديدة كليا عليه ..) فالمنطقة ضبابية و لا يخصص لها ما
يكفي من الإضاءة لوضوح الرؤية. التفكير المنصب عليها غير كاف. وعليه ,
يرى من الضروري بذل مزيد من الجهود للتأمل والتفكير بأمور هامة, تتعلق
بالبحث عن الأسباب المؤدية لعدم نزاهة القاضي, و لانحرافه, وكذلك لعدم
كفأته حين لا يكون في مستوى الأعباء الموكولة إليه.
النتيجة الثالثة:
وجوب الاهتمام الدائم بمسألة الخطأ الذي يشوب الأحكام: لماذا ينزلق
القاضي إلى الخطأ؟. بالتأكيد أن الخطأ شيء غير واضح, حتى ولو أن قاضي
الاستئناف رقيب على الأخطاء في الشكل والموضوع, فلا نعرف كيف يصفه,
ليست هناك نظريات تتعلق بالخطأ. و لا نعرف الآليات التي تقود إليه.
ولكن الخطأ ممكن توقعه كما أن هناك معدلا من الخطأ يمكن التسامح به
بالتوافق: وهذا ما يثير بالضرورة بعض المشاكل. مصدر الخطأ يعود غاليا
للطبيعة الإنسانية الضعيفة. ولشروط تكوين واختيار القاضي. وللطرق
المعتادة في الاستنتاج. والى جنوح خيال القضاة.
النتيجة الرابعة:
تقتضي المحاكمة الجيدة, من حيث المبدأ, الرؤية المسبقة والتقدير الصحيح
للنتائج التي ستترتب على الأحكام والقرارات, وهذا يتطلب الإلمام الجيد
بممارسة مهنة القضاء, ومعرفة دقيقة للمبادئ . فعلى القاضي توقع, في
الوقت المناسب, الإخطار المتربة على هذا القرار أو ذاك, متسائلا إذا
اتخذت هذا القرار فهذه النتائج التي ستترب عليه. وإذا اتخذت القرار
الآخر فهل ستكون النتائج أكثر خطورة؟. إذن لا يستطيع القاضي, مهما كانت
درجته, إن لا يهتم بالنتائج المترتبة على قراراته.
لا شك أن القوانين, والقرارات الوزارية, المصاغة بشكل معيب تقود إلى
الخطأ. فيترتب عليها غالبا تفسيرات غير موفقة, مما يتسبب في صدور أحكام
ظالمة. مثل هذه القوانين والقرارات مسؤولة كذلك عن خطأ القاضي وإيقاعه
فيه. فتوجهه للحكم طبقا لقواعد الإنصاف, وبحثه عن الأخطاء المتوقعة, قد
يقود إلى الفوضى في المبادئ. ولكن هل يوجد قاض لم يتجشم الصعوبات في
محاولاته الحكم بالعدل ؟, وعندما يحاول تعويض النقص الذي تركه المشرع,
أو الوزير, بإحلال مبادئه محل القانون الساري, لا نعلم عندها, بشكل
جيد, إذا ما كان قد احترم, في هذه الحالة, الوكالة الممنوحة له, أو
النظام القانوني الذي تقوم عليه أساسا مشروعيته. ولا مقدار المتاعب
التي يعرض نفسه لها.
فالقاضي , مهما كانت درجته, عليه أن يتساءل عن مدى حدود وكالته, مهما
كانت الضغوط الواقعة عليه, الإيديولوجي منها أو السياسي. وعن مقدار
اتساع الهامش الذي يمكنه المناورة فيه؟ وهي تساؤلات تبقى مصدر نقاش
فقهي غير محدود. وعلى كل في مجاله وفي موقعه في النظام القضائي التفكير
العميق فيها: هناك ما هو ما وراء au-delà المحاكمة, وهو ما لا يجب
إهماله.
2
ـ تصورات القاضي
يرى المؤلف أن إذا ما أريد تأليف مؤلف عن فن المحاكمة, توجب مقدما,
تخصيص جزء منه للحديث عن تصورات القاضي وتخيلاته. ولكن كيف يمكن وصف
هذه التصورات و التخيلات ؟ خاصة ونحن هنا في منطقة داكنة, أو حتى
سوداء, مع مشاعر قلما تكون ملائمة, أو تنزع للبوح عن وجودها. فالقاضي
لا يرغب في ملاحظة "فوضاه الداخلية" وبحكم تكوينه المهني يصعب عليه فهم
وقبول الفوضى وانعدام النظام. (هناك الكثير من التناقضات والأشياء
الغامضة, ومشاعر نابعة من الحياة اليومية للقاضي: الفوضى أشكالها
متنوعة جدا كتنوع الأشخاص). التصور, والشطط في التخيلات, وأحيانا تسلط
المشاعر وضغوطها, كل هذا يلعب, كما يرى, دورا في المحاكمة, وبالتالي
للانحراف بالأحكام نحو الخطأ.
ويحاول المؤلف تحليل الأشكال المتعددة للتصورات أو التخيلات ليلخصها في
خمسة أشكال: