للاحزاب السياسية الدور الأكبر في صناعة الحرية أولاً، ومن ثم حمايتها والحفاظ عليها ثانياً. هذا هو ملخص الفكرة عن الأحزاب وأهميتها ودورها الفاعل في الحياة السياسية، ولكي نشرح هذه الخلاصة بشكل مبسوط نسبياً نشير إلى عدة أُمور:
أولاً: تعتبر الأحزاب السياسية أهم أداة تستعمل في ممارسة الحكم وإدارة العمل السياسي، وإحدى أهم الوسائل التي تمتلك القدرة على التأثير في الرأي العام وتكوين الإرادة الشعبية؛ إذ بات من الواضح اليوم أن الأنظمة الديمقراطية المتطورة بدت ترتقي في العمل السياسي إلى صراع الأفكار والبرامج السياسية بعد أن كان الاتجاه الفردي وعظمة الأشخاص هو صاحب الرقم الكبير المؤثر في العمل والمنافسة السياسية.
ولاتوجد وسيلة أفضل من الأحزاب تكون قادرة على إعداد البرامج وبلورة الأفكار والخوض في هذا الصراع الجديد؛ إذ لايمكن لأي سلطة حاكمة تؤمن بالديمقراطية كنظام للحكم أن تسير بصورة جيدة بدون وجود أحزاب سياسية، فالأحزاب هي الأدوات الضرورية لتنوير الرأي العام أولاً، وإعداد الناخبين والنواب وتهيئتهم للحكم ثانياً، وإيجاد علاقة الاتصال الدائم بين الجماهير والنواب ثالثاً، وإيصال السلطة إلى واقع الجماهير والتعرف على حاجاتهم ومشاكلهم رابعاً.
فتشكل الأحزاب إذاً أدوات تكوين الرأي العام لكونها تحمل أهدافاً سياسية كبيرة لايمكنها الوصول إليها إلاّ بجمع المواطنين الذين يؤيدون نفس الأفكار ويتابعون نفس الأهداف والبرامج السياسية التي تحملها، ولكونها تعمل على تثقيف الناخبين وإعدادهم من خلال التوفيق بين الآراء المختلفة وصهرها في رأي واحد من جهة أُخرى.
وبذلك تكون الأحزاب وبفضل دورها في إعداد الناخبين والنواب وسيلة التلاقي الدائم والعلاقات المتبادلة بين الممثلين وبين الشعب، وتكون قادرة على إلغاء الفصل بين السلطة والشعب وانعزال أحدهما عن الآخر؛ إذ إن أعضاء الحزب وناخبيه يؤمنون حواراً دائماً بين النواب وبين مجموع المواطنين.
ثانياً: لم تعد الأحزاب السياسية الوسيلة التي تنمي الأفكار، وتحل المشاكل لدى الأفراد، كما لم تبق الحاجة إلى تهيئة المناخ المناسب لاكتساب الاتجاهات والمهارات، والشعور بالأمن والاطمئنان، وإشباع حاجة الانتماء والتجمع. هذه كلها لم تبق هي الدافع الوحيد لتكوين الأحزاب ونشوئها ونموها؛ لأن الصراع السياسي لم يعد صراعاً بين أشخاص وأفراد، بل صراع أفكار وبرامج سياسية يعجز عن القيام بها الفرد أو الأفراد.
بل إن التطور الذي رافق مفاهيم الدولة والحكومة والحياة السياسية والتحول إلى مراحل الدولة الإقليمية والدولة الأُمة رافقه تطور آخر على صعيد الشعب والجماهير أيضاً، حيث أصبح الشعب محور السطة ومصدر القانون وصاحب الحكم ومالكه الحقيقي. فبدلاً من ((أنا وهو الدولة )) أو ((الملك يساوي الدولة )) أصبح ((الشعب يساوي الدولة )) أو ((نحن وأنتم وهم والجميع هم الدولة )) فالحكومة ملك للجميع.
هذه الديمقراطية لايمكن ممارستها من قبل الشعب ككل، ولاأفراد من الشعب، وإنما بحاجة إلى أجهزة حزبية ومؤسسية تنوب عنه في ذلك، وتمثله في ممارسة سلطاته السياسية بعد عجز السبيل الفردي عن حماية الحقوق واحترامها.
ثالثاً: أن عامل النزعة التسلطية لدى الأفراد أنشب صراعاً محتدماً بين الحاكمين والمحكومين للحد من تجاوزات إحداهما على الأُخرى، فإذا كانت الغلبة للسلطة الحاكمة اتصف النظام بالاستبداد والديكتاتورية – كما في أغلب بلدان العالم الثالث – وبتقليص الحريات العامة وسحق الحقوق، وأما إذا كان النصر حليف الفئة المحكومة فاتصف النظام بالديمقراطية، حيث ينطلق فيه الأفراد من إسارة الحكومة فيسمح لهم بحرية التعبير، وحرية التجمعات السياسية والنقابية وباقي الحريات الإنسانية.
وسواء كان نظام الحكم من النوع الأول أو الثاني فإنه لابد للطبقة الحاكمة في كل من النظامين أن تستند إلى حزب أو أحزاب لتدعم كيانها، فالحزب أو الأحزاب التي تهدف في بدء تكوينها إلى محاربة الدولة واكتساب السلطة غدت عاملاً مهماً في تكوين السلطة، فلابد إذاً لكل نظام من الاعتماد على الشعب أو على جزء منه – الآحزاب – ليستمر في البقاء والمحافظة على كيانه.
رابعاً: أن المعيار الدقيق لتمييز ديمقراطية نظام الحكم متوقف على مدى مشاركة النظام الحزبي في الحكم ودوره في التأثير فيه؛ إذ عرفوا الحزب السياسي بأنه مجموعة منظمة من المواطنين يهدف الدفاع عن آراء ومصالح محازبيه، ويهدف الحصول على تحقيق برنامج من الاصلاحات من خلال مشاركته في الحياة السياسية بالوسائل التالية: نشر العقيدة الحزبية، استخدام وسائل التأثير الإعلامي وغيره على مجموع الشعب، والسيطرة كلياً أو جزئياً على السلطة(1).
وهو تعريف يقتضي بطبعه حرية العمل الحزبي بكافة أقسامه وصنوفه، وهو يعني وجود التعددية الحزبية التي هي من أبرز مظاهر الديمقراطية السياسية؛ لأن وجود الأحزاب السياسية يمكن الجماهير من تنسّم الحريات والتعبير عن آرائها وإبداء رغباتها، والمجتمع الديمقراطي الذي تتعدد فيه الآراء والاتجاهات السياسية دائماً والتي تختص الأحزاب السياسية في التعبير عنها يأبى أن يتضيق بوحدة في الرأي والاتجاه، وبالتالي فرض حزب واحد عليه؛ لأنه عمل ديكتاتوري مرفوض سلفاً في كل مجتمع حر.
فالتعددية الحزبية التي هي ضرورة من ضرورات المجتمعات الإنسانية تكون أيضاً المصدر الأساسي لتصنيف الأنظمة السياسية وتمييزها بين أنظمة ديمقراطية تتخذ من حرية التعبير والرأي والانفتاح وسيلة لإدارة نظام الحكم، وأنظمة استبدادية مغلقة تضيق من حريات المواطن السياسية، وتفرض عليه الأحادية الحزبية الى جانب مصادرة حقوقه.
خامساً: أن التعددية الحزبية تتطلب أن يكون لجميع الاحزاب المتنافسة على السلطة مشاريع وبرامج تهدف إلى إصلاح نظام الحكم وتوفير الرفاهية للشعب وإيجاد الحلول السلمية لكافة أزماته ومشاكله الحيوية، كمشكلات الأُجور والأسعار ومكافحة الأزمات الاقتصادية والسياسية، وخاصة البطالة واحتكار السلطة وتجنب الحروب وأمثالها، ومن هنا تنشأ منافسات شديدة بينها من أجل كسب ثقة الشعب والحصول على دعمه في الجولات الانتخابية المعقودة لكسب السلطة.
الأمر الذي يحفظ الشعب من مخاطر الاستبداد والفردية، ويضمن له حياة ديمقراطية تسودها أجواء التنافس الحر؛ وذلك لأن الأحزاب السياسية تخطو في سبيل الانتصار على خصومها المنافسين عدة خطوات إيجابية تعينها على تقديم برامجها إلى الأمام في قبال إفشال برامج الخصوم أو تضعيفها.
فمثلاً: كل حزب سياسي يعقد مؤتمرات دورية للإعلان عن خططه وبرامجه يعرضها على الشعب لغرض كسب أصواته.
ومن أجل أن يتجنب كل حزب الهزائم الانتخابية ويغلق على خصومه أبواب الانتصار الشعبي أو من أجل أن لايفقد ثقة الجماعات باطروحاته على الأقل يجهد لأن تكون برامجه متفقة مع مبادىء الحزب أو أقرب إلى الواقع والتطبيق بعيدة عن الوعود المثالية الكاذبة.
كما يهتم لأن يكون موضوعياً متسلحاً بالمنطق والنظرة الإيجابية الفاحصة لدى مناقشة برامج الخصوم ونقدها أمام الجماهير، ويتجنب الطعن أو التطرف في الآراء لكي يتحفظ على ابقاء المراقبة في حيز المنافسة الباردة، ولم تتجاوزها الى الصراع الحار حذراً من تعرض مشروعه لنفس الأُسلوب من النقد ومن رد الفعل السلبي الذي قد يصيب الجماهير جراء الممارسات العنيفة البعيدة عن آداب التنافس الحر، ومن خلال هذه الخطوات التي يتبعها كل حزب يتمتع الشعب بأجواء ديمقراطية حرة يسودها التفاهم والحوار، ويملك فيها القدرة على الاختيار والتحكم في مصيره، حيث نجد أن المعارضة تظل نشطة حتى بعد انتهاء فترة الانتخاب وتولي الحزب المنتصر زمام الحكم، إذ تسعى كثيراً للتودد إلى الشعب وكسب رضاه، وتنتظر بفارغ الصبر الجولة القادمة للانتخاب.
وفي المقابل يقدم لها الحزب الحاكم أيضاً شتى التسهيلات اللازمة للحفاظ على كيانها التنظيمي وإدارة شؤونها الحزبية الخاصة، كما يمنحها الوسائل والإمكانات الكافية التي يعينها على مراقبة السلطة ونقدها داخل البرلمان أو أجهزة الصحافة والإعلام.
واحتراماً لنظام التعددية الحزبية وتأكيداً لحق التنافس الحر يحظى زعماء الأحزاب السياسية المعارضة بمكانة خاصة لدى الحزب الحاكم في الأنظمة الديمقراطية الراقية، حيث يمتلك زعيم الحزب الخاسر مكتباً خاصاً في البرلمان يوفر له فرصة المراقبة والاطلاع، ويتقاضى راتباً شهرياً أيضاً من قبل الدولة كمكافأة من قبلها تمكنه من الانصراف إلى الشؤون السياسية الموضوعية.
وظائف الأحزاب السياسية
لكي تثبت مصداقية الأحزاب السياسية بأنها أداة حكم ووسيلة معارضة تساهم في صنع إرادة الأُمة وسيادتها يجب أن تقوم بعدة وظائف وأدوار هي:
الأولى: الوظيفة التوحيدية
بتحفيز وتوحيد الأفكار المختلفة واختيار القرارات السياسية المهمة؛ إذ تتطلب الحياة السياسية تمحور الآراء الفردية، والاتجاهات الشخصية المختلفة حول مجموعة أُصول وقواعد ينتج عنها طائفة من المرتكزات والتصورات والمفاهيم المسيطرة الواضحة الأبعاد، ومهمة هندسة وتقنية الرؤى والأفكار المتعددة وبلورتها وتحويلها الى خيارات استراتيجية كبرى تهم الجميع تعتبر من أهم الوظائف التي تقع على عاتق الأحزاب السياسية؛ لأن المجتمع الذي تتشعب فيه المواقف والأهواء وتتضارب فيه الآراء والميول السياسية يصعب فيه بروز تيار فكري مسيطر وجامع للشتات المتناثر لولا الحافز الذي تبعثه الأحزاب السياسية.
الثانية: الوظيفة التربوية والإعلامية
أي تولي تثقيف الأعضاء أو نخبتهم الذين يملكون قدرة فائقة في الدفاع عن آراء الحزب ومبادئه وأهدافه، ومدهم بالمعلومات التي يستطيعون بها ممارسة أو مواجهة التغييرات الضرورية أو الطارئة على صعيد الشعب أو الحكومة، وخلق أجواء الحوار والتفاهم فيما بينهما، فتكون بهذا نقطة اتصال تنقل إلى الفئة الأُولى مطالب الفئة الثانية مع تنسيق بنودها وتبيين فلسفتها التي غالباً لايعبر عنها الشعب بصورة مركزة وواضحة، وتنذر فئة الحكومة بوجوب تحقيق تلك المطالب والسعي من أجلها، وهذا يستدعي الاتصال الدائم بالأحداث. هذا من جهة.
ومن جهة أُخرى تقوم بدور هندسة قواعد الحكم وعناصر النظام التي يرتكز عليها للاستيلاء على السلطة أو البقاء فيها، وهذا الدور الإعلامي لايقتصر على العضو أو النائب أو الحكومة، بل يتعداه إلى المواطن أيضاً؛ إذ يقوم بمده بالأفكار والإرشادات التي تنمي لديه ملكة الفهم للظواهر والأحداث السياسية والاجتماعية، وتساعده على اختيار الأكفأ والأنسب لمصالحه.
الثالثة: الوظيفة الانتقائية والوسيطية
بتسليط الضوء على النواب الذين يمتلكون الكفاءة والقدرة الكافية على الإدارة في الوقت الذي تنتقي المرشح الأوفر حظاً بالنجاح، وتدفعه الى المسرح لكي يتولى الشعب اختيار مرشحيه بإدراك ووعي – سواء على صعيد الحكومة أو البرلمان – بل يبرز الدور الانتقائي للحزب بصورة جلية على صعيد الدائرة الانتخابية، والمرحلة الزمنية معاً؛ إذ يختار الحزب الدائرة التي يتأمل فيها فوز المرشحين الذين لهم قدرة سد الحاجة التي تتطلبها الدائرة الانتخابية، أو اختيار المرشحين الذين لهم قدرة أكثر على الانسجام مع متطلبات المرحلة السياسية، كما يجري في بعض الدول الديمقراطية المتقدمة.
ولكن يجب أن يخضع النائب حال انتخابه لتعليمات الحزب وتوجيهاته، كما عليه أن يضع المصالح العامة فوق مصالحه الشخصية، وفي حالة الشذوذ عن الانضباطية يتعرض لعقوبة الفصل وإسقاط الثقة الشرعية.
وتظهر هذه الوظيفة جلية في أحزاب الأطر أو أحزاب الأحرار والمحافظين في معظم البلدان الأُوربية وأميركا، وكذلك أغلبية الأحزاب اللبنانية، والسبب في ذلك يرجع إلى أن هذه الأحزاب ترتكز على عامل الثروة أو المركز الاجتماعي والثقافي أو الطائفي في اختيار الصفوة دون أن تفتح باب الانتساب على مصراعيه، بعكس الأحزاب الجماهيرية.
بينما لاتبرز أو تضمحل هذه الوظيفة في الدول ذات نظام الحزب الواحد، حيث لاوجود للمعارضة، فالحزب يقدم مرشحاً واحداً عن الدائرة الانتخابية وفق موازين الولاء والالتزام التعبدي بمبادىء الحزب وقيادته التي لها رئاسة الحكومة دائماً، ويجب على الشعب أن يتولى المصادقة على ترشيحه فوراً من دون أن يكون له حرية الخيار.
الرابعة: الوظيفة الإدارية
يصعب على السياسيين أن يقوموا بالمسؤولية السياسية خارج الأحزاب، فحياة الرجال السياسية الخاصة لاتكفي للإحاطة الكاملة بمجريات السياسة، والدخول في مطباتها، والخوض في غمارها، كما يتعسر الحكم بكفاءات الأفراد، وتشخيص قدراتهم نظراً لتضارب المواقف السياسية وتعددها تبعاً لتعدد الأشخاص واختلاف مشاربهم في فهم الأحداث وتفسير أسبابها.
بينما الأحزاب التي تتمتع بوحدة المواقف المتصفة بالديمومة والاستمرار تستطيع أن تحل محل الأفراد لتضطلع بالمسؤولية السياسية والقيام بمهامها وأداء حقوقها واحترامها، وفي حال عدم احترامها للمبادىء التي وجدت من أجلها سينجم عنها فقدان السلطة، أو خسارة الاحتفاظ بها، الأمر الذي تتجنبه الأحزاب السياسية دائماً.
ولاتقتصر فوائد الأحزاب وأدوارها التنظيمية على هذا فحسب، بل أصبح اليوم وجودها وتعددها وتوسعها في الدول والمجتمعات أبرز مظهر من مظاهر الحرية السياسية وممارسة السيادة الوطنية لأبناء الشعب على ترابهم، ومن دونه سيعني تحكم الحزب الواحد، والخط الواحد، والنظام الواحد، والملك الواحد، والرئيس الواحد، وكل شيء واحد، الأمر الذي يمنع الإنسان بجد من التنعم بأبسط حقوقه السياسية والاجتماعية على الأرض.
لماذا الأحزاب ؟
قد يقول قائل: طالما أن الهدف الأساسي الذي نتوخاه من وجود الأحزاب السياسية يتركز في علة واحدة هي حماية الحرية وإبداء الرأي وتنبيه الحاكم على أخطائه، فلماذا لانكتفي بحرية الرأي التي يكفلها لنا الإسلام كما كان في عهد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) من دون حاجة إلى الأحزاب بمشاكلها وعيوبها ؟
وللإجابة على ذلك نقول:
1-أن الحزب المنظم أقوى على المراقبة والنقد والمعارضة للسلطة الحاكمة من الجهد الفردي المبعثر، وأقدر على منع التجاوز وإيقاف الظلم وضمان الحقوق السياسية للأفراد، بل وأكثر هيبة للحاكم من الأفراد المتفرقين، وفوق ذلك أن الجماعة والحزب أقدر على سحب الثقة من الحكومة وحتى عزلها إذا تمادت في علوها، وتجاهلت النصح والتحذير.
2-أن الجهاز الحزبي أقدر على دراسة المشاكل المعقدة والخطط والبرامج الحكومية وإبداء الرأي فيها لما يمتلكه من لجان ومراجع علمية وفنية مختصة بمناقشة هذه الأُمور، حتى إن بعض الدول العريقة في الديمقراطية تقيم لنفسها حكومة بديلة مكونة من الأحزاب المعارضة لها تسميها حكومة الظل، بحيث يصبح كل وزير في الحكم وحتى رئيس الوزراء نفسه له ظله في المعارضة يراقب أعماله، ويكشف أخطاءه أولاً بأول، حتى إذا ثبت عجزه وفشله حل محله ليقوم بما كان ينبغي أن يقوم به الوزير المعزول من مهام وأدوار، مع الحفاظ على استمرارية السلطة وثبات نظام الحكم، ومن الواضح أن هذه المهمة صعبة لايمكن أن يؤديها الأفراد مهما أُوتوا من نبوغ وعظمة.
3-أن وجود الأحزاب يساهم مساهمة فعالة في تنمية المشاريع السياسية والاقتصادية والعمرانية وصبها في صالح الشعب، أي إن النظام الحزبي يساعد الشعب على التقدم والتطور والرفاه في المجالات الحيوية كافة.
ولهذا فإننا نجد أن البلاد الديمقراطية التي تعطي للأحزاب السياسية مكانة كبيرة في إدارة الدولة وتشهد ساحتها السياسية منافسة حزبية قوية أكثر تطوراً وإنتاجاً وتوفيراً للأمن والاستقرار من أي بلد ديكتاتوري آخر يحكمه نظام الحزب الواحد، ولم نسمع يوماً أنها اشتكت من أزمة التخلف أو تعطيل البرامج والمشاريع التنموية.
4-وأخيراً فإن العمل بنظام الأحزاب يشكل البديل الصحيح الوحيد للدكتاتورية ونظام الحزب الواحد؛ إذ إننا لو ألغينا قانون الأحزاب من قائمة العمل السياسي في الدولة الإسلامية لم تبق لنا أية وسيلة تمكننا من ضمان الديمقراطية، وفي هذا يكون الرد الصريح لمن يخاصم النظام الحزبي أو يعتقد عدم جدوائيته خاصة في ظل الإسلام، حيث يقول: إن الإسلام لايؤمن بالأحزاب، ولابد للحاكم الإسلامي أن يلغي جميع الأحزاب السياسية الأُخرى، وعدم السماح بوجود حزب معارض يمكن أن ينازع السلطة حكمها، وإذا كان لابد من وجود الحزب فإن الضرورة تقتضي أن نسمح بنظام الحزب الواحد وهو حزب الإسلام؛ لأن الضرورات تقدر بقدرها.
ويبرر ذلك بقوله: إن الدولة الإسلامية طالما سمحت بحرية الرأي السياسي وأباحت حرية المعارضة والنقد والمراقبة داخل النظام فلامبرر إذاً لوجود الأحزاب بعد ذلك.
ونحن نكتفي هنا في الرد على هذا الادعاء بالرجوع إلى التجربة مع الغض عن الأجوبة الأُخرى؛ إذ نادى الشيوعيون والاشتراكيون وكل الأنظمة السياسية التي حكمت العالم الثالث وهي تحكم اليوم بهذا المبدأ، وألغوا نظام التعددية الحزبية بعد أن طبقوا في بلادهم نظاماً متشدداً مغلقاً يتزعمه حزب واحد، فماذا كانت النتيجة ؟.
أصبح الحزب الحاكم مارداً أهوج مطلق العنان والسلطان لايحده حق ولاقانون؛ لأنه ليس له منافس يعارضه ويكشف أخطاءه ومواقفه المتطرفة، وأصبح الحاكم الذي يرأس هذا الحزب أيضاً دكتاتوراً مطلقاً لايرد له قول، ولايناله نقص أو فشل.
وعلى الرغم من المحاولات التي أبدتها بعض تلك الأنظمة المستبدة ونتيجة للضغوط الداخلية المستمرة المطالبة بالحرية والداعية لتنشيط النقد داخل الحزب الحاكم نفسه أو في مجلسها النيابي تحت اسم تجربة النقد الذاتي في محاولة لإيجاد المعارضة الداخلية بدلاً عن معارضة الأحزاب المنافسة.
ولكن هذه المحاولات باءت بالفشل؛ وذلك لأن كل عضو داخل الحزب الحاكم أو المجلس مضطر الى مجاملة رئيسه أو زميله ولو على حساب المصلحة العامة. الأمر الذي يكرس الانغلاق ويزيد من تعامي السلطة عن الحقائق وتماديها في المظالم والأخطاء، وهكذا حتى يصل نظام الحزب الحاكم في نهاية المطاف إلى الديكتاتورية المغلقة وإلى قتل الحريات.
ولهذا نرى أن الشيوعية والاشتراكية التي كانت مهد الديكتاتورية الحزبية تخلت في الآونة الأخيرة عن نظرتها هذه، وتراجعت عن موقفها، حيث انفجرت فيها دعاوى التغيير والإصلاح الداعية إلى رفض الفردية والمناشدة بالتعددية الحزبية كبديل منطقي لديكتاتورية الحزب الواحد جراء تفاقم التذمر الشعبي والوطني وازدياد النقمة الشعبية ضد الإرهاب والقمع وكل وسائل الديكتاتورية.
هذه الردة العنيفة التي أجبرت بعض دول العالم الثالث أيضاً إلى الإعلان أو التظاهر بتغيير مناهجها السياسية في الحكم سعياً إلى الديمقراطية. كل ذلك للنتائج الوخيمة التي أفرزتها لنا تجارب الأنظمة السياسية التي تعتمد على حكومة الحزب الواحد.
ولو أن الحكم الإسلامي يكرر نفس هذه التجربة الفاشلة وراح يصادر الأحزاب وحرية المعارضة مكتفياً بحزب إسلامي واحد هو الحزب الحاكم لوقعنا في نفس النتائج السيئة، ولتحول الأمر الى عهود الخلافة الماضية، كالخلافة الأموية والعباسية والتركية التي كان الخلفاء فيها يعدمون خصومهم السياسيين باسم الدين، وكان أبسط جزاء يناله صاحب الرأي المعارض هو السجن أو المشنقة بفتوى شرعية، ولاأحد يعارضهم في ذلك.
الأحزاب الشرعية
ليست الأحزاب السياسية مقبولة في الإسلام بشكل كلي، وليست مرفوضة بشكل كلي أيضاً، بل بعض الأحزاب يؤيدها الإسلام ويعتبرها واجباً من الواجبات الشرعية الملزمة على المسلمين، وبعضها الآخر ليس أنه لايؤيدها، بل يحرمها ويعتبرها من الممارسات الخارجة عن القانون.
فمن الأحزاب ماهو واجب في نظر الإسلام، ومنها ماهو حرام، والمعيار الصحيح الذي يمكن أن نحكمه في تشخيص الأحزاب المشروعة عن غيرها يتم بدراسة عدة أُمور:
1-المنطلقات
2-الأهداف
3-الوسائل
ولكل واحدة من هذه الأُمور الثلاثة ضوابط وأُصول وضعها الإسلام لدى تشريع قانون الأحزاب، وأهم الأُصول الشرعية التي يجب مراعاتها لدى القيام بأي عمل أو نشاط سياسي وخاصة الأحزاب من حيث المنطلقات والاهداف والوسائل أصلان هما:
1-أن تكون منطلقات الحزب وأهدافه ووسائله في إطار الشريعة وحسب موازين الإسلام.
2-وإلاّ كان لابد أن تكون ضمن الأهداف والمنطلقات والأخلاق الإنسانية.
فعلى الرغم من التطابق الكبير بين المبادىء الإسلامية والمبادىء الإنسانية بل هما وجهان لحقيقة واحدة، ولكن ربما تختلف من حيث الأهداف، فإنه ليس بالضرورة أن يكون الحزب الذي ينطلق من منطلقات إنسانية أن يضع في ضمن أهدافه تطبيق سياسة الإسلام في السلطة وإن كان يحترمها في ذاته، كبعض الأحزاب الوطنية النزيهة فإنها تتوخى خدمة الشعب والوطن بغض النظر عن كون الحكومة التي تتطلع إليها حكومة إسلامية أو وطنية، بعكس الاحزاب الإسلامية التي تهدف إلى تكوين حكومة إسلامية كاملة.
فكل حزب سياسي يريد أن يعمل في البلاد الإسلامية لابد له أن يوفر في مقومات وجوده وكيانه كلا الأصلين أو أحدهما على الأقل، ومن دونه لايحظى بأدنى مرتبة من شرعية الوجود ولا البقاء.
وبذلك بات واضحاً أن الحزب السياسي الذي له إجازة ممارسة الحكم أو العمل السياسي والذي قد يكون وجوده من الواجبات الشرعية المفروضة على المسلمين هو الذي يكون منطلقه وهدفه ووسيلته لذلك الهدف هو الاسلام والإنسان، وهذا الوجوب الشرعي نابع من قاعدتين شرعيتين تقول الأُولى منها:
إن إقامة الحكم الإسلامي وتطبيق أحكام الإسلام السياسية كباقي أحكامه الأُخرى من الواجبات الشرعية المؤكدة المستفادة من قوله تعالى: (أَنْ أَقِيمُواْ الدّينَ )(2)، وإذا ثبت أن إقامة الحكم وتطبيق أحكامه متوقف على وجود الاحزاب السياسية يصبح وجودها واجباً من باب مقدمة وجود الواجب على تفصيل ذكره علماء الأصول في محله.
إن قوة المسلمين وعزتهم وتحصنهم في مقابل الأعداء والخصوم وإدارة شؤونهم وإيجاد الأمن والنظام في أُمورهم الاجتماعية والسياسية دفعاً للفوضى والهرج والمرج واختلال النظام من الواجبات الشرعية أيضاً؛ إذ قال تعالى: (وَأَعِدّواْ لَهُمْ مّا اسْتَطَعْتُمْ مّن قُوّةٍ.. )(3)، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ((الاسلام يعلو ولايعلى عليه.. )) (4).
ومن الواضح أن إعداد القوة والتهيئة للدفاع وردع الهجمات العدوانية على المسلمين والمنع من تقديم غير المسلمين عليهم أو تحديد ذلك التقدم كما أن إيجاد النظام وحسن التدبير والإدارة وغيرها من المهمات التي تستدعي قدرة وتخطيطاً وتنفيذاً لايمكن أن يقوم بها الأفراد المتفرقون عن بعضهم البعض، وإنما بحاجة إلى توفير جماعات منظمة قادرة على القيام بذلك، وهذه ليست إلاّ الأحزاب، فيكون وجودها واجباً أيضاً لكونها مقدمة وجودية للواجب.
ولكن يجب أن نعرف هنا أن الوجوب الشرعي الذي يلزمنا بتكوين الأحزاب السياسية الإسلامية لايبيح لنا العمل معها، أو حتى دعمها وإسنادها مالم يتوفر فيها شرط أساسي آخر، وهو ارتباطها بالفقهاء المراجع وحصولها على الإجازة الشرعية منهم في جواز العمل حسب الأدلة السالفة في باب شورى الفقهاء؛ لكونهم الولي الشرعي على الأُمة في هذه المجالات.
وأما إذا لم يحمل الحزب السياسي إذناً خاصاً من قبل مراجع التقليد فيبقى غير نافذ القرار، بل وغير جائز العمل حتى لو كانت منطلقاته وأهدافه نزيهة.
كما أن نفس القضية تجري على الأحزاب الوطنية فإنها إنما تكون حرة وتمتلك حق مزاولة العمل السياسي فيما إذا أحرزنا أنها لم ترتبط بالاستعمار، ولم تشكل طابوراً خامساً يخدم أهدافه، وإلاّ كانت محرمة أيضاً، ولهذه شرائط ومقومات ليس هنا محل بحثها.
الأحزاب اللاشرعية
وهناك أحزاب سياسية لاتتمتع بالشرعية الإسلامية، وتعتبر محرمة الوجود والنشاط؛ لأنها تقع مقدمة للحرام، ويكون الحزب السياسي محرماً إذا كان مقدمة لوجود البرلمان أو المجلس النيابي الذي لايجري حسب موازين الإسلام والمبادىء الإنسانية، فيحكم حسب الأهواء والمصالح الخاصة والنفعية؛ وذلك لانطباق عدة قواعد عليه، أهمها:
أ-كونه مقدمة للحرام، وهي محرمة على رأي بعض الفقهاء.
ب-كونه إعانة على الإثم والعدوان، والله تعالى يقول: (وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)(5)، وقد اتفق الفقهاء على حرمتها أيضاً.
ج-لأنه يهيئ الظروف الصالحة لإحياء الباطل وانتهاك الأعراض والأنفس والأموال وهدر الحقوق وهدم الاسلام وغيرها من المفاسد التي تعتبر من أشد المحرمات الشرعية في نظر الاسلام.
كما يحرم الحزب الإسلامي إذا كان خارجاً عن موازين السياسة الشرعية ولم ينضو تحت لواء الفقيه العادل الجامع للشرائط أو شورى الفقهاء المراجع، وأيضاً يعتبر محرماً إذا كان سبباً للديكتاتورية والاستبداد وتسليط من تأباه الأمة رئيساً عليها حتى لو كان فقيهاً عادلاً؛ وذلك لاشتراط الإسلام رضا الأُمة واعتبارها من أهم الأُسس التي تبتني عليها الحكومة الشرعية؛ ولذلك حرم الفقهاء نظام الحزب الواحد واعتبروه استئثاراً بالسلطة وديكتاتورية مقيتة حرمها الإسلام.
وبذلك يظهر أن الأحزاب السياسية التي يؤيدها الإسلام ويمنحها حق العمل السياسي وممارسة السلطة قسمان:
1-الأحزاب الإسلامية التي تهدف إلى تطبيق الاسلام.
2-الأحزاب الوطنية التي تتطلع إلى خدمة الإنسان والمبادىء الإنسانية.
وكل حزب آخر لايحظى بأحد هذين يعده الإسلام محرماً ومحظوراً كسائر المحظورات الشرعية الأُخرى، وهذا ليس كبتاً للحريات السياسية ولاتضييقاً في دائرة العمل، بل هو قطع لدابر الظلم والتعدي والانحراف الفكري والعملي؛ إذ من الواضح أن الأحزاب الملحدة أو المنحرفة عقيدياً أو تلك التي ترتبط بالدوائر الاستعمارية تهدف إلى تضليل الناس وتجهيلهم وسلب كل حقوقهم وخيراتهم وصبها في جيب الاستعمار، وهذا مما لايرتضيه أي أحد يملك فكراً صائباً ورؤية معتدلة وليس الإسلام وحده، فهل يصح لنا أن نجيز للقاتل حريته لكي يعتدي على الناس؟ أو هل يحق لنا أن نبيح للسارق المجال الواسع للسرقة ولانأخذ على يديه بحجة أنه حر ؟ وهل من المنطق أن نترك بلادنا نهباً للأطماع الاستعمارية ونبرر ذلك بالحرية؟.
كلاّ، فإن الحرية السائبة التي لاتتحدد في أُطر وموازين عقلائية وشرعية تبطل أن تصبح حرية، بل تنقلب إلى فوضى وعدوان لايصح السكوت عليه.
أقسام الأحزاب
على الرغم من التقسيمات الكثيرة التي أجراها علماء السياسة على الأحزاب إلاّ أننا قد نستطيع أن نلخص أكثر هذه التقسيمات ونرجعها الى تقسيم ثلاثي واحد يكشف لنا أبرز خطوطها واتجاهاتها، وهو كالتالي:
1- الاحزاب العقيدية
وهي تقوم على اختلاف العقائد وتباينها، فكل حزب يختلف وقد يتعارض أحياناً مع سائر الأحزاب الأُخرى التي تشاركه في ساحة العمل السياسي بحسب جذوره وعقيدته، فمنها الأحزاب العنصرية التي تقوم على تكتل عنصري معين مع الحط من باقي العناصر الأُخرى، كالفاشية التي تقوم على تكتل العنصر الجرماني وتفوقه على غيره، والنازية التي تدعي بتعالي العنصر الآري على باقي البشر وتسخيرهم من أجل مصالحه وأهدافه، وهكذا الأحزاب القومية العربية التي تنادي بتكتل العنصر العربي وحده، والأحزاب الصهيونية التي تسعى لتكتل العنصر اليهودي، ومنها الأحزاب الملحدة والعلمانية التي تقوم على أساس رفض الدين وتفنيد مبادئه كالأحزاب الشيوعية في قبال الاحزاب الدينية التي تعتقد بقدرة الدين على إدارة الحياة، وتدعو إلى ضرورة تطبيقه.
ومن الواضح أن النظرة الإسلامية للإنسان والمجتمع نظرة وحدوية تتعارض مع العقيدة العنصرية التي تقوم على الفصل والتمايز بين الناس، فإن الإسلام جاء للناس كافة، ولايؤمن بأي تفرقة تتم على أساس اللون أو العنصر أو اللغة، بل الكل في المبدأ والحقوق والواجبات سواء؛ ولذلك يرفض الإسلام أي دعوة تدعو لإحياء العنصرية، ويعتبرها نوعاً من التراجع إلى العصور الجاهلية المتخلفة؛ ولهذا تصبح القومية العربية دعوة عنصرية بغيضة لايسمح بها الإسلام علاوة على الأضرار السيئة والخطيرة التي تترتب عليها، حيث إنها تزيد من تمزيق العالم العربي فضلاً عن الإسلامي، ولاتوحده؛ لأنها تثير في أبناء الطوائف والعناصر الأخرى روح التعصب والعنصرية أيضاً، كالقومية الكردية في العراق وسوريا وغيرهما، والبربر في الجزائر، والأفريقية في أفريقيا وهكذا.
فضلاً عن تفكيك أواصر المحبة والأُخوة الإسلامية، فإن من الواضح أن المسلم غير العربي سوف لاتهمه قضايا المسلمين العرب وبالعكس، الأمر الذي رفضه الإسلام أشد الرفض وقضى عليه منذ أيامه الأُولى.
وأما الشيوعية فهي ضد الأديان والمبادىء الإنسانية، حيث تقول (باللاءات ) الخمسة التي تتنافى مع جوهر الإنسان وحاجاته الساسية؛ ولذلك فإنه ليس من العدل أو المنطق أن نسمح لدعوى تتضمن الخرافة والجهل أن تعمل في بلاد الإسلام، وهي تعمل على هدمه، وتنادي بغير تعاليمه، وتطالب بإزالته من الوجود تحت اسم الحرية، كما لم يسمح لها أي نظام سياسي آخر يتنافى جوهرياً مع الشيوعية، وليس في منع هذا القسم من الأحزاب الضارة اعتداء على الحرية السياسية أو تحجيماً في أُطرها الرحبة، فالدول الشيوعية نفسها تمنع الدعوات الدينية، كما أن الدول الرأسمالية تمنع الدعوات الشيوعية، وبالعكس.
2- الأحزاب الطبقية
وهي التي تقوم من أجل مصالح طبقية أو فئوية خاصة، كالأحزاب التي تنشأ من أجل مصالح العمال، والأُخرى التي تنادي بحقوق الفلاحين، وثالثة للتجار وأصحاب الرساميل وهكذا.
وهذا النوع من الأحزاب لايرفضه الإسلام ولايحظره حسبما تقدم من الشرائط؛ لأنه لايتعارض معه من حيث المبدأ؛ وذلك لأن الإسلام لايمنع أي شخص أو طبقة أو فئة من أن تطالب بصيانة حقوقها وتلبية حاجاتها كحق من حقوقها السياسية المشروعة، بل إنه يشجع هذا النوع من الأحزاب إذا كانت تهدف المصلحة الوطنية للطبقات، وإذا كانت تتوفر فيها الشرائط الأساسية للحزب الشرعي.
3- الأحزاب الشعبية
وهي التي تقوم جميعها على مبدأ واحد كالدين في الأحزاب الإسلامية، والوطن في الأحزاب الوطنية، تشترك فيه من حيث الأُصول والأهداف، ولكنها تختلف من حيث الوسائل وأُسلوب التطبيق وروحه؛ إذ تنقسم الى:
المتشدد وربما يصطلح عليه باليسار، والمعتدل أو الوسط وقد يصطلح عليه اسم المحافظ، والمتساهل وقد يطلق عليه اسم اليمين.
ويكون الهدف الحقيقي وراء تشكيل هذا النوع من الأحزاب هو التأمين على الديمقراطية والحرية السياسية للشعب من خلال أجواء المنافسة الحرة والرقابة القانونية الشديدة بين الأحزاب من أجل الوصول إلى السلطة.
إذ يمارس الحزب السياسي الذي يحتل موقعاً خارج الحكم رقابة مستمرة ودقيقة على الحزب الآخر الذي يتولى الحكم، فيعينه إذا أصاب، ويكشف أخطاءه إذا انحرف، ويتوازن معه في الشدة أو المرونة في حل الأزمات ومعضلات الأُمور، بل ويحاسبه على كل خطوة أو قرار فاشل ربما يكون قد ارتكبه الحزب الحاكم في حق الدولة والشعب، ومن هنا تتميز هذه الأحزاب بعدة خصائص ومميزات هي:
1-أنها أحزاب حرة تضم عدداً لايستهان به من الأعضاء والمنتسبين، وليست أحزاباً متسلطة تعمل على الانتشار بالسلطة لتصبح الحزب الوحيد والقدرة الوحيدة التي تمسك بزمام الحكم والعقيدة والإعلام.
2-تنظم بشكل ديمقراطي، وتمارس سياسة مفتوحة أو معتدلة تأخذ بعين الاعتبار مطالب الجماهير وميولهم وحاجاتهم، وتعمل على الاحتفاظ بقاعدتها الشعبية وكسب أكبر عدد ممكن من الأعضاء والمنتسبين.
3-أنها تسعى لأن تتقدم باستمرار ببرامج إصلاحية متطورة وقابلة للتحقيق في المنافسة الانتخابية من أجل ضمان الرأي العام الذي هو الطريق الشرعي الوحيد الذي ينتهي إلى السلطة.
4-كما أن عليها الحفاظ على الوعود والشعارات التي تقدمت بها كيلا توصف بالانتهازية واللاأخلاقية، ويالتالي الفشل الذريع؛ وذلك لما يمتلكه الناخبون في أجواء المنافسة الحزبية الحرة من القدرة على عزل السلطة أو سحب الثقة منها بكل سهولة ويسر؛ إذ يحجبون أصواتهم عن الحزب الذي لايحترم تعهداته، وبذلك يتصرفون في مصير الحكومة.
5-ولذلك فإن هذه الأحزاب غالباً ماتتصف بالاعتدال والتساهل نظراً للتصارع الديمقراطي بين مختلف الاتجاهات والأطراف التي توجد داخل الحزب نفسه من جهة وبين الأحزاب الأُخرى المنافسة في الساحة.
وواضح أن هذا النوع من الأحزاب السياسية لايتعارض مع مبادىء الاسلام، ولامع التطبيق العملي للإسلام، بل إنه أهم من ذلك يعتبر ضرورة لابد منها في الحياة السياسية ولاغنى عنها لتطبيق الإسلام وصيانة الحكم من الانحراف أو التطرف أو الشطط.
كما أن هذا النوع هو الذي يتحكم في الأنظمة الديمقراطية الحرة أو شبه الحرة، فإن بعض هذه البلاد كأمريكا وبريطانيا يوجد حزبان رئيسيان تصب فيها عشرات الأحزاب الصغيرة، وفي بعضها الآخر أكثر من أربعة أو خمسة أحزاب رئيسية كالدول الاسكندنافية تتفق على المبادىء الجوهرية للنظام السياسي والأهداف الوطنية الرئيسية بما لايبقى لها أي مجال للخلاف عن بعضها البعض من حيث المبدأ والتنظيم سوى الوسائل والتكتيكات، فإن أحدها يتبع أساليب متشددة في تطبيق المبدأ، والآخر يمارس سياسة متساهلة بعض الشيء، وآخر معتدل، وهكذا كل ذلك في أجواء ديمقراطية حرة، فتحفظ عليها عمليات الرقابة والنقد والمنافسة الدائمة التي تمنح الجميع فرصة الوصول إلى السلطة وتطبيق الخطط والبرامج الخاصة التي تراها صالحة لخدمة الشعب والوطن.
* فصل من كتاب الحرية السياسية
** استاذ البحث الخارج في حوزة كربلاء المقدسة
1) راجع الوسيط في القانون الدستوري: ص132.
(2) الشورى: 13.
(3) الانفال: 60.
(4) المبسوط: ج2، ص130.
(5) المائدة: 2.
أولاً: تعتبر الأحزاب السياسية أهم أداة تستعمل في ممارسة الحكم وإدارة العمل السياسي، وإحدى أهم الوسائل التي تمتلك القدرة على التأثير في الرأي العام وتكوين الإرادة الشعبية؛ إذ بات من الواضح اليوم أن الأنظمة الديمقراطية المتطورة بدت ترتقي في العمل السياسي إلى صراع الأفكار والبرامج السياسية بعد أن كان الاتجاه الفردي وعظمة الأشخاص هو صاحب الرقم الكبير المؤثر في العمل والمنافسة السياسية.
ولاتوجد وسيلة أفضل من الأحزاب تكون قادرة على إعداد البرامج وبلورة الأفكار والخوض في هذا الصراع الجديد؛ إذ لايمكن لأي سلطة حاكمة تؤمن بالديمقراطية كنظام للحكم أن تسير بصورة جيدة بدون وجود أحزاب سياسية، فالأحزاب هي الأدوات الضرورية لتنوير الرأي العام أولاً، وإعداد الناخبين والنواب وتهيئتهم للحكم ثانياً، وإيجاد علاقة الاتصال الدائم بين الجماهير والنواب ثالثاً، وإيصال السلطة إلى واقع الجماهير والتعرف على حاجاتهم ومشاكلهم رابعاً.
فتشكل الأحزاب إذاً أدوات تكوين الرأي العام لكونها تحمل أهدافاً سياسية كبيرة لايمكنها الوصول إليها إلاّ بجمع المواطنين الذين يؤيدون نفس الأفكار ويتابعون نفس الأهداف والبرامج السياسية التي تحملها، ولكونها تعمل على تثقيف الناخبين وإعدادهم من خلال التوفيق بين الآراء المختلفة وصهرها في رأي واحد من جهة أُخرى.
وبذلك تكون الأحزاب وبفضل دورها في إعداد الناخبين والنواب وسيلة التلاقي الدائم والعلاقات المتبادلة بين الممثلين وبين الشعب، وتكون قادرة على إلغاء الفصل بين السلطة والشعب وانعزال أحدهما عن الآخر؛ إذ إن أعضاء الحزب وناخبيه يؤمنون حواراً دائماً بين النواب وبين مجموع المواطنين.
ثانياً: لم تعد الأحزاب السياسية الوسيلة التي تنمي الأفكار، وتحل المشاكل لدى الأفراد، كما لم تبق الحاجة إلى تهيئة المناخ المناسب لاكتساب الاتجاهات والمهارات، والشعور بالأمن والاطمئنان، وإشباع حاجة الانتماء والتجمع. هذه كلها لم تبق هي الدافع الوحيد لتكوين الأحزاب ونشوئها ونموها؛ لأن الصراع السياسي لم يعد صراعاً بين أشخاص وأفراد، بل صراع أفكار وبرامج سياسية يعجز عن القيام بها الفرد أو الأفراد.
بل إن التطور الذي رافق مفاهيم الدولة والحكومة والحياة السياسية والتحول إلى مراحل الدولة الإقليمية والدولة الأُمة رافقه تطور آخر على صعيد الشعب والجماهير أيضاً، حيث أصبح الشعب محور السطة ومصدر القانون وصاحب الحكم ومالكه الحقيقي. فبدلاً من ((أنا وهو الدولة )) أو ((الملك يساوي الدولة )) أصبح ((الشعب يساوي الدولة )) أو ((نحن وأنتم وهم والجميع هم الدولة )) فالحكومة ملك للجميع.
هذه الديمقراطية لايمكن ممارستها من قبل الشعب ككل، ولاأفراد من الشعب، وإنما بحاجة إلى أجهزة حزبية ومؤسسية تنوب عنه في ذلك، وتمثله في ممارسة سلطاته السياسية بعد عجز السبيل الفردي عن حماية الحقوق واحترامها.
ثالثاً: أن عامل النزعة التسلطية لدى الأفراد أنشب صراعاً محتدماً بين الحاكمين والمحكومين للحد من تجاوزات إحداهما على الأُخرى، فإذا كانت الغلبة للسلطة الحاكمة اتصف النظام بالاستبداد والديكتاتورية – كما في أغلب بلدان العالم الثالث – وبتقليص الحريات العامة وسحق الحقوق، وأما إذا كان النصر حليف الفئة المحكومة فاتصف النظام بالديمقراطية، حيث ينطلق فيه الأفراد من إسارة الحكومة فيسمح لهم بحرية التعبير، وحرية التجمعات السياسية والنقابية وباقي الحريات الإنسانية.
وسواء كان نظام الحكم من النوع الأول أو الثاني فإنه لابد للطبقة الحاكمة في كل من النظامين أن تستند إلى حزب أو أحزاب لتدعم كيانها، فالحزب أو الأحزاب التي تهدف في بدء تكوينها إلى محاربة الدولة واكتساب السلطة غدت عاملاً مهماً في تكوين السلطة، فلابد إذاً لكل نظام من الاعتماد على الشعب أو على جزء منه – الآحزاب – ليستمر في البقاء والمحافظة على كيانه.
رابعاً: أن المعيار الدقيق لتمييز ديمقراطية نظام الحكم متوقف على مدى مشاركة النظام الحزبي في الحكم ودوره في التأثير فيه؛ إذ عرفوا الحزب السياسي بأنه مجموعة منظمة من المواطنين يهدف الدفاع عن آراء ومصالح محازبيه، ويهدف الحصول على تحقيق برنامج من الاصلاحات من خلال مشاركته في الحياة السياسية بالوسائل التالية: نشر العقيدة الحزبية، استخدام وسائل التأثير الإعلامي وغيره على مجموع الشعب، والسيطرة كلياً أو جزئياً على السلطة(1).
وهو تعريف يقتضي بطبعه حرية العمل الحزبي بكافة أقسامه وصنوفه، وهو يعني وجود التعددية الحزبية التي هي من أبرز مظاهر الديمقراطية السياسية؛ لأن وجود الأحزاب السياسية يمكن الجماهير من تنسّم الحريات والتعبير عن آرائها وإبداء رغباتها، والمجتمع الديمقراطي الذي تتعدد فيه الآراء والاتجاهات السياسية دائماً والتي تختص الأحزاب السياسية في التعبير عنها يأبى أن يتضيق بوحدة في الرأي والاتجاه، وبالتالي فرض حزب واحد عليه؛ لأنه عمل ديكتاتوري مرفوض سلفاً في كل مجتمع حر.
فالتعددية الحزبية التي هي ضرورة من ضرورات المجتمعات الإنسانية تكون أيضاً المصدر الأساسي لتصنيف الأنظمة السياسية وتمييزها بين أنظمة ديمقراطية تتخذ من حرية التعبير والرأي والانفتاح وسيلة لإدارة نظام الحكم، وأنظمة استبدادية مغلقة تضيق من حريات المواطن السياسية، وتفرض عليه الأحادية الحزبية الى جانب مصادرة حقوقه.
خامساً: أن التعددية الحزبية تتطلب أن يكون لجميع الاحزاب المتنافسة على السلطة مشاريع وبرامج تهدف إلى إصلاح نظام الحكم وتوفير الرفاهية للشعب وإيجاد الحلول السلمية لكافة أزماته ومشاكله الحيوية، كمشكلات الأُجور والأسعار ومكافحة الأزمات الاقتصادية والسياسية، وخاصة البطالة واحتكار السلطة وتجنب الحروب وأمثالها، ومن هنا تنشأ منافسات شديدة بينها من أجل كسب ثقة الشعب والحصول على دعمه في الجولات الانتخابية المعقودة لكسب السلطة.
الأمر الذي يحفظ الشعب من مخاطر الاستبداد والفردية، ويضمن له حياة ديمقراطية تسودها أجواء التنافس الحر؛ وذلك لأن الأحزاب السياسية تخطو في سبيل الانتصار على خصومها المنافسين عدة خطوات إيجابية تعينها على تقديم برامجها إلى الأمام في قبال إفشال برامج الخصوم أو تضعيفها.
فمثلاً: كل حزب سياسي يعقد مؤتمرات دورية للإعلان عن خططه وبرامجه يعرضها على الشعب لغرض كسب أصواته.
ومن أجل أن يتجنب كل حزب الهزائم الانتخابية ويغلق على خصومه أبواب الانتصار الشعبي أو من أجل أن لايفقد ثقة الجماعات باطروحاته على الأقل يجهد لأن تكون برامجه متفقة مع مبادىء الحزب أو أقرب إلى الواقع والتطبيق بعيدة عن الوعود المثالية الكاذبة.
كما يهتم لأن يكون موضوعياً متسلحاً بالمنطق والنظرة الإيجابية الفاحصة لدى مناقشة برامج الخصوم ونقدها أمام الجماهير، ويتجنب الطعن أو التطرف في الآراء لكي يتحفظ على ابقاء المراقبة في حيز المنافسة الباردة، ولم تتجاوزها الى الصراع الحار حذراً من تعرض مشروعه لنفس الأُسلوب من النقد ومن رد الفعل السلبي الذي قد يصيب الجماهير جراء الممارسات العنيفة البعيدة عن آداب التنافس الحر، ومن خلال هذه الخطوات التي يتبعها كل حزب يتمتع الشعب بأجواء ديمقراطية حرة يسودها التفاهم والحوار، ويملك فيها القدرة على الاختيار والتحكم في مصيره، حيث نجد أن المعارضة تظل نشطة حتى بعد انتهاء فترة الانتخاب وتولي الحزب المنتصر زمام الحكم، إذ تسعى كثيراً للتودد إلى الشعب وكسب رضاه، وتنتظر بفارغ الصبر الجولة القادمة للانتخاب.
وفي المقابل يقدم لها الحزب الحاكم أيضاً شتى التسهيلات اللازمة للحفاظ على كيانها التنظيمي وإدارة شؤونها الحزبية الخاصة، كما يمنحها الوسائل والإمكانات الكافية التي يعينها على مراقبة السلطة ونقدها داخل البرلمان أو أجهزة الصحافة والإعلام.
واحتراماً لنظام التعددية الحزبية وتأكيداً لحق التنافس الحر يحظى زعماء الأحزاب السياسية المعارضة بمكانة خاصة لدى الحزب الحاكم في الأنظمة الديمقراطية الراقية، حيث يمتلك زعيم الحزب الخاسر مكتباً خاصاً في البرلمان يوفر له فرصة المراقبة والاطلاع، ويتقاضى راتباً شهرياً أيضاً من قبل الدولة كمكافأة من قبلها تمكنه من الانصراف إلى الشؤون السياسية الموضوعية.
وظائف الأحزاب السياسية
لكي تثبت مصداقية الأحزاب السياسية بأنها أداة حكم ووسيلة معارضة تساهم في صنع إرادة الأُمة وسيادتها يجب أن تقوم بعدة وظائف وأدوار هي:
الأولى: الوظيفة التوحيدية
بتحفيز وتوحيد الأفكار المختلفة واختيار القرارات السياسية المهمة؛ إذ تتطلب الحياة السياسية تمحور الآراء الفردية، والاتجاهات الشخصية المختلفة حول مجموعة أُصول وقواعد ينتج عنها طائفة من المرتكزات والتصورات والمفاهيم المسيطرة الواضحة الأبعاد، ومهمة هندسة وتقنية الرؤى والأفكار المتعددة وبلورتها وتحويلها الى خيارات استراتيجية كبرى تهم الجميع تعتبر من أهم الوظائف التي تقع على عاتق الأحزاب السياسية؛ لأن المجتمع الذي تتشعب فيه المواقف والأهواء وتتضارب فيه الآراء والميول السياسية يصعب فيه بروز تيار فكري مسيطر وجامع للشتات المتناثر لولا الحافز الذي تبعثه الأحزاب السياسية.
الثانية: الوظيفة التربوية والإعلامية
أي تولي تثقيف الأعضاء أو نخبتهم الذين يملكون قدرة فائقة في الدفاع عن آراء الحزب ومبادئه وأهدافه، ومدهم بالمعلومات التي يستطيعون بها ممارسة أو مواجهة التغييرات الضرورية أو الطارئة على صعيد الشعب أو الحكومة، وخلق أجواء الحوار والتفاهم فيما بينهما، فتكون بهذا نقطة اتصال تنقل إلى الفئة الأُولى مطالب الفئة الثانية مع تنسيق بنودها وتبيين فلسفتها التي غالباً لايعبر عنها الشعب بصورة مركزة وواضحة، وتنذر فئة الحكومة بوجوب تحقيق تلك المطالب والسعي من أجلها، وهذا يستدعي الاتصال الدائم بالأحداث. هذا من جهة.
ومن جهة أُخرى تقوم بدور هندسة قواعد الحكم وعناصر النظام التي يرتكز عليها للاستيلاء على السلطة أو البقاء فيها، وهذا الدور الإعلامي لايقتصر على العضو أو النائب أو الحكومة، بل يتعداه إلى المواطن أيضاً؛ إذ يقوم بمده بالأفكار والإرشادات التي تنمي لديه ملكة الفهم للظواهر والأحداث السياسية والاجتماعية، وتساعده على اختيار الأكفأ والأنسب لمصالحه.
الثالثة: الوظيفة الانتقائية والوسيطية
بتسليط الضوء على النواب الذين يمتلكون الكفاءة والقدرة الكافية على الإدارة في الوقت الذي تنتقي المرشح الأوفر حظاً بالنجاح، وتدفعه الى المسرح لكي يتولى الشعب اختيار مرشحيه بإدراك ووعي – سواء على صعيد الحكومة أو البرلمان – بل يبرز الدور الانتقائي للحزب بصورة جلية على صعيد الدائرة الانتخابية، والمرحلة الزمنية معاً؛ إذ يختار الحزب الدائرة التي يتأمل فيها فوز المرشحين الذين لهم قدرة سد الحاجة التي تتطلبها الدائرة الانتخابية، أو اختيار المرشحين الذين لهم قدرة أكثر على الانسجام مع متطلبات المرحلة السياسية، كما يجري في بعض الدول الديمقراطية المتقدمة.
ولكن يجب أن يخضع النائب حال انتخابه لتعليمات الحزب وتوجيهاته، كما عليه أن يضع المصالح العامة فوق مصالحه الشخصية، وفي حالة الشذوذ عن الانضباطية يتعرض لعقوبة الفصل وإسقاط الثقة الشرعية.
وتظهر هذه الوظيفة جلية في أحزاب الأطر أو أحزاب الأحرار والمحافظين في معظم البلدان الأُوربية وأميركا، وكذلك أغلبية الأحزاب اللبنانية، والسبب في ذلك يرجع إلى أن هذه الأحزاب ترتكز على عامل الثروة أو المركز الاجتماعي والثقافي أو الطائفي في اختيار الصفوة دون أن تفتح باب الانتساب على مصراعيه، بعكس الأحزاب الجماهيرية.
بينما لاتبرز أو تضمحل هذه الوظيفة في الدول ذات نظام الحزب الواحد، حيث لاوجود للمعارضة، فالحزب يقدم مرشحاً واحداً عن الدائرة الانتخابية وفق موازين الولاء والالتزام التعبدي بمبادىء الحزب وقيادته التي لها رئاسة الحكومة دائماً، ويجب على الشعب أن يتولى المصادقة على ترشيحه فوراً من دون أن يكون له حرية الخيار.
الرابعة: الوظيفة الإدارية
يصعب على السياسيين أن يقوموا بالمسؤولية السياسية خارج الأحزاب، فحياة الرجال السياسية الخاصة لاتكفي للإحاطة الكاملة بمجريات السياسة، والدخول في مطباتها، والخوض في غمارها، كما يتعسر الحكم بكفاءات الأفراد، وتشخيص قدراتهم نظراً لتضارب المواقف السياسية وتعددها تبعاً لتعدد الأشخاص واختلاف مشاربهم في فهم الأحداث وتفسير أسبابها.
بينما الأحزاب التي تتمتع بوحدة المواقف المتصفة بالديمومة والاستمرار تستطيع أن تحل محل الأفراد لتضطلع بالمسؤولية السياسية والقيام بمهامها وأداء حقوقها واحترامها، وفي حال عدم احترامها للمبادىء التي وجدت من أجلها سينجم عنها فقدان السلطة، أو خسارة الاحتفاظ بها، الأمر الذي تتجنبه الأحزاب السياسية دائماً.
ولاتقتصر فوائد الأحزاب وأدوارها التنظيمية على هذا فحسب، بل أصبح اليوم وجودها وتعددها وتوسعها في الدول والمجتمعات أبرز مظهر من مظاهر الحرية السياسية وممارسة السيادة الوطنية لأبناء الشعب على ترابهم، ومن دونه سيعني تحكم الحزب الواحد، والخط الواحد، والنظام الواحد، والملك الواحد، والرئيس الواحد، وكل شيء واحد، الأمر الذي يمنع الإنسان بجد من التنعم بأبسط حقوقه السياسية والاجتماعية على الأرض.
لماذا الأحزاب ؟
قد يقول قائل: طالما أن الهدف الأساسي الذي نتوخاه من وجود الأحزاب السياسية يتركز في علة واحدة هي حماية الحرية وإبداء الرأي وتنبيه الحاكم على أخطائه، فلماذا لانكتفي بحرية الرأي التي يكفلها لنا الإسلام كما كان في عهد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) من دون حاجة إلى الأحزاب بمشاكلها وعيوبها ؟
وللإجابة على ذلك نقول:
1-أن الحزب المنظم أقوى على المراقبة والنقد والمعارضة للسلطة الحاكمة من الجهد الفردي المبعثر، وأقدر على منع التجاوز وإيقاف الظلم وضمان الحقوق السياسية للأفراد، بل وأكثر هيبة للحاكم من الأفراد المتفرقين، وفوق ذلك أن الجماعة والحزب أقدر على سحب الثقة من الحكومة وحتى عزلها إذا تمادت في علوها، وتجاهلت النصح والتحذير.
2-أن الجهاز الحزبي أقدر على دراسة المشاكل المعقدة والخطط والبرامج الحكومية وإبداء الرأي فيها لما يمتلكه من لجان ومراجع علمية وفنية مختصة بمناقشة هذه الأُمور، حتى إن بعض الدول العريقة في الديمقراطية تقيم لنفسها حكومة بديلة مكونة من الأحزاب المعارضة لها تسميها حكومة الظل، بحيث يصبح كل وزير في الحكم وحتى رئيس الوزراء نفسه له ظله في المعارضة يراقب أعماله، ويكشف أخطاءه أولاً بأول، حتى إذا ثبت عجزه وفشله حل محله ليقوم بما كان ينبغي أن يقوم به الوزير المعزول من مهام وأدوار، مع الحفاظ على استمرارية السلطة وثبات نظام الحكم، ومن الواضح أن هذه المهمة صعبة لايمكن أن يؤديها الأفراد مهما أُوتوا من نبوغ وعظمة.
3-أن وجود الأحزاب يساهم مساهمة فعالة في تنمية المشاريع السياسية والاقتصادية والعمرانية وصبها في صالح الشعب، أي إن النظام الحزبي يساعد الشعب على التقدم والتطور والرفاه في المجالات الحيوية كافة.
ولهذا فإننا نجد أن البلاد الديمقراطية التي تعطي للأحزاب السياسية مكانة كبيرة في إدارة الدولة وتشهد ساحتها السياسية منافسة حزبية قوية أكثر تطوراً وإنتاجاً وتوفيراً للأمن والاستقرار من أي بلد ديكتاتوري آخر يحكمه نظام الحزب الواحد، ولم نسمع يوماً أنها اشتكت من أزمة التخلف أو تعطيل البرامج والمشاريع التنموية.
4-وأخيراً فإن العمل بنظام الأحزاب يشكل البديل الصحيح الوحيد للدكتاتورية ونظام الحزب الواحد؛ إذ إننا لو ألغينا قانون الأحزاب من قائمة العمل السياسي في الدولة الإسلامية لم تبق لنا أية وسيلة تمكننا من ضمان الديمقراطية، وفي هذا يكون الرد الصريح لمن يخاصم النظام الحزبي أو يعتقد عدم جدوائيته خاصة في ظل الإسلام، حيث يقول: إن الإسلام لايؤمن بالأحزاب، ولابد للحاكم الإسلامي أن يلغي جميع الأحزاب السياسية الأُخرى، وعدم السماح بوجود حزب معارض يمكن أن ينازع السلطة حكمها، وإذا كان لابد من وجود الحزب فإن الضرورة تقتضي أن نسمح بنظام الحزب الواحد وهو حزب الإسلام؛ لأن الضرورات تقدر بقدرها.
ويبرر ذلك بقوله: إن الدولة الإسلامية طالما سمحت بحرية الرأي السياسي وأباحت حرية المعارضة والنقد والمراقبة داخل النظام فلامبرر إذاً لوجود الأحزاب بعد ذلك.
ونحن نكتفي هنا في الرد على هذا الادعاء بالرجوع إلى التجربة مع الغض عن الأجوبة الأُخرى؛ إذ نادى الشيوعيون والاشتراكيون وكل الأنظمة السياسية التي حكمت العالم الثالث وهي تحكم اليوم بهذا المبدأ، وألغوا نظام التعددية الحزبية بعد أن طبقوا في بلادهم نظاماً متشدداً مغلقاً يتزعمه حزب واحد، فماذا كانت النتيجة ؟.
أصبح الحزب الحاكم مارداً أهوج مطلق العنان والسلطان لايحده حق ولاقانون؛ لأنه ليس له منافس يعارضه ويكشف أخطاءه ومواقفه المتطرفة، وأصبح الحاكم الذي يرأس هذا الحزب أيضاً دكتاتوراً مطلقاً لايرد له قول، ولايناله نقص أو فشل.
وعلى الرغم من المحاولات التي أبدتها بعض تلك الأنظمة المستبدة ونتيجة للضغوط الداخلية المستمرة المطالبة بالحرية والداعية لتنشيط النقد داخل الحزب الحاكم نفسه أو في مجلسها النيابي تحت اسم تجربة النقد الذاتي في محاولة لإيجاد المعارضة الداخلية بدلاً عن معارضة الأحزاب المنافسة.
ولكن هذه المحاولات باءت بالفشل؛ وذلك لأن كل عضو داخل الحزب الحاكم أو المجلس مضطر الى مجاملة رئيسه أو زميله ولو على حساب المصلحة العامة. الأمر الذي يكرس الانغلاق ويزيد من تعامي السلطة عن الحقائق وتماديها في المظالم والأخطاء، وهكذا حتى يصل نظام الحزب الحاكم في نهاية المطاف إلى الديكتاتورية المغلقة وإلى قتل الحريات.
ولهذا نرى أن الشيوعية والاشتراكية التي كانت مهد الديكتاتورية الحزبية تخلت في الآونة الأخيرة عن نظرتها هذه، وتراجعت عن موقفها، حيث انفجرت فيها دعاوى التغيير والإصلاح الداعية إلى رفض الفردية والمناشدة بالتعددية الحزبية كبديل منطقي لديكتاتورية الحزب الواحد جراء تفاقم التذمر الشعبي والوطني وازدياد النقمة الشعبية ضد الإرهاب والقمع وكل وسائل الديكتاتورية.
هذه الردة العنيفة التي أجبرت بعض دول العالم الثالث أيضاً إلى الإعلان أو التظاهر بتغيير مناهجها السياسية في الحكم سعياً إلى الديمقراطية. كل ذلك للنتائج الوخيمة التي أفرزتها لنا تجارب الأنظمة السياسية التي تعتمد على حكومة الحزب الواحد.
ولو أن الحكم الإسلامي يكرر نفس هذه التجربة الفاشلة وراح يصادر الأحزاب وحرية المعارضة مكتفياً بحزب إسلامي واحد هو الحزب الحاكم لوقعنا في نفس النتائج السيئة، ولتحول الأمر الى عهود الخلافة الماضية، كالخلافة الأموية والعباسية والتركية التي كان الخلفاء فيها يعدمون خصومهم السياسيين باسم الدين، وكان أبسط جزاء يناله صاحب الرأي المعارض هو السجن أو المشنقة بفتوى شرعية، ولاأحد يعارضهم في ذلك.
الأحزاب الشرعية
ليست الأحزاب السياسية مقبولة في الإسلام بشكل كلي، وليست مرفوضة بشكل كلي أيضاً، بل بعض الأحزاب يؤيدها الإسلام ويعتبرها واجباً من الواجبات الشرعية الملزمة على المسلمين، وبعضها الآخر ليس أنه لايؤيدها، بل يحرمها ويعتبرها من الممارسات الخارجة عن القانون.
فمن الأحزاب ماهو واجب في نظر الإسلام، ومنها ماهو حرام، والمعيار الصحيح الذي يمكن أن نحكمه في تشخيص الأحزاب المشروعة عن غيرها يتم بدراسة عدة أُمور:
1-المنطلقات
2-الأهداف
3-الوسائل
ولكل واحدة من هذه الأُمور الثلاثة ضوابط وأُصول وضعها الإسلام لدى تشريع قانون الأحزاب، وأهم الأُصول الشرعية التي يجب مراعاتها لدى القيام بأي عمل أو نشاط سياسي وخاصة الأحزاب من حيث المنطلقات والاهداف والوسائل أصلان هما:
1-أن تكون منطلقات الحزب وأهدافه ووسائله في إطار الشريعة وحسب موازين الإسلام.
2-وإلاّ كان لابد أن تكون ضمن الأهداف والمنطلقات والأخلاق الإنسانية.
فعلى الرغم من التطابق الكبير بين المبادىء الإسلامية والمبادىء الإنسانية بل هما وجهان لحقيقة واحدة، ولكن ربما تختلف من حيث الأهداف، فإنه ليس بالضرورة أن يكون الحزب الذي ينطلق من منطلقات إنسانية أن يضع في ضمن أهدافه تطبيق سياسة الإسلام في السلطة وإن كان يحترمها في ذاته، كبعض الأحزاب الوطنية النزيهة فإنها تتوخى خدمة الشعب والوطن بغض النظر عن كون الحكومة التي تتطلع إليها حكومة إسلامية أو وطنية، بعكس الاحزاب الإسلامية التي تهدف إلى تكوين حكومة إسلامية كاملة.
فكل حزب سياسي يريد أن يعمل في البلاد الإسلامية لابد له أن يوفر في مقومات وجوده وكيانه كلا الأصلين أو أحدهما على الأقل، ومن دونه لايحظى بأدنى مرتبة من شرعية الوجود ولا البقاء.
وبذلك بات واضحاً أن الحزب السياسي الذي له إجازة ممارسة الحكم أو العمل السياسي والذي قد يكون وجوده من الواجبات الشرعية المفروضة على المسلمين هو الذي يكون منطلقه وهدفه ووسيلته لذلك الهدف هو الاسلام والإنسان، وهذا الوجوب الشرعي نابع من قاعدتين شرعيتين تقول الأُولى منها:
إن إقامة الحكم الإسلامي وتطبيق أحكام الإسلام السياسية كباقي أحكامه الأُخرى من الواجبات الشرعية المؤكدة المستفادة من قوله تعالى: (أَنْ أَقِيمُواْ الدّينَ )(2)، وإذا ثبت أن إقامة الحكم وتطبيق أحكامه متوقف على وجود الاحزاب السياسية يصبح وجودها واجباً من باب مقدمة وجود الواجب على تفصيل ذكره علماء الأصول في محله.
إن قوة المسلمين وعزتهم وتحصنهم في مقابل الأعداء والخصوم وإدارة شؤونهم وإيجاد الأمن والنظام في أُمورهم الاجتماعية والسياسية دفعاً للفوضى والهرج والمرج واختلال النظام من الواجبات الشرعية أيضاً؛ إذ قال تعالى: (وَأَعِدّواْ لَهُمْ مّا اسْتَطَعْتُمْ مّن قُوّةٍ.. )(3)، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ((الاسلام يعلو ولايعلى عليه.. )) (4).
ومن الواضح أن إعداد القوة والتهيئة للدفاع وردع الهجمات العدوانية على المسلمين والمنع من تقديم غير المسلمين عليهم أو تحديد ذلك التقدم كما أن إيجاد النظام وحسن التدبير والإدارة وغيرها من المهمات التي تستدعي قدرة وتخطيطاً وتنفيذاً لايمكن أن يقوم بها الأفراد المتفرقون عن بعضهم البعض، وإنما بحاجة إلى توفير جماعات منظمة قادرة على القيام بذلك، وهذه ليست إلاّ الأحزاب، فيكون وجودها واجباً أيضاً لكونها مقدمة وجودية للواجب.
ولكن يجب أن نعرف هنا أن الوجوب الشرعي الذي يلزمنا بتكوين الأحزاب السياسية الإسلامية لايبيح لنا العمل معها، أو حتى دعمها وإسنادها مالم يتوفر فيها شرط أساسي آخر، وهو ارتباطها بالفقهاء المراجع وحصولها على الإجازة الشرعية منهم في جواز العمل حسب الأدلة السالفة في باب شورى الفقهاء؛ لكونهم الولي الشرعي على الأُمة في هذه المجالات.
وأما إذا لم يحمل الحزب السياسي إذناً خاصاً من قبل مراجع التقليد فيبقى غير نافذ القرار، بل وغير جائز العمل حتى لو كانت منطلقاته وأهدافه نزيهة.
كما أن نفس القضية تجري على الأحزاب الوطنية فإنها إنما تكون حرة وتمتلك حق مزاولة العمل السياسي فيما إذا أحرزنا أنها لم ترتبط بالاستعمار، ولم تشكل طابوراً خامساً يخدم أهدافه، وإلاّ كانت محرمة أيضاً، ولهذه شرائط ومقومات ليس هنا محل بحثها.
الأحزاب اللاشرعية
وهناك أحزاب سياسية لاتتمتع بالشرعية الإسلامية، وتعتبر محرمة الوجود والنشاط؛ لأنها تقع مقدمة للحرام، ويكون الحزب السياسي محرماً إذا كان مقدمة لوجود البرلمان أو المجلس النيابي الذي لايجري حسب موازين الإسلام والمبادىء الإنسانية، فيحكم حسب الأهواء والمصالح الخاصة والنفعية؛ وذلك لانطباق عدة قواعد عليه، أهمها:
أ-كونه مقدمة للحرام، وهي محرمة على رأي بعض الفقهاء.
ب-كونه إعانة على الإثم والعدوان، والله تعالى يقول: (وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)(5)، وقد اتفق الفقهاء على حرمتها أيضاً.
ج-لأنه يهيئ الظروف الصالحة لإحياء الباطل وانتهاك الأعراض والأنفس والأموال وهدر الحقوق وهدم الاسلام وغيرها من المفاسد التي تعتبر من أشد المحرمات الشرعية في نظر الاسلام.
كما يحرم الحزب الإسلامي إذا كان خارجاً عن موازين السياسة الشرعية ولم ينضو تحت لواء الفقيه العادل الجامع للشرائط أو شورى الفقهاء المراجع، وأيضاً يعتبر محرماً إذا كان سبباً للديكتاتورية والاستبداد وتسليط من تأباه الأمة رئيساً عليها حتى لو كان فقيهاً عادلاً؛ وذلك لاشتراط الإسلام رضا الأُمة واعتبارها من أهم الأُسس التي تبتني عليها الحكومة الشرعية؛ ولذلك حرم الفقهاء نظام الحزب الواحد واعتبروه استئثاراً بالسلطة وديكتاتورية مقيتة حرمها الإسلام.
وبذلك يظهر أن الأحزاب السياسية التي يؤيدها الإسلام ويمنحها حق العمل السياسي وممارسة السلطة قسمان:
1-الأحزاب الإسلامية التي تهدف إلى تطبيق الاسلام.
2-الأحزاب الوطنية التي تتطلع إلى خدمة الإنسان والمبادىء الإنسانية.
وكل حزب آخر لايحظى بأحد هذين يعده الإسلام محرماً ومحظوراً كسائر المحظورات الشرعية الأُخرى، وهذا ليس كبتاً للحريات السياسية ولاتضييقاً في دائرة العمل، بل هو قطع لدابر الظلم والتعدي والانحراف الفكري والعملي؛ إذ من الواضح أن الأحزاب الملحدة أو المنحرفة عقيدياً أو تلك التي ترتبط بالدوائر الاستعمارية تهدف إلى تضليل الناس وتجهيلهم وسلب كل حقوقهم وخيراتهم وصبها في جيب الاستعمار، وهذا مما لايرتضيه أي أحد يملك فكراً صائباً ورؤية معتدلة وليس الإسلام وحده، فهل يصح لنا أن نجيز للقاتل حريته لكي يعتدي على الناس؟ أو هل يحق لنا أن نبيح للسارق المجال الواسع للسرقة ولانأخذ على يديه بحجة أنه حر ؟ وهل من المنطق أن نترك بلادنا نهباً للأطماع الاستعمارية ونبرر ذلك بالحرية؟.
كلاّ، فإن الحرية السائبة التي لاتتحدد في أُطر وموازين عقلائية وشرعية تبطل أن تصبح حرية، بل تنقلب إلى فوضى وعدوان لايصح السكوت عليه.
أقسام الأحزاب
على الرغم من التقسيمات الكثيرة التي أجراها علماء السياسة على الأحزاب إلاّ أننا قد نستطيع أن نلخص أكثر هذه التقسيمات ونرجعها الى تقسيم ثلاثي واحد يكشف لنا أبرز خطوطها واتجاهاتها، وهو كالتالي:
1- الاحزاب العقيدية
وهي تقوم على اختلاف العقائد وتباينها، فكل حزب يختلف وقد يتعارض أحياناً مع سائر الأحزاب الأُخرى التي تشاركه في ساحة العمل السياسي بحسب جذوره وعقيدته، فمنها الأحزاب العنصرية التي تقوم على تكتل عنصري معين مع الحط من باقي العناصر الأُخرى، كالفاشية التي تقوم على تكتل العنصر الجرماني وتفوقه على غيره، والنازية التي تدعي بتعالي العنصر الآري على باقي البشر وتسخيرهم من أجل مصالحه وأهدافه، وهكذا الأحزاب القومية العربية التي تنادي بتكتل العنصر العربي وحده، والأحزاب الصهيونية التي تسعى لتكتل العنصر اليهودي، ومنها الأحزاب الملحدة والعلمانية التي تقوم على أساس رفض الدين وتفنيد مبادئه كالأحزاب الشيوعية في قبال الاحزاب الدينية التي تعتقد بقدرة الدين على إدارة الحياة، وتدعو إلى ضرورة تطبيقه.
ومن الواضح أن النظرة الإسلامية للإنسان والمجتمع نظرة وحدوية تتعارض مع العقيدة العنصرية التي تقوم على الفصل والتمايز بين الناس، فإن الإسلام جاء للناس كافة، ولايؤمن بأي تفرقة تتم على أساس اللون أو العنصر أو اللغة، بل الكل في المبدأ والحقوق والواجبات سواء؛ ولذلك يرفض الإسلام أي دعوة تدعو لإحياء العنصرية، ويعتبرها نوعاً من التراجع إلى العصور الجاهلية المتخلفة؛ ولهذا تصبح القومية العربية دعوة عنصرية بغيضة لايسمح بها الإسلام علاوة على الأضرار السيئة والخطيرة التي تترتب عليها، حيث إنها تزيد من تمزيق العالم العربي فضلاً عن الإسلامي، ولاتوحده؛ لأنها تثير في أبناء الطوائف والعناصر الأخرى روح التعصب والعنصرية أيضاً، كالقومية الكردية في العراق وسوريا وغيرهما، والبربر في الجزائر، والأفريقية في أفريقيا وهكذا.
فضلاً عن تفكيك أواصر المحبة والأُخوة الإسلامية، فإن من الواضح أن المسلم غير العربي سوف لاتهمه قضايا المسلمين العرب وبالعكس، الأمر الذي رفضه الإسلام أشد الرفض وقضى عليه منذ أيامه الأُولى.
وأما الشيوعية فهي ضد الأديان والمبادىء الإنسانية، حيث تقول (باللاءات ) الخمسة التي تتنافى مع جوهر الإنسان وحاجاته الساسية؛ ولذلك فإنه ليس من العدل أو المنطق أن نسمح لدعوى تتضمن الخرافة والجهل أن تعمل في بلاد الإسلام، وهي تعمل على هدمه، وتنادي بغير تعاليمه، وتطالب بإزالته من الوجود تحت اسم الحرية، كما لم يسمح لها أي نظام سياسي آخر يتنافى جوهرياً مع الشيوعية، وليس في منع هذا القسم من الأحزاب الضارة اعتداء على الحرية السياسية أو تحجيماً في أُطرها الرحبة، فالدول الشيوعية نفسها تمنع الدعوات الدينية، كما أن الدول الرأسمالية تمنع الدعوات الشيوعية، وبالعكس.
2- الأحزاب الطبقية
وهي التي تقوم من أجل مصالح طبقية أو فئوية خاصة، كالأحزاب التي تنشأ من أجل مصالح العمال، والأُخرى التي تنادي بحقوق الفلاحين، وثالثة للتجار وأصحاب الرساميل وهكذا.
وهذا النوع من الأحزاب لايرفضه الإسلام ولايحظره حسبما تقدم من الشرائط؛ لأنه لايتعارض معه من حيث المبدأ؛ وذلك لأن الإسلام لايمنع أي شخص أو طبقة أو فئة من أن تطالب بصيانة حقوقها وتلبية حاجاتها كحق من حقوقها السياسية المشروعة، بل إنه يشجع هذا النوع من الأحزاب إذا كانت تهدف المصلحة الوطنية للطبقات، وإذا كانت تتوفر فيها الشرائط الأساسية للحزب الشرعي.
3- الأحزاب الشعبية
وهي التي تقوم جميعها على مبدأ واحد كالدين في الأحزاب الإسلامية، والوطن في الأحزاب الوطنية، تشترك فيه من حيث الأُصول والأهداف، ولكنها تختلف من حيث الوسائل وأُسلوب التطبيق وروحه؛ إذ تنقسم الى:
المتشدد وربما يصطلح عليه باليسار، والمعتدل أو الوسط وقد يصطلح عليه اسم المحافظ، والمتساهل وقد يطلق عليه اسم اليمين.
ويكون الهدف الحقيقي وراء تشكيل هذا النوع من الأحزاب هو التأمين على الديمقراطية والحرية السياسية للشعب من خلال أجواء المنافسة الحرة والرقابة القانونية الشديدة بين الأحزاب من أجل الوصول إلى السلطة.
إذ يمارس الحزب السياسي الذي يحتل موقعاً خارج الحكم رقابة مستمرة ودقيقة على الحزب الآخر الذي يتولى الحكم، فيعينه إذا أصاب، ويكشف أخطاءه إذا انحرف، ويتوازن معه في الشدة أو المرونة في حل الأزمات ومعضلات الأُمور، بل ويحاسبه على كل خطوة أو قرار فاشل ربما يكون قد ارتكبه الحزب الحاكم في حق الدولة والشعب، ومن هنا تتميز هذه الأحزاب بعدة خصائص ومميزات هي:
1-أنها أحزاب حرة تضم عدداً لايستهان به من الأعضاء والمنتسبين، وليست أحزاباً متسلطة تعمل على الانتشار بالسلطة لتصبح الحزب الوحيد والقدرة الوحيدة التي تمسك بزمام الحكم والعقيدة والإعلام.
2-تنظم بشكل ديمقراطي، وتمارس سياسة مفتوحة أو معتدلة تأخذ بعين الاعتبار مطالب الجماهير وميولهم وحاجاتهم، وتعمل على الاحتفاظ بقاعدتها الشعبية وكسب أكبر عدد ممكن من الأعضاء والمنتسبين.
3-أنها تسعى لأن تتقدم باستمرار ببرامج إصلاحية متطورة وقابلة للتحقيق في المنافسة الانتخابية من أجل ضمان الرأي العام الذي هو الطريق الشرعي الوحيد الذي ينتهي إلى السلطة.
4-كما أن عليها الحفاظ على الوعود والشعارات التي تقدمت بها كيلا توصف بالانتهازية واللاأخلاقية، ويالتالي الفشل الذريع؛ وذلك لما يمتلكه الناخبون في أجواء المنافسة الحزبية الحرة من القدرة على عزل السلطة أو سحب الثقة منها بكل سهولة ويسر؛ إذ يحجبون أصواتهم عن الحزب الذي لايحترم تعهداته، وبذلك يتصرفون في مصير الحكومة.
5-ولذلك فإن هذه الأحزاب غالباً ماتتصف بالاعتدال والتساهل نظراً للتصارع الديمقراطي بين مختلف الاتجاهات والأطراف التي توجد داخل الحزب نفسه من جهة وبين الأحزاب الأُخرى المنافسة في الساحة.
وواضح أن هذا النوع من الأحزاب السياسية لايتعارض مع مبادىء الاسلام، ولامع التطبيق العملي للإسلام، بل إنه أهم من ذلك يعتبر ضرورة لابد منها في الحياة السياسية ولاغنى عنها لتطبيق الإسلام وصيانة الحكم من الانحراف أو التطرف أو الشطط.
كما أن هذا النوع هو الذي يتحكم في الأنظمة الديمقراطية الحرة أو شبه الحرة، فإن بعض هذه البلاد كأمريكا وبريطانيا يوجد حزبان رئيسيان تصب فيها عشرات الأحزاب الصغيرة، وفي بعضها الآخر أكثر من أربعة أو خمسة أحزاب رئيسية كالدول الاسكندنافية تتفق على المبادىء الجوهرية للنظام السياسي والأهداف الوطنية الرئيسية بما لايبقى لها أي مجال للخلاف عن بعضها البعض من حيث المبدأ والتنظيم سوى الوسائل والتكتيكات، فإن أحدها يتبع أساليب متشددة في تطبيق المبدأ، والآخر يمارس سياسة متساهلة بعض الشيء، وآخر معتدل، وهكذا كل ذلك في أجواء ديمقراطية حرة، فتحفظ عليها عمليات الرقابة والنقد والمنافسة الدائمة التي تمنح الجميع فرصة الوصول إلى السلطة وتطبيق الخطط والبرامج الخاصة التي تراها صالحة لخدمة الشعب والوطن.
* فصل من كتاب الحرية السياسية
** استاذ البحث الخارج في حوزة كربلاء المقدسة
1) راجع الوسيط في القانون الدستوري: ص132.
(2) الشورى: 13.
(3) الانفال: 60.
(4) المبسوط: ج2، ص130.
(5) المائدة: 2.