فقه المعاملات مقارن عقدالبيع
أهمية العلم بأحكام العقود :
لحاجة الناس لإبرامها في كثير من تعاملاتهم لحفظ الحقوق وتحديد
الالتزامات،مع تجددها وتنوع أشكالها.
تعريف العقد: لغة :
قال ابن فارس : العين والقاف والدال أصل واحد يدل
على شد وشدة وثوق، وإليه ترجع فروع الباب كلها، ( وله معان غيره
والمناسب منها هنا ما كان دائراً حول الربط ) .
العقداصطلاحاً : العقد له إطلاقان:
الأول/عام:
وهو يتناول جميع ما يلتزمه الإنسان سواء ذلك كان في العبادات أم في المعاملات مع الله أو المخلوق وسواء كان ذلك نتيجة اتفاق بين طرفين كالبيع أو ألزم الإنسان به نفسه كاليمين والنذر والوقف والإعتاق . وقد جاءت بهذا الاستعمال المذاهب الأربعة مع أنه غير شائع لأن أكثر إطلاقه على المعنى الخاص.
قال الجصاص: وسميت اليمين على المستقبل عقداً لأن الحالف قد ألزم نفسه الوفاء بما حلف عليه ، وكذلك العهد والأمان ، وكذلك كل شرط إنسان على نفسه في شيء يفعله في المستقبل فهو عقد وكذلك النذور .
واختار ابن العربي ذلك في تفسير قوله تعالى ( أوفوا بالعقود ) أن المقصود جميع العقود سواء كانت من طرف واحد أو من طرفين كالعهود والنكاح والشركة واليمين والحلف والفرائض والنذور.
إذا هذا المعنى العام شامل لكل التزام سواء كان من طرف أو من طرفين مع الخالق أو مع المخلوق بالقول أو بالفعل وسواء كان العقد ماليا أم غير مالي .
الثاني/خاص:
وهذا هو الأكثر تداولا وعند إطلاق العقد فهو الأصل .
عرفه الجرجاني بأنه :ربط أجزاء التصرف بالإيجاب والقبول شرعا.
عرفه الزركشي في المنثور :ارتباط الإيجاب بالقبول الالتزامي. وهو بمعنى الأول.
عرفه صاحب قدري باشا في مرشد الحيران بأنه : ارتباط الإيجاب الصادر
من أحد المتعاقدين بقبول الآخر على وجه يثبت أثره في المعقود عليه .
عرفه ابن الهمام : مجموع إيجاب أحد المتكلمين لقبول الآخر أو كلام الواحد القائم مقامهما .
عرفه الزرقا : ارتباط إيجاب بقبول على وجه يظهر أثره في المحل.
وعرف العقد في صيغ العقود بأنه: التزام المتعاقدين بارتباط الإيجاب والقبول .
ويلاحظ أن جميع هذه التعريفات وغيرها لم تدخل العقود غير الصحيحة مع
أن الأقرب دخولها في تعريف العقود وإن كانت لا ينطبق عليها الأمر بالوفاء
لأنه من المقرر فقها ( أن الحقائق الشرعية تشمل الصحيح والفاسد، ولهذا
سمى الفقهاء العقد الموقوف والفاسد والباطل عقوداً. لكن يجاب عن
أصحاب التعريفات أنهم أرادوا العقود الشرعية .
وعرفه أهل القانون : اتفاق إرادتين على إنشاء حق أو على نقله أو على إنهائه .
وهذا يشمل العقد الباطل فأما تعريفات الشرعيين فتخرجه ، كما
أن التعريف الفقهي ذكر الحقيقة العقدية ببيان ما يتركب منه العقد ماديا
وهو الإيجاب والقبول فلا يكفي الاتفاق وإنما يستدل عليه بها.
أقسام العقود: القسم الأول / من حيث التسمية وعدمها :
أ/ العقود المسماة : وهي التي أقر الشارع لها اسما يدل على موضوعها
الخاص واختصها بأحكام تترتب على انعقادها، كالبيع والإجارة والشركة
، ( وقد أوصلها الحنفية والحنابلة إلى خمسة وعشرين
عقدا وقد يدخل بعضها في بعض ) .
ب/ العقود الغير مسماة : هي التي لم يرد الشرع بتسميتها باسم خاص
ولم يخصها بأحكام وهي غير محصورة ومنها التوريد والصيانة والمقاولات .
وهي وإن لم ينص الشارع عليها إلا أنه يمكن تخريجها على أحد العقود المسماة
فإن لم يمكن فإننا نتبين من عدم مخالفتها للأحكام الشرعية وتعتبر عقودا جديدة
ويتأكد هذا بأن الأصل في العقود هو الحل . وعلى هذا أكثر أصول أحمد
ومالك ،بعض أصول أبي حنيفة والشافعي.
ومن الأدلة على ذلك:
1. إطلاق الآية في قوله تعالى: (وأحل الله البيع) فكل ما يعد بيعًا فهو حلال.
2. الآيات التي دلت على حصر المحرمات نوعًا أو وصفًا كلها تدل على أنها على خلاف الأصل ولذلك نص عليها وما عداها فهو حلال قال تعالى: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم).
3. أدلة الأمر بإتمام العقود والعهود والوفاء بها لقوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود)، وجه الدلالة: أن الله أمر بالوفاء بها عموما وهذا يقتضي إباحتها.
4. قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى) فإذا كان هذا تشريعًا لبيوع الأجل كالسلم فلأن يدل على مشروعية البيوع الحالة أولى.
5. قوله تعالى: (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) وجه الدلالة: أنه اشترط التراضي فقط للإباحة.
6. الأحاديث التي جاءت فيه أن ما سكت الشارع فهو عفو كما قال صلى الله عليه وسلم:" ما أحل الله في كتابه فهو حلال و ما حرم فهو حرام و ما سكت عنه فهو عفو ، فاقبلوا من الله عافيته ( و ما كان ربك نسيا ) رواه الدارقطني وعند البيهقي عن ابن عباس وأبي الدرداء وصححه الألباني
7. السنة الفعلية للنبي صلى الله عليه وسلم فقد باع واشترى.
8. وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم للبيوع التي كانت جارية في عهده دليل على حلها.
9. مقتضى تسخير الله لما في السموات والأرض دليل على الإباحة فلا تكتمل هذه النعمة وهذه المنة إلا بها.
10. قوله تعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعبادة والطيبات...) وهي التي لا تختص بالمأكولات بل يعم كل زينة وطيبة ما لم يأتي الشارع بالمنع منها.
11. دلالة العقود من باب الأفعال والتصرفات العادية والأصل في العقود الحل. ابن تيمية 29/155
وعمدة القائلين بأن الأصل التحريم مارواه البخاري من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق ) . نوقش هذا من وجهين كما بينهما شيخ الإسلام في فتاواه:
الوجه الأول: أن المراد بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ليس في كتاب الله) ، أن يكون مخالفاً لحكم الله، وليس المراد أن لا يذكر في كتابه - سبحانه - أو في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق) ، وإنما يكون هذا فيما إذا خالف الشرط أو العقد قضاء الله، أو شرطه، بأن كان ذلك الشرط، أو العقد مما حرمه الله - تعالى -، فمضمون الحديث أن العقد، أو الشرط إذا لم يكونا من الأفعال المباحة، فإنه يكون محرماً باطلاً، فليس في الحديث دليل على منع العقود أو الشروط التي لم تذكر في كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فلا يتم الاستدلال به على أن الأصل في الأشياء الحظر.
الوجه الثاني: لو سلمنا بأن معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم –((ليس في كتاب الله)) هو ما ذكروا من منع كل ما لم يرد من العقود الشروط في الكتاب والسنة ،فإن عدم الورود هنا معناه ما ليس في كتاب الله لا بعمومه ولا بخصوصه؛ أما ما كان فيه بعمومه فإنه لا يقال فيه : إنه ليس في كتاب الله. وقد ذكر أصحاب القول الأول أدلة كثيرة على وجوب الوفاء بالعقود والعهود، وهذا يقتضي إباحتها، وفي ذلك يقول ابن تيمية:" فإن المسلمين إذا تعاقدوا بينهم عقودًا ولم يكونوا يعلمون لا تحريمها ولا تحليلها، فإن الفقهاء جميعهم فيما أعلمه يصححونها إذا لم يعتقدوا تحريمها، وإن كان العاقد لم يكن حينئذ يعلم تحليلها لا باجتهاد ولا بتقليد، ولا يقول أحد : لا يصح العقد إلا الذي يعتقد أن الشارع أحله . فلو كان إذن الشارع الخاص شرطًا في صحة العقود، لم يصح عقد إلا بعد ثبوت إذنه، كما لو حكم الحاكم بغير اجتهاد، فإنه آثم، وإن كان قد صادف الحق .
وأما إن قيل : لابد من دليل شرعي يدل على حلها،سواء كان عامًا أو خاصًا، فعنه جوابان :
أحدهما : المنع، كما تقدم .
والثاني : أن نقول : قد دلت الأدلة الشرعية العامة على حل العقود والشروط جملة، إلا ما استثناه الشارع ..)أ.هـ
ويتبين مما تقدم رجحان القول بالجواز لقوة أدلته وضعف أدلة القائلين بأن الأصل الحظر، ومناقشتها، ولما في هذا القول من المشقة والحرج، لكثرة تعاملات الناس وعقودهم، فمطالبتهم بالدليل لكل ما يتعاملون به مما لا دليل على منعه يسبب تعطيل مصالحهم وإلحاق المشقة بهم، قال الجويني في الغياثي: ووضوح الحاجة إليها - أي إلى إباحة العقود التي لم يأت في الشرع تحريمها - يغني عن تكلف بسطٍ فيها، فليصدروا العقود عن التراضي، فهو الأصل الذي لا يغمض ما بقي من الشرع أصل، وليجروا العقود على حكم الصحة"، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والأصل في هذا أنه لا يحرم على الناس من المعاملات التي يحتاجون إليها إلا ما دل الكتاب والسنة على تحريمه" .
القسم الثاني/ من حيث الصحة وعدمها : ( أو يقال من حيث ترتب آثاره عليه أو عدم ذلك )
1/ الصحيح: وهو ما وافق الشرع وترتبت آثاره عليه (ثمرته) باتفاق الفقهاء.
وآثار كل عقد بحسبه ففي البيع التمكن من العين بملكها والتصرف فيها وفي الإجارة التمكن من التصرف في المنفعة وفي النكاح التمكن من الوطء الشرعي .
وضابط الصحيح :ما كان مشروعا بأصله ووصفه .
والمراد بالأصل : هو الحال التي اعتبرها الشارع في أصل البيع والتي هي أركانه بأن يكون بإيجاب وقبول يفيدان التملك من عاقلين على مال متقوم .
والوصف:الأوصاف المخصوصة التي اشترط الشارع وجودها في العقد ككون الثمن مؤجلا بأجل معلوم أو كون العقد وقع عن تراضي.
2/ غير الصحيح: وهو ما ليس مشروعا أصلا ووصفا أو يقال ( هو ما لا تترتب آثاره عليه ).
كعقد المجنون والصغير غير المميز أو العقد على ميتة ، ومثال ما ليس بمشروع بوصفه : كالعقد على محل مجهول .
والحنفية يقسمون هذا النوع إلى قسمين : ( باطل ، وفاسد ) وسبب ذلك أن المخالفات درجات منها مخالفات أساسية ، ومنه مخالفات فرعية .
وعرفوا الباطل عندهم : بما ليس مشروعا بأصله ووصفه كالعقد على ميتة أو دم ( وهذا ليس بمال أصلا ) أو على امرأة محرمة أو كون العاقد مجنونا أو صبيا غير مميز، وحكمه أنه لا ينقل ملكا ولا يثبت حقا .
وعرفوا الفاسد عندهم : بأنه ما كان مشروعا بأصله دون وصفه كالبيع بأجل مجهول وعقد المكره والبيع بثمن مجهول وعقد الربا .
وقد قدم لنا القرافي فرقا(70)من فروقه كما صاغه الزرقا في المدخل الفقهي العام وذلك لتمييز عدم مشروعية أصل العقد من عدم مشروعية وصفه ويتلخص "بالنظر إلى مقومات العقد الخمسة وهي : العاقدان، المحل، الموضوع ، والركن ( الإيجاب والقبول المعبران عن التراضي أو ما يقوم مقامهما في هذا التعبير ) فإذا كان النهي منصباً على أحد هذه المقومات ومؤثرا في صلاحهما أفاد عدم المشروعية في أصل العقد فيبطل ( يعني ما كان في ركنه أو محله خلل بأن يكون العاقدان أو أحدهما ليس أهلا للعقد أو بأن يكون محل العقد غير قابل له ) .
وإذا كان منصبا على ناحية أخرى فرعية في العقد وكانت مقوماته هذه كلها سليمة فالعقد حينئذ مشروع الأصل غير مشروع الوصف وهذا يستوجب الفساد لا البطلان ، وعلى هذا فالنهي عن بيع الملاقيح والمضامين قد تعلق بالمحل وهو البيع والنهي عن الملامسة ،المنابذة قد تعلق بالركن وهو التراضي لعدم قيام طريقة الملامسة والمنابذة مقام الإيجاب والقبول في نظر الشارع .
وبما أن المحل والركن هما مقومات العقد كان هذا النهي مفيدا عدم مشروعية أصله فيبطل .
كذلك عقد المجنون مثلا فإن عدم أهلية العاقد كعدم العاقد وإن العاقد من مقومات العقد فيبطل عقد المجنون بطلانا".
وهذا بخلاف عقد الربا فإن المقومات فيه كلها سليمة من العاقدين ومحله وركنه وموضوعه الذي هو بيع أو قرض ، ومتعلق النهي فيه إنما هو الفضل في أحد العوضين وهو ناحية فرعية زائدة عن المقومات الخمسة فيكون عقد الربا مشروعا بأصله ، وإنما أفاد النهي الشرعي عدم مشروعية ما اشتمل عليه من زيادة خالية من عوض وهي أوصافه فيفيد العقد فسادا.
( فالفساد عقد وجد صورة وشرعا بوجود العاقدين ووجد المحل القابل له لكن جاء على صفة لا يقرها الشارع بل نهى عنه كبيع المجهول جهالة فاحشة أو صفقتين في صفقة ) .
ويلاحظ أنه ليس هناك ضابط عند الأحناف يضع حدا فاصلا بين الفساد والبطلان إلا أنه يمكن القول بالتتبع والاستقراء كما يقول الزرقا في مدخله أن التمييز بين الفساد والبطلان لا يجري إلا في العقود المالية التي تنشئ التزامات متقابلة أو تنقل الملكية.
كعقود البيع والإجارة والرهن والحوالة والصلح عن المال والمخارجة والقسمة والشركة والمزارعة وأمثالها لأنها تنشئ التزامات متقابلة.
ويدخل أيضا عقد القرض والهبة لأنهما ينقلان الملكية فكل ذلك مما يتميز فساده عن بطلانه يعتبر مع الفساد منعقدا .
ـ ويخرج عن هذا الضابط :
1/ جميع التصرفات الفعلية .
2/ والتصرفات القولية التي ليست من قبيل العقود بل من تصرفات الإرادة المنفردة كالطلاق والإعتاق والوقف والكفالة .
3/ والعقود غير المالية كالزواج والوكالة والوصية والتحكيم .
4/ العقود المالية التي لا تنشأ التزامات متقابلة ولا تنقل الملكية كالإيداع والإعارة .
ويمكن تعريف الفساد في العقد بمعناه المقصود في الفقه الحنفي ـ تعريف الزرقا ـ بأنه (اختلال في العقد المخالف لنظامه الشرعي في ناحية فرعية متممه يجعله مستحقا للفسخ).
وأسباب الفساد عند الأحناف إما عامة وإما خاصة:
فالأسباب الخاصة كثيرة ومتفاوتة وأما العامة فتدور حول .ثلاثة أسباب هي ( الإكراه ، الغرر ، الجهالة ).
فهي العقود عندهم استوفت أركانها إلا أنه لحق بها أوصاف جعلت الشارع ينهى عنها كالجهالة والإكراه والربا .
وهو عندهم يفيد الملك إذا تم قبض البيع بإذن المالك ولكنه ملك غير لازم فيجب على العاقد فسخه ما لم يوجد مانع فإن وجد المانع امتنع الفسخ كما لو تصرف في المبيع بنقل الملك ببيع أو هبة أو عتق أو أتلفه كما يمكن تصحيحه باستبعاد الوصف الموجب للفساد كإسقاط الزيادة الربوية .
أما الجمهور فلم يفرقوا وإنما استثنوا فروعا فرقوا فيها بين الصحيح والفاسد ـ عند الحنابلة ـ ( الحج والوكالة والإجارة ) .
وسبب الخلاف يرجع إلى اختلافهم في أثر النهي في المنهي عنه :
فالجمهور: يرون أنه يقتضي فساد المنهي عنه سواء أكان النهي راجعاً لذات المنهي عنه كبيع الميتة أو إلى وصف ملازم له كعقد الربا.
والحنفية يرون أن النهي يقتضي البطلان إن كان راجعاً لذات المنهي عنه والفساد إن كان راجعا لوصف ملازم له.
وهي مسألة كبيرة توسعت فيها كتب الأصول بل ألف العلائي فيها مؤلفا مستقلا أسماه ( تحقيق المراد أن النهي يقتضي الفساد ) .
والراجح قول الجمهور وهو اقتضاء النهي الفساد سواء كان المنهي عنه لذاته أو لأمر خارج ( لوصف ملازم ) .
وهو مذهب الصحابة والتابعين دلت عليه أدلة كثيرة منها :
1/ قوله صلى الله عليه وسلم : ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد )
2/ إجماع الصحابة والتابعين على بطلان البيوع الربوية للنهي عنها ، واحتجاجهم بالنهي على البطلان كما فعل عمر في بطلان نكاح المشركات للآية وفي نكاح المحرمات للحديث .
3/ أن المنهي عنه مفسدة والقول بصحته مع النهي عنه يدفع المكلف لعصيان المنهي وفيه فتح لذريعة المحرم.
4/ أن الصحة تضاد النهي لأن الصحيح مأذون فيه والمنهي عنه ليس مأذونا فيه فلا يمكن أن يكون منهيا عنه وصحيحا في آن واحد ، قال ابن تيمية ( ولا يوجد قط في شيء من صور النهي صورة تثبت فيها الصحة بنص ولا إجماع )
ولكن هنا يجب أن نعلم أن النهي إن كان عائدا لأمر خارج فلا يبطل العقد عند أكثر العلماء.
وإذا تقرر مذهب الجمهور فإن العقود الصحيحة لها أقسام منها :
القسم الثالث/ أقسام العقود الصحيحة من حيث النفوذ وعدمه :
1/ عقود نافذة : وهي العقود الصحيحة التي لا يتعلق بها حق للغير وتفيد الحكم في الحال.
تعريف آخر لأبي زهرة في الملكية ونظرية العقد في الشريعة الإسلامية : هو العقد الصادر من ذي أهلية و له ولاية إنشاء العقد وسلمت أوصافه من الخلل .
تعريف آخر للزرقا في المدخل : هي الخالية من كل حق لغير العاقدين يوجب توقفها على إرادته والخالية من كل مانع يمنع نفاذها .
2/عقود موقوفة : وهي العقود التي يتعلق به حق للغير ويفيد حكمه عند الإجازة.
تعريف آخر لأبي زهرة : هو العقد الصادر من ذي أهلية وليس له ولاية إنشاء العقد المضاف لمحله مع سلامة أوصافه.
تعريف الزرقا : هي العقود التي فيها تجاوز على حق الغير يوجب توقفها على إرادته وإجازته كعقد الفضولي أو فيها مانع آخر يمنع نفاذها كعقد المكره .
حكم العقد الموقوف : فيه خلاف
القول الأول: أن العقد الصحيح لا يكون إلا نافذا أما الموقوف فهو من العقود الباطلة ولو أجازه صاحب الشأن وهذا هو الجديد عند الشافعية و عند الحنابلة وقول الظاهرية .
القول الثاني: أن العقد الصحيح يكون موقوفا وهو مذهب الحنفية والمالكية وقول للشافعية وقول عند الحنابلة واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم فهو مذهب الجمهور.وإنما يكون العقد موقوفا عندهم إذا صدر من مالك غير أهل للاستقلال بصدوره عنه كالصبي المميز في عقود المعاوضات المالية أو كان صادرا من غير ذي ولاية شرعية كالفضولي أو في مال تعلق به حق الغير كبيع المرهون .
قال ابن تيمية في العقد ص225 : وقد بينا أن مذهب أحمد أن من احتيج إلى وقفه من العقود وقف وهو ما كان المتصرف فيه معذورا في تصرفه كالصدقة بالمال الذي لا يعلم مالكه ، والمقبوض بعقد فاسد إذا باعه المشتري وقصد رده فإنه إن أجاز البائع البيع جاز وكان له الربح ، وكذلك الحكم بالتفريق بين المفقود وامرأته وتزويجها بغيره هو موقوف على رضا الزوج فإن أجاز الفرقة جازت وكانت زوجة الثاني وإن اختار فسخها وأخذ امرأته كان له ذلك كما قضى به الصحابة وأخذ به أحمد .
وأشكل هذا على أكثر الفقهاء الذين لم يعلموا أوجه ما فعله الخلفاء الراشدون بل اعتقدوا خلاف القياس الصحيح وهو مبني على وقف العقود ... إلى قوله ( وبالجملة فالراجح في الدليل والذي عليه أكثر فقهاء المسلمين كأبي حنيفة ومالك وغيرهما جواز وقف العقود في الجملة على تفصيل لهم فيه ، وليس في هذا محذورا أصلا والعقد الموقوف يقع جائزا لا لازما .
وقال : وليس في ذلك إضرارا بل صلاح بلا فساد فإن الرجل قد يرى أن يشتري لغيره أو يبيع له أو يستأجر له ثم يشاوره فإن رضي به وإلا فلم يصبه ما يضره .20/579 .
واستدل المجيزون لوقف العقود بعموم نصوص الكتاب والسنة في حل البيع. كقوله تعالى (وأحل الله البيع). وقوله تعالى إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) فتصدق على الموقوف والنافذ فلم يقيده إلا بالرضا .
ب. وما رواه البخاري في صحيحه عن عروة البارقي أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارا يشتري له به شاة فاشترى له به شاتين فباع إحداهما بدينار وجاءه بدينار وشاة ....الحديث ووجه الدلالة فيه أن عروة تصرف في ملك غيره بلا إذن ( تصرف الفضولي ) ومع ذلك أقره النبي صلى الله عليه وسلم .
وأما المانعون وهو المشهور عند الشافعية والحنابلة فعللوا بعدم الملك وعدم القدرة على التسليم .
أنواع العقود الموقوفة : هي كثيرة جدا والأحناف أوصلوها إلى ثمانية وثلاثين نوعا نكتفي بأبرزها وهي :
1/ العقد بالإكراه عند من يرى عدم فساده فهو موقوف على رضا المكره (عند بعض الأحناف كزفر ).
2/ عقد الصغير المميز إذا تصرف في ماله تصرفا يحتمل النفع و الضر ومثله السفيه والمحجور عليه.
3/ عقد المدين بدين مستغرق إذا حجر عليه .
4/ وصية المريض في مرض الموت أو الوصية بما يزيد عن ثلث التركة أو الوصية للوارث فيقعان على إجازة الورثة .
5/ عقد الفضولي ( وهو من يتصرف في حق غيره تصرفا قوليا من غير إذن شرعي ) .
6/ بيع المرهون يقف على إجازة المرتهن .
7/ مخالفة الوكيل لموكله فيما وكله به ( القدر أو الوصف أو الجنس ) فهو موقوف على إجازة الموكل.
8/ بيع الشريك حصته الشائعة بدون علم شريكه فينعقد موقوفا عند الجمهور.
القسم الرابع :وتنقسم العقود باعتبار ماليتها للعقود المالية والعقود غير المالية :
1-فالعقد إذا وقع على عين من الأعيان يسمى عقدا ماليا باتفاق الفقهاء ، سواء أكان نقل ملكيتها بعوض ، كالبيع بجميع أنواعه من الصرف والسلم والمقايضة ونحوها أم بغير عوض ، كالهبة والقرض والوصية بالأعيان ونحوها ، أو بعمل فيها ، كالمزارعة والمساقاة والمضاربة ونحوها .
2-أما إذا وقع على عمل معين دون مقابل كالوكالة والكفالة ، والوصاية ، أو الكف عن عمل معين كعقد الهدنة بين المسلمين وأهل الحرب ؛ فهو عقد غير مالي من الطرفين .
3-وهناك عقود تعتبر مالية من جانب ، وغير مالية من جانب آخر كعقد النكاح والخلع والصلح عن الدم وعقد الجزية ونحوها .
4-واختلفوا في العقود التي تقع على المنافع ، كالإجارة ، والإعارة ونحوهما ، فالجمهور يعتبرها من العقود المالية ؛ لأن المنافع أموال عندهم أو في حكم الأموال خلافا للحنفية ، حيث إن المنافع لا تعتبر أموالا عندهم .
وعللوا أن صفة المالية للشيئ لا تثبت إلا بالتمول،و التمول إحراز الشيئ وصيانته ،والمنافع لا يمكن إحرازها إذ لا تبقى زمانين آنا بعد آن،وتتلاشى بعد الاكتساب.
ونوقش:بأنه يمكن تمولها وحيازتها بحيازة أصلها كما أنه لا تشترط الحيازة المادية للشيئ ليكون مالا،فالحيازة في كل شيئ بحسبه. ولاشك أن ما ذهب إليه الجمهور هو الأظهر؛ لما يلي:
أ-أن مسمى المال من المسميات المطلقة التي لم يرد لها حد شرعاً ولا لغة، فيكون مردها للعرف، وقد تعارف الناس على مالية غير الأعيان مما له قيمة كالمنافع وبعض الحقوق،وقد تقدم أن المنافع أحق بالمالية من الأعيان لأنها هي المقصودة،ولأنها مما ينطبق عليها وصف المال وهو ما يميل إليه الطبع.
ب-أن الأدلة الشرعية جاءت باعتبار غير الأعيان كالمنافع أموالاً، كما في قوله صلى الله عليه وسلم ( أنكحتكها بما معك من القرآن) متفق عليه ،فجعل صداق المرأة منفعة، وهو لا يكون إلا مالاً، كما في قوله تعالى: (أن تبتغوا بأموالكم محصنين) سورة النساء (24 ) كما أنه يشرع العقد على المنفعة في الإجارة وهذا دليل ماليتها.
3-أن حصر المالية بالأعيان لا دليل عليه، فكل ما أمكن تموله مما له قيمة يعد مالاً، بل إن الأعيان لا تقصد إلا لمنافعها.قال الزنجاني: إطلاق لفظ المال عليها أحق منه على العين، إذ التضمين لا يسمى مالا إلا لاشتمالها على المنافع، ولذلك لا يصح بيعها بدونها" تخريج الفروع على الأصول 1/225.
قال الزركشي مبينا أقسام العقد من هذه الحيثية : العقد إما مالي من الطرفين حقيقة كالبيع والسلم ، أو حكما كالإجارة ، فإن المنافع تنزل منزل الأموال ، ومثله المضاربة والمساقاة .
أو غير مالي من الجانبين كما في عقد الهدنة ، إذ المعقود عليه في الطرفين كف كل منهما عن الإغراء بين المسلمين وأهل الحرب ، وكعقد القضاء .
أو مالي من أحد الطرفين كالنكاح والخلع والصلح عن الدم والجزية .
وغير المالي من الطرفين أشد لزوما من المالي فيهما ، إذ يجوز في المالي فسخه بعيب في العوض كالثمن والمثمن ، كما في خيار العيب ، وغير المالي لا يفسخ أصلا إلا لحدوث ما يمنع الدوام .
وينقسم المالي إلى محض وغيره ، فيقولون : معاوضة محضة وغير محضة ، فالمحضة : يكون المال فيها مقصودا من الجانبين ( كالبيع ) . والمعاوضة غير المحضة : لا تقبل التعليق إلا في الخلع من جانب المرأة ( نحو : إن طلقتني فلك ألف ) .
وقال : ينقسم العقد إلى ما يرد على العين قطعا كالبيع بأنواعه ، وإلى ما يرد على المنافع في الأصح كالإجارة ، ولهذا قالوا : إنها تمليك المنافع بعوض ، وقال أبو إسحاق : المعقود عليه العين ليستوفى منها المنافع ".
ومن أبرز المسائل الفقهية المعاصرة المترتبة على خلافهم في مالية المنافع حكم بيع الحقوق المعنوية فهي منافع فإذاقررنا أنها أموال فإنه يجوز التصرف فيهابالبيع وغيره وقد استدلوا على مالية المنافع وجواز بيعهابأدلة كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم « إن أحق ما أخذت عليه أجرًا كتاب الله ».
ووجه الدلالة: أجاز أخذ العوض مقابل الرقية فإذا جاز في القرآن جاز فيما دونه، فيدل على جواز بيع الحقوق.
وقوله صلى الله عليه وسلم: « زوجتكها بما معك من القرآن »، حيث جعل التعليم عوضا عن البضع ويقوم مقام المهر،ومن المعلوم أن المهر لايكون إلا مالا لقوله تعالى(أن تبتغوا بأموالكم محصنين...) فمن با ب أولى أخذ العوض على تعليم القرآن وأولى منه أخذه على العلوم المباحة والمخترعات.
القسم الخامس:وينقسم العقد من حيث وجود العوض وعدم العوض :عقود المعاوضة ، وعقود التبرع
1-فعقد المعاوضة:هو العقد الذي يقوم على حقوق متقابلة متبادلة بين العاقدين،فيأخذ كل منهما شيئا ويعطي ما يقابله،كعقد البيع بأنواعه من المقايضة والسلم والصرف ،أو عقد الإجارة الاستصناع ، والصلح والنكاح والخلع ، والمضاربة والمزارعة والمساقاة والشركة ونحوها .
2-عقود التبرعات:وهي التي تقوم على أساس المنحة أو المساعدة من طرف لآخر بغير مقابل، عقد الهبة ، والعارية ، الوديعة ، والوكالة ، والكفالة بغير أمر المدين ، والرهن ، والوصية ونحوها
3- عقود تتضمن معنى التبرع ابتداء والمعاوضة في الانتهاء كعقد القرض ، فإن المقرض متبرع عند الإقراض لكنه عند رجوعه على المقترض بمثل ما أخذ يئول إلى المعاوضة .
وكذلك عقد الكفالة بأمر المدين ، فإنها تبرع في الابتداء ، حينما يلتزم الكفيل بالدين الذي على المدين ، لكنه إذا دفع الدين للدائن ورجع على المدين بمثل ما دفعه تصير عقد معاوضة،ويطبق على العقد في ابتدائه شرائط التبرع،وفي انتهائه أحكام المعاوضة،فتشترط في العقود أهلية العاقد أهلية العاقد للتبرع فلاتقبل الكفالة من أهلية القاصر مثلا،ويجري حكم البيع في عوض الهبة فيرد بالعيب مثلا.
من أوجه الاتفاق والافتراق بين المعاوضات والتبرعات:
1-وتتفق عقود المعاوضات والتبرعات في إفادتها التمليك،
2-وتفترق في أمرين:
الفرق الأول :أن عقود المعاوضات لاتغتفر فيها الجهالة والغرر بخلاف عقود التبرعات وهذا عند المالكية وذلك لأنه لا عوض فيها يغتفر فيها الغرر والجهالة اليسيرة ؛ لأنها مبنية على اليسر والتوسعة. قال القرافي:"الفرق الرابع والعشرون بين قاعدة ما تؤثر فيه الجهالات والغرر وقاعدة ما لا يؤثر فيه ذلك من التصرفات ) وردت الأحاديث الصحيحة في نهيه عليه السلام عن بيع الغرر وعن بيع المجهول واختلف العلماء بعد ذلك فمنهم من عممه في التصرفات وهو الشافعي فمنع من الجهالة في الهبة والصدقة والإبراء والخلع والصلح وغير ذلك ومنهم من فصل وهو مالك بين قاعدة ما يجتنب فيه الغرر والجهالة وهو باب المماكسات والتصرفات الموجبة لتنمية الأموال وما يقصد به تحصيلها وقاعدة ما لا يجتنب فيه الغرر والجهالة وهو ما لا يقصد لذلك وانقسمت التصرفات عنده ثلاثة أقسام : طرفان وواسطة فالطرفان : أحدهما معاوضة صرفة فيجتنب فيها ذلك إلا ما دعت الضرورة إليه عادة كما تقدم أن الجهالات ثلاثة أقسام فكذلك الغرر والمشقة وثانيهما ما هو إحسان صرف لا يقصد به تنمية المال كالصدقة والهبة والإبراء فإن هذه التصرفات لا يقصد بها تنمية المال بل إن فاتت على من أحسن إليه بها لا ضرر عليه فإنه لم يبذل شيئا بخلاف القسم الأول إذا فات بالغرر والجهالات ضاع المال المبذول في مقابلته فاقتضت حكمة الشرع منع الجهالة فيه أما الإحسان الصرف فلا ضرر فيه فاقتضت حكمة الشرع وحثه على الإحسان التوسعة فيه بكل طريق بالمعلوم والمجهول فإن ذلك أيسر لكثرة وقوعه قطعا وفي المنع من ذلك وسيلة إلى تقليله فإذا وهب له عبده الآبق جاز أن يجده فيحصل له ما ينتفع به ولا ضرر عليه إن لم يجده لأنه لم يبذل شيئا وهذا فقه جميل ثم إن الأحاديث لم يرد فيها ما يعم هذه الأقسام حتى نقول يلزم منه مخالفة نصوص صاحب الشرع بل إنما وردت في البيع ونحوه وأما الواسطة بين الطرفين فهو النكاح فهو من جهة أن المال فيه ليس مقصودا . وإنما مقصده المودة والألفة والسكون يقتضي أن يجوز فيه الجهالة والغرر مطلقا ومن جهة أن صاحب الشرع اشترط فيه المال بقوله تعالى { أن تبتغوا بأموالكم } يقتضي امتناع الجهالة والغرر فيه فلو وجد الشبهين توسط مالك فجوز فيه الغرر القليل دون الكثير نحو عبد من غير تعيين وشورة بيت ولا يجوز على العبد الآبق والبعير الشارد لأن الأول يرجع فيه إلى الوسط المتعارف والثاني ليس له ضابط فامتنع وألحق الخلع بأحد الطرفين الأولين الذي لا يجوز فيه الغرر مطلقا لأن العصمة وإطلاقها ليس من باب ما يقصد للمعاوضة بل شأن الطلاق أن يكون بغير شيء فهو كالهبة فهذا هو الفرق بين القاعدتين والضابط للبابين والفقه مع مالك رحمه الله فيه" أ.هـ.وقد رجح ذلك ابن تيمية وابن القيم حيث قال في إعلامه مقررا منع الغرر في عقود المعاوضات 2/30" وكذلك سائر عقود المعاوضات بخلاف الوصية فإنها تبرع محض فلا غرر في تعلقها بالموجود والمعدوم وما يقدر على تسليمه إليه وما لا يقدر وطرده الهبة إذ لا محذور في ذلك فيها وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم هبة المشاع المجهول في قوله لصاحب كبة الشعر حين أخذها من المغنم وسأله أن يهبها له فقال: "أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك".
وقد خالف الجمهور فمنعوا الغرر حتى في عقود التبرعات مستدلين بحديث أبي هريرة وفيه: ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر)). قالوا وهذا نص في منع الغرر في المبايعات والتجارات، فيلحق بذلك عقود التبرعات؛ لاتفاقها في المعنى؛ وهو حفظ المال الذي هو أحد مقاصد الشارع.
ونوقش هذا الاستدلال: بأن الغرر منع في عقود المعاوضات، وما فيه شائبة معاوضة؛ لأن المال في هذه العقود مقصود تحصيله أو مشروط، فمنع الشارع الحكيم الغرر فيهما، صوناً للمال عن الضياع في أحد العوضين أو كليهما. أما عقود الإحسان والتبرعات فمقصودها بذل المال وإهلاكه في البر، فلذلك لم يأت ما يدل على منع الغرر فيها، وليست كعقود المعاوضات، فتلحق بهاوأجابواعن الحديث بأنه لاجهالة فيه لأن النبي وَهَبَ نصيبه، ونصيب بني عبد المطلب من تلك الكُبَّة التي رفعها الرجل، وهذان نصيبان مشاعان معلومان؛ إذ إن نصيب النبي خمس الخمس، ونصيب بني عبد المطلب خمس الخمس، فيكون قد وهب الرجل خمسي خمس الكبة، فلا جهالة في الهبة.
ومن آثار هذا التقسيم ما قاله الزركشي من أنه حيث اعتبر العوض في عقد من الطرفين - أو من أحدهما - فشرطه أن يكون معلوما ، كثمن المبيع ، وعوض الأجرة ونحوهما ، إلا في الصداق وعوض الخلع ، فإن الجهالة فيه لا تبطله ؛ لأن له مردا معلوما ، وهو مهر المثل ، وقد يكون العوض في حكم المجهول ، كالعوض في المضاربة والمساقاة ، وهناك عقود يكتفى فيها بالعلم الطارئ بالعوض ، كالشركة مثلا فإنه يشترط فيها العلم بقدر النسبتين في المال المختلط ، من كونه مناصفة أو مثالثة في الأصح إذا أمكن معرفته من بعد ، وعقود أخرى لا يكتفى فيها بالعلم ، كالمضاربة ، والقرض .
الفرق الثاني:وجوب الوفاء في عقود المعاوضات بالاتفاق إذا تمت صحيحة بشروطها ، عملا بقوله تعالى : { أوفوا بالعقود } ؛ لأن في عدم الوفاء بها ضررا للعاقد الآخر ، لضياع ما بذله من العوض في مقابلته ، بخلاف عقود التبرع ، كالهبة والعارية والقرض والوصية ، ونحوها ،فالجمهور أنه لا يجب الوفاء فيها بما تعهد المتبرع ؛ لأنه محسن ، وما على المحسنين من سبيل ،
ومع ذلك فإن الفقهاء صرحوا باستحباب الوفاء في عقود التبرع ؛ لأنها من البر والإحسان ، وقد حث الشارع عليهما في أكثر من موضع ، قال تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى }
أما المالكية فيجب الوفاء عندهم في بعض عقود التبرع أيضا ، ومن فروع ذلك عندهم جواز الرجوع بالهبة قبل القبض عند الجمهور خلافا للمالكية ،وجواز الرجوع بطلب المستعار مطلقة أو مؤقتة عند الجمهور بخلاف المالكية فالعارية المؤجلة لازمة عندهم إلى انقضاء الأجل.
ومن أهم ما يتفرع على ذلك-عدم جواز الإلزام بالوعد في عقود المعاوضات وجوازه في عقود التبرعات وهذا هو الصحيح في النقل عن المذهب المالكي خلافا لمن أطلق الإلزام بالوعد عنهم ،وذلك لأن:
أ- أن المقصود بالوعد لدى المتقدمين منهم هو الوعد بالمعروف، أما في المعاوضة فلم يقل أحد بلزومه لما ينشأ عنه من محاذير شرعية تقدمت الإشارة لها.
ولذا عرفه ابن عرفة المالكي: "بأنه إخبار عن إنشاء المخبر معروفا في المستقبل".
ولذا فالمالكية الذين قالوا بالإلزام منعوا في المعاوضات صورة ليس فيها إلزام لشبهة القرض الذي جر نفعا، قال ابن رشد : " والعينة على ثلاثة أوجه: جائز ومكروهة ومحظورة، فالجائزة أن يمر الرجل بالرجل من أهل العينة، فيقول له: هل عندك سلعة كذا أبتاعها منك، فيقول له: لا. فينقلب عنه على غير مراوضة ولا مواعدة، فيشتري تلك السلعة التي سأله عنها، ثم يلقاه فيخبره أنه قد اشترى السلعة التي سأله عنها فيبيعها بما شاء نقدا أو نسيئة. والمكروهة أن يقول له: اشتر سلعة كذا وكذا، فأنا أربحك فيها وأشتريها منك، من غير أن يراوضه على الربح، والمحظورة أن يرواضه على الربح". قال في الشرح الصغير للدردير (3/129): معلقا على الصورة نفسها "فالعينة : وهي بيع - من طلبت منه سلعة للشراء وليست عنده، لطالبها بعد شرائها - جائزة ، إلا أن يقول الطالب: اشترها بعشرة نقدا، وأنا آخذها منك باثني عشر إلى أجل، فيمنع لما فيه من تهمة سلف جر نفعا ؛ لأنه كأنه سلفه عشرة ثمن السلعة يأخذ عنها بعد الأجل اثني عشر".
ب- أنهم ينصون على المواعدة وهي تكون من طرفين في معاوضة يصيرها عقداً بخلاف الحال هنا فهي وعد من طرف واحد في غير معاوضة.
ففي قواعد الونشريسي: "الأصل منع المواعدة بما لا يصح ومؤكد في الحال".
ج- ثم إن نسبة القول بلزومه قضاء عند المالكية غير دقيق فقد نقل عليش في فتاواه (فتح العلي المالك ...) أربعة أقوال:
أ-يقضى بها مطلقا ولم ينسبه لأحد. ب- ولا يقضى به مطلقا.
ج- يقضى به إن كان مبنيا على سبب وهو قول أصبغ.
د-إن كان مبنيا على سبب ودخل الموعود في شيئ وهذا مذهب ابن القاسم..
وأجيب: بأنه إذا جاز في التبرعات ففي المعاوضات أولى لما يترتب عليها من التزامات مالية، وضرر مع عدم الإلزام بالوعد.
ورد هذا الجواب: بأن ذلك يترتب عليه محظور شرعي وهو بيع مالايملك لأن الوعد الملزم هو عقد في حقيقته،وهو واقع في حال عدم الملك للتوثق من عزم المشتري من الشراء،فيكون العقد من غير مالك،ولذا فلم يقل أحد من أهل العلم بالإلزام بالوعد في المعاوضات.
التقسيم السادس للعقود - باعتبار اشتراط القبض فيها أو عدمه - إلى نوعين :
الأول : عقود لا يشترط فيها قبض المعقود عليه حين العقد في الجملة .
ومن هذا النوع عقد البيع المطلق ،والإجارة والنكاح والوصية والوكالة والحوالة ونحوها ، فالبيع مثلا ينعقد بالإيجاب والقبول ، وتترتب عليه آثاره : من انتقال ملكية المبيع إلى المشتري ، وملكية الثمن إلى البائع ، سواء أحصل التقابض بينهما أم لا ، وهذا باتفاق الفقهاء ، إلا أن الحنفية والشافعية صرحوا بأن الملك وإن كان ينتقل في البيع بمجرد العقد ، لكن لا يستقر إلا بالقبض ، كالصداق في عقد النكاح والإجارة تنعقد بمجرد الإيجاب والقبول ، وتترتب عليها آثارها بالعقد دون الحاجة إلى الاستيفاء عند جمهور الفقهاء خلافا للحنفية حيث قالوا : لا يملك المؤجر الأجرة بنفس العقد ، وإنما يملكها بالاستيفاء ، أو التمكن منه أو بالتعجيل ، أو بشرط التعجيل ، كما لا يملك المستأجر المنافع بالعقد ؛ لأنها تحدث شيئا فشيئا ، وإنما يملكها بالاستيفاء أو يوما فيوما والنكاح يترتب عليه آثاره بمجرد العقد ، ولا يحتاج إلى قبض الصداق ، وكذلك الوصيةوالوكالة والحوالة لا تحتاج في انعقادها إلى قبض المعقود عليه .
الثاني : عقود يشترط فيها قبض المعقود عليه حين العقد . وهذه تنقسم إلى أقسام :
أ - عقود يشترط فيها القبض لنقل الملكية ، كالهبة والقرض والعارية .
أما الهبة - وهي تمليك في الحياة بغير عوض - فجمهور الفقهاء : الحنفية ، والشافعية ، والحنابلة قالوا : لا تنتقل الملكية فيها بمجرد الإيجاب والقبول ، بل يحتاج ذلك إلى القبض بإذن الواهب وقال المالكية : لا يشترط لانتقال الملكية في عقد الهبة القبض ، بل تثبت للموهوب له ملكية الموهوب بالعقد ، وعلى الواهب إقباضه وكذلك القرض : فالجمهور من الحنفية والشافعية ، والحنابلة على أنه يشترط لنقل ملكيته إلى المقترض القبض وذهب المالكية إلى أن المقترض يملك القرض بالعقد ، ولا يحتاج ذلك إلى قبض العين المقرضة ،وعلى ذلك فإذا هلكت العين بعد العقد وقبل القبض فإن ضمانها على المقرض عند جمهور الفقهاء ، بناء على بقاء الملكية لديه
وفي عقد العارية صرح الحنفية بأن ملك المنافع من الأموال المعارة لا تنتقل بمجرد العقد ، بل يحتاج ذلك إلى قبض المعار وقال الشافعية والحنابلة : إن العارية إباحة الانتفاع ، فلا تنتقل فيها المنافع أصلا ؛ لأنها ليست تمليك المنافع . وعند المالكية تملك منفعة المعار بالعقد وإن لم يقبض المعار .
ب - عقود يشترط فيها القبض لصحتها ، كالصرف ، وبيع الأموال الربوية ، والسلم ، والمضاربة ، والمساقاة ، والمزارعة .
أما عقد الصرف - وهو بيع النقد بالنقد - فاتفق الفقهاء على أنه يشترط في صحته التقابض في البدلين قبل التفرق عن مجلس العقد ، لقوله صلى الله عليه وسلم : لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ، ولا تشفوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز .
وكذلك بيع الأموال الربوية كالبر والشعير ونحوهما فيشترط في بيعها بمثلها التقابض ، لما ورد في الأحاديث من النهي عن بيع النسيئة في ذلك ، منها قوله صلى الله عليه وسلم : الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء ، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء ، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء ، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء مثلا بمثل .
وأما عقد السلم - وهو : عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض في مجلس العقد – فاتفق الفقهاء إلى أنه يشترط في صحته قبض رأس المال قبل الافتراق ، لقوله صلى الله عليه وسلم : من أسلف في شيئ فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم "،والتسليف هو الإعطاء ؛ ولأن الافتراق قبل قبض رأس المال يؤدي إلى بيع دين بدين ، وهو ممنوع ، لما ورد من النهي عن ذلك في الحديث الصحيح .
إلا أن المالكية يجوزون تأخير قبض رأس المال في السلم عن مجلس العقد يومين أوثلاثة ؛ لأن ما قارب الشيء فله حكمه. وأما المضاربة فالجمهور على اشتراط تسليم رأس المال إلى العامل ، بحيث يمكنه التصرف فيه .
وذهب الحنابلة في رواية : إلى عدم اشتراط ذلك.
ج - عقود يشترط للزومها القبض : كالهبة والرهن ، فقد صرح جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة : بأن عقد الهبة لا يلزم بمجرد الإيجاب والقبول قبل القبض ، فيكون للواهب حق الرجوع ما دام الموهوب له لم يقبض ، حتى إن بعض الفقهاء قالوا بعدم لزوم الهبة بعد القبض أيضا ، فللواهب الرجوع فيها إلا في حالات خاصة وذهب المالكية إلى أن الهبة تلزم بالقبض إلا في حالات خاصة
وأما الرهن : فقد اشترط جمهور الفقهاء في لزومه القبض ، فيبطل عقد الرهن برجوع الراهن عن الرهن بالقول أو بتصرف يزيل الملك.
التقسيم السابع: أقسام العقود من حيث الضمان وعدمه تنقسم بهذا الاعتبار إلى قسمين:
القسم الأول: عقود الضمان:
وهي التي يعتبر المال المنتقل, بناء على تنفيذها, من يد إلى يد مضموناً على الطرف القابض له . فمهما يصيبه من تلف فما دونه , ولو بآفة سماوية , يكون على مسؤوليته وحسابه .
وهذه العقود هي: البيع , والقسمة , والصلح عن مال بمال , والخارجة , والقرض , وإقالة هذه العقود.
والضمان اصطلاحاً هو: عبارة عن غرامة التالف وقيل: «هو التزام بتعويض مالي عند ضرر للغير» .
أدلة مشروعية الضمان:
1- فيما يتصل بمعنى الكفالة ، قال الله تعالى: (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم) أي كفيل وضامن ، فقد ضمن يوسف – عليه السلام – لمن جاء بصواع الملك – وهو إناؤه الذي كان يشرب به – قدر ما يحمله البعير من الطعام.
2- ومن الأحاديث في ضمان المتلفات المالية مارواه أنس قال: أهدت بعض أزواج النبي ^ إليه طعاماً في قصعة ، فضربت عائشة القصعة بيدها فألقت ما فيها ، فقال النبي ^: (طعام بطعام ، وإناء بإناء) .
3- وفي ضمان ما يتصل بوضع اليد ؛ قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) .