ليس جحا وحده الذي أطلق أكذوبة وصدقها. نحن فعلنا ذلك رغم أننا لا نعرف بالضبط من الفاعل.
ذلك أننا استيقظنا ذات صباح على أخبار نشرتها بعض الصحف المصرية عن أن
الحزب الوطني تم إحياؤه وإخراجه من العدم، أكثر من ذلك أنه عقد صفقة مع
الإخوان، ضمن استعداد الطرفين لخوض الانتخابات التشريعية القادمة،
وانتشرت الشائعة لدرجة أن كثيرين تعاملوا معها على أنها حقيقة. بل إنها
انطلت على بعض زملائنا حتى كتب أحدهم أن الطرفين أصبحا «يداً واحدة»،
وردد آخرون الفكرة حتى بدا وكأن ذلك هو شعار المرحلة القادمة، الذي صار
بديلاً عن الهتاف الذي تردد إبان الثورة وتحدث عن أن الشعب والجيش يد
واحدة.
ولم تمض أيام قليلة حتى تحولت القصة إلى مادة لسيل من التعليقات على شبكة الإنترنت، التي حفلت بالاستهجان والتخويف والتندر.
جحا كان ساذجا وعبيطا حين صدق أكذوبته، لكن الأمر ليس كذلك بالضرورة في الحالة التي نحن بصددها.
ذلك أنني لست واثقاً من دوافع الذين أطلقوا شائعة إحياء الحزب الوطني
وروجوا لها. فلست أعرف على وجه الدقة ما إذا كانوا قد توهموا شيئاً من ذلك
القبيل فتحدثوا به، أم أنهم اختلقوا القصة لمضاعفة جرعة التخويف من
الإخوان، الذين اعتدنا على استخدامهم كفزاعة طول السنين التي خلت.
لكن الذي أعرفه جيداً أن المعلومة خرجت إلى النور وتم تداولها، وصارت
منطلقاً لمواقف الذين أرادوا التدليل على تحرك الثورة المضادة أو تصفية
حسابات البعض مع الإخوان.
لست في وارد الحديث عن فزاعة الإخوان، ليس فقط لأنهم أولى بذلك الحديث، ولكن لأننا ألفنا ذلك العفريت، وعرفنا طبعه وحدوده.
لكني معني بفزاعة الحزب الوطني لأنني أزعم أن الكذب فيها أوضح وأصرح. على الأقل فالإخوان حقيقة في حين الحزب الوطني وهم.
إلى جانب أن الإخوان جماعة لها مشروع أما الحزب الوطني فهو يضم جماعة
منتفعين في المقام الأول، والتمسك بالسلطة واستثمارها هو المشروع الحقيقي
للذين التحقوا به فضلاً عن الذين قادوه.
لقد سقطت الشيوعية حقاً مع انهيار الاتحاد السوفييتي، لكن الأحزاب الشيوعية مازالت موجودة لأن لها أيديولوجية نتفق معها أو نختلف،
أما الحزب الوطني فليس لدى أهله ما يدافعون عنه سوى السلطة التي خرج الحزب
من عباءتها. وهذه السلطة انهارت في مصر ولا سبيل إلى عودتها. خصوصا في ظل
الفضائح المروعة التي نسبت إلى أركانها، ولا تزال حقائقها تتكشف ــ وتصدم
الناس ــ يوماً بعد يوم.
إنهم يتحدثون عن «فلول» الحزب الوطني. وتشير الأصابع في هذا السياق إلى عدد غير قليل من رجال الأعمال الذين موّلوا أنشطة الحزب،
لكن هؤلاء أنفسهم هم الذين تسابقوا على نهب البلد وامتصاص دمائه.
وإذا استثنينا عدداً لا يجاوز أصابع اليد الواحدة ممن شاركوا في الحزب من
باب الوجاهة الاجتماعية والسياسية، فإننا لا نبالغ إذا قلنا إنه في سمته
الغالب كان تنظيماً عصابياً بأكثر منه تنظيم سياسي.
صحيح أن تلك «الفلول» لا تملك سوى سلاح المال، حيث لا فكر لديها ولا
يحزنون، وقد يخطر على بال البعض أنهم يمكن أن يستخدموه إما لترشيح أنفسهم
أو ترشيح من يمثلهم في الانتخابات القادمة.
لكن هذه الحجة مردودة من وجهين؛
الأول أن الحزب الوطني ساءت سمعته لدرجة أن أحداً لا يجرؤ أن يترشح عنه أو يوحي بأنه ينتسب إليه.
الوجه الثاني والأهم الذي ينساه كثيرون هو أن المواطن المصري تغير، فأصبح أوعى وأشد جرأة وأكثر إحساساً بعزته وكرامته.
أعني أنه لم يعد ذلك الساذج الذي ينساق وراء الكلام المعسول واللافتات
البراقة. ولا بقي ذلك المنكسر والملهوف الذي يمكن شراء صوته ببضعة جنيهات.
لا أدعي أن الـ84 مليون نسمة صاروا كذلك، ولكنني أزعم مما أراه حولي أن ما أقوله ينطبق على الأغلبية الساحقة من المصريين.
إنني أتوقع أن يفضح على الفور أمر كل من يحاول أن يشتري الأصوات أو أن
يتخفى وراء الشعارات البراقة ليخدع الناس. ذلك أن الأعين باتت مفتوحة
للغاية على جميع الممارسات التي تسيء إلى الثورة أو تخدش نبلها ونقاءها.
وأصابع الشباب التي ترصد كل شيء عبر فيس بوك وتويتر كفيلة بهذه المهمة.
إننا إذا استعدنا ثقتنا في مواطن ما بعد الثورة فلن تخيفنا فزاعة فلول الحزب الوطني، ولا حتى فزاعة الإخوان.
وليتنا نستثمر طاقاتنا وأوقاتنا فيما هو أجدى وأنفع، بحيث نشحذ الهمم ونحشد
الخلق لكي نعيد إلى المجتمع عافيته ونستخرج منه أفضل ما فيه، بدلاً من أن
نلوح له بالعفاريت والفزاعات التي تشيع بين جنباته البلبلة والخوف.