روح القانون

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
الأستشارات القانونيه نقدمها مجانا لجمهور الزائرين في قسم الاستشارات ونرد عليها في الحال من نخبه محامين المنتدي .. او الأتصال بنا مباشره موبايل : 01001553651 _ 01144457144 _  01288112251

    من معسكر الوطنية الى معسكر الخيانة .

    محمد راضى مسعود
    محمد راضى مسعود
    المدير العام
    المدير العام


    عدد المساهمات : 7032
    نقاط : 15679
    السٌّمعَة : 118
    تاريخ التسجيل : 26/06/2009
    العمل/الترفيه : محامى بالنقض

    من معسكر الوطنية الى معسكر الخيانة . Empty من معسكر الوطنية الى معسكر الخيانة .

    مُساهمة من طرف محمد راضى مسعود الخميس أكتوبر 22, 2009 9:46 pm


    محمد نجيب الهلباوي

    والهلباوي هو أحد تسعة شبانٍ اعتقلتهم السلطات في حادث اغتيال الإنجليز..وهو أيضاً أحد اثنين من هؤلاء التسعة قدمتهما النيابة للمحاكمة، فحكمت عليه المحكمة العسكرية البريطانية –هو وزميله محمد شمس الدين- بالإعدام..إلا أن السلطان حسين كامل التمس من الإنجليز تخفيف الحكم، فاستبدلت به الأشغال الشاقة المؤبدة

    ولكن من يصدق أن الهلباوي انتقل من معسكر الوطنية والفداء إلى معسكر الخيانة والغدر، فيعمل مرشداً وعميلاً لسلطات الاحتلال، ثم يبيع زملاء الجهاد بأبخس الأثمان حتى يسلمهم إلى حبال المشانق


    عن محمد نجيب الهلباوي نقرأ ما كتبه جمال بدوي في كتابه "نظرات في تاريخ مصر" الذي يورد أن الهلباوي الذي اتُهِمَ بإلقاء قنبلةٍ على السلطان حسين في الإسكندرية في يوليو تموز عام 1915، أُفرِجَ عنه ضمن الفدائيين المحكوم عليهم في قضايا الاغتيالات السياسية بقرارٍ من وزارة الشعب الأولى برئاسة سعد زغلول. وفي اليوم التالي لإطلاق سراحه، ذهب الهلباوي طائعاً مختاراً إلى مبنى المخابرات البريطانية ليضع نفسه في خدمة الاحتلال، ويسخر خبرته السابقة ومعلوماته الغزيرة عن الأعمال الفدائية لتكون تحت أمر سلطات الاحتلال

    وكان الإنجليز في شوقٍ شديدٍ لواحدٍ من هذا الطراز يكشف خبايا العمليات الجريئة التي قام بها الجهاز السري التابع لقيادة ثورة 1919وذهب ضحيتها العديد من الإنجليز وأعوانهم من الوزراء المصريين

    ظل الإنجليز يبحثون عمن يرشدهم إلى أسرار هذا الجهاز الغامض، حتى ظهر محمد نجيب الهلباوي ليصبح عميلاً في جهاز المخابرات البريطانية تحت اسم "مستر اتش" ويتحول من بطلٍ يحمل روحه على كفه إلى خائنٍ مهمته ملاحقة إخوانه الفدائيين والاختلاط بهم ومعرفة أسرارهم ونقلها إلى العدو
    رحب الإنجليز بالهلباوي واعتبروه مكسباً كبيراً وتركوه يملي عليهم شروطه للتعاون معهم، وهي شروطُ رخيصة الثمن، لا تزيد على راتبٍ شهري قدره 40 جنيهاً بخلاف المسكن والمأكل والمشرب. ويعترف الهلباوي في مذكراته المخطوطة التي أودعها عند الصحفي الكبير مصطفى أمين بأنه خرج من السجن فوجد بعض زملائه قد تقدموا عليه في الوظيفة..فهل يمكن الاقتناع بهذا السبب أو الذريعة لتبرير خيانته لوطنه؟

    على أية حال، كان الهلباوي حريصاً على الاختلاط بدائرة الشبان الوطنيين وكان أعلاهم صوتاً وأشدهم حماسةً وسخطاً على الإنجليز..ثم ينقل أسرارهم وتفاصيل عملياتهم الفدائية لسلطات الاحتلال. وأسهم بهذه الطريقة في إلقاء القبض على الرجال الثمانية الذين خططوا لاغتيال السير لي ستاك سردار الجيش المصري وحاكم السودان العام في 19 نوفمبر تشرين ثانٍ عام 1924، ليقبض ثمن المكافأة التي رصدتها الحكومة له وقدرها 10 آلاف جنيه، ولينعم بالحياة التعسة على رقاب زملاء الكفاح القدامى
    الهلباوي الآخر الذي يضمه الكثيرون إلى الخونة اسمه الكامل: إبراهيم الهلباوي
    وبالرغم من أن الناس عرفوه كأحد أعظم المحامين الذين أنجبتهم مصر، فإن حياته تعد نموذجاً تقليدياً لقصة حياة البطل الذي يخطيء مرةً واحدةً فيهيل على تاريخه التراب، ويظل مثل سيزيف يكافح طوال ما تبقى من عمره –دون جدوى- للصعود بالصخرة إلى قمة الجبل، دون أن يغفر له أحدٌ خطيئته في حق الشعب
    أحب شعب مصر آنذاك إبراهيم الهلباوي (1858-1940) الذي وصفه عباس محمود العقاد ذات مرةٍ بأنه "كان ذا ذلاقة لسانٍ لا تطيق نفسها ولا تريح صاحبها". وكان الهلباوي خطيباً مفوهاً وممثلاً رائعاً يمزج بين العربية الفصحى والعامية البسيطة ويتحرك بخفةٍ ورشاقة، يجبر المحكمة على سماعه ويجعل من يسمعه ويراه مشدوهاً بعبقرية هذا الرجل. قال عنه عبد العزيز البشري في "المرآة" إنه "شيخ يتزاحف على السبعين إن لم يكن قد اقتحمها فعلاً، عاش مدى عمره يحبه ناس أشد الحب ويبغضه ناس أشد البغض.. إلا أن هؤلاء وهؤلاء لا يسعهم جميعاً إلا التسليم بأنه رجل عبقري"

    كان الهلباوي يقف في المحكمة فيهز مصر كلها بفضل حججه القانونية البارعة التي جعلته يدعى أعظم طلاب المرحمة، على حد وصف معاصريه..لكنه فشل في طلب الرحمة لنفسه من الشعب في حادثة دنشواي. وعلى امتداد 30 عاماً طويلة حاول أن يكفِرَ عن ذنب ارتكبه، لكن الشعب أصم أذنيه لأن الذنب كان من النوع الذي يصعب نسيانه وغفرانه

    ففي يوم 20 يونيو حزيران عام 1906، أصدر بطرس باشا غالي ناروز وزير الحقانية بالنيابة قراراً بتشكيل المحكمة المخصوصة لمحاكمة المتهمين في حادثة دنشواي برئاسة بطرس باشا غالي نفسه، وعضوية كلٍ من "المستر" هبتر نائب المستشار القضائي، و"المستر" بوند وكيل محكمة الاستئناف الأهلية والقائمقام لهادلو القائم بأعمال المحاماة والقضاء بجيش الاحتلال، وأحمد فتحي زغلول بك (حمل لاحقاً لقب: باشا) رئيس محكمة مصر الابتدائية وأن يكون انعقادها في شبين الكوم يوم الأحد 24 يونيو حزيران
    كان من المقرر أن يحضر إبراهيم الهلباوي التحقيق مع المتهمين الأبرياء في حادثة دنشواي يوم السبت الموافق 16 يونيو عام 1906 لكنه لم يحضر لعدم عثوره على وسيلة انتقال مباشرة إلى دنشواي ولارتفاع درجة الحرارة في ذلك اليوم
    وعلى رصيف القطار في القاهرة، وجد الياور الخاص برئيس الوزراء مصطفى فهمي باشا يخبره بأن "الباشا" ينتظره في مكتبه لأمرٍ مهم. ثم التقى الهلباوي محمد محمود بك رئيس حزب الأحرار الدستوريين فيما بعد، وكان يعمل آنذاك سكرتيراً خاصاً لمستشار وزير الداخلية الإنجليزي "المستر" ميتشل، الذي سأله عما إذا كان أحد من المتهمين في حادثة دنشواي قد وكله للدفاع عنه..فلما نفى ذلك أخطره بأن الحكومة قد اختارته ليمثلها في إثبات التهمة ضد المتهمين أمام المحكمة المخصوصة، باعتباره من أكبر المحامين سناً وأقدمية
    المفاجأة كانت في حسم الهلباوي تردده وقبوله المهمة، بل وتواضعه في تحديد أتعابه، فمع أنه –كما قال فيما بعد- "كان يتقاضى 500 جنيه في القضايا الكبرى، فإنه خفض أتعابه في هذه القضية، فقبِلَ أن يترافع فيها ب 300 جنيه فقط"

    هذا هو الهلباوي..لا فارق لديه بين أن يدافع عن المتهم ليطالب بتبرئته، أو أن يكون المدعي العام الذي يثبت عليه الاتهام ليطالب بإعدامه
    وهكذا استقبل الهلباوي في مكتبه "المستر" موبيرلي المفتش الإنجليزي لوزارة الداخلية لوزارة الداخلية و"المستر" مانسفيلد الحكمدار الإنجليزي لبوليس القاهرة اللذين أبلغاه أنهما مكلفان بأن يكونا في خدمته في كل ما يتعلق بقضية دنشواي، واقترحا عليه أن يحضر التحقيق وأن يشارك في استجواب المتهمين، لكنه اعتذر عن ذلك وفضلَ أن يزور مسرح الأحداث ليعاينه. وفيما بعد، قال الهلباوي – في معرض تبرير سقطته- إن قبوله القيام بدور المدعي العام قد مكَنه من صد المحاولات الإنجليزية التي استهدفت تضخيم الحادثة (مذكرات إبراهيم الهلباوي: تاريخ حياته، إبراهيم الهلباوي بك (1858-1940)، تحقيق عصام ضياء الدين؛ تقديم د. عبد العظيم رمضان)
    ودنشواي هي قرية تقع في مركز الشهداء، شبين الكوم بمحافظة المنوفية، ويُعتقد أن الاسم مشتقٌ قديماً من دير جواي ثم تحول إلي دنجواي

    وتعود بدايات الحكاية إلى عام 1906 حين صدرت أوامر الحكومة في مصر إلى عُمد بعض البلاد بمساعدة فرقة تابعةٍ للاحتلال البريطاني آنذاك مكونة من خمسة جنود ممن كانوا يرغبون في صيد الحمام ببلدة دنشواي المشهورة بكثرة حمامها كما اعتادوا

    وفي نهار صيفي عادي في يوم الأربعاء الموافق 13 يونيو حزيران كان هؤلاء الجنود الإنجليز بقيادة الميجور كوفين يتجولون بالقرب من القرية المنكوبة ومعهم الأومباشي زقزوق والترجمان عبد العال. وكان الميجور مغرماً بصيد الحمام فأقنع رجاله - وهم: الكابتن بول، الملازمان بورثر وسميث، الطبيب البيطري الملازم بوستك - بأن يتراهنوا لاصطياد الحمام من على أشجار دنشواي


    وكان كوفين وبول وبوستك يطلقون الأعيرة لاصطياد الحمام بجوار الأشجار على جانبي الطريق الزراعي، ولكن تشاء الأقدار أن يتوغل بورثر وسميث داخل القرية حيث كان الحمام عند أجران الغلال يلتقط الحب. ويصوب بورثر بندقيته إلى جُرن الحمام الخاص بالشيخ محمد عبد النبي مؤذن البلدة، فتفقد زوجة الشيخ وعيها بعد أن أصابها عيار طائش

    وتفيد المصادر المختلفة بأن مؤذن البلدة جاء يصيح بهم كي لا يحترق التبن في جُرنه، لكن أحد الضباط لم يفهم منه ما يقول وأطلق عياره فأخطأ الهدف وأصاب المرأة، وتدعى أم محمد. واشتعلت النار في التبن، فهجم الرجل على الضابط وأخذ يجذب البندقية وهو يستغيث بأهل البلد صارخاً "الخواجة قتل المرأة وحرق الجُرن، الخواجة قتل المرأة وحرق الجُرن"، فأقبل الأطفال والنسوة والرجال صائحين "قتلت المرأة وحرقت الجُرن"، وهرع بقية الضباط الإنجليز لإنقاذ صاحبهم

    وفي هذا الوقت وصل الخفراء للنجدة كما قضت أوامرهم، فتوهم الضباط على النقيض بأنهم سيفتكون بهم فأطلقوا عليهم الأعيرة النارية وأصابوا بعضهم فصاح الجمع "قتل شيخ الخفر" وحملوا على الضباط بالطوب والعصي، فألقى الخفراء القبض عليهم وأخذوا منهم الأسلحة إلا اثنين منهم وهما "كابتن" الفرقة وطبيبها اللذين أخذا يعدوان تاركين ميدان الواقعة وقطعا نحو ثمانية كيلومترات في الحر الشديد حتى وصلوا إلى بلدة سرسنا، فوقع "الكابتن" بول مطروحاً على الأرض ومات بعد ذلك متأثراً بضربة شمس إثر عدوه لمسافة طويلة تحت أشعة الشمس
    عندها تركه زميله الطبيب وأخذ يعدو حتى وصل إلى المعسكر، وصاح بالعساكر فركضوا إلى حيث يوجد الكابتن، فوجدوه وحوله بعض الأهالي، فلما رآهم الأهالي لاذوا بالفرار، فاقتفى العساكر أثرهم وألقوا القبض عليهم إلا أحدهم –ويدعى سيد أحمد سعيد - هرب قبل أن يشد وثاقه واختبأ في فجوة طاحونةٍ تحت الأرض فقتله الإنجليز شر قتلة

    وقد نظم حافظ إبراهيم إثر حادثة دنشواي قصيدة يقول فيها:
    أيها القائمون بالأمر فينا..هل نسيتم ولاءنا والودادا؟
    خفّضوا جيشكم وناموا هنيئاً..وابتغوا صيدكم وجوبوا البلادا
    وإذا أعوزتكم ذاتُ طوق ..بين تلك الربا فصيدوا العبادا
    إنما نحن والحمام سواء..لم تغادر أطواقنا الأجيادا


    وكان رد الفعل البريطاني قاسياً وسريعاً، فقد قدم 52 فلاحاً مصرياً للمحاكمة بتهمة القتل المتعمد

    وهنا جاء دور الهلباوي في تلك المسرحية الهزلية

    فقد استخدم الهلباوي دهاءه لتكييف واقعة اعتداء الفلاحين بالضرب على الضباط الإنجليز بحيث يثبت أن الحريق الذي
    وقع في الجُرن نتيجة رصاص الضباط الإنجليز أثناء رحلة الصيد في دنشواي، هو حادثٌ تالٍ للاشتباك بين الفلاحين والضباط –وهذا لم يكن صحيحاً- بل زعم الهلباوي أن الضباط الإنجليز لم يكونوا أصلاً السبب في حدوث حريق الجُرن..وأشار إلى أنه حريقٌ متعمد اصطنعه الفلاحون ليخفوا أدلة سبق إصرارهم وتعمدهم التحرش بالضباط الإنجليز والاعتداء عليهم بالضرب
    وهكذا تمكن الهلباوي من تبرئة الضباط الإنجليز من الأخطاء والجرائم التي ارتكبوها، في حين زاد من مسؤولية الفلاحين عن الحادثة. واتخذ الهلباوي من نجاح الفلاحين في إخماد النيران في الجُرن في غضون ربع ساعةٍ فقط دليلاً على أن الفلاحين هم الذين أطفأوا النيران بعد أن أشعلوها
    ولم يبق في إثبات ركن سبق الإصرار على القتل والشروع فيه سوى إثبات أن فكرة القتل لم تكن عرضيةً وغنما كانت نيةً مبيتة
    وصوّر الهلباوي الأمر أمام المحكمة وكأن الفلاحين رتبوا الأحداث بحيث صمموا على قتل الإنجليز إذا جاءوا للصيد في قريتهم. وكان الملازم بورثر قد ذكر أثناء إدلائه بأقواله أمام المحكمة أن المتهم التاسع عبد المطلب محفوظ قد حماه هو وزملاءه من العدوان عليهم، وقدم إليهم المياه ليشربوا، وهي شهادةٌ كانت كافية لتبرئته
    وعندما جاء الدور على الشاهد فتح الله الشاذلي نجل عمدة دنشواي، ورد في أقواله هو الآخر أنه قد قدم الماء للضباط..فتنبه الهلباوي إلى نقطةٍ جزم بأنها فاتت على الملازم بورثر، ووقف ليقول إنه يلاحظ شبهاً كبيراً في الملامح بين المتهم عبد المطلب والشاهد فتح الله، وإنه يعتقد أن الأمر قد اختلط على الملازم بورثر..فاستدعت المحكمة الضابط الإنجليزي الذي حسم الامر، وقال إن الذي سقاه هو ابن العمدة وليس المتهم. وبذلك حرم الهلباوي المتهم التاسع من فرصته للنجاة من الحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة
    وعلى هذا النهج يروي لنا صلاح عيسى في كتابه "حكايات من دفتر الوطن" كيف بذل إبراهيم الهلباوي جهداً ضخماً في تفنيد كل ما جاء في أقوال المتهمين والشهود ليهدم كل واقعةٍ يمكن أن تتخذ ذريعةً للتخفيف عن المتهمين الأبرياء في حادثة دنشواي، وليثبت للمحكمة أن الحادثة ارتكبت عمداً ومع سبق الإصرار، حتى يفوز بما كان قد اتفق عليه مع سلطات الاحتلال ويعطي المحكمة مبرراً للحكم بالإعدام على المتهمين
    بل إنه فند التقارير الطبية التي قالت إن الضحية الوحيدة في الحادثة وهو الكابتن البريطاني بول، قد مات متأثراً بضربة شمس، وأكد أن موت بول بضربة شمس لا ينفي أن المتهمين هم الذين قتلوه لأنهم هم الذين ضربوه، وألجأوه إلى الجري تحت أشعة الشمس اللاهبة. أضف إلى ذلك أن الهلباوي اتهم المتهم البريء حسن محفوظ بأنه "لم يكدر قريةً بل كدر أمةً بأسرها بعد أن مضى علينا 25 عاماً ونحن مع المحتلين في إخلاصٍ واستقامة وأمانة.. أساء إلينا وإلى كل مصري..فاعتبروا صوتي صوت كل مصري حكيمٍ عاقل يعرف مستقبل أمته وبلاده"
    وبذلك قتل الهلباوي شعبه كله بعد أن صدر الحكم بإعدام أربعة متهمين -هم: حسن علي محفوظ‏,‏ يوسف حسني سليم‏,‏ السيد عيسى سالم ومحمد درويش زهران-‏ والجلد‏50‏ جلدة على 12 متهماً، والأشغال الشاقة لباقي المتهمين

    وفي الثانية من ظهر يوم ‏28‏ يونيو حزيران جرى تنفيذ تلك الأحكام الجائرة، بعد محاكمةٍ استمرت بضعة أيام فقط وأمام أعين الأهالي. وتقول جريدة "المقطم" يوم ‏18‏ يونيو حزيران عام ‏1906‏ إن المشانق أعدت داخل القرية قبل التحقيق‏
    وقال أمير الشعراء أحمد شوقي بعد مرور عام على حادثة دنشواي:
    يا دنشواي على رباك سلام..ذهبت بأنس ربوعك الأيام
    كيف الأرامل فيك بعد رجالها..وبأي حال أصبح الأيتام
    عشرون بيتاً أقفرت وانتابها..بعد البشاشة وحشةٌ وظلام
    نوحي حمائم دنشواي وروّعي..شعباً بوادي النيل ليس ينام
    السوط يعمل والمشانق أربع..متوحدات والجنود قيام
    والمستشار إلى الفظائع ناظر..تدمى جلود حوله وعظام
    وعلى وجوه الثاكلين كآبة..وعلى وجوه الثاكلات رغام
    وعن جدارةٍ استحق الهلباوي لقب "جلاد دنشواي" الذي أطلقه عليه الشيخ عبد العزيز جاويش

    وهجاه الشاعر حافظ ابراهيم في قصيدة قال فيها:
    أيها المدعي العمومي مهلا 00 بعض هذا فقد بلغت المرادا
    قد ضمنا لك القضاء بمصر 00 وضمنا لنجلك الإسعادا
    فإذا ما جلست للحكم فاذكر 00 عهد مصر فقد شفيت الفؤادا
    لا جرى النيل في نواحيك يا مصر.. ولا جادك الحيا حيث جادا
    أنت أنبت ذلك النبت يا مصر.. فأضحى عليك شوكا فتادا
    أنت أنبت ناعقاً قام بالأمس.. فأدمى القلوب والأكبادا
    أيا مدرة القضاء ويا من 00 ساد في غفلة الزمان وشادا
    أنت جلادنا فلا تنس أنا 00 لبسنا على يديك الحدادا
    عاش الهلباوي 34 عاماً بعد تلك المأساة، ذاق أثناءها الذل والهوان من المصريين الذين لم ينسوا له دوره في تلك المحاكمة، بالرغم من محاولته التكفير عن ذلك، وحورب حرباً شديدة من الناس وخصومه وأصدقائه، وطارده لقب "جلاد دنشواي" في كل مكان. وكانت له كلمته الشهيرة: "ما أتعس حظ المحامي وما أشقاه.. يعرض نفسه لعداء كل شخص يدافع ضده لمصلحة موكله فإذا كسب قضية موكله، أمسى عدواً لخصمه دون أن ينال صداقة موكله"


    لكن إبراهيم الهلباوي لم يكن الخائن الوحيد لمصر في حادثة دنشواي، فقد كان هناك اثنان آخران أولهما بطرس باشا غالي (1846-20 فبراير شباط 1910) وزير الحقانية بالنيابة آنذاك الذي ترأس المحكمة. أما نهاية هذا الرجل فكانت على يد صيدلاني يدعى إبراهيم الورداني، اغتال بطرس غالي أمام وزارة الحقانية في الساعة الواحدة ظهراً يوم (11 من صفر 1328 هـ=20 فبراير 1910)، حيث أطلق عليه الورداني ست رصاصات أصابت اثنتان منها رقبته. وكان اغتيال بطرس غالي هو أول جريمة اغتيال في مصر الحديثة
    أما الثاني فهو أحمد فتحي زغلول ( فبراير شباط 1863- 27 مارس آذار 1914) عضو المحكمة ورئيس محكمة مصر الابتدائية الذي كتب حيثيات الحكم بخط يده. ولم يغفر له أحد ما فعله في دنشواي..لم يغفر له أن الشقيق الأصغر لزعيم الأمة سعد زغلول، حتى أن ذكراه كانت تمر بعد ذلك وسعد زعيم الامة المحبوب، فلا يجسر أحدٌ على الإشارة إليها

    بل إن خصوم سعد زغلول كانوا يشيرون إلى شقيقه أحمد فتحي كدليلٍ على عدم وطنية الأول

    وحدث في العام التالي مباشرةً لمأساة دنشواي، أي في عام 1907، أن تمت ترقية أحمد فتحي زغلول إلى منصب وكيل وزارة الحقانية، وأقام له بعض الموظفين حفل تكريمٍ في فندق "شبرد"، وطالبوا أحمد شوقي بالاشتراك في الحفل بقصيدة، فأرسل إليهم ما أرادوا في مظروفٍ..وفتحته لجنة الاحتفال في الموعد المحدد، فوجدت به أبياتاً تقول:

    إذا ما جمعتم أمركم وهممتموا..بتقديم شيءٍ للوكيل ثمين
    خذوا حبال مشنوقٍ بغير جريرةٍ..وسروال مجلودٍ، وقيد سجين
    ولا تعرضوا شعري عليه، فحسبه..من الشعر حكمٌ خطه بيمين
    ولا تقرأوه في "شبرد" بل اقرأوا..على ملأٍ في دنشواي حزين

    وكانت لطمةً قويةً..وأنقذ أحمد فتحي زغلول نفسه، فغادر الدنيا بعدها بسنواتٍ قلائل، إذ مات في عام 1914 وهو وكيلٌ لوزارة العدل


    منقول



      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة نوفمبر 22, 2024 12:02 pm