،حاولت أن أغير كل شيء فى حياتى، ولكن مازلت الدنيا فى قلبى وهي محل فتنتى،
وتبين لى أن صفاتها وعلاماتها لا تتغير بتغير الزمان ولا المكان ، ، فهى
هى كما هى ، وكانت أمنيتى أن تتمثل الدنيا أمامى حتى أصارحها فأقتلها فأكون
قد تخلصت منها وأخرجتها من قلبى وبينما كنت أجلس وحدى فى غرفتى، تمثلت
الدنيا أمامى وحدثتنى حديثا تعلمت منه الكثير والكثير فكان الحوار بيننا
صريحا كما يلى :-
الدنيا : ماذا تريد ؟ يا عبد الله ؟ ها أنا ذا أمامك جئتك طوعا
قلت: إنه ليحزننى أننى أحبك وأهواكِ ولا أستطيع أن أتركك
الدنيا: إن هذا لشعور طبيعى ومن أدعى أنه لا يحبنى فهو كاذب، فأنا من خلق الله تعالى، وأنا محببه إلى النفوس .
قلت : وكيف تقولين إن هذا شعور طبيعى ؟
الدنيا: نعم إنه لشعور طبيعى، ولكن الخطأ الذى يقع فيه أكثر الناس أنهم يقدمون أمرى على أمر الآخرة
قلت : وهل أنا منهم ؟
الدنيا: نعم ولكن يوجد فيك صفات طيبة
قلت :وكيف أعرف حقيقتك ؟
الدنيا : من قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم "الدنيا حلوة خضرة" فقد
وصفنى النبى صلى الله عليه وسلم بأنى حلوة خضرة ولكنى بالنسبة للمؤمن سجن
له لقوله عليه الصلاة والسلام " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر "
قلت : ولكنى أعرف بعض المؤمنين يعيشون في نعيم ورفاهية ؟
الدنيا : ليس المراد بالسجن هو السجن الحديدى الذى تفهمه وإنما هو التقيد
بما أمر الله ، وما السجن إلا قيد ، ولهذا قال محمد بن السماك – رحمه الله
عليه "يا ابن آدم أنت في حبس منذ كنت" أنت محبوس فى الصلب، ثم فى البطن،
ثم فى القماط ثم في المكتب ثم تصير محبوساً في الكد على العيال فأطلب
لنفسك الراحة بعد الموت حتى لا تكون فى الحبس أيضاً
قلت : ياالله إنه لمعنى أدبى جميل ، لقد فهمت الآن و لكن ما سبب تسميتك بالدنيا ؟
الدنيا : لو علم الناس معنى أسمى لما فتنتهم زينتى ، إن اسمي له معنيان
أثنان الأول من الدنو : أى قريبة إلى الزوال والأنتهاء والمعنى الثانى من
الدناءة : أى القبح إذا ما قارنتنى بالآخرة
قلت : وكيف أتعامل معك حتى لا أفتن ؟
الدنيا : إن هذا السؤال خطير لتجعلنى أبوح بسر من أسرارى لأنى أصطاد الناس
أحياناً بالأموال وأحياناً بالنساء، وأحياناً بالمناصب وكل ذلك من زينتى ،
والزينة من صفاتها أنها مؤقتة وهل رأيت يوماً زينة عرس دائمة ؟ أو زينة
عروس دائمة ؟
قلت : يا دنيا أجيبى عن سؤالى ولا تبتعدى ، فكيف أتعامل معك ولا أفتن ؟
الدنيا : ضحكت وقالت مهلاً يا صاحبى فلا تتعجل على ثم قالت: أهم صفة ينبغى
أن تتوفر في الذى يتعامل معى هى اليقظة والفطانة فأنا حاضرة الملذات،
وحاضرة الشهوات، فمن جعلنى معبراً للآخرة فهو الناجى ومن جعلنى مستقراً فهو
الخاسر، فأنا دار بلاغ ولست بدار متاع وقد قال الحسن البصرى- رحمه الله :
إياكم وما شغل الدنيا ، فإن الدنيا كثيرة الأشغال لا يفتح رجل على نفسه باب
شغل
إلا أوشك ذلك الباب أن يفتح عليه عشرة أبواب
قلت : إذن سوف أعتزلك تماماً حتى أنجو
الدنيا : ليس هذا الذى أردت أن أقوله لك ولكن ينبغى أن تتعامل معى ولكن
بحذر شديد وكلما فتح لك باب من الدنيا أفتح أنت باباً للآخرة حتى لا تنسى
نصيبك منها، وتعيش متزناً كما أمرك الله تبارك تعالى .
قلت : ولكننى أخاف
الدنيا : لا تخف وأفهم كيف تتعامل مع زينتى ولا تكن كما قال أبن مسعود – رضي الله عنه لا ألفين أحدكم جيفة ليل، قطرب نهار
قلت : ومامعنى قطرب نهار؟
الدنيا : أى هى الدويبة التى تجلس هنا ساعة وهنا ساعة فلا تستريح نهارها
سعياً وهكذا بعض الناس يتحرك فى أمر دنياه ليل نهار ولا يفكر في أمر الآخرة
فإبن آدم مسكين لو خاف النار كما يخاف الفقر دخل الجنة
قلت : وبماذا توصيننى ؟
الدنيا : أوصيك بتذكر قول الله تعالى دائماً وأضرب لهم مثل الحياة الدنيا
كماء أنزلناه من السماء فختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح
وكان الله على كل شيء مقتدراً وإن كنت تحذرنى مرة فأحذرنى بعد اليوم ألف
مرة
قلت : لا أظن أنك ستفتنينى بعدما تصارحنا ؟
الدنيا: قالوا للغراب مالك تسرق الصابون ؟ فقال الغراب: الأذى طبعى ، وأنا أقول لك إن الفتنة طبعى فأحذر أن تكون من عشاق الدنيا
وأحذر أن تكون جيفة ليل قطرب نهار، ثم أختفت الدنيا فجأة
قلت : يا دنيا... يا دينا... فلم يجبنى أحد ثم طأطأت رأسى وقلت : الحمد لله
الذى وفقنى لفهم حقيقة الدنيا ثم أنشدت إذا كنـت أعلــم علماً يقينـاً ..
بأن جميع حياتى كساعة فلـــم لا أكــون ضنينـاً بهـا .. وأجعلها في صلاح
وطاعة .
رأفت محمد السيد