د.يحيى الجمل..المصري اليوم..22/9/2008
من حق الناس عندما يصدر حكم من الأحكام في قضية من القضايا أن يشعروا بالسعادة والرضا عن هذا الحكم، ومن حقهم أيضاً أن يشعروا بعدم الرضا وبأن الحكم لم يحقق الآمال والرغبات التي ينشدونها. وقد قالت العرب في الزمن القديم «إنما يحمد السوق من ربح». وعلي أي حال فمشاعر الناس ملك للناس وليس لأحد سلطان عليها مادامت كامنة في الصدور، ولكن التساؤل يثار عندما يريد البعض أن يعبر عن هذه المشاعر علانية في الصحافة المقروءة أو في أجهزة الإعلام المسموعة أو المرئية. هنا يثار السؤال: من الذي يملك التعليق علي أحكام القضاء؟. وكيف يكون التعليق؟. وأين يكون التعليق؟. أما عن السؤال الأول فإن كل أحد يملك كما قدمت أن «يشعر» بالرضا أو عدم الرضا من حكم معين في قضية معينة ولكن هل كل أحد يملك التعليق العلني المنشور علي أحكام القضاء؟. أتصور أن الأمر ليس كذلك. وأن التعليق علي الأحكام القضائية يكون أساساً من رجال القانون «كبار المحامين، أساتذة القانون في كليات الحقوق، القضاة السابقين»، هؤلاء يمكن أن يزنوا الأمور وزناً سليماً يبعد عن الهوى ويقترب من الموضوعية وليس معني هذا أن التعليق علي الأحكام القضائية يحرم علي غير هؤلاء، ولكن غيرهم يجب عليهم أن يحتاطوا لما يقولون حتى لا توردهم أقوالهم موارد التهلكة. وهذا يجرنا إلي التساؤل الثاني وهو كيف يكون التعليق علي الأحكام القضائية؟. أولاً يتعين ألا يكون التعليق منطوياً علي إهانة لمن أصدر الحكم أو من أصدروه - إن كان صادراً عن دائرة - كذلك لا يجوز تجريح الحكم ذاته ووصمه بالانحراف، هذان الأمران محظوران أياً كان صاحب التعليق. وقد رسم القانون للطعن علي الأحكام طرقاً قانونية تتمثل في الاستئناف والنقض وإعادة النظر بل وصل القانون إلي حد إجازة دعوى المخاصمة في حالات محددة. ومن ثم فإن التعليق علي الأحكام شيء وطرق الطعن في الأحكام شيء آخر. ومن هنا يبدو مدي ضيق المساحة التي يجوز فيها التعليق علي الأحكام القضائية وليس ذلك من باب إضفاء نوع من القداسة علي هذه الأحكام، فلا شيء مقدس مما ينتجه العقل البشري ولكن المسألة تعود في أصلها إلي ضرورة الحفاظ علي هيبة القضاء وسمعته ومكانته في المجتمع، ذلك أن زلزلة هيبة القضاء شيء عظيم. زلزلة هيبة القضاء، وما قد تؤدي إليه من فقدان الثقة في الأحكام القضائية، تؤدي بالضرورة إلي خلخلة اجتماعية في بنيان المجتمع كله، ذلك أنه إذا انهارت فكرة الناس عن العدل وإذا تصور الناس أن الذين يمسكون بميزان العدالة يمكن اختراقهم، فإن النتائج ستكون وخيمة علي الجميع. لا أحد ؟؟ أن الثوب الناصع تتساقط عليه أحياناً بعض نقاط المداد، وقد سمعنا في الأيام الأخيرة حالات مرة ومؤسفة ومحزنة ولكنها والحمد لله تظل حالات فردية، ويظل الجسم العام للهيئة القضائية - سواء في ذلك القضاء العادي أو القضاء الإداري - سليماً معافى. ومن الأحكام التي كثرت التعليقات عليها بدرجة لافتة للنظر الحكم الصادر من محكمة سفاجا الجزئية في القضية المعروفة بقضية العباّرة. ولا شك أن حجم الكارثة التي وقعت هو أمر مؤسف ومحزن ولكن ذلك شيء والمسؤولية الجنائية شيء آخر. وقد دفعتني كثرة التعليقات إلي قراءة الحكم والإلمام ببعض ظروف القضية. ولا شك أن نتيجة الحادثة هي كارثة بكل المعايير، يكفي أن يموت أكثر من ألف شخص بغير ذنب جنوه. هذه كارثة لا شك فيها. ولكن المسؤولية الجنائية تقتضي أموراً أخري، وهذا هو الأمر الذي يتعين علي الحكم الجنائي أن يتعرض له ويناقشه. وقد أعجبني ولفت نظري في هذه القضية ما قاله الفريق أحمد شفيق وزير الطيران أمام مجلس الشعب. والفريق أحمد شفيق رجل معروف بالدقة والحسم وعدم المجاملة. جاء في تصريح له أمام البرلمان بتاريخ ٢١ مايو ٢٠٠٧ وفي هذا التصريح يري وزير الطيران أن قائد العبارة - شأنه في ذلك شأن قائد الطائرة أو سائق الأتوبيس - هو المسئول عن الآلة التي يقودها طالما قبل قيادتها بعد فحصها. يقول الفريق أحمد شفيق، هذا الرجل قائد العبارة شب حريق في عبارته، وامتنع عن الإبلاغ وأكمل مشواره بعد أن كان قرر العودة إلي ضبا - ميناء الإقلاع السعودي - هذا التصرف خاطئ خاطئ خاطئ وهو سبب كل هؤلاء القتلى. ولم يتخذ قائدها أي قرار إنساني ولا فني ولا علمي يجعله يقوم بما قام به بأي حال من الأحوال، جازف القائد بأرواح الناس، وأنا أتحدث بطريقة فنية متجرداً من أي شيء، هذا الرجل لم يتبع الأصول القانونية في مواجهة الحادث. هذا كلام رجل فني يعرف ما يقول وهو الكلام الذي تبناه حكم محكمة سفاجا، وله كل الحق في تبنيه والاعتماد عليه وتحديد المسؤولية الجنائية علي أساسه. ولكن التعليقات كلها انهالت في اتجاه آخر غير اتجاه المسؤولية الجنائية وأظهرت الحكم كما لو كان منحرفاً أو منحازاً، والذي يقرأ كلام الفريق أحمد شفيق يدرك مدي الظلم الذي نال هذا الحكم القضائي. وإن كان ذلك أيضاً لا ينال ولا يخفف من حجم الكارثة. وقد ضربت هذا المثل - ولا شأن لي بأي أحد من أطرافه - لأبين مدي صعوبة التعليق علي الأحكام الجنائية بالذات دون الإلمام بكل تفاصيلها ومداخلها ومخارجها. علينا أن نتقي الله قبل إطلاق الأحكام وقبل التعقيب علي الأحكام.
من حق الناس عندما يصدر حكم من الأحكام في قضية من القضايا أن يشعروا بالسعادة والرضا عن هذا الحكم، ومن حقهم أيضاً أن يشعروا بعدم الرضا وبأن الحكم لم يحقق الآمال والرغبات التي ينشدونها. وقد قالت العرب في الزمن القديم «إنما يحمد السوق من ربح». وعلي أي حال فمشاعر الناس ملك للناس وليس لأحد سلطان عليها مادامت كامنة في الصدور، ولكن التساؤل يثار عندما يريد البعض أن يعبر عن هذه المشاعر علانية في الصحافة المقروءة أو في أجهزة الإعلام المسموعة أو المرئية. هنا يثار السؤال: من الذي يملك التعليق علي أحكام القضاء؟. وكيف يكون التعليق؟. وأين يكون التعليق؟. أما عن السؤال الأول فإن كل أحد يملك كما قدمت أن «يشعر» بالرضا أو عدم الرضا من حكم معين في قضية معينة ولكن هل كل أحد يملك التعليق العلني المنشور علي أحكام القضاء؟. أتصور أن الأمر ليس كذلك. وأن التعليق علي الأحكام القضائية يكون أساساً من رجال القانون «كبار المحامين، أساتذة القانون في كليات الحقوق، القضاة السابقين»، هؤلاء يمكن أن يزنوا الأمور وزناً سليماً يبعد عن الهوى ويقترب من الموضوعية وليس معني هذا أن التعليق علي الأحكام القضائية يحرم علي غير هؤلاء، ولكن غيرهم يجب عليهم أن يحتاطوا لما يقولون حتى لا توردهم أقوالهم موارد التهلكة. وهذا يجرنا إلي التساؤل الثاني وهو كيف يكون التعليق علي الأحكام القضائية؟. أولاً يتعين ألا يكون التعليق منطوياً علي إهانة لمن أصدر الحكم أو من أصدروه - إن كان صادراً عن دائرة - كذلك لا يجوز تجريح الحكم ذاته ووصمه بالانحراف، هذان الأمران محظوران أياً كان صاحب التعليق. وقد رسم القانون للطعن علي الأحكام طرقاً قانونية تتمثل في الاستئناف والنقض وإعادة النظر بل وصل القانون إلي حد إجازة دعوى المخاصمة في حالات محددة. ومن ثم فإن التعليق علي الأحكام شيء وطرق الطعن في الأحكام شيء آخر. ومن هنا يبدو مدي ضيق المساحة التي يجوز فيها التعليق علي الأحكام القضائية وليس ذلك من باب إضفاء نوع من القداسة علي هذه الأحكام، فلا شيء مقدس مما ينتجه العقل البشري ولكن المسألة تعود في أصلها إلي ضرورة الحفاظ علي هيبة القضاء وسمعته ومكانته في المجتمع، ذلك أن زلزلة هيبة القضاء شيء عظيم. زلزلة هيبة القضاء، وما قد تؤدي إليه من فقدان الثقة في الأحكام القضائية، تؤدي بالضرورة إلي خلخلة اجتماعية في بنيان المجتمع كله، ذلك أنه إذا انهارت فكرة الناس عن العدل وإذا تصور الناس أن الذين يمسكون بميزان العدالة يمكن اختراقهم، فإن النتائج ستكون وخيمة علي الجميع. لا أحد ؟؟ أن الثوب الناصع تتساقط عليه أحياناً بعض نقاط المداد، وقد سمعنا في الأيام الأخيرة حالات مرة ومؤسفة ومحزنة ولكنها والحمد لله تظل حالات فردية، ويظل الجسم العام للهيئة القضائية - سواء في ذلك القضاء العادي أو القضاء الإداري - سليماً معافى. ومن الأحكام التي كثرت التعليقات عليها بدرجة لافتة للنظر الحكم الصادر من محكمة سفاجا الجزئية في القضية المعروفة بقضية العباّرة. ولا شك أن حجم الكارثة التي وقعت هو أمر مؤسف ومحزن ولكن ذلك شيء والمسؤولية الجنائية شيء آخر. وقد دفعتني كثرة التعليقات إلي قراءة الحكم والإلمام ببعض ظروف القضية. ولا شك أن نتيجة الحادثة هي كارثة بكل المعايير، يكفي أن يموت أكثر من ألف شخص بغير ذنب جنوه. هذه كارثة لا شك فيها. ولكن المسؤولية الجنائية تقتضي أموراً أخري، وهذا هو الأمر الذي يتعين علي الحكم الجنائي أن يتعرض له ويناقشه. وقد أعجبني ولفت نظري في هذه القضية ما قاله الفريق أحمد شفيق وزير الطيران أمام مجلس الشعب. والفريق أحمد شفيق رجل معروف بالدقة والحسم وعدم المجاملة. جاء في تصريح له أمام البرلمان بتاريخ ٢١ مايو ٢٠٠٧ وفي هذا التصريح يري وزير الطيران أن قائد العبارة - شأنه في ذلك شأن قائد الطائرة أو سائق الأتوبيس - هو المسئول عن الآلة التي يقودها طالما قبل قيادتها بعد فحصها. يقول الفريق أحمد شفيق، هذا الرجل قائد العبارة شب حريق في عبارته، وامتنع عن الإبلاغ وأكمل مشواره بعد أن كان قرر العودة إلي ضبا - ميناء الإقلاع السعودي - هذا التصرف خاطئ خاطئ خاطئ وهو سبب كل هؤلاء القتلى. ولم يتخذ قائدها أي قرار إنساني ولا فني ولا علمي يجعله يقوم بما قام به بأي حال من الأحوال، جازف القائد بأرواح الناس، وأنا أتحدث بطريقة فنية متجرداً من أي شيء، هذا الرجل لم يتبع الأصول القانونية في مواجهة الحادث. هذا كلام رجل فني يعرف ما يقول وهو الكلام الذي تبناه حكم محكمة سفاجا، وله كل الحق في تبنيه والاعتماد عليه وتحديد المسؤولية الجنائية علي أساسه. ولكن التعليقات كلها انهالت في اتجاه آخر غير اتجاه المسؤولية الجنائية وأظهرت الحكم كما لو كان منحرفاً أو منحازاً، والذي يقرأ كلام الفريق أحمد شفيق يدرك مدي الظلم الذي نال هذا الحكم القضائي. وإن كان ذلك أيضاً لا ينال ولا يخفف من حجم الكارثة. وقد ضربت هذا المثل - ولا شأن لي بأي أحد من أطرافه - لأبين مدي صعوبة التعليق علي الأحكام الجنائية بالذات دون الإلمام بكل تفاصيلها ومداخلها ومخارجها. علينا أن نتقي الله قبل إطلاق الأحكام وقبل التعقيب علي الأحكام.