روح القانون

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
الأستشارات القانونيه نقدمها مجانا لجمهور الزائرين في قسم الاستشارات ونرد عليها في الحال من نخبه محامين المنتدي .. او الأتصال بنا مباشره موبايل : 01001553651 _ 01144457144 _  01288112251

    مسؤولية المحامي في الجلسة أمام قاضي الإحالة

    رمضان الغندور
    رمضان الغندور
    مؤسس ومصمم المنتدي والدعم الفني
    مؤسس ومصمم المنتدي والدعم الفني


    عدد المساهمات : 7758
    نقاط : 21567
    السٌّمعَة : 16
    تاريخ التسجيل : 31/05/2009
    العمر : 67
    العمل/الترفيه : محامي حر

    مسؤولية المحامي في الجلسة أمام قاضي الإحالة Empty مسؤولية المحامي في الجلسة أمام قاضي الإحالة

    مُساهمة من طرف رمضان الغندور الإثنين سبتمبر 28, 2009 3:17 am

    مجلة المحاماة - العدد الخامس
    السنة الثانية عشرة - شهر فبراير سنة 1932
    مباحث في مسؤولية المحامي في الجلسة أمام قاضي الإحالة
    (1)

    إن سلطة الحكم، في اعتداء وقع على المحكمة، سلطة استثنائية تتناقض مع كل أصول القضاء، ومع قواعده، ومع كل ضمانات العدالة، وهي ترتبط بكرامة القاضي نفسه، فالقاضي خصم، يوجه الدعوى ويحكم فيها، ثم هو يحكم لنفسه ولذاته، بل ولشهوة غضبه، ثم ينفذ الحكم حالاً، ولو مع الاستئناف، فهذه سلطة هائلة لا مثيل لها في أنظمة القانون، فلا تعطي إلا بنص صريح يؤكدها.
    ولقد عنى الشارع، ببيان هذه السلطة في مواد متعددة - فوردت في المواد من (85) إلى (90) مرافعات، وهو خاص بالمحاكم المدنية، ولم تكن واردة في قانون تحقيق الجنايات الأول، فصدر بها دكريتو خاص في 27 نوفمبر سنة 1896 حيث جعل في المادة (244) من ذلك القانون، بنص معين، سنبحث فيه في موضع آخر، ثم تعدلت هذه السلطة في قانون تحقيق الجنايات الحالي، فتقررت في المادة (237) بحدود أوسع.
    ويظهر من هذه المواد جميعها، أن ولاية الحكم في جنحة الجلسة إنما هي للمحاكم المدنية على اختلافها، وللمحاكم الجنائية كذلك، إذا جلست للحكم تعمل بمقتضى ولاية قضائية معينة فإذا وقعت جنحة عليها - أو أمام أنظارها، انقلبت محكمة جنحة - لها الحق أن تحكم فورًا على الطريقة المعروفة، فلا يمكن أن تقبل هذه الولاية إلا (لمحكمة) جلست للحكم فما يعرض عليها من النزاع، مدنيًا أو جنائيًا.
    تظهر هذه الحقيقة بصفة قاطعة إذا لاحظنا الفارق بين المادتين (244) التي وضعها دكريتو يوليو سنة 1896، وبين المادة (237) الواردة في القانون الحالي، فإن هذه الولاية كانت معلقة في المادة (244)، على أن تكون المحكمة مختصة أصلاً بالفصل في الجنحة التي وقعت أما في المادة الأخيرة فقد محى الشرط وتقررت السلطة للمحاكم المعينة في المواد بغير نظر إلى نوع اختصاصها الأصلي الذي جلست لأجله.
    وهذا يدل على أننا في معرض سلطة شاذة لا بد لها من نص خاص، فإنها أولاً لم تكن موجودة، ثم وجدت بقيد معين، ثم رفع القيد.
    أما القاضي الذي يجلس لعمل آخر لا يشكل بجلسته محكمة تفصل قضائيًا في نزاع معروض فليس له تلك السلطة، بل كل قاضي يشكل محكمة لا تدخل في حدود تلك النصوص، أي لا تكون منعقدة بمقتضى قانون المرافعات، ولا بمقتضى قانون تحقيق الجنايات، لا يمكن أن يكون له هذه السلطة إلا بنص صريح.
    (2)
    على أننا إذا قصرنا البحث على التشريع الخاص بقاضي الإحالة لوجدناه قاطعًا في تأييد هذه الحقيقة، فإن قانون تشكيل محاكم الجنايات الصادر في سنة 1905 ورد فيه نظام الإحالة في المواد من (9) إلى (15)، ولم يتقرر فيه سلطة لقاضي الإحالة تنظم ما يجوز أن يحصل أمامه في الجلسة حتى ولو كان متعلقًا بمجرد التشويش، غير أن الشارع رأى أن نظام الجلسة، لا بد أن يكون في يد قاضي الإحالة، ولكن من حيث منع التشويش الذي يحصل فقط، فصدر تعديل بقانون نمرة (7) سنة 1914، أضاف إلى المادة (11)، مادة (11) مكررة، جاء فيها أن لقاضي الإحالة حقوق القاضي الجزئي ولكن فقط فيما يختص بنظام الجلسة discipline وإعلان الشهود وسماعهم.
    ولا شك أن تقرير السلطة على هذا الوجه بالقيد المعين، لا يقبل المزيد ولا يدخل حق الحكم في جنحة تقع في الجلسة.
    أراد القاضي أن يقدم دليلاً على ولايته فذهب إلى قانون المجالس الحسبية يستدل بنص فيه، على أن الشارع قيد رئيس المجلس الحسبي فجعل سلطته قاصرة على التشويش لا تمتد إلى الحكم في جنحة تقع في الجلسة.
    التدليل غريب، فإن ولاية القضاء لا بد لها من نص يبينها، فلا تأتي من طريق التدليل النظري، ولا من طريق القياس أبدًا.
    على أنه ليس قياسًا صحيحًا، أن نقول إن حرمان قاضي من ولاية معينة، معناه، إثباتها لقاضي آخر لم تقرر له تلك الولاية بذاتها، في أي نص من النصوص، فالقياس خارج عن حد المنطق خروجًا ظاهرًا.
    بل إذا شئت الاستنتاج على الطريق الصحيح فلا بد أن تقول إن الشارع إذا كان قد منع قاضي المجلس الحسبي ورئيس جلسة من الحكم في الجنحة، فهو قد منع ومن باب أولى قاضي الإحالة من الحكم فيها أيضًا، لأن قاضي المجلس الحسبي إنما جلس ليحكم في حقوق الناس بل في أعز ما يحرص عليه الناس من حقوقهم، فليس غريبًا أن يكون له حق الحكم في جنحة وقعت في جلسته، فمنعه من هذا الحق يقتضي من باب أولى منع قاضي الإحالة منه.
    ونرجع إلى القول بأن المسألة ليست مما يفصل فيها من طريق الاستنتاج، بل لا بد لها من نص صريح، وهو غير موجود بل النص الموجود قاصر على أن للقاضي (نظام الجلسة) وهذا صريح في أنه ممنوع من الحكم في جنحة.
    (3)
    على أن قاضي الإحالة ليس محكمة بحال من الأحوال، فلا هو محكمة مصر، ولا أية محكمة مدنية أخرى، ولا هو محكمة ابتدائية، ولا محكمة جزئية، ولا محكمة استئناف، لكنه قاضي إحالة فقط.
    أنه لا يحكم في شيء أبدًا، لا في موضوع القضية المعروضة عليه ولا في أي أمر آخر لأنه لم يجلس ليحكم، وليس له أية ولاية من ولايات القضاء.
    إنما ينحصر اختصاصه في أن يسمح للنيابة بتقديم الدعوى لمحكمة الجنايات، أو لا يسمح فعمله إذا بالخصومة إذا رأى أن يأذن، أو منع منها إذا رأى أن يمنع، وفرق بين الإذن بالخصومة وبين القضاء فيها، فسلطته إدارية، بل لا سلطة له في الواقع، فإن رئيس النيابة يستطيع أن يحفظ القضية بناءً على عدم صدق الشهود، أما قاضي الإحالة فهذا العمل متنازع فيه إذا صدر منه.
    من أجل هذا، ورد في قانون تشكيل محاكم الجنايات أن قاضي الإحالة، ليس من الضروري أن يعقد جلسة بل يصح أن يؤدي مأموريته، بعد اطلاعه على الأوراق وبدون تحديد جلسة ولا إعلان أحد.
    بل هو لا يختص بالحكم، حتى ولا بمصاريف الدعوى، فإذا كانت القضية فيها مدعي مدني وقرر القاضي بأن لا وجه لإقامة الدعوى، فلا يستطيع أن يحكم بإلزام المدعي المدني بالمصاريف ولا أن يقدرها بأمر يصدر منه بناءً على طلب المتهم.
    وهذا يؤكد أنه ليس له أي ولاية قضائية في أي أمر من الأمور حتى ما كان ملحقًا بما ينظر فيه كالمصاريف، فمحال أن يكون له حق الحكم في جنحة تقع في جلسته.
    (4)
    ولا بد لنا أن نقارن بين نصوص القانون الفرنسي، والنصوص المصرية، فإن ذلك قاطع في أن قانوننا لا يمكن تطبيقه إلا على أساس أن قاضي الإحالة لا يجوز له أن يستعمل هذا الحق، ذلك أن قانون تحقيق الجنايات الفرنسي قضى في المادتين (504) و(505) أنه يعطي حق الحكم في جنحة الجلسة لكل محكمة، ولكل قاضٍ يجلس للقيام بأية مأمورية قضائية سواء كانت للحكم في نزاع أو للتحقيق البسيط، ما دام أن العمل حاصل علنًا، ولهذا كان لا بد للمفسرين والأحكام أن تتفق على أن هذا الحق مقرر لجميع القضاة على وجه العموم حتى لقاضي التحقيق.
    أما الشارع المصري، فإنه وهو ينقل عن القانون الفرنسي لم يرد الأخذ بهذا التعميم، بل اختصر في نصوصه سواء في المرافعات أو في تحقيق الجنايات، على تقرير هذا الحق للمحكمة فقط، فالخلاف بينه وبين القانون الفرنسي، في أنه حذف كليمات (كل قاضي)، وفي هذا الحذف والعدول عن التعميم، وتقييد الحق بأنه للمحكمة، الدلالة القاطعة على أن قاضي الإحالة ليس له هذا الحق.
    إن الحادثة ليست جنحة جلسة
    أولاً: إن الحكم قد جردها من هذه الصفة:
    قد يدهش القارئ لهذا الكلام، فيسأل، ولكن كيف جردها الحكم من هذه الصفة !! والحكم صريح في أنه يعتبرها جنحة وقعت في الجلسة !!!
    إن لجنحة الجلسة، صفة خاصة، وأحكامًا كلها شاذة، ولا نريد أن نعيد منها هنا للمرة الثالثة ما كتبناه من قبل، ولكنا نذكر هنا ما لم نذكره فيما تقدم.
    ذلك إن جنحة الجلسة هي الواقعة التي تقع ماديًا على المحكمة أو على أحد الناس، بحيث يلحظها الجمهور الحاضر، يشاهدها رؤى العين، ويدركها إدراكًا تامًا مهما كان إدراكه ضعيفًا، بحيث لا يتردد أحد في أنها جنحة وقعت فعلاً.
    عند هذا تكون عقوبتها واجبة، وواجبة حالاً بلا إمهال، على اعتبار أن العقوبة هنا إنما هي في الواقع دافع عن النفس ومن شأن الدفاع عن النفس أن يكون ردًا سريعًا وأن يحصل في لحظة الاعتداء بلا إمهال ولا تأجيل !!
    هنا يمكننا أن ندرك لماذا ثبت هذا الحق الشاذ للقاضي، فهو خصم، ومع ذلك فهو حكم، لأن هذا هو شأن حق الدفاع على وجه العموم، فلم تقرر هذه السلطة للمحافظة على كرامة القاضي كما يقال عادةً، فإن كرامة القاضي لا تتأثر باعتداء أي معتدٍ، بل يبقى جلاله بعد الاعتداء كما كان قبله أن المسألة أبسط من هذا، فقد رأى الشارع أن يعطي للمحكمة إذا انعقدت جلستها أن تدافع عن تلك الجلسة أو عن نفسها بطريق عينه، فلا بد أن يكون الاعتداء هنا ماديًا لا تختلف فيه الآراء ولا يحتاج لبحث، ولا لمداولة، وحينئذٍ يتحقق شرط الدفاع، وإلا فلا سلطة للمحكمة بأي حال من الأحوال.
    ومن شروط الدفاع، بل شرطه الجوهري، أن يكون المعتدى عليه في حالة لا تمكنه من الالتجاء إلى السلطات العامة، بل يكون مضطرًا ماديًا أن يقابل الاعتداء بمثله، أما إذا كان في وسعه أن ينتظر، وأن يشكو، فقد سقط حق الدفاع.
    ولقد حصل في حادثتنا، أن حضرة القاضي بعد أن وجه الاتهام ثم سمع الدفاع أجل الحكم إلى جلسة أخرى، فأثبت أن الواقعة قد خرجت من حدود الاعتداء المادي الظاهر وأنها تحتاج إلى مداولة، وتقبل اختلاف الآراء، فلا القاضي واثق أنه اعتدى عليه لأنه لا يزال في حيرة، ولا الجمهور من باب أولى يدرك هذا الاعتداء.
    لهذا قرر القاضي، أن المسألة نزاع عادي لا بد من إحالته على الجهات المختصة، فلم يعد له الحق في أن يحكم في الواقعة بوجه من الوجوه.
    إننا سواء بحثنا في نصوص القانون، أو في مطولات المفسرين، نجد تلك القاعدة مقررة بالنص هناك وهنا، ونجدها ثابتة بإجماع المفسرين.
    إن قانون المرافعات جعل القاضي المدني مخيرًا بين أمور ثلاثة، فأما أن يحكم حالاً، وأما أن يؤجل الحكم ليوم معين، وأما أن يحرر محضرًا ويترك الفصل في الواقعة للحكم فيها بالطرق المعتادة مادة (89) و(90).
    وإذا سألت ما هي الأسباب التي تقضي اختيار أحد هذه الأمور الثلاثة لا نجد لذلك قاعدة في القانون.
    أما إذا أردت أن تتبين حكمة قانونية لكل من هذه الأمور الثلاثة، فلا تتردد في أن الحكم حالاً إنما يكون في حالة الاعتداء المادي الظاهر الذي لا يقتضي نزاعًا ولا يقبل دفاعًا ولا يحتمل مداولة، بل يكون الحكم فيه قاصرًا على مجرد تدوين واقعة مادية لا نزاع فيها، شاهدها الجمهور الحاضر، والجمهور في كل نظام هو ضمانة عدالة القاضي، فالعقوبة إنما تكون نتيجة حتمية أو ميكانيكية لتلك المشاهدة العامة وهذا القيد بذاته يرجع بنا إلى طبيعة حق الدفاع وسببه. ولقد قبل الشارع في المادة (90) من باب التساهل، وللمحكمة المدنية فقط جواز تأجيل الحكم إلى يوم معين، أما إذا توجه الاتهام وسمع القاضي المرافعة، ثم لم يعين يومًا محددًا للحكم فقد سقطت ولايته وارتفع اختصاصه وضاعت الإجراءات التي وقعت، ووجب تقديم الحادثة للفصل فيها بالطرق العادية.
    أما في المحاكم الجنائية وقاضي الإحالة محضر لتلك المحاكم ودستوره في جميع أعماله إنما هو قانون تحقيق الجنايات، فقد جاءت نصوص القانون مخالفة لقانون المرافعات، وذلك سواء في القانون القديم أو في التعديل الجديد، ونصت صراحةً على ضرورة الحكم في الجلسة بدون تأجيل هذا نص المادة (244) في القانون القديم:
    (الجنح والمخالفات التي تقع في الجلسة يحكم فيها حال انعقاد الجلسة، وذلك إذا كانت المحكمة مختصة والحكم الذي يصدر في هذه الحالة يكون نافذًا حالاً ولو مع الاستئناف).
    أما القانون الجديد فقد أراد أن يزيد في التأكيد على ضرورة الحكم حالاً، فجاء نص المادة (237) كما يأتي:
    (إذا وقعت جنحة أو مخالفة في الجلسة يحكم فيها في نفس تلك الجلسة).
    وفي النسخة الفرنساوية: استعمل كلمتي seance tenante أي بدون أن يقوم القاضي للمداولة.
    كل هذا لا يفهمه أحد إلا إذا فهم معنا، أن هذا حق دفاع، والدفاع من شأنه الاعتداء الذي لا يختلف فيه أحد، ومن شأنه أن يحصل ردًا سريعًا للاعتداء، وفي لحظته فإذا كان التأجيل في الاستطاعة فقد خرجنا عن حدود الاعتداء المادي الواضح، فتجاوزنا حدود الدفاع فسقطت سلطة القاضي ولا يجوز له الحكم.
    لهذا اتفق جمهور المفسرين، عملاً بالنص عندهم أيضًا وهو موافق النص عندنا، على أن القاضي إذا أجل الحكم فقد سقط اختصاصه وتجرد عن حق الحكم في الدعوى وإن اختلف فقه المحاكم في هذه النقطة بذاتها.
    يقول أصحاب البنديكت جزء (11) ما يأتي:
    صفحة
    فقرة

    131
    564
    أن للقضاة أن يختاروا استعمال هذه الولاية الاستثنائية ولهم أن يقتصروا على تحرير محضر بالوقائع التي حصلت في جلستهم ويحيلوا صاحبها على المحكمة المختصة.

    566
    ولكن إذا اختاروا استعمال هذه السلطة فيجب عليهم أن يحكموا حالاً والجلسة قائمة، بمجرد إثبات الوقائع في المحضر. (فقد أراد الشارع بالمادة (505) أن يطبع في الأذهان بواسطة)


    (العقوبة السريعة والشديدة روح احترام السلطة القضائية والأعمال العامة والقضاة الذين يؤدون التحقيقات المطلوبة). (فوستان هيلي جزء (6) فقرة (2928) ثم لوجرافون جزء (1) صفحة
    (568) ثم كارنو جزء (3) صفحة (396) ثم بورجيون جزء (2) صفحة (454) ثم لوسيليه جزء (3) فقرة (1693) ثم شاسان جزء (2) فقرة (2054)

    569
    ولهذا فقد حكم أن قاضي الجنح الصغيرة والمخالفات إذا أجل الحكم في واقعة سب حصلت في جلسته إلى ثمانية أيام فقد تجاوز بذلك حدود اختصاصه حكم النقض 3 أكتوبر سنة 1851 سيرى سنة 52 جزء (1) صفحة 280. حكم النقض 17 أغسطس سنة 1860 سيرى سنة 62 جزء (1) صفحة 752.
    وقد قلنا - ولا يجوز للباحث المنصف أن يخفي شيئًا - أن في فقه المحاكم خلافًا - ولهذا تجد بعد هذه العبارات في نفس الصفحة ما يأتي:

    570
    ومع هذا فإن الأحكام ترى أنه إذا حصل تحقيق الواقعة في الجلسة فيستطيع القاضي أن يؤجل الحكم، فإن هذا التأجيل يفيد الاتهام والمتهم وقد يكون لازمًا لتنوير القاضي، ولكن أصحاب الكتاب رجعوا بعد ذلك إلى الرأي الأول، فجاء في صفحة 132/ 576 (إذا لم يصدر حكم العقوبة حالاً يسقط ذلك الاختصاص الاستثنائي المقرر في المادة (505) ويجب أن يتبع في الحادثة طرق المحاكمة العادية) النقض والإبرام 19 مارس سنة 1812.
    وأمام هذا الخلاف في رأي الأحكام - فإن النص صريح في القانون حاسم في الأخذ بالرأي الذي يقول به - لأنه قرن الاختصاص بضرورة الحكم في الجلسة، وجمهور المفسرين مع رأينا كما رأيت.
    على أن الذي جعل بعض الأحكام أو أكثرها يشذ عن إجماع المفسرين إنما هو الخطأ في فهم أصل هذا الحق ومقصوده، فإنهم على الدوام يرجعون به إلى تأكيد احترام القضاة والواقع أن هذا سبب لا معنى له كما قدمنا، فإن كل فرد من الناس له حق الاحترام، وإن تنوعت العقوبة باختلاف الحالات - ووهم قولهم إن اعتداء أي إنسان على القاضي هادم لكرامة القضاء أو احترامه، ولكن الأصل الذي صدر عنه هذا الحق إنما هو حق الدفاع المقرر للفرد، فكان يجب تقديره من باب أولى للقاضي وهو جالس لتوزيع العدالة بين الناس، فإذا فهم هذا الأصل ظهر واضحًا لماذا اشترط الشارع ضرورة الحكم حالاً ؟
    بل إن النصوص تقول كذلك: إن هذا الحكم ينفذ في الحال رغمًا عن الاستئناف، وهذا أيضًا لأن الواقعة انتقلت من مجال التقاضي العادي إلى مجال الدفاع، وكل دفاع مرتبط تنفيذه بلحظته على هذا - فالأدلة على ترجيح بطلان الحكم إذا حصل تأجيله إلى جلسة أخرى أرجح من الرأي الذي يقول بصحته مع التأجيل.
    وأقرب ما يقال في هذا الرأي الأخير إنه يجمع بين المتناقضين، إذ هو يقتضي اعتبار الحادثة اعتداءً ماديًا شاهده الجمهور فلا يقبل النزاع، ولأجل هذا تنعدم كل ضمانات القضاء، ثم في الوقت نفسه يؤكد بل إن الحادثة غير واضحة ووجه الحق فيها يحتاج إلى مداولة، وغريب أن يكون القاضي في نفسه شك في هل أهين، ولا يجد من هذا الشك سببًا لإحالة دعواه على زملائه، فيحكمون فيها في جوهم الهادئ ومع استيفاء جميع الضمانات.
    ولا نفهم حقيقة كيف ينازعنا منصف في أن هذا أولى بكرامة القاضي، وبجلال القضاء على وجه العموم.
    ثانيًا: لأن الحكم ومحضر الجلسة يؤكده - صريح في أنه صادر في قضية رفعتها النيابة. بقوله (قضية النيابة نمرة…).
    وهنا نرجع إلى ما أشرنا إليه في آخر البحث الأول.
    هذه الجملة تخرج بالحادثة عن أنها جنحة جلسة، وتخرج بالحكم عن أنه صدر في جنحة جلسة ضد أحد أعضاء المحكمة.
    ذلك إن الجنحة، التي من هذا القبيل لا يرفع الدعوى فيها غير المحكمة نفسها، أما وكيل النيابة فلا يملك رفعها.
    هو يبدي رأيه بناءً على طلب المحكمة منه، وفرق بين إبداء الرأي بناءً على طلب المحكمة وبين سلطة تقديم الدعوى فعلاً، فإن النيابة لا تملكها في الجلسة.
    ذلك هو نص القانون، بل نصوصه الصريحة، فإن المواد (85) إلى (89) مرافعات صريحة في أن رئيس الجلسة هو الذي يملك وحده سلطة بوليس الجلسة وهو الذي يرفع فيها الدعوى وهو الذي يحقق ثم يحكم في الجلسات المدنية، حيث لا يوجد ممثل للنيابة - فالمحكمة وحدها هي التي تقدر أولاً ووحدها هل وقعت أمام أنظارها وأنظار الجمهور جنحة يجوز المحاكمة من أجلها أو لم تقع.
    كذلك نجد هذا صريحًا من المقارنة بين المادتين (244) من قانون تحقيق الجنايات القديم و(237) من القانون الأخير، فإن الأولى وكان القانون في عهدها لا يجيز للمحكمة أن تحكم في جنحة في الجلسة إذا وقعت عليها، بل عليها أن تحيلها فقط إلى النيابة نراها تقضي بأن المحكمة لا تحكم في الدعوى إلا بناءً على طلب النيابة، فصاحب الدعوى قديمًا هي النيابة أما المادة الأخيرة (237)، وهي التي صدرت في يونيو سنة 1896 في نفس التاريخ الذي صدر فيه تعديل المادة (89) مرافعات، فقد اتفقت هي والمادة (89) في النص، فانتقل حق إقامة الدعوى من النيابة إلى المحكمة ولم يبقَ للنيابة إلا إبداء الرأي بعد أن ترفع الدعوى فعلاً.
    وقد كان هذا ضروريًا ومتمشيًا مع منطق الشارع ومع أحكام النصوص ومقتضيات الوقائع. أما مع منطق الشارع فلأن القانون إذا أعطى حق مراقبة الجلسة وضبط نظامها إلى المحكمة، فمن الضروري أن تكون هي وحدها صاحبة الحق في تأكيد أنه وقعت أمامها جنحة أو لم تقع وفي رفع الدعوى بناءً على تدوينها هي، فإن تقديم الدعوى جزء من حق البوليس العام، أو المسيطر على النظام العام.
    أما أنه متمشيًا مع أحكام النصوص، فلأنه أعيد ما كان التشريع القديم لا يعطي للمحكمة أن تحكم من تلقاء نفسها إلا في التشويش فقط، لا في الجنحة التي تقع، على شرط أن يكون على غير المحكمة، كان منطقيًا أن لا ترفع الدعوى العمومية في ما عدا التشويش، إلا من السلطة التي تملكها في جميع الأحوال فكان لا بد للمادة (244)، أن تقول بناءً على طلب النيابة أما بعد إن أدخل الشارع الجنحة التي تقع على المحكمة، أو على الغير في حكم التشويش فجعلها من سلطة المحكمة، فكان لا بد لهذا من أثره في حق رفع الدعوى، فانتقل الحق إلى المحكمة بذاتها واقتصرت وظيفة النيابة على إبداء الرأي إذا كانت ممثلة في الجلسة وإن لم تكن ممثلة فرأيها ليس جوهريًا، ولا لزوم له أصلاً.
    أما أنه تمشيًا مع مقتضيات الوقائع التي يجوز أن تحصل ومع السلطة الجديدة أيضًا، فلأن القانون أعطى للمحكمة سلطة الحكم حتى على الموظفين الموجودين في الجلسة إذا وقعت الجنحة من أحدهم، فإذا ما وقعت الجنحة من وكيل النيابة، وكان حق دفع الدعوى العمومية منحصرًا في شخصه فقد انعدم حكم النصوص، وتعطلت سلطة المحكمة وهي مقررة بالنص. بناءً على هذا فلا بد لنا من القول إن (المحكمة) هي وحدها التي تملك رفع الدعوى العمومية في حالات جنحة الجلسة بجميع أنواعها.
    ولا بد لنا أن نرجع هنا أيضًا إلى أن هذا الرأي هو الذي يتفق وحده مع الحكمة التي تؤكدها على أنها هي السبب الوحيد لاعتبار جنحة الجلسة قائمة، تلك الحكمة، هي أن جنحة الجلسة لا بد وأن تكون مكونة من واقعة مادية لا نزاع فيها تقع على المحكمة ويلحظها الجمهور، ويشعر القاضي بسببها أن كرامته أو كرامة مجلسه قد اعتدى عليها، وهو وحده الذي يستطيع أن يقدر هذا الشعور، ولا يستطيع غيره أن يقدره، إذ من المحال أن يشاركه في شعوره أحد مهما كان مركزه في الجلسة، فليس لوكيل النيابة أن يشعر بالنيابة عن القاضي وأن يعلن أن جنحة وقعت في الجلسة حيث لا يراها القاضي وقعت، بل هو لا يملك مجرد إلفات النظر إليها، لأن إلفات النظر يستدعي التسليم حتمًا بأن الواقعة لم يلحظها القاضي، ولم يضطرب لأجلها، وهذا وحده كافٍ لإخراجها من دائرة جنحة جلسة وقعت على المحكمة أولاً وبالذات. على أن حق الإلفات هذا الذي لا تقبله طبيعة الاتهام والواقعة إذا تقرر على خلاف ما يدركه العقل، فإنه ولا شك ينتهي بأن يترك مجال الاستنتاج واسعًا، فللنيابة أن تنتزع كلمة لم تثر في نفس القاضي أي أثر سيئ، فهي بطبيعة الحال لم تحدث أثرًا في نفس الجمهور نقول للنيابة حينئذٍ إن تنتزع من هذه الكلمة بطريق التأويل ثم الاستنتاج البعيد من حلقة لأخرى ومن مقدمة إلى نتيجة، جنحة فكرية لم يلحظها أحد، وبهذا يتحول ميدان الجلسة إلى ميدان قتال، وتحكيم للشهوات، ومفاجآت، لا يجوز أن يكون هذا مجالها.
    لا نظن أن هذه مسألة منحوتة من الألفاظ بدون مراعاة للواقع ولا تفترض بأن موافقة المحكمة للنيابة على طلبها قد يكون رفعا للدعوى، وبهذا التصديق قد انتهى الأمر وتم ما يريده القانون أما:
    أولاً: فلأن تعيين السلطات التي ترفع الدعوى أو التي تحكم، إنما هو أمر أساسي ترتبط به السلطة القضائية، فيجب أن تكون الأعمال في حدود النصوص وإلا كان القانون لهوًا، ولا يحتال عليه بمثل هذه الاعتراضات.
    وإما ثانيًا: فلأن حق الدفاع الذي يمثله المحامي وحق الاتهام الذي يمثله وكيل النيابة متساويان في الجلسة، إن لم يكن الترجيح لحق الدفاع، فلا نريد أن ندخل في ميدان تفاضل، فالمحامي وعضو النيابة متساويان تمام المساواة بالجلسة، لا يملك أحدهما على الآخر أية نوع من أنواع السلطات والمراقب على الجلسة، والمسؤول عنها وحده بلا شريك، ولا مرشد، إنما هو القاضي، فإذا أعطيت لعضو النيابة حق الإرشاد فقد جعلته قيمًا على المحكمة، وهذا غير مقبول.
    وإما ثالثًا: فلأن طبيعة جنحة الجلسة تأبى الإرشاد كما قدمنا، فالواقعة لا تحتمل مثل ذلك مطلقًا.
    وأما رابعًا وأخيرًا: وهذا يصلح وحده وجهًا لبطلان الحكم وسيأتي الكلام عليه في موضع آخر، فلأن حضرة رئيس النيابة اغتصب فعلاً وفي الواقع سلطة بوليس الجلسة لنفسه وأكد هذا الاغتصاب علنًا بمجرد افتتاح الجلسة حيث أكد أنه هو الذي سيتولى بوليس الجلسة وأنه هو الذي سيرفع الدعوى إذا صدرت أية كلمة يراها هو في نظره، ويصرف النظر عن سلطة القاضي يستحق المؤاخذة، فيكون له أن يعتبرها جنحة جلسة.
    بل إنه أقام نفسه مقام القيم على حضرة القاضي حيث سمح لنفسه، أن يوجه له نصائح المسيطر على شعوره والمسير لحركات نفسه، فإذا به يلقي عليه الدرس، بأن يخرج عن حلمه وصبره مع قوم لا ينفع معهم إلا الضرب من حديد، وأنه سيضرب ولا بد ضربته. ولقد أقره حضرة القاضي على هذا الاغتصاب، وتركه يشتغل في خطبته من جملة إلى ما بعدها، ولقد وافق على هذا الاغتصاب في حكمه حيث يقول في رواية الواقع، إنه عقب (كلمة) ألقاها رئيس النيابة حصل كذا وكذا كأنها كلمة مشروعة ومما يقال في جلسته، وكان اغتصاب سلطته كان حقًا لا نزاع فيه.
    من هنا حينئذٍ نقطع بأن المسألة اغتصاب لحق وقع بالاتفاق، كان حضرة القاضي يملك أن يتنازل عن ولايته، فيلقي بها بتصرف حضرة رئيس النيابة، وهذا كله خطأ في خطأ.
    ومن هنا نستطيع أن نقول أيضًا إذا شئت التدقيق في النتائج القانونية إن المحامين ورئيس النيابة والقاضي إنما كانوا في جلسة رئيس النيابة لا في جلسة محكمة، فوصف الواقعة بأنها جنحة جلسة، يتصادم مع الوصف القانوني المقرر في المحضر.
    ورابعًا: إن اغتصاب سلطة المحكمة على هذا النحو هو بذاته اعتداء على المحكمة، فهو مكون لجنحة وقعت في الجلسة، وقد كان هذا الاعتداء وسيلة للاعتداء على المحامين بالإغراق في السب والتفنن في وضع صيغته تفننًا غريبًا، عجزنا عن أن نرجعه إلى ما نعرفه عن حضرة رئيس النيابة من الهدوء وحسن الآداب، فوقعت جنحة ثانية على غير المحكمة، أي على المحامين، فكيفما كان رد المحامين ولا أجده ردًا مقنعًا، فهو نتيجة للواقعة الأصلية التي وقعت من حضرة رئيس النيابة وليست أقوال المحامين كيفما قدرناها، إلا صرخة المفجوع من جنحة وقعت عليه، فانتزاع صرخة الاستغاثة أورد الفعل من واقعة أصلية ظاهرة واقعتها، ومؤكد حكمها وجعل تلك الصرخة هي الأصل، وهي المكونة للجنحة تصرف غريب في ذاته لا يقبله العقل ولا القانون، ولا الشعور، كأنك تأخذ الذي ضرب في الجلسة فصرخ مستغيثًا أو مستنكرًا، فيقول يا هذا لقد شوشت بصراخك على الجلسة فتكون جنحة التشويش، أما الذي ضرب فلا جناح عليه ولا مسؤولية لأن من حقه أن يضرب.
    ولقد كانت صرخة الأستاذ مكرم هي صرخة الذوق السليم، حيث طلب محاكمة النيابة، وإن وقعت به الفجيعة عن إدراك أن جنحة الجلسة لا يجوز لأحد غير القاضي أن يرفع الدعوى العمومية بشأنها، ولكنها كانت صرخة الحق، لأن حضرة رئيس النيابة اعتدى بلا نزاع على القاضي فاغتصب سلطته، وعلى المحامين فأهانهم، وعلى الواقع حيث أخذ من نتيجته استنكار إهانته جسمًا لجنحة مستقلة فجاراه حضرة القاضي على ما أراد، فكان من هذا الخليط حكم لا نستطيع أن نفهم سنده كيفما كانت وجهة النظر.
    يحضر المحامي في الجلسة لا متفرجًا، ولا متطفلاً على المحكمة أو على النيابة، ولا يستوي مركزه في الجلسة مع فرد من الجمهور، بل هو يحضر بمقتضى القانون ليؤدي مأمورية مقررة اعتبرتها الأنظمة في كل زمان ومكان أساسًا لإقامة العدل بين الناس، فهو ذو شأن في الجلسة، وشريك للقاضي، وللنيابة وله أعمال معهم، وعليه واجبات يؤديها لا للقضاة ولا للنيابة، بل للمصلحة الاجتماعية العامة، وهو في تأدية واجباته له حقوق قد يعترض بها سلطة القاضي، فله مثلاً أن يمنعه من استجواب المتهم.
    ومن الطبيعي أن تأدية مثل هذه المأمورية تقتضي مناقشة وجدالاً بين الذين يشتركون في عمل واحد.
    والمناقشة بما تستدعيه من التمسك بالرأي والحرص عليه قلما تخلو من حركة، أو ظاهرة يبدو منها أن صاحب أحد الرأيين لا يحترم رأي الآخر، أو لا يحفل به، فمن السهل جدًا أن ينتزع منها اتهام بالإهانة.
    ولكن هذه المناقشة في ذاتها، إنما هي قيام بواجب، فلا تتحول عن أصلها، ولا يمكن أن ينتزع منها جنحة.
    لهذا كان لا سبيل لأن يعتبر المحامي في تأدية واجباته فردًا من الجمهور الحاضر فإذا تكلم وهو يؤدي ذلك الواجب كان معتديًا تطبق عليه المواد المعروفة.
    عرضنا هذا البحث بتفصيل مستفيض على محكمة النقض والإبرام، فصدر حكمها بأن المحامي تصح مؤاخذته وقد ورد في الحكم المستأنف الآن أن حكم محكمة النقض قد فصل في هذا البحث فلا محل للرجوع إليه.
    الواقع أن هذا فهم غير صحيح، فإن محكمة النقض لم تبحث فيما عرضناه عليها ولم تتعرض له بكلمة، ولعلها أرجأت البحث إلى فرصة أخرى، ولعلها رأت أن الواقعة المعروضة عليها لا تحتمل هذا البحث لأنها بماديتها وكما ثبت واقعتنا تبيح توقيع العقوبة إذ كان موضوعها أن المحامي، بعد أن أصدرت المحكمة حكمها، فانتهت بذلك مأمورية المحامي ولم يبقَ له صفة في أن يتكلم ولا حق له في أن يعترض وجه كلامه للمحكمة وقال إن هذا خطأ.
    رأت محكمة النقض أن الواقعة على هذا الشكل لا تسمح بالقول إن المحامي كان يؤدي واجبه أمام القضاء، فاكتفت بتدوين ذلك في حكمها، وأخذته أساسًا لرفض النقض، فالبحث لا يزال باقيًا وسنده على رأينا واضح يرجع إلى نصوص القانون وإلى المبادئ العامة.
    على أن في الموضوع بحثًا جديدًا وهو الذي عقدنا له هذا التمهيد.
    ذلك أن الشارع، بعد أن قرر مأمورية المحامي ووضع له من الأنظمة ما أراد، فعين واجباته ولا نقول وحقوقه، لأن المحامي في الواقع مثقل بالواجبات وليس له حق من الحقوق، حتى ما ظهر أنه حق، فإنك في الواقع إذا تأملته رأيته واجبًا ثقيلاً.
    نقول بعد أن قرر الشارع كل هذا، وضع المحامي في أداء مأموريته وفي طريقة أدائها تحت مراقبة سلطة التأديب، وقد اختار لها أعلى محكمة قضائية تشرف على تطبيق القانون في البلاد - وهي محكمة النقض - فالنظر في هل عمل المحامي في الجلسة كان في حدود مأموريته حقيقة أو هو قد تجاوزها إلى الاعتداء - إنما هو بحث فني تأديبي صرف - لا ينظر فيه إلا تلك السلطة التي عهد إليها أن تفصل في شأن المحامي لتقدر عمله بهذه الصفة. هذه مسألة أولية، يجب الفصل فيها قبل النظر في جنحة الاعتداء، مثلها مثل المسائل الأولية التي يتوقف عليها الحكم في الموضوع المطروح، إذ لا يخلو الحال من أمرين:
    فأما أن تفصل محكمة النقض أن المحامي كان في حدود واجباته، إذا اضطرته الظروف أن يقول ما يدعي إنه إهانة - وحينئذٍ فلا مسؤولية عليه، وإما أن تفصل بالعكس أن الحال لم يكن يقتضي ذلك الكلام وحينئذٍ تجوز محاكمته على أساس أنه خرج عن حدود واجباته، فحقت عليه مسؤولية الاعتداء.
    من الواضح أن ما جعله الشارع تحت حماية سلطة معينة، لا يجوز لسلطة أخرى أن تفصل فيه، إلا بعد أن تنتهي تلك السلطة من النظر فيما كان من اختصاصها، وحينئذٍ يمهد الطريق للسلطة المختصة بتوقيع العقوبة - فتستقيم المسؤوليات - ويتأكد للمحامي أداء واجبه أمام القضاء ولا تكون سلطة القاضي في إزعاج المحامي كلما تناقش سيفًا معلقًا على رأسه يمنعه من تأدية واجباته في دائرتها الحقة.
    إن الرأي الذي يخالفنا يلغي كل تشريع يختص بالمحاماة، وينتهي بنا إلى التسليم بأن الشارع إنما يكتب في تشريعه فيصدر القوانين متناقضة تهدم بعضها البعض، وإن قانون المحاماة بما فيه من الأنظمة والضمانات والسلطات المحددة لا أثر له إذا حصلت مناقشة توهمها القاضي أو وكيل النيابة إنها غير لائقة فيصبح للقاضي الجزئي مثلاً أو لقاضي الإحالة أن يحل نفسه محل سلطة محكمة النقض والإبرام - ويحكم أن المحامي قد خرج عن حدود واجباته - وهذا من اختصاص السلطة التأديبية العليا، ونعيد أنها هي السلطة العليا في البلاد لمراقبة تنفيذ القانون والإشراف على القضاء والمحاماة معًا ليقوم كل منهما بتأدية مأموريته في دائرتها الواجبة.
    هب أن المحكمة المدنية جزئية أو ابتدائية حكمت على المحامي مرة، ثم أخرى، فإن هذا يكون داعيًا حتمًا إلى تقديمه إلى محكمة النقض للنظر في أمره حيث ثبت أن اعتاد أن يخرج عن حدود مأموريته وتكرر منه الاعتداء على القضاء فماذا يكون من الأمر حينئذٍ !!
    إذا قلت إن محكمة النقض تكون ملزمة أن تأخذ بالأحكام التي صدرت من المحكمة الجزئية على اعتبار أنها قد حازت قوة الشيء المحكوم فيه فقد عطلت سلطة النقض وجعلتها تابعة في قضائها إلى محكمة هي موضوعة في جميع أحكامها تحت مراقبة تلك المحكمة العليا، بل قد نقلت سلطة التأديب في الواقع من محكمة النقض إلى المحكمة الجزئية التي حكمت وهذا لا يجوز، وإن اضطرت خضوعًا للحق أن تقول إن محكمة النقض هي صاحبة الحق المطلق في النظر في هل المحامي تجاوز واجبه أو كان في دائرته، فماذا تعمل بتلك الأحكام إذا حكمت محكمة النقض أن المحامي إنما قام بواجبه خير قيام وأنه لم يعتد أصلاً !!!
    ترى من هذا حقًا أن محاكمة المحامي بسبب تأدية مأموريته في الجلسة، إنما يأتي بنا إلى إلغاء هذه المأمورية، وإلى إلغاء سلطة محكمة النقض معها، وهذه متناقضات لا يمكن أن يسلم بها في نظر الذين يطبقون القوانين على ما تقتضيه من الحقوق والواجبات واحترام توزيع السلطات ومراعاة قواعد الاختصاص.
    وإني في هذا المقام أرجو أن لا يشوب البحث الرجوع إلى المفسرين للاختلاف العظيم بين التشريعين الفرنساوي والمصري.
    ذلك أن الشارع الفرنسي أصدر لظروف سياسية وانقلابات اجتماعية خطيرة قوانين عدة للحد من حرية الخطباء خصوصًا المحامين فصدر قانون في 30 مارس سنة 1808 يعطي للمحكمة الحكم على المحامي في الجلسة تأديبيًا وجنائيًا معًا.
    وصدر كذلك قانون في 20 نوفمبر سنة 1822 وفرض على المحامي أن لا يعترض في مرافعاته إلى نظام الحكم وإلا جاز للقاضي أن يحكم عليه في الحال.
    وصدر قانون في 29 يوليو سنة 1881 فأعطى للقضاة سلطة إيقاف المحامي إلى ستة شهور وأخيرًا، فإن قانون المرافعات عندهم يعطي للقضاة الحق بنص صريح في إبعاد كل مرافعة من الدوسيه أو اعتبارها مشطوبة.
    وكل هذا التشريع المتوالي لا أثر له عندنا.
    ومع وجوده هناك فقد رأى فريق كبير من المفسرين أن مادة قانون المرافعات لا تنطبق على المحامي، ورأى فريق آخر متأثرًا بهذه القوانين أنها تنطبق.
    وترى أن ذلك التشريع بذاته دليل على تفسير القانون المصري إلى الناحية التي نراها فلقد كان عندهم قانون المرافعات بنصه الذي عندنا وقد كان عندهم قانون تحقيق الجنايات بنصه الذي عندنا بل هو أوسع وأعم كما قدمنا، ومع هذا أحس الشارع الفرنسي أن تلك النصوص لا تنطبق على المحامي فدفعته الحاجة إلى كل ما تجددت إلى تشريع خاص يدخل المحامي في دائرة المسؤولية إذا شملت مرافعته تعريضًا بالسلطات أو إخلالاً بالواجبات التي رآها ولو أن التشريع الأصلي الأوسع من تشريعنا كان يشمل المحامي، لما صدرت هذه القوانين المتوالية.
    وتؤخذ تلك القوانين كذلك معززة للرأي الذي نقول به - لأن القانون الذي قرر للقاضي سلطة الحكم على المحامي - أعطاه في الوقت نفسه سلطة الحكم في مسؤوليته التأديبية، وهذا قاطع في أن الأمرين متلازمان وفي أن الحكم في الجنحة لا سبيل له إلا أن يحكم أولاً في المسألة التأديبية، حينئذٍ كلما بحثنا، ومن أية وجهة كان البحث لا نجد حلاً لتنفيذ القوانين، يوفق بين الواجبات، ويحترم قواعد الاختصاص، إلا بأن نقول إن المحامي إذا اُتهم بالخروج عن حدود واجباته وجب إحالة أمره أولاً على السلطة المختصة بالفصل في هذا الأمر بالذات، فإذا حكمت أنه قد تجاوزها فعلاً أصبح فردًا خاضعًا للمسؤولية المقررة في قانون العقوبات.
    إنه لا سبيل للحكم بعقوبة مهما كانت وجهة النظر
    إن توقيع العقوبة، مرتبط بنص المادة (117) بأن يكون الاعتداء وقع على الموظف أثناء تأدية وظيفته أو بسبب تأديتها.
    إن القانون لا يحمي الموظف، مراعاةً لشخصيته، إذ لا يريد الشارع أن يخلق من الموظفين آلات لتعذيب الناس، فيخرج بهم عن المسؤوليات القانونية، ليكونوا وبالاً على الجمعية التي تقررت وظائفهم لخدمتها، وللدفاع عنها جماعات وأفرادًا، فلا حمية للموظف إلا بقدر ما هو يستحقها، وبشرط أن يكون في دائرتها.
    ولا شك أن حضرة رئيس النيابة، قد خرج في تلك الجلسة عن حدود وظيفته خروجًا بينًا لم يقف فيه عند مجرد الخروج عن واجب الوظيفة، بل تجاوز هذا الموقف السلبي إلى الاعتداء فعلاً، فهو حينئذٍ قد ثار على القانون، فليس له أن يطلب حمايته.
    ولقد أراد حضرة وكيل النيابة في الجلسة الأخيرة بعد أن علم أن هذا من المباحث التي نعرضها أن يرد فقال إن المفسرين مجمعون والقضاء كذلك مجمع على أن للمعتدى عليه أن يدافع عن نفسه في حدود رد الاعتداء وبشرط أن يخشى الخطر، ولكن ليس له أن يعتدي بالكلام الجارح !! ثم قرأ في الجلسة تلك الفقرات التي أشار إليها في كتاب جرسون.
    ونحن لا نرانا في حاجة للتدليل على المبدأ الذي يقول به لأن نرجع إلى مفسرين فإنه استخفاف بالعقل البشري، أن يقال إن الذي يعتدي على القانون، وعلى الناس، فلا يعرف وظيفته، ولا يدرك حرمتها يجب أن يكون اعتداؤه مقدسًا، ويجب أن يفهم المعتدى عليه أنه إذا رد الاعتداء، لا باعتداء مثله بل بمجرد استنكار ذلك الاعتداء ووصفه بأنه منكر لا يجوز العقوبة لأن للمعتدي حرمة !!!
    إنه من الخطأ أن يقال إن للمعتدي حرمة، فما كانت الحرمة لأي شخص يعتدي، إنما الحرمة للوظيفة المقررة، فإذا ما اعتدى صاحبها فقد تجرد عن وظيفته، وعن حرمتها، وأصبح في دائرة هي دائرة الأفراد، بل دائرة المعتدين فلا يستطيع بعد الاعتداء أن يتراجع إلى الوراء ليبقى في دائرة الوظيفة، بل إني اكتفى، بتلك الفقرات التي أشار إليها حضرة وكيل النيابة فإنها تؤيد ولا شك بالرأي الذي نقول به - بل إننا لا نعتبره رأيًا - إذ الطبيعة الثابتة لا رأي فيها غير الواقع الحتمي.
    تلك الفقرات صريحة في أن المعتدى عليه من الناس، إنما يجب عليه أن لا يتجاوز في رده حد العمل الواجب لرد الاعتداء.
    ليس في تلك الفقرات أن رد الاعتداء، غير جائز ولا يستطيع أحد أن يقول هذا، بل هي تقول يجب أن يكون الرد في دائرة الرد حقيقة، ومن نوع الاعتداء الواقع.
    وقد ضرب جرسون الوقائع التي حكم فيها فإذا بها كلها، تمثل لنا موظفًا يريد القبض على فرد في غير حدود القانون، أو يريد أن يدخل عقارًا في غير حدود القانون فيقول جرسون إن من حق الفرد في هذه الحالة أن يستعمل كل قوته الجسمية لرد هذا الاعتداء بالقوة، أما الشتم فلا يجوز، لأنه لا يوصل إلى الغاية المقصودة من رد الاعتداء.
    هب أن هذا قول لا بد لنا أن نأخذ به، فتقبل عقولنا أن من حق الفرد أن يضرب الموظف الذي يهجم عليه أما للقبض عليه أو ليدخل بيته، ولكن ليس من حقه أن يقتصر على أن ينتهره أو يصرخ في وجهه لعله يرجع !!!
    هب أن هذا معقول فما معنى هذا الرأي، وما هي نتيجته الصحيحة !!!
    إنما معناه إذا أخذته أساسًا، أن يكون الرد من جنس الاعتداء، ومن طريقه، فليس للمعتدى عليه أن يرد باللسان، حيث يكون الموظف قد اعتدى باليد !!!
    على هذا إذا كان اعتداء الموظف قد وقع باللسان، فلا بد حتمًا بناءً على هذا الرأي نفسه أن يحصل الرد باللسان، ولا ينتظر أحد أن يكون الرد تمليقًا وتمجيدًا !!
    وإن أردت أن تقول، كلا !! بل كان يجب تنفيذًا لرأي جرسون أن يجد المحامون طريقًا لمنع رئيس النيابة أن يتكلم فقط، فيكون من حقهم، على رأيك أنت لا على رأينا، أن يصعدوا إلى موقف رئيس النيابة وأن يضعوا جميعًا أيديهم على فمه لمنعه من أن يستمر في الاعتداء. وإذا تعذر عليهم هذا، أو وجدوه غير لائق فنطقوا بكلمة استنكار، كان من تلك الكلمة جنحة.
    إنه عبث، نرجو أن يقول القضاة فيه كلمتهم، للحق ولكرامة القضاء.

      الوقت/التاريخ الآن هو الإثنين نوفمبر 25, 2024 1:00 am