مجلة المحاماة - العدد الأول
السنة الثالثة والثلاثون - سبتمبر سنة 1952
بحث حرية الدفاع والحد منها
للدكتور عبد السلام ذهني المحامي
1 - الدفاع في الدعوى الجنائية
( أ ) ضمانات التحقيق والجلسة:
يُعنى الشارع العناية كلها بحق دفاع المتهم فيما ينسب إليه جنائيًا، فهو يقرر له ضمانات خاصة في التحقيق الابتدائي السابق على دور المحاكمة الجنائية، وفي التحقيق الذي يحصل وقت المحاكمة بالجلسة، ولدفاع المتهم قبل المحاكمة الفعلية وأثناءها قداسة قانونية لا يجوز العبث بها ويجب احترامها وإلا كان النقص أو العيب فيها سببًا من أسباب نقض الحكم الصادر بالعقوبة، لذا كان الحرص من جانب الشارع موجهًا دائمًا إلى ضرورة استيفاء الضمانات قبل المحاكمة وأثناءها، فهو ينبه المتهم إلى أنواع عدة من الضمانات يطالب بها المتهم القائمين بتنفيذ القانون حتى يدرأ عن نفسه ما يخل بتلك الضمانات وحتى يجعل تحقيق الدعوى من قبل ومن بعد خاليًا مما يشوبه فيعيبه عيبًا يفضي إلى نقض الحكم من طريق الطعن فيه.
والتهمة إذا وجهت إلى المتهم بالبلاغ إلى رجل الضبطية القضائية فإنه يتعين على الضابط القضائي استجوابه في الحال وبمحضر يحرر لهذا الغرض (المادة (34) من قانون الإجراءات الجنائية الجديد رقم (150) سنة 1950، والصادر في 15 أكتوبر سنة 1951)، وكذا النيابة يلزمها القانون باستجوابه في ظرف 24 ساعة المادة (36)، وإذا حصل تفتيش لمنزل المتهم فلا بد من ضمانات عينها القانون بحضور المتهم بالذات أو حضور شاهدين المادة (51) كما لا يجوز المساس بحرية الخطابات فلا يجوز ضبط مكاتبات المتهم مع محاميه بما حظره القانون على قاضي التحقيق المادة (96)، كما لا يجوز حرمان المتهم من سماع شهوده أمام قاضي التحقيق إلا إذا رأى هذا الأخير زوال الفائدة منها المادة (110)، وعلى قاضي التحقيق إحاطة المتهم علمًا بالتهمة الموجهة إليه وسماع دفاعه عنها المادة (123).
وعند المحاكمة يحضر المتهم بالجلسة بلا قيود حديدية أو أغلال المادة (270) حتى يحس في نفسه بحرية مطلقة لا تشوبها شائبة مما يعطل لديه حرية الدفاع عن نفسه، ولا يجوز استجوابه في أمر من أمور التهمة إلا إذا رضي هو بذلك المادة (274)، وكان ينص قانون تحقيق الجنايات المختلط المعمول به من سنة 1937 حتى إلغاء المحاكم المختلطة في 15 أكتوبر سنة 1949 بأنه من اللازم تنبيه المتهم بالجلسة بأنه غير ملزم بالإجابة المادة (165) من القانون المذكور، على أن للمحكمة لفت نظر المتهم إلى بعض المسائل لخطورتها المادة (274) من القانون الجديد، ولها أن تمتنع عن سماع شهادة شاهد ترى أن شهادته واضحة وضوحًا كافيًا المادة (273)، وإذا تناقضت أقوال المتهم بالجلسة مع أقواله بمحاضر التحقيق أو امتنع عن إبداء أقواله جاز للمحكمة تلاوة ما قرره بالتحقيق المادة (274)، وفي جميع الأحوال للمتهم الكلمة الأخيرة في إجراءات التحقيق بالجلسة المادة (275).
ومما يلحظ في الخطورة فيما تقدم بشأن المساس ولو بعيدًا بالضمانات المقررة للمتهم المسائل الثلاث الآتية:
1 - الجواز لقاضي التحقيق برفض سماع شهادة شاهد وكذا للمحكمة.
2 - في إلفات نظر المتهم لبعض نقط في التحقيق ويطلب منه استيضاحًا لذلك - فيه معنى استجواب المتهم من طريق ملتوٍ، وإذا رفض الإجابة تليت أقواله بالتحقيق، وفي ذلك معنى ينطوي على دعوته للإجابة.
3 - ما تقضي به المادة (275) من منع المحامي من الاسترسال في الدفاع إذا خرج عن موضوع الدعوى أو كرر أقواله، وفي القول بالخروج عن موضوع الدعوى ما يحتمل أن يترتب عليه مساس من بعيد أو قريب بذات الموضوع عند الغموض أو نقص في البيان، وفي هذا ما فيه من احتمال المساس بحق الدفاع.
(ب) ضمان الدفاع في ذاته والحد منه:
لا بد في جلسة المرافعة من نظام يسودها ويشرف عليه من يترأس الجلسة المادة (243)، وإذا كان لهذا الأخير سلطان واسع في ذلك فإن للمحامي القائم بمهمة الدفاع سلطان آخر يستمده من حرية الدفاع التي يحميها القانون ذاته (المادة (11) من لائحة تنظيم المحاكم المختلطة بعد مؤتمر مونترو سنة 1936)، والدفاع حر فيما يبديه ويدافع به دون أن يتحكم فيه أحد ما دام في حدود دفاعه، ولا تجوز مقاطعته إلا إذا أخذ في سب خصمه أو هاجم النظام العام أو هاجم أجنبيًا عن الدعوى أو خرج عن موضوعها (المادة (64) من اللائحة المختلطة)، وفي ذلك تقول المادة (122) مرافعات جديد: (يجب الاستماع إلى أقوال الخصوم حال المرافعة ولا تجوز مقاطعتهم إلا إذا خرجوا عن موضوع الدعوى أو تعدوا على النظام العام أو وجه بعضهم إلى بعض سبًا أو طعنوا في حق أجنبي عن الخصومة)، ذلك لأن السب والنظام العام وتناول الأجنبي في الدعوى بما ليس له بها شأن والخروج عن موضوع الدعوى، كل ذلك وما إليه لا يمت إلى الدعوى في صميمها ولا يزيدها بيانًا أو جلاء، بل هو تزيد فيها مما يضيف إليها عناصر من شأنها أن تسود الفوضى في الدعوى وأن تقع في جو من الارتباك والاضطراب، على أن ذلك القيد للدفاع والحد منه في تلك الأحوال يجب الأخذ فيه عند من له حق الإشراف - بالحيطة والدقة حتى لا يقال بأن هناك تجاوزًا لحدود ذلك الحق واعتسافًا في استعماله abus، وقد لاحظت اللائحة المذكورة أنه لا بد لرئيس الجلسة أن يلفت نظر الدفاع إلى ذلك في المرة الأولى، فإذا عاود الدفاع إلى ما ألفت نظره إليه جاز لرئيس الجلسة أن يمنع الدفاع من الاسترسال في خطته وأن يسحب منه الكلمة، وجاز للمحكمة وقتئذٍ الحكم في الدعوى بالحالة التي هي عليها (المادة (64) المذكورة).
وإذا كان للدفاع قداسته وللقضاء قداسته أيضًا فإن هذه القداسة يجب أن تقف عند الحد اللائق الذي يفيد الحق في ذاته فائدة ذات أثر فيها، بحيث لا تطغى سلطة على سلطة أخرى وبحيث تقف كل سلطة عند حدها المعقول قانونًا.
ولكن مما يلاحظ أن الشارع في كل زمان ومكان لم يعنَ بتحديد عدد المحامين القائمين بمهمة الدفاع ولا بالوقت الذي يمضيه الدفاع في القيام بتلك المهمة، بل ترك الباب مفتوحًا على مصراعيه، وللمتهم أن يوكل عنه من يشاء من المحامين، ولهؤلاء ما شاءوا من الوقت في الدفاع.
فإذا نظر إلى هذه المشكلة في ذاتها وتبين بادئ ذي بدء أنها شائكة من حيث ما يمس بحرية الدفاع، فإنه لا يجوز من طريق آخر وفي مقام بداهة الأمر وضرورة البت فيه، أن يترك القول بالجلسة لعدد كبير من المحامين يتبادلون الكلام ويستغرقون من الوقت ما شاءوا، بل لا بد من أن يتحكم المنطق قليلاً أو كثيرًا وأن تراعى ظروف المحكمة وما لها من كرامة حتى لا تستغل ظروف الدعوى، كما لوحظ ذلك في كثير من القضايا المشهودة من الخروج عن المهمة الحقيقية للدفاع الصحيح الرصين إلى مجرد متابعة المتهم أو غيره في توسيع أفق الدعوى إلى أبعد مما تحتمله الدعوى أو يستلزمه الدفاع...
لذا يجوز التساؤل:
أولاً: فيما إذا كان يجوز للمحكمة أن تعين العدد الكافي من المحامين للدفاع وأن تعين لهم الوقت اللازم لأداء مأمورية الدفاع.
ثانيًا: هل يرضى المحامون طواعية بهذا الحد من حرية الدفاع، وهل يقس للحد من جزاء في النقض ؟
ثالثًا: إذا تركت حرية الدفاع تأخذ مجراها إلى أبعد مدى، فهل في ذلك تعسف يمس كرامة الحكم وما للحكم من قداسة تقف عند البت في الدعوى في الوقت الملائم وبالقدر الطبيعي الذي تحتاجه طبيعة الدعوى من غير توسع قد يؤذي العدالة في ذاتها وفي تصريفها تصريفًا يأتلف مع طبيعة الأشياء ؟
إن الأمر محل نظر ودقة عن القائمين بمهمة الملاحظة الدقيقة، إذ لا بد في هذا الأمر من ملاحظة أمور ثلاثة: المنطق أو البداهة والذوق السليم bon sens والتقاليد traditions والنصوص القانونية (انظر في ذلك بحثًا قيمًا للأستاذ المعروف هو جني Hugney في تعليقه على حكم لمحكمة الاستئناف بمدينة تولوز الفرنسية في 17 يناير سنة 1951 ومنشور بمجلة سيرى Sirey سنة 1951 صفحة 89 - 90 بالقسم الخاص بأحكام الاستئناف والمحاكم الابتدائية).
(ج) الحد من الدفاع من ناحية المنطق:
ليس من المنطق ولا من بداهة الملاحظة أن يترك الدفاع وشأنه في أن يدافع الوقت وكل الوقت بلا حد من حريته وبلا وضع قيد لهذه الحرية، وإلا ترتب على ذلك أن يظل العدد الكثير من الأقضية في مخازن جداول المحاكم تتعفن وتأكلها الحشرات وتطول آجالها حتى يأتي دورها، ومن اللازم أن يلاحظ أن في تكدس ملفات النزاع وفي بقاء النزاع معلقًا بين المتقاضين ما يمس بالنظام العام، ومما يهم العدالة ووراءها اعتبارات جمة أن يوضع حد لتلك الشحناء التي تقوم بين الأفراد وأن يحال دون بقائها قائمة، لأن في وضع الحد حيلولة دون اشتداد أوزارها واندلاع لهيبها، وما من شك في أن لذلك اتصالاً بالأمن والنظام العام، ولا بد لكل جماعة متمدينة تجرى وراء المثل العليا أن تقيم وزنًا لذلك حتى لا يطول النزاع فتتفاقم الخصومة ككل مشكلة يترك الحبل فيها على الغارب، لذا لا بد من علاج يرجع فيه إلى البداهة والبحث عن حل يرضي ويرضى به الكافة في حدود النظام العام وما له من روعة واحترام.
(د) الحد من الدفاع في الأزمان السابقة:
لوحظ عند جماعات الرومان وما كان لهم من شأن بعيد المدى في وضع أسس القانون أنهم أحسوا إحساسًا ظاهرًا بضرورة وضع حد لفصاحة المحامين وبلاغتهم ولإيقاف كثيري القول عند حد معقول (يراجع في ذلك ما وضعه بلين لوجون Pline le Jeune في كتابه المحامي والقاضي بالبحث السادس رقم 2).
والأمر لم يفت الفرنسيين أنفسهم، إذ لوحظ في القرن السابع عشر أن لابرويير LaBruyère قال في كتاب له في بعض التقاليد De quelques usages رقم (42) أن القوم قد أجمعوا على الترحيب بتلك العادة التي ألفوها بالمحاكم وهي التي كانت تبيح قطع القول على المحامين وهم في سبيل الدفاع عن موكليهم، وقد وضع تلك العادة وألح في تقريرها أحد رؤساء المحاكم وعمل على الأخذ بها دون أن يقوم أي احتجاج من أية ناحية.
(هـ) الحد من الدفاع من حيث النص في التشريع الفرنسي:
حاول بعض أعضاء مجلس النواب الفرنسي (وهو يسمى الآن الجمعية الوطنية) أن يعرض على البرلمان مشروع قانون بالحد سنة 906 بلهجة أشد وعبارات أبعد في المعنى عما فعله الشارع الإيطالي الفاشستي بقانون المرافعات الجنائي procedure penale fàsciste (انظر في ذلك مقالاً للأستاذ مانيول Magnol بمجلة العلوم الجنائية سنة 906 صـ 9 وما بعدها - وانظر أيضًا المرسوم بقانون الإيطالي في 14 سبتمبر سنة 1944 فيما احتواه من عبارات مخففة وملطفة لما سبقه - وانظر جلاشون مع تيسييه بكتاب المرافعات الطبعة الثالثة ج 2 ن 458 صـ 302 الفقرة 1).
على أن الشارع الفرنسي نفسه لم يفته من زمن بعيد أن يقرر بالمرسوم الصادر من مدة قرن ونصف مضت تقريبًا في 30 مارس سنة 1808 بالمادة (34) بأنه (إذا تبين للقضاة أن الدعوى المطروحة لديهم أصبحت جلية واضحة كل الوضوح فإنه يتعين على رئيس الجلسة أن يضع حدًا للمرافعات ويحول دون المضي فيها)، وهذا النص نافذ على قضاة الدرجة الأولى والدرجة الثانية الاستئنافية سواء كانت الدعوى المطروح نظرها على المحكمة من النوع الجنائي أو المدني (مقال هوجني المذكور صـ 29 من المجلة المشار إليها العامود الأول في أواخره)، وليس أدل على ذلك من الرجوع للمادة (270) من قانون تحقيق الجنايات الفرنسي الموضوع بعد مرسوم 30 مارس سنة 1808 حيث تقرر بأنه: (يجب على رئيس محكمة الجنايات أن يرفض قبول كل ما من شأنه أن يطيل المرافعات ما دام أنه لا أمل من وراء الإطالة في زيادة في التوكيد من صحة النتائج المرجوة).
ويلاحظ محررو دالوز الجديد الأخير ج 2 سنة 1948 صـ 10 ن 10 بأنه لا يجوز للمحكمة أن تمنع أحد الخصوم أو محاميه عن الكلام - قانون 24 أغسطس سنة 1790 المادة (15) و(16)، ولكن يجوز لرئيس الجلسة أن يحول دون الاستمرار في المرافعة إذا رأى القضاة أن الدعوى أصبحت تامة التحقيق.
ويلاحظون أيضًا بالجزء الأول سنة 1947 صـ 336 ن 63 أن الأصل في الدفاع أن يكون حرًا ومعنى ذلك أنه بالنسبة للقاضي فإن للمحامي حرية اختيار وسائل الدفاع والشكل الذي يفرغ فيه أمام المحكمة، وذلك في حدود القوانين واللياقة convenances، ولا يجوز تحديد الزمن الذي يترافع فيه، وهو حر أيضًا نحو موكله فله قبول الدعوى أو رفضها، ولا يسأل بدعوى جنائية في دفاعه الشفوي أو الكتابي عن سب أو قذف - دائرة العرائض بالنقض في 2 مايو سنة 1893، دالوز الدوري القسم الأول صـ 288 - وانظر فيما يتصل بحصانة الدفاع immunité وحرية المحامي في دفاعه وعدم جواز مسؤوليته جنائيًا في سب أو قذف (انظر دائرة المعارف القانونية لدالوز DallozEncyclopedie Juridique ج 1 صـ 434 ن 67 و68، وانظر المادة (209) عقوبات مصري التي قررت الحصانة الجنائية وأجازت المسؤولية المدنية.
وإذا كانت النصوص جلية بما رأينا فهل يجوز لرئيس الجلسة أن يقطع القول على المحامي المترافع في حالة الجلاء الواضح لها بما ليس معه حاجة للمزيد - هل له أن يفعل ذلك بالأغلبية المطلقة للقاضيين الجالسين معه أم لا بد من إجماع الآراء للجالسين جميعًا من القضاة ؟ حيث إنه من المحتمل أن ينصرف المنفرد بالرأي والذي خرج على الأغلبية إلى أن يدعي بأنه لم يتنور بعد وأن الأمر لم ينجلِ أمامه تمامًا، وأنه في حاجة إلى بيان أوفى وأنه يعارض في سحب الكلام من المحامي المترافع ؟ يرى هنا رجال الفقه في المرافعات ضرورة مراعاة إجماع الآراء إذا ادعى القاضي المنعزل في الرأي أنه لم يتنور في الدعوى تمام التنوير وأنه في حاجة إلى زيادة في الإيضاح (جلاسون السابق ج 1 ن 418 مكررًا)، ويظهر أن (هوجني) ينضم إلى ذلك الرأي، وسنعود للبحث عند ما نتكلم عن التشريع المصري فيما سيأتي حالاً.
وإذا تقرر أنه من الجائز منع المحامي من الاستمرار في حالة وضوح الدعوى وعدم الحاجة إلى المزيد من الإيضاح، فهو يجوز تعيين مدة للدفاع في حالة بساطة الدعوى وعدم تشعب البحث فيها ؟ يقول رجال الفقه بأن تعيين المدة للدفاع من جانب المحكمة لم يخرج عن كونه مجرد الإدلاء بنصيحة للمحامي، فإذا عينت جلسة واحدة خاصة دون غيرها للمحامي فهو يعتبر ذلك مجرد نصيحة أو يعتبر أمرًا صادرًا من المحكمة يصح أن يكون مدعاة لطلب نقض الحكم ؟ حكم النقض الفرنسي سنة 1807 بعدم اعتبار ذلك أمرًا يكون سببًا لنقض الحكم، كما حكم النقض الفرنسي سنة 1852 برفض النقض عن حكم جنائي صدر في قضية من البساطة بمكان - هي سحب كلب في الطريق العام دون كمامة أو الاحتكاك به - إذ وكل المتهم اثنين من المحامين اعتزما الإطالة في الدفاع وأبت المحكمة إلا أن تعين لهما نصف ساعة فقط (لبواتفان Le Poitevin في تعليقه على المادة (153) من قانون تحقيق الجنايات ن 245 صـ 556 طبعة سنة 1911)، ويرى أن يؤخذ في هذا الأمر بالحيطة الواجبة حتى لا ينقلب مجرد الاحتياط إلى أمر يجب تنفيذه (بواتفين المذكور).
وإذا كان من المحظور على القضاء أن يمنع المحامي من المرافعة بتاتًا فإنه يجوز له في سبيل مراعاة كرامة المحكمة ونشد العدالة المرجوة - أن تمنع المحامي الثالث من المرافعة إذا أدى المحاميان السابقان عليه واجب الدفاع بما لم تكن هناك حاجة إلى المزيد (موسوعات دالوز تحت عبارة الدفاع والمدافع defense, défenseur ن 245 - وانظر تعليق (هوجني) على حكم النقض للدائرة الجنائية في 30 نوفمبر سنة 1933 مجلة سيرى سنة 1936 القسم الأول صـ 153)، وما يسري على محكمة الحكم فإنه يسري أيضًا على قاضي التحقيق.
2 - الدفاع في الدعوى المدنية:
رأينا أن الفقه الفرنسي يقول بضرورة التسوية بين الناحية الجنائية والناحية المدنية، إذ طبيعة الدفاع في الاثنتين واحدة، والوجهة التي يرمي إليها الدفاع لا تتغير من حيث إن هناك دفاعًا يقوم به المحامي.
وإن صح أن للناحية الجنائية وجاهتها من حيث مراعاة الأخذ فيها بالشدة وعدم التسامح فيما يجوز التجاوز فيه - إلا أن ذلك لا يفقد الدفاع من الناحية المدنية وجاهة التدليل والتصرف في الدعوى تصرفًا يضمن لها النجاح.
ولذا يصح الأخذ مدنيًا بما قيل هناك جنائيًا ولا شبهة في ذلك.
الحد من الدفاع من حيث النص وغيره في التشريع المصري جنائيًا ومدنيًا
بعد ذلك البيان التاريخي الذي أوردناه وبعد ما أدلينا من القول عن النصوص الفرنسية وعن بعض نصوص القانون المصري، يتعين الآن بحث الموضوع في حدود التشريع مع مراعاة ما للبداهة من اعتبار أخاذ وما للمنطق من أثر في التوجيه الفقهي وما يجب أن يراعى للقضاء من كرامة يجدب أن تحول دون تصريف الدعوى المطروحة تصريفًا إن أدى إلى إرضاء شهوات عابرة للمتهم فإن للعدالة شأنًا يجب أن يراعى حتى لا تستغل تلك العدالة استغلالاً يفسد عليها حقيقة كيانها والأصل في مراعاتها.
والمسألة الحساسة في الأمر بما يجب أن يدور حوله البحث - ومع الأخص بعد هذا البيان الذي أوردناه هنا من حيث المنطق والبداهة والذوق السليم والتقاليد والنص الفرنسي - هي أنه هل يجوز للمحكمة أن تقطع الطريق على محامٍ يريد أن يترافع بعد آخرين تقدموه ؟ وهل يجوز تحديد مدة للدفاع ؟.
في الأمر تفصيل لا بد أن يراعى ولا بد من ضرورة الاستناد إلى عوامل جمة واعتبارات فنية قانونية ذات فائدة، وفي ذلك فروض.
1 - من حيث تعدد المحامين:
للمتهم أن يعين من يشاء وما يشاء من المحامين عددًا يحدده هو، ومن البداهة البدائية أنه يتعين في هذه الحالة تجزئة الدفاع وتوزيعه على المحامين المترافعين، بحيث لا يجوز مطلقًا صونًا لكرامة القضاء وكرامة الدفاع أن يأتي المدافع الواحد بعد الآخر ليتلو على المحكمة ما ساقه سابقة من قول وأدلة، فإذا حصل ذلك وجب الوقوف في وجه صاحب التكرار دون تمكينه من ذلك التكرار.
وإذا تبين للمحكمة أن الدعوى أصبحت من الجلاء والوضوح بما لا يحتاج الأمر فيه إلى المزيد جاز لها الوقوف بالدعوى عند ذلك الحد والاكتفاء به ومنع الدفاع من الاسترسال فيما لا فائدة مكنه مطلقًا، وفي ذلك تقول المادة (14) من اللائحة الداخلية للمحاكم الوطنية الصادرة في 14 فبراير سنة 1884 ما يأتي (متى رأت إحدى المحاكم أن الدعوى أصبحت واضحة وضوحًا كافيًا جاز لها أن تأخذ بالكف عن المرافعة).
وإن كان هذا النص قد ألغى بإلغاء اللائحة وحلول النظام الجديد للقضاء بعد زوال القضاء المختلط وبقاء القضاء الوطني وحده يضطلع بمهمة القضايا بين المصريين فيما بينهم أو بينهم والأجانب - وإن كان يلاحظ فيه أنه يخلى لنص المادة (36) من المرسوم بقانون الفرنسي الصادر في 30 مارس سنة 1808 الذي توارى وجاء بعده نص المادة (270) من قانون تحقيق الجنايات الفرنسي - كما مر بيان ذلك كله، وإن كان هذا صحيحًا فإنه لم يرد بقانون نظام القضاء رقم (147) سنة 1949 إشارة ما إلى المادة (14) من اللائحة المشار إليها الصادرة سنة 1884 على أنه لا يمكن أن يستفاد من سكوت القانون رقم (147) سنة 1949 أن الشارع المصري أراد العدول عن الأخذ بالمادة المذكورة ولا الحد منها أو قيدها بقيد ما.
وإذا راعينا الماضي للمادة (14) وأخذها عن المادة (36) من القانون الفرنسي سنة 1808 وراعينا ما سار فيه القضاء الفرنسي من الناحية العملية وأقره عليه قضاء النقض، وراعينا أيضًا الاعتبارات العامة للمنطق البحث والبداهة الصارخة في بعض الحالات يتبين لنا أنه لا بد من وضع حد لمرافعات تطول بلا فائدة وتكرار مرافعات على غير جدوى لمجرد التكرار وبرغبة اتساع جو الدعوى وملئه بالشهرة البعيدة وما يحف ذلك من صرير الأقلام بالصحافة الدائرة وما تجرى به أقلام الصائحين وتدفع به في الأجواء أصوات النافخين في الأبواق وجماعات المروجين الهتافين، إذ لا بد من وضع حد كما مر بنا القول حتى تصان كرامة القضاء وكرامة المحامي، وحتى يحال بين رغبات خاطفة لأصحاب الشؤون الوقتية وبين ترويج ما لا يصح ترويجه ما دام للقضاء شأن يرمي إليه في توجيه العدالة وجهتها الصحيحة التي لا تلوى إلا إلى الحق ولا تعرف من الحق إلا كنهه ومرماه وما يجب أن يكون عليه.
ولذا إذا تعدد المدافعون وبلغوا من العدد ما يكفي النذر القليل من الإدلاء بأوجه الدفاع دون انتقاص ما، فإنه يتعين وقتئذٍ للضرورة الاكتفاء بما تم على يدهم من جلاء الدعوى والإلمام جلي بشأنها وعناصرها، وأما ذلك التجاوز إلى غيرهم لمجرد سماع تكرار وراء تكرار فإن بداهة الحال والمنطق السليم والضرور العملية، كل ذلك يحتم اتباع ما تصان به كرامة القضاء وكرامة الدفاع بما لا يخرج عما تحتمله الدعوى من شؤون عرفت ودرست بما ليس بعده من حاجة إلى المزيد.
وعلى ذلك لا محل للقول وقتئذٍ بأن هناك مساسًا بحق الدفاع المقدس يجيز الدخول به إلى محكمة النقض ما دام الدفاع قد أدى على أحسن وجه وأفضل توجيه وما دامت الدعوى في كيانها خرجت بعد الفحص والتمحيص دون أن يصيبها شيء ما مما يعطل فيها الجلاء والوضوح المؤديين إلى البت فيها بتًا صحيحًا سليمًا لا غبار عليه.
2 - من حيث تعيين زمن للدفاع:
وإذا كانت الضرورة الملحة قضت بالحد من عدد المترافعين حتى لا يكون هناك تكرار ليس من ورائه فائدة ما وأن هذا الحد لا يمت إلى جوهر حق الدفاع وما له من قداسة ولم يؤثر فيه بشيء ما، فإن القول بعد ذلك بتعيين مدة للمترافعين بحيث لا يتجاوزونها قول جائز القبول على شريطة أن لا ينال ذلك القيد من جوهر الدفاع وكيانه في الدعوى، وبحيث أن لا يكون من تحديد الوقت ما ينحرف به الدفاع عن جادته المنشودة له وما يشعر به من قلق قد يساوره في أداء مهمته، بحيث إذا تبين بأن تحديد الوقت جاء على غير طبيعة الدفاع في الدعوى بما لا يلتئم مع كيانها وملابساتها وبما لا يتسع طبيعة إلى الإدلاء بما يجب الإدلاء به، وإلا شاب الدفاع نقص معيب يفسد على الدعوى كيانها ويشوب تصويرها الصحيح، إذا تبين ذلك كله ومس الدفاع فيما له من حصانة تحميه من كل اعتداء يطوح به إلى غير مجراه الطبيعي، وجب عندئذٍ اعتبار ذلك سببًا من أسباب النقض وعيبًا يعيب الحكم.
وإن كانت العادة جرت بين المترافعين أن يوزعوا الدفاع فيما بينهم فيختص البعض بجزء والبعض الآخر بجزء بحيث ينتهي التوزيع إلى جميع أدلة الدفاع مستوفاة باستيفاء الدفاع المجزء في فترات معينة، فإن تحديد وقت للدفاع لكل محامٍ لا يمس حصانة الدفاع ولا يصيبه بمكروه ما، وإلا إذا شعر الدفاع من تحديد الوقت حرجًا عليه في استيفاء عناصر الدفاع في الدعوى بما يترك حتمًا فراغًا من ورائه تبقى الدعوى به متأذية مما نزل بها، فإنه يتعين في هذه الحالة أن يصارح الدفاع لمحكمة الحكم بأنه لديه أدلة ومواضيع هي كيت وكيت وأنه لا بد له من أن يدلي بها إلى المحكمة حتى تكون على بينة صحيحة من جلية الأمر، وحتى لا يغشى الحكم نقص يعيبه بقصور يبرر التوجه إلى محكمة النقض.
والرأي الصحيح السليم في مثل هذه المسائل، وقد ندرت في مصر إلى حد القول بعدم ظهورها أولاً وأخيرًا أن الأمر لا يعدو أن يكون ابن ساعته وأنه يؤخذ فيه عادةً بالحيطة والحرص والتؤدة بما يكفل للكرامتين من صيانة شاملة وجو هادئ يعلوه التفاهم الحسن والمساهمة في خدمة الحق والعدالة.