جاء قرار إحالة الرئيس المصري السابق حسني مبارك إلى المحاكمة ليعكس
استجابة واضحة من المجلس العسكري الحاكم للضغوط المتزايدة من المعارضة
والشارع المصري.
منذ ما لا يزيد عن أيام قليلة كان الحديث في مصر يدور صراحة حول احتمال
العفو عن مبارك مقابل أن يرد ما لديه من أموال حصل عليها بدون وجه حق، بل
وتم بالفعل الإفراج عن زوجته سوزان مبارك من الحبس الاحتياطي بعد أن أعادت
للدولة ما قيمته أربعة ملايين دولار من الأموال والممتلكات.
وحملت وسائل الإعلام المصرية أحاديث عن صفقة مماثلة بالنسبة لمبارك نفسه وذلك تأسيسا على تسريبات من مصادر قالت إنها موثوق فيها.
ولكن لو كان الهدف من تلك التسريبات هو إجراء اختبار لرد الفعل الشعبي،
فالمؤكد أن الاختبار قد ارتد في صدر أصحابه وخاصة المجلس العسكري.
فمن ناحية، انتشرت حالة من السخط في الشارع وعبر الإنترنت وفي أوساط
المعارضين لمجرد طرح فكرة الإفراج عن مبارك. ومن ناحية أخرى أسهم مبارك
نفسه في القضاء على أي أمل في العفو عنه عندما هدد بكشف ما قال إنه "أسرار
عن شخصية سيادية" إذا أحيل للمحاكمة. وهكذا أصبح من الضروري أن يحال
للمحاكمة درءا لشبهة أنه يمسك بخناق أحد من حكام مصر.
ورغم أن الجيش سارع بنفي وجود أي خطة للعفو عن مبارك، إلا أن تداول الفكرة
كان كفيلا بشحن الدعوات لخروج مظاهرات حاشدة يوم الجمعة القادم تحت مسميات
كثيرة من بينها "جمعة الثورة الثانية" و "جمعة المحاكمة"، وتوعد منظموها
برفع سقف مطالبهم إلى حد إبعاد الجيش عن السلطة وتسليمها لإدارة مدنية.
ولكن المحللين يرون أن قرار إحالة مبارك إلى المحاكمة، وهو القائد الأعلى
السابق للجيش، يعني أن الجيش قرر أن يعزف ألحان الشعب، لإن البديل قد يكون
مواجهة مع الشارع.
ولا يزال من غير الواضح ما إذا كان مبارك سينقل من جناحه الفاخر في مستشفى
شرم الشيخ المطل على البحر الأحمر ليحاكم أمام دائرة جنائية في القاهرة،
ومثل تلك الخطوة قد يكون من شأنها أيضا تخفيف حدة المعارضة لبقائه في
المستشفى، حيث ترتفع أصوات بأنه يلقى معاملة مميزة لا يلقاها المصريون
العاديون، وأنه ليس هناك ما يمنع من علاجه في مستشفى سجن طرة بعد تجهيزه،
وأخيرا فإن ذريعة بقائه في شرم الشيخ تحت الحبس الإحتياطي قد انتفت بإحالته
إلى المحاكمة التي يتعين أن يحضر أمامها في القاهرة.
وفي ضوء قرار اللجنة الطبية التي شكلها النائب العام المصري لفحص حالة
مبارك في شرم الشيخ، سيتقرر إما إلى مستشفى عسكري أو مستشفى سجن طرة في
القاهرة، أو استمرار بقائه حيث هو مع انتقال هيئة المحكمة إليه، وهو إجراء
قانوني سليم وإن كان سابقة نادرة ما حدثت في تاريخ القضاء المصري.
ومن الناحية النظرية، يواجه حسني مبارك وولداه وعديد من المسؤولين في نظامه
السابق عقوبة الإعدام في اتهامه بإصدار الأمر لقوات الشرطة بقتل
المتظاهرين أثناء الثورة، فضلا عن عقوبات أخرى بالسجن لمدد متفاوته على
اتهامات بالتربح واستغلال النفوذ لتحقيق مكاسب والإضرار بمصالح البلاد.
مثل تلك الإتهامات، والعقوبات المقترنة بها، ربما تسهم في تهدئة غضب
الأصوات العالية في المعارضة المصرية، ولكن هناك ما يشير إلى أن كثيرين من
المصريين يرون أن المحاكمة ينبغي ألا تحيد بالمصريين عن المهمة العاجلة
المتمثلة في إعادة بناء البلاد.
وليس كل ذلك سوى جزء من صراع خفي على السلطة بين المجلس العسكري الحاكم
وباقي أطياف المجتمع المصري بما فيه المعارضة الليبرالية والسلفيون
والإخوان والعنصر الأهم وهو رجل الشارع المصري.
كان واضحا أن التحول في مصر سيكون صعبا بعد أن أصبح المجلس العسكري ممسكا
بزمام السلطة خلفا لمبارك ، وهو الرئيس الذي لطالما كان أعضاء ذلك المجلس
يدينون له بالولاء.
ومنذ قيام الثورة المصرية قبل نحو مائة يوم أكدت المعارضة المصرية بوضوح
أنها متمسكة بالديموقراطية وليست على استعداد لاستبدال ديكاتورية المجلس
العسكري بديكتاتورية مبارك. وهناك الكثير من الانتقادات على أداء حكومة
تسيير الأعمال التي عينها الجيش برئاسة الدكتور عصام شرف، خاصة في ظل حالة
غير مسبوقة من الانفلات الأمني الذي يبدو أنه لن ينتهي في وقت قصير.
والجيش من ناحيته يريد أن يثبت وفي كل يوم أنه غير طامع في السلطة ولا ساع إليها بل راغب في تسليمها لنظام ديموقراطي مدني ومنتخب.
ولكن إنشاء ذلك النظام تصادفه آراء متباينة كثيرة .. هل يوضع الدستور أولا
أم تجرى انتخابات مجلس الشعب أم انتخابات الرئاسة .. وهل يكون نظام الحكم
مدنيا أم برلمانيا ..وأي قانون سيحكم عملية التصويت في الانتخابات ، وهل
يصوت المصريون المغتربون ، ومن يترشح لرئاسة مصر ..وغير ذلك من عشرات
الأسئلة التي لا يزال المصريون يجهدون في البحث عن إجابات لها.