الفســــــــاد التشـــــــــريعي
الفساد الدستوري: عمد المحتل البريطاني منذ احتلاله لمصر على زحزحة الشريعة الإسلامية عن الحكم والتحاكم، واتبع في ذلك خطة ذات شقين:
الأول: تربية أجيال تعتنق الفكر الديمقراطي العلماني.
والثاني: سن تشريعات مخالفة لشريعة الإسلام تنظم حياة الناس ليتسنى له السيطرة على بلاد الإسلام وإبقائها تابعة فكريا وثقافيا وقانونيا واقتصاديا وعسكريا له.
وتتبـُع خطوات الشيطان الإنجليزي ومن بعده العلمانيين الذين حكمونا في استبدال التشريعات الإسلامية بالتشريعات الوضعية خارج نطاق هذا البحث، ولكننا هنا سنعرض لمدى المخالفة الواقعة بين التشريعات المعمول بها حاليا في مصر وبين الشريعة الإسلامية ليتبين للقارئ المسلم مدى الانحراف الدستوري والقانوني الذي ذهبت إليه الأنظمة الحاكمة للشعب المسلم في مصر، وأن هذه الحقيقة أصبحت مؤكدة مسلما بها حتى في وثائق النظام نفسه.
ومن أظهر الأمثلة على ذلك ما أقر به القاضي عبد الغفار محمد في القضية 462/ 81 أمن دولة عليا طوارئ والمعروفة بقضية الجهاد الكبرى والتي تعد أكبر قضية في تاريخ القضاء المصري حيث أتهم فيها 302 متهما حضر منهم أكثر من 280 متهما، وتـُعد أيضا من أهم ـ إن لم تكن أهم ـ القضايا في تاريخ القضاء المصري نظرا للقضايا الخطيرة التي فجرتها، فقد نص القاضي عبد الغفار محمد في حيثيات حكمه على الآتي:
"بخصوص الموضوع الثاني فالذي استقر في ضمير المحكمة أن أحكام الشريعة الإسلامية غير مطبقة في جمهورية مصر العربية وهذه حقيقة مستخلصة من الحقيقة الأولى وهي وجوب تطبيق الشريعة" ثم راحت المحكمة تسرد الأدلة على غياب الشريعة ومنها “وجود مظاهر في المجتمع المصري لا تتفق مع أحكام الشريعة الغراء من ملاه ترتكب فيها الموبقات ترخص بإدارتها من الدولة، إلى مصانع خمور ترخص بإنشائها من الدولة، إلى محال لبيع وتقديم الخمور ترخص بإدارتها من الدولة، إلى وسائل إعلام سمعية ومرئية ومقروءة تذيع وتنشر ما لا يتفق على أحكام الشريعة الإسلامية، إلى سفور للمرأة يخالف ما نص عليه دين الدولة الرسمي وهو الإسلام" ([2]).
كما قرر حكم المحكمة في مسودة الحيثيات في موضع آخر: "حقيقة أن المادة الثانية من الدستور بعد تعديلها نصت على أن الإسلام دين الدولة الرسمي واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، إلا أنه يكفي المحكمة تدليلا على أن أحكام الدستور لا تتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية، ما قرره عمر أحمد عبد الرحمن ـ باعتباره من علماء المسلمين ـ أمام المحكمة بجلسة 3 سبتمبر سنة 1983م من أن الدستور يتصادم مع الشريعة الإسلامية ولا يتحاكم إليها فالمواد 86، 107، 108، 109، 112، 113، 189 تعطي لمجلس الشعب حق التشريع وسن القوانين، وهو في الإسلام لله وحده، كما أن المادة (75) من الدستور لا تشترط الإسلام والذكورة في رئيس الدولة وهو أمر يخالف إجماع الفقهاء، والمادة (165) تنص على أن الحكم في المحاكم بالقانون الذي لا يتفق في أسلوب إصداره ونصوصه مع الشريعة الإسلامية"([3]).
كما قرر حكم المحكمة في موضع آخر في معرض بيان حالة المجتمع المصري قبل وقوع: أحداث القضية: "غياب شرع الله عن أرض جمهورية مصر العربية: وهو ما سبق للمحكمة أن دللت عليه بأدلة قاطعة ـ لا ترى حاجة لتكرارها ولكنها تشير إلى أن السلطة التشريعية لم تنته بعد من تقنين أحكام الشريعة الإسلامية، وكانت قد بدأت في هذا العمل منذ عام 1979م هذا إلى وجود مظاهر في المجتمع المصري لا تتفق بأي حال مع قواعد الإسلام، فلا يتصور أن دولة دينها الإسلام وترخص لملاهٍ ترتكب فيها موبقات، وترخص لمصانع لإنتاج الخمور أو محال لبيعها وشربها، أن تصرح لوسائل الإعلام المرئية أو السمعية أو المقروءة بنشر أو إذاعة ما لا يتفق مع شرع الله أو سفور المرأة بصورة تخالف ما نص عليه الإسلام"([4]).
ولم يكن اعتراف القاضي بغياب الشريعة عن حكم مصر هو المفاجأة الوحيدة من قاض علماني يحكم بالقانون الوضعي. بل لقد أضاف إليه إقراره بعدة حقائق خطيرة منها وجوب الحكم بالشريعة وأن هذا أمل كل مسلم، ومنها وجوب وقف تيار الفساد في وسائل الإعلام، ومنها إقراره بالتعذيب البشع الذي وقع أثناء التحقيق وأدى إلى عاهات مستديمة لدى بعض المتهمين.
ولم تكن حيثيات الحكم التي سطرها القاضي في أكبر قضية في تاريخ القضاء المصري هي أخطر ما في هذه القضية، بل ما هو أخطر منها بيانات العالم المجاهد الدكتور عمر عبد الرحمن في القضية والتي أظهر فيها مدى انحراف الحكم في مصر عن الإسلام والتي ضمنها ـ بعد ذلك ـ في كتابه (كلمة حق)، كما بين في تلك البيانات أن مقاومة هذا النظام والخروج عليه أمر مستقر في الشريعة الإسلامية بإجماع فقهاء الأمة، كما احتوت هذه المحاكمة على الشهادة العظيمة للعالم المجاهر بالحق الشيخ صلاح أبو إسماعيل في بيان مدى الفساد التشريعي في مصر وبيان يأسه من محاولة إصلاح النظام بالحسنى ومدى خبث المؤامرات التي تعرض لها وتعرضت لها الدعوة لتطبيق الشريعة في مصر.
ولم تكن هذه القضية قضية وقائع قانونية خطيرة فقط ولكنها قبل ذلك كانت معركة فكرية بين الإسلام والعلمانية والقوانين الوضعية. انتصر فيها المسلمون وأثبتوا أن مصر لا تحكم بالإسلام وأن النظام يدفع بالمجتمع إلى الفساد وأن جهاد هؤلاء الحكام واجب على كل مسلم.
ونحن هنا نتعرض باختصار لأمرين:
§ الأول: أمثله على مدى مخالفة الدستور المصري الحالي للشريعة الإسلامية.
§ الثاني: أمثلة على مدى مخالفة القوانين السارية في مصر للشريعة الإسلامية.
* * *
أولا: مدى مخالفة الدستور المصري الحالي للشريعة الإسلامية:
1) فقد ورد في المادة 3 من الدستور المصري: "السيادة للشعب وحده"
وهي تعني أن صاحب السيادة في التشريع هو الشعب وليس أي مصدر آخر حتى ولو كانت الشريعة الإسلامية.
2) ومن باب ذر الرماد في العيون فقد تضمن الدستور الحالي مادة (2) التي تنص على "مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع" ودجل أعوان النظام بهذه المادة وقالوا إنها تعني أن الحكم في مصر إسلامي ولكن عند التحقيق يتبين أن هذه المادة لا أثر لها في الواقع ولا تغير الدستور العلماني المخالف للشريعة الإسلامية للآتـــــــي:
أ ) هذه المادة ذكرت بخبث ودهاء كلمة “مبادئ” الشريعة الإسلامية ولم تنص على أحكام الشريعة الإسلامية. ومبادئ الشريعة مثل: لا ضرر ولا ضرار، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والحكم يدور مع العلة وجوبا وعدما، والضرورات تبيح المحظورات، وهذه المبادئ ممكن أن تشترك فيها كثير من القوانين مع الشريعة الإسلامية ومع ذلك تختلف معها في الأحكام.
ب) هذه المادة ذكرت أن الشريعة هي المصدر الأساسي ـ وليست المصدر الوحيد ـ للتشريع، ومعنى هذا أنه يمكن أن تكون هناك مصادر إضافية للتشريع تزاحم الشريعة الإسلامية. وهذا تماماً يماثل من يقول: (لا إله أساسي إلا الله) بدلاً من أن يقول "لا إله إلا الله" ـ لأن الله هو المشرع الوحيد في الإسلام ـ فهل تقبل هذه الشهادة من أحد أم يعد قائلها كافرا. وهذه من حيل واضعي القوانين على الشعوب المسلمة.
ج ) أن هذه المادة لا سلطان لها على القضاة في المحاكم وإنما هي تخاطب المشرعين (كما يسمونهم) في مجلس الشعب (البرلمان) وبهذا أفتت المحكمة الدستورية العليا واستندت إلى المادة (165) في الدستور التي تنص على أن الحكم في المحاكم بالقانون. ولهذا يمنع أي قاضٍ من أن يحكم بالشريعة بدلاً من القانون الوضعي، ولذلك عندما أصدر المستشار محمد محمود غراب (القاضي المصري) حكما بالجلد ثمانين جلدة على رجل ضبط بحالة سكر بين بالطريق العام، لم ينفذ هذا الحكم واعتبر باطلا رغم أنه وافق السنة لأنه خالف القانون بزعمهم.
بل واعتبر هذا الحكم مأخذا قضائيا ضد المستشار محمود غراب وأرسلت إليه الإدارة العامة للتفتيش القضائي بوزارة العدل مأخذا قضائيا رقم (5ـ 81ـ 1981) تبين فيه بطلان الحكم حيث قالت: "ويؤخذ على هذا الحكم: أنه لما كان من المقرر أنه لا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون، وأن العقوبات قد حصرها وليس من بينها ما قضى به الحكم بجلد المتهم، فإنه يكون قد خالف القانون مما يصمه بالبطلان"([5]).
وقد نُقِلَ القاضي محمد محمود غراب بعد هذا الحكم إلى وظيفة إدارية بعيدة عن القضاء.
د) كما أن هذه المادة الثانية من الدستور جاءت بناء على تعديل دستوري وليست اتباعاً لحكم الله ولكنه تعديل صدر لأن أكثر من ثلث أعضاء مجلس الشعب تقدموا بطلب لتعديل بعض أحكام الدستور في 16 يوليو 1979، فأقر مجلس الشعب في جلسته المنعقدة في 30 أبريل 1980 التعديل المقترح ووافق عليه، ثم عرض هذا التعديل حسبما تقضي به المادة (189) من الدستور على الشعب في استفتاء شعبي أجري في يوم 22 مايو 1980 فوافق عليه الشعب، وأصبح هذا التعديل نافذاً من يوم إعلان نتيجة الاستفتاء([6])، أي أن هذا التعديل الدستوري جاء بناء على موافقة أغلبية النواب ثم موافقة أغلبية الشعب الذين يملكون سلطة تعديل القانون والدستور، ولم يجئ لأن الشريعة هي الحاكمة على الدستور والقانون، وبالتالي فإن الشعب يملك أيضاً أن يعدل هذه المادة ويكون بذلك مستخدماً لحقه وليس مجرماً في ميزان الدستور، بينما يعد في ميزان الشريعة آثماً خارجاً على الشريعة، لأن الدستور يعطي السيادة للشعب وحده ولا يعطيها للشريعة، بينما في الإسلام لا يملك أي عدد من الناس ـ قل أو كثر ـ أن يغير من الشريعة التي يجب أن تطبق سواءً وافق الأكثرون عليها أم رفضوا.
هـ ) كما حكمت المحكمة الدستورية العليا أن هذه المادة لا أثر رجعي لها، وبالتالي فلا يمكن أن يستند إليها في تغيير أي قانون صدر قبلها، وحيث أن الأغلبية الساحقة من القوانين قد صدرت قبلها فلا اثر لهذه المادة على الأغلبية العظمى من القوانين([7]).
الفساد الدستوري: عمد المحتل البريطاني منذ احتلاله لمصر على زحزحة الشريعة الإسلامية عن الحكم والتحاكم، واتبع في ذلك خطة ذات شقين:
الأول: تربية أجيال تعتنق الفكر الديمقراطي العلماني.
والثاني: سن تشريعات مخالفة لشريعة الإسلام تنظم حياة الناس ليتسنى له السيطرة على بلاد الإسلام وإبقائها تابعة فكريا وثقافيا وقانونيا واقتصاديا وعسكريا له.
وتتبـُع خطوات الشيطان الإنجليزي ومن بعده العلمانيين الذين حكمونا في استبدال التشريعات الإسلامية بالتشريعات الوضعية خارج نطاق هذا البحث، ولكننا هنا سنعرض لمدى المخالفة الواقعة بين التشريعات المعمول بها حاليا في مصر وبين الشريعة الإسلامية ليتبين للقارئ المسلم مدى الانحراف الدستوري والقانوني الذي ذهبت إليه الأنظمة الحاكمة للشعب المسلم في مصر، وأن هذه الحقيقة أصبحت مؤكدة مسلما بها حتى في وثائق النظام نفسه.
ومن أظهر الأمثلة على ذلك ما أقر به القاضي عبد الغفار محمد في القضية 462/ 81 أمن دولة عليا طوارئ والمعروفة بقضية الجهاد الكبرى والتي تعد أكبر قضية في تاريخ القضاء المصري حيث أتهم فيها 302 متهما حضر منهم أكثر من 280 متهما، وتـُعد أيضا من أهم ـ إن لم تكن أهم ـ القضايا في تاريخ القضاء المصري نظرا للقضايا الخطيرة التي فجرتها، فقد نص القاضي عبد الغفار محمد في حيثيات حكمه على الآتي:
"بخصوص الموضوع الثاني فالذي استقر في ضمير المحكمة أن أحكام الشريعة الإسلامية غير مطبقة في جمهورية مصر العربية وهذه حقيقة مستخلصة من الحقيقة الأولى وهي وجوب تطبيق الشريعة" ثم راحت المحكمة تسرد الأدلة على غياب الشريعة ومنها “وجود مظاهر في المجتمع المصري لا تتفق مع أحكام الشريعة الغراء من ملاه ترتكب فيها الموبقات ترخص بإدارتها من الدولة، إلى مصانع خمور ترخص بإنشائها من الدولة، إلى محال لبيع وتقديم الخمور ترخص بإدارتها من الدولة، إلى وسائل إعلام سمعية ومرئية ومقروءة تذيع وتنشر ما لا يتفق على أحكام الشريعة الإسلامية، إلى سفور للمرأة يخالف ما نص عليه دين الدولة الرسمي وهو الإسلام" ([2]).
كما قرر حكم المحكمة في مسودة الحيثيات في موضع آخر: "حقيقة أن المادة الثانية من الدستور بعد تعديلها نصت على أن الإسلام دين الدولة الرسمي واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، إلا أنه يكفي المحكمة تدليلا على أن أحكام الدستور لا تتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية، ما قرره عمر أحمد عبد الرحمن ـ باعتباره من علماء المسلمين ـ أمام المحكمة بجلسة 3 سبتمبر سنة 1983م من أن الدستور يتصادم مع الشريعة الإسلامية ولا يتحاكم إليها فالمواد 86، 107، 108، 109، 112، 113، 189 تعطي لمجلس الشعب حق التشريع وسن القوانين، وهو في الإسلام لله وحده، كما أن المادة (75) من الدستور لا تشترط الإسلام والذكورة في رئيس الدولة وهو أمر يخالف إجماع الفقهاء، والمادة (165) تنص على أن الحكم في المحاكم بالقانون الذي لا يتفق في أسلوب إصداره ونصوصه مع الشريعة الإسلامية"([3]).
كما قرر حكم المحكمة في موضع آخر في معرض بيان حالة المجتمع المصري قبل وقوع: أحداث القضية: "غياب شرع الله عن أرض جمهورية مصر العربية: وهو ما سبق للمحكمة أن دللت عليه بأدلة قاطعة ـ لا ترى حاجة لتكرارها ولكنها تشير إلى أن السلطة التشريعية لم تنته بعد من تقنين أحكام الشريعة الإسلامية، وكانت قد بدأت في هذا العمل منذ عام 1979م هذا إلى وجود مظاهر في المجتمع المصري لا تتفق بأي حال مع قواعد الإسلام، فلا يتصور أن دولة دينها الإسلام وترخص لملاهٍ ترتكب فيها موبقات، وترخص لمصانع لإنتاج الخمور أو محال لبيعها وشربها، أن تصرح لوسائل الإعلام المرئية أو السمعية أو المقروءة بنشر أو إذاعة ما لا يتفق مع شرع الله أو سفور المرأة بصورة تخالف ما نص عليه الإسلام"([4]).
ولم يكن اعتراف القاضي بغياب الشريعة عن حكم مصر هو المفاجأة الوحيدة من قاض علماني يحكم بالقانون الوضعي. بل لقد أضاف إليه إقراره بعدة حقائق خطيرة منها وجوب الحكم بالشريعة وأن هذا أمل كل مسلم، ومنها وجوب وقف تيار الفساد في وسائل الإعلام، ومنها إقراره بالتعذيب البشع الذي وقع أثناء التحقيق وأدى إلى عاهات مستديمة لدى بعض المتهمين.
ولم تكن حيثيات الحكم التي سطرها القاضي في أكبر قضية في تاريخ القضاء المصري هي أخطر ما في هذه القضية، بل ما هو أخطر منها بيانات العالم المجاهد الدكتور عمر عبد الرحمن في القضية والتي أظهر فيها مدى انحراف الحكم في مصر عن الإسلام والتي ضمنها ـ بعد ذلك ـ في كتابه (كلمة حق)، كما بين في تلك البيانات أن مقاومة هذا النظام والخروج عليه أمر مستقر في الشريعة الإسلامية بإجماع فقهاء الأمة، كما احتوت هذه المحاكمة على الشهادة العظيمة للعالم المجاهر بالحق الشيخ صلاح أبو إسماعيل في بيان مدى الفساد التشريعي في مصر وبيان يأسه من محاولة إصلاح النظام بالحسنى ومدى خبث المؤامرات التي تعرض لها وتعرضت لها الدعوة لتطبيق الشريعة في مصر.
ولم تكن هذه القضية قضية وقائع قانونية خطيرة فقط ولكنها قبل ذلك كانت معركة فكرية بين الإسلام والعلمانية والقوانين الوضعية. انتصر فيها المسلمون وأثبتوا أن مصر لا تحكم بالإسلام وأن النظام يدفع بالمجتمع إلى الفساد وأن جهاد هؤلاء الحكام واجب على كل مسلم.
ونحن هنا نتعرض باختصار لأمرين:
§ الأول: أمثله على مدى مخالفة الدستور المصري الحالي للشريعة الإسلامية.
§ الثاني: أمثلة على مدى مخالفة القوانين السارية في مصر للشريعة الإسلامية.
* * *
أولا: مدى مخالفة الدستور المصري الحالي للشريعة الإسلامية:
1) فقد ورد في المادة 3 من الدستور المصري: "السيادة للشعب وحده"
وهي تعني أن صاحب السيادة في التشريع هو الشعب وليس أي مصدر آخر حتى ولو كانت الشريعة الإسلامية.
2) ومن باب ذر الرماد في العيون فقد تضمن الدستور الحالي مادة (2) التي تنص على "مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع" ودجل أعوان النظام بهذه المادة وقالوا إنها تعني أن الحكم في مصر إسلامي ولكن عند التحقيق يتبين أن هذه المادة لا أثر لها في الواقع ولا تغير الدستور العلماني المخالف للشريعة الإسلامية للآتـــــــي:
أ ) هذه المادة ذكرت بخبث ودهاء كلمة “مبادئ” الشريعة الإسلامية ولم تنص على أحكام الشريعة الإسلامية. ومبادئ الشريعة مثل: لا ضرر ولا ضرار، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والحكم يدور مع العلة وجوبا وعدما، والضرورات تبيح المحظورات، وهذه المبادئ ممكن أن تشترك فيها كثير من القوانين مع الشريعة الإسلامية ومع ذلك تختلف معها في الأحكام.
ب) هذه المادة ذكرت أن الشريعة هي المصدر الأساسي ـ وليست المصدر الوحيد ـ للتشريع، ومعنى هذا أنه يمكن أن تكون هناك مصادر إضافية للتشريع تزاحم الشريعة الإسلامية. وهذا تماماً يماثل من يقول: (لا إله أساسي إلا الله) بدلاً من أن يقول "لا إله إلا الله" ـ لأن الله هو المشرع الوحيد في الإسلام ـ فهل تقبل هذه الشهادة من أحد أم يعد قائلها كافرا. وهذه من حيل واضعي القوانين على الشعوب المسلمة.
ج ) أن هذه المادة لا سلطان لها على القضاة في المحاكم وإنما هي تخاطب المشرعين (كما يسمونهم) في مجلس الشعب (البرلمان) وبهذا أفتت المحكمة الدستورية العليا واستندت إلى المادة (165) في الدستور التي تنص على أن الحكم في المحاكم بالقانون. ولهذا يمنع أي قاضٍ من أن يحكم بالشريعة بدلاً من القانون الوضعي، ولذلك عندما أصدر المستشار محمد محمود غراب (القاضي المصري) حكما بالجلد ثمانين جلدة على رجل ضبط بحالة سكر بين بالطريق العام، لم ينفذ هذا الحكم واعتبر باطلا رغم أنه وافق السنة لأنه خالف القانون بزعمهم.
بل واعتبر هذا الحكم مأخذا قضائيا ضد المستشار محمود غراب وأرسلت إليه الإدارة العامة للتفتيش القضائي بوزارة العدل مأخذا قضائيا رقم (5ـ 81ـ 1981) تبين فيه بطلان الحكم حيث قالت: "ويؤخذ على هذا الحكم: أنه لما كان من المقرر أنه لا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون، وأن العقوبات قد حصرها وليس من بينها ما قضى به الحكم بجلد المتهم، فإنه يكون قد خالف القانون مما يصمه بالبطلان"([5]).
وقد نُقِلَ القاضي محمد محمود غراب بعد هذا الحكم إلى وظيفة إدارية بعيدة عن القضاء.
د) كما أن هذه المادة الثانية من الدستور جاءت بناء على تعديل دستوري وليست اتباعاً لحكم الله ولكنه تعديل صدر لأن أكثر من ثلث أعضاء مجلس الشعب تقدموا بطلب لتعديل بعض أحكام الدستور في 16 يوليو 1979، فأقر مجلس الشعب في جلسته المنعقدة في 30 أبريل 1980 التعديل المقترح ووافق عليه، ثم عرض هذا التعديل حسبما تقضي به المادة (189) من الدستور على الشعب في استفتاء شعبي أجري في يوم 22 مايو 1980 فوافق عليه الشعب، وأصبح هذا التعديل نافذاً من يوم إعلان نتيجة الاستفتاء([6])، أي أن هذا التعديل الدستوري جاء بناء على موافقة أغلبية النواب ثم موافقة أغلبية الشعب الذين يملكون سلطة تعديل القانون والدستور، ولم يجئ لأن الشريعة هي الحاكمة على الدستور والقانون، وبالتالي فإن الشعب يملك أيضاً أن يعدل هذه المادة ويكون بذلك مستخدماً لحقه وليس مجرماً في ميزان الدستور، بينما يعد في ميزان الشريعة آثماً خارجاً على الشريعة، لأن الدستور يعطي السيادة للشعب وحده ولا يعطيها للشريعة، بينما في الإسلام لا يملك أي عدد من الناس ـ قل أو كثر ـ أن يغير من الشريعة التي يجب أن تطبق سواءً وافق الأكثرون عليها أم رفضوا.
هـ ) كما حكمت المحكمة الدستورية العليا أن هذه المادة لا أثر رجعي لها، وبالتالي فلا يمكن أن يستند إليها في تغيير أي قانون صدر قبلها، وحيث أن الأغلبية الساحقة من القوانين قد صدرت قبلها فلا اثر لهذه المادة على الأغلبية العظمى من القوانين([7]).