كانت انتخابات يناير سنة 1924 حديث الناس في كل بر مصر المحروسة، فقد كانت أول انتخابات برلمانية تُجري بعد صدور دستور 1923، وكان حزب الوفد في تلك الأيام بقيادة وزعامة «سعد زغلول» في أوج تألقه السياسي والنضالي، حتي شاعت مقولات من عينة «لو رشح الوفد حجرًا لانتخبناه!!».
كما بلغت قمة «الشخصنة» وعبادة شخصية الزعيم سعد زغلول إلي قول البعض «الاحتلال علي يد سعد ولا الاستقلال علي يد «عدلي»!
وكان عدلي يكن باشا من أنصار فكرة التفاوض والمفاوضة!
المهم في هذا المناخ السياسي الملتهب كان الشاب «عبدالرحمن الرافعي» - وهو نفسه المؤرخ الكبير المحترم صاحب أهم مؤلفات عن تاريخ مصر المعاصر والحديث - يخوض تجربة الانتخابات كمعارض عن الحزب الوطني، ولم يعتمد في حملته الانتخابية علي عصبية عائلية أو نفوذ شخصي أو قوة حزبية، ومع ذلك فقد فاز علي مرشح حزب الوفد القوي «الشيخ علي بك عبدالرازق» من أعيان المنصورة.
كانت المفاجأة أن الرافعي فاز بفارق صوت واحد فقط عن منافسه!! وكان هذا الصوت الواحد حديث الأوساط السياسية والقانونية في نفس الوقت، ولقد حرص «عبدالرحمن الرافعي» في «مذكراته البديعة والمهمة واسمها «مذكراتي» (طبعة كتاب اليوم - سبتمبر 1989 - علي روايتها فيقول:
«فزت علي منافسي بصوت واحد، إذ نلت 171 صوتًا ونال هو 170 صوتًا وكان عدد المندوبين الذين أعطوا أصواتهم 341 مندوبا، كان هذا الصوت الواحد حديث الناس في مجالسهم وقال الذين شهدوا إعطاء الأصوات أن أحد المندوبين وكان متقدمًا في السن دخل ليعطي صوته، فسأله رئيس اللجنة (المرحوم بيومي بك مكرم القاضي بمحكمة مصر الابتدائية وقتئذ) عمن ينتخبه؟! فأجاب علي الفور: عبدالرحمن الرافعي ثم سكت هنيهة وتلعثم قائلاً: بل أريد «علي عبدالرازق»، فرفض رئيس اللجنة عدوله عن رأيه واعتمد صوته لي!
ويكمل الرافعي قائلاً: وأخبرني الذين شهدوا هذا الحدث إنهم سألوا الرجل بعد ذلك عما دعاه إلي العدول، فاعترف لهم بأنه كان يريد إعطاء صوته لعلي بك عبدالرازق، ولكن اسمي جري علي لسانه عفوًا دون تفكير منه، ولما فطن إلي خطئه (كذا تعبيره) أراد أن يتدارك الخطأ فصارح رئيس اللجنة بأنه إنما يقصد انتخاب «علي عبدالرازق» لا «عبدالرحمن الرافعي» فرفض منه هذا العدول، وقال إن هذا تلاعب لا يجوز وإنه استنفد حقه في الانتخاب بإعطائه صوته لأول مرة.
وتحدث الناس كثيرًا عن نجاحي بصوت واحد وقال لي بعض الصوفية إنه صوت الله، فحمدت لهم هذا التعبير وقلت لهم إنني كنت ومازلت ولا أزال معتمدًا علي الله.
لكن المهم والأخطر والأهم هو ما جري بعد ذلك حيث يقول الرافعي:
وقد طُعن في انتخابي أمام مجلس النواب واكتنف الطعن بحوث فقهية طويلة في نصاب الأغلبية، مدلولها، وفي قيمة هذا الصوت الذي رجح كفتي في الميزان، وكان سببًا لنجاحي، وكان محور الطعن أن الأغلبية هي نصف الأصوات زائدًا واحدًا، وبما أن عدد الأصوات التي أعطيت 341 صوتًا فيكون نصفها 170.5 زائد واحد (مائة وسبعون ونصف) وتكون الأغلبية 171.5 (مائة واحد وسبعون ونصف) لا 171 وأنني علي هذا الحساب ينقصني نصف صوت!
ولكن لجنة الطعون رأت أن طريقة الحساب بهذا الشكل غير معقولة وأن الأغلبية في هذه الحالة تكون بجبر الكسر، وأقر المجلس وجهة نظر اللجنة، وقرر رفض الطعن!
أترك قليلاً ما رواه الرافعي بصدق وشفافية لا حدود لها وأتساءل ماذا لو جرت تفاصيل هذه الواقعة في انتخابات هذه الأيام حيث العنف والدم والعصبية والثأر وملايين الجنيهات وآلاف البطاطين ومثلها من شكائر الأرز وأكياس السكر وغيرها من رشاوي انتخابية يتباري الجميع دون استثناء في توزيعها!
وأعود إلي مذكرات الرافعي الذي يقول: نال الوفد تسعين في المائة من مقاعد النواب وفشل في الانتخاب أشهر خصوم سعد أو الذين لا يؤيدون سياسته وسقط رئيس الوزراء «يحيي إبراهيم باشا» في دائرته الانتخابية منيا القمح وفاز عليه مرشح الوفد وكان سقوطه شهادة ناطقة له بنزاهته ومحافظته علي حرية الانتخابات وتجنبها تدخل الحكومة وضغطها علي حرية الناخبين في جميع المناطق».
كتب رشاد كامل
روز اليوسف
كما بلغت قمة «الشخصنة» وعبادة شخصية الزعيم سعد زغلول إلي قول البعض «الاحتلال علي يد سعد ولا الاستقلال علي يد «عدلي»!
وكان عدلي يكن باشا من أنصار فكرة التفاوض والمفاوضة!
المهم في هذا المناخ السياسي الملتهب كان الشاب «عبدالرحمن الرافعي» - وهو نفسه المؤرخ الكبير المحترم صاحب أهم مؤلفات عن تاريخ مصر المعاصر والحديث - يخوض تجربة الانتخابات كمعارض عن الحزب الوطني، ولم يعتمد في حملته الانتخابية علي عصبية عائلية أو نفوذ شخصي أو قوة حزبية، ومع ذلك فقد فاز علي مرشح حزب الوفد القوي «الشيخ علي بك عبدالرازق» من أعيان المنصورة.
كانت المفاجأة أن الرافعي فاز بفارق صوت واحد فقط عن منافسه!! وكان هذا الصوت الواحد حديث الأوساط السياسية والقانونية في نفس الوقت، ولقد حرص «عبدالرحمن الرافعي» في «مذكراته البديعة والمهمة واسمها «مذكراتي» (طبعة كتاب اليوم - سبتمبر 1989 - علي روايتها فيقول:
«فزت علي منافسي بصوت واحد، إذ نلت 171 صوتًا ونال هو 170 صوتًا وكان عدد المندوبين الذين أعطوا أصواتهم 341 مندوبا، كان هذا الصوت الواحد حديث الناس في مجالسهم وقال الذين شهدوا إعطاء الأصوات أن أحد المندوبين وكان متقدمًا في السن دخل ليعطي صوته، فسأله رئيس اللجنة (المرحوم بيومي بك مكرم القاضي بمحكمة مصر الابتدائية وقتئذ) عمن ينتخبه؟! فأجاب علي الفور: عبدالرحمن الرافعي ثم سكت هنيهة وتلعثم قائلاً: بل أريد «علي عبدالرازق»، فرفض رئيس اللجنة عدوله عن رأيه واعتمد صوته لي!
ويكمل الرافعي قائلاً: وأخبرني الذين شهدوا هذا الحدث إنهم سألوا الرجل بعد ذلك عما دعاه إلي العدول، فاعترف لهم بأنه كان يريد إعطاء صوته لعلي بك عبدالرازق، ولكن اسمي جري علي لسانه عفوًا دون تفكير منه، ولما فطن إلي خطئه (كذا تعبيره) أراد أن يتدارك الخطأ فصارح رئيس اللجنة بأنه إنما يقصد انتخاب «علي عبدالرازق» لا «عبدالرحمن الرافعي» فرفض منه هذا العدول، وقال إن هذا تلاعب لا يجوز وإنه استنفد حقه في الانتخاب بإعطائه صوته لأول مرة.
وتحدث الناس كثيرًا عن نجاحي بصوت واحد وقال لي بعض الصوفية إنه صوت الله، فحمدت لهم هذا التعبير وقلت لهم إنني كنت ومازلت ولا أزال معتمدًا علي الله.
لكن المهم والأخطر والأهم هو ما جري بعد ذلك حيث يقول الرافعي:
وقد طُعن في انتخابي أمام مجلس النواب واكتنف الطعن بحوث فقهية طويلة في نصاب الأغلبية، مدلولها، وفي قيمة هذا الصوت الذي رجح كفتي في الميزان، وكان سببًا لنجاحي، وكان محور الطعن أن الأغلبية هي نصف الأصوات زائدًا واحدًا، وبما أن عدد الأصوات التي أعطيت 341 صوتًا فيكون نصفها 170.5 زائد واحد (مائة وسبعون ونصف) وتكون الأغلبية 171.5 (مائة واحد وسبعون ونصف) لا 171 وأنني علي هذا الحساب ينقصني نصف صوت!
ولكن لجنة الطعون رأت أن طريقة الحساب بهذا الشكل غير معقولة وأن الأغلبية في هذه الحالة تكون بجبر الكسر، وأقر المجلس وجهة نظر اللجنة، وقرر رفض الطعن!
أترك قليلاً ما رواه الرافعي بصدق وشفافية لا حدود لها وأتساءل ماذا لو جرت تفاصيل هذه الواقعة في انتخابات هذه الأيام حيث العنف والدم والعصبية والثأر وملايين الجنيهات وآلاف البطاطين ومثلها من شكائر الأرز وأكياس السكر وغيرها من رشاوي انتخابية يتباري الجميع دون استثناء في توزيعها!
وأعود إلي مذكرات الرافعي الذي يقول: نال الوفد تسعين في المائة من مقاعد النواب وفشل في الانتخاب أشهر خصوم سعد أو الذين لا يؤيدون سياسته وسقط رئيس الوزراء «يحيي إبراهيم باشا» في دائرته الانتخابية منيا القمح وفاز عليه مرشح الوفد وكان سقوطه شهادة ناطقة له بنزاهته ومحافظته علي حرية الانتخابات وتجنبها تدخل الحكومة وضغطها علي حرية الناخبين في جميع المناطق».
كتب رشاد كامل
روز اليوسف