{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ}
في هذه الآية معني يشيع في القرآن كله.. تقوى الله والإعداد ليوم اللقاء، وانتظار بشريات سارة بعد دنيا لم تخلُ من الكدر والقلق..
هذا المعنى الشريف يصحح للإنسان هدفه.. ويضبط خطاه.. ويقيه الزيغ والضلال..
الإنسان في القرآن
يستهلُّ
الشيخ كتابه (علل وأدوية) بقوله: "لقد كانت الملائكة متشائمة من مستقبل
الإنسان على الأرض" لافتا إلى تساؤلهم كما جاء في القرآن: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} فيجيء الجواب الإلهي الأعلى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ}
ثم يبين الشيخ قصة الإنسان كما أوردها القرآن فمن تنعيم (متجسد في تسخير
كل شيء له)، وتكريم (متجسد في نفخة علوية في جسده) إلى التكليف (في الرسالة
التي حمّله الله تعالى إياها).. ثم يبين سببين أساسيين لمعصية هذا الإنسان
لله تعالى ومخالفة الأمانة التي حملها؛ هذا السببان هما:
1- الضعف الإنساني وميله للتراب الذي خلق منه (متمثلا –كما ذكر الشيخ- في النسيان وضعف العزيمة {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً}).
2- الشيطان الذي يضله: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}..
ويلفت
الشيخ إلى أن ادّعاء أن الشيطان وحده هو المضلُّ هي علة واهية، قائلا في
بلاغة نادرة: "إن الشيطان محطة إرسال تبث فنون الإغراء والإغواء، والإنسان
هو الذي يهيئ نفسه لاستقبال هذه الإذاعات والتجاوب معها".. ثم يمضي الشيخ
في ذكر علل الإنسان وطبائعه كما سجلها القرآن من النسيان والأنانية والأثرة
وحب الفخر واختلاق المعاذير وبطره عند الغنى وقنوطه مع الفشل..... ثم أوضح
القرآن الكريم أن الفكاك من كل ذلك ودواء كل هذه العلل موجود في كتاب
الله، فلما خوّف القرآن من انحرافات النفس الإنسانية ذكر أسباب النجاة
وجمعها في سورة العصر: { وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي
خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا
بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.
كيف غير الإسلام مسار العالم
وفي فصل جديد يتساءل الشيخ: كيف غير الإسلام مسار العالم؟
فإذا
به يجيب أنه العمل الشاقّ المضني الذي قام به محمد صلى الله عليه وسلم
لتغيير الأوهام والأهواء وصرف القرون عما ألفت وانتقالها مما كانت عليه إلى
الوعي والسداد.. ثم يتساءل من جديد: كيف يتم تصحيح تلك الأخطاء التي غبرت
عليها قرون طوال؟ ويجيب بأن ذلك يتم بإثارة العقل والتفاهم الهادئ والحوار
الحسن.. يتم برد الإنسان إلى فطرته واحترامه لمواهبه واستكشافه لحقيقته..
وقد كان القرآن معينا معجزا في أداء هذه الرسالة..
ثم يطلق الشيخ
غضبته على الفهم القاصر للإسلام من أنه ركون لغيبيات غامضة وانسياق وراء
مشاعر مبهمة.. ثم يوضح المنزلة الحقيقية لأولي الألباب في القرآن فيذكر
المواضع التي ذكر فيها أولو الألباب في كتاب الله ويتناولها بالتحليل ليؤكد
أن أن الدين قام على الرشد والصواب لا على الجزاف والفوضى.. ليختتم الشيخ
تطوافته في هذا الاستقراء القرآني بقوله: "نحن نجزم بأن الأمم المتخلفة
عقليا لا تتصل بالإسلام إلا دعوى، وأنها ما تصدق في هذا الانتماء المزعوم
إلا يوم أن تكون من أولي الألباب"....
ثم يؤكد الشيخ أن الإسلام هو دين الفطرة وأن تجاوب المرء مع فطرته وحده كفيل بأن يخلق مجتمعا قريبا من تعاليم الإسلام..
ثم
يوصي الشيخ بأن يملأ الإنسان قلبه بالله وأن يسعى في مناكب الأرض
"فالإيمان الحق أن يكون الله في قلبك وأنت تقطع الليل والنهار على ظهر
الأرض".. وهذا لأن الطبيعة لا تعرف الفراغ كما يقولون فالقلب الفارغ من
الله مملوء مؤكدا بشيء آخر من الأثرة والحقد.. يعبد صنما من الأصنام
الحديثة كالثراء أو الجاه أو أي شهوة من شهوات الدنيا.. لذا ظل القرآن يحضّ
على ذكر الله واستدامة هذا الذكر مع تجدد الزمان، وفي القرآن شواهد لهذا
كثيرة ثم استمع لحكمة الشيخ حين يقول: "إن الغرفة التي ينقطع عنها تكييف
الهواء سرعان ما يغلبها الجو العام!.. والإنسان الذي ينقطع عنه تيار الذكر
سرعان ما تتسلل إليه الأحاسيس الرخيصة وما دام لا يشتغل بالخير فستقتحمه
الشرور"..
ثم يتساءل عن هذا الذكر وما هو معناه؟ فيؤكد أنه سلوك
ظاهر وعمل بارز ووجهة في الحياة تصبغ كل شيء بالربانية وتسوق العباد إلى
ربهم سوقا رفيقا يرفض الدنايا ويؤثر الآخرة.. ثم يعدد الشيخ آثار الذكر في
النفس والحياة فيؤكد أن أول ثماره الارتقاء بالضمير عن الرذائل أو إغضاب
الله، وكره المعصية، ونقاء السر والعلانية..
وفي مبحث آخر يؤكد
الشيخ أنه ضد التعصب المذهبي فكل يؤخذ منه ويرد فليس أحد رزق العصمة بعد
محمد صلى الله عليه وسلم.. فاحترامي لك لا يعني أبدا أن أُسَلم بكل ما تقول
وتخطئتي لإنسان لا تعني أبدا أني أفضل منه؛ فالشيخ ضد التقديس والتعصب
لعالم أو مذهب كما أنه ضد التجريح وغمز العلماء.. ولهذا يقف موقف المدافع
العادل أمام من اتهم كبار العلماء فيدافع عن الإمام مالك والإمام محمد عبده
وجمال الدين الأفغاني في مواجهة مدرسة الأثر التي توجه لهم اتهامات
بتجاوزات آثار ثابتة.. ناصرا الحق وحده غير متحيز لفئة على أخرى اللهم إلا
الحق الذي يؤمن به مؤكدا أيضا أن هذا التعاون المثمر هو المنجى من تفشي
الخلاف على هذا النحو الذي لن ينتج إلا البغضاء التي تطيح بالحق، فينادي
هاتفا: "فجمْع الشمل أولى والتلاقي على أركان رسالتنا أهم من التخاصم على
سفاسف الأمور"..
ثم يخصص الشيخ مبحثا سماه "شائعات في ميدان العلم"
يرد فيه على بعض الشائعات التي تُلقى في المرويات وهي من أخبث ما يكون؛
لأنها مع انتشارها تضرُّ بالدين ولا تفيده في شيء حتى مع صحة بعضها كما ذكر
الشيخ.. فأورد شائعات في القرآن والسنة والفقه.
جوانب من عظمة محمد صلى الله عليه وسلم
ويكشف
الشيخ بعضا من جوانب عظمة الرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم في
التربية وكيف أنه صنع جيلا يتحرك بفكره ويموت من أجل رسالته، ثم جعل يصف
هذا الجيل الأول للإسلام وكيف أنهم حفظوا وبلغوا كتاب الله كاملا ودونوا
سنة نبيهم كاملة غير منقوصة ولم يكن التدوين معروفا في مثل ذلك الوقت..
وكيف حمل هذا الجيل مشعل الهداية للعالمين ففتحوا البلاد لله الواحد القهار
ونشروا دين الإسلام في كل ربوع الدنيا رغم أن الطريق لم تكن سهلة؛ فيستخلص
الشيخ أن تربية محمد صلى الله عليه وسلم لهذا الجيل كان معجزته الكبرى بعد
القرآن الكريم..
ثم ينقل الشيخ بعض الحقائق عن هجرة الرسول صلى
الله عليه وسلم فيستقرئها من كتاب الله تعالى ويبين دور المرأة في الهجرة
واشتغالها بالدعوة على خلاف ما يظن بعض الناس من أنها كائن خامل ويضرب
أمثلة كأم سليم التي وصفها بقوله المحلى بالقَسَم: "لعمري إن هذه المرأة
لأشجع من رجال".. وأسماء بنت يزيد بن السكن وأم سلمة وأسماء بنت أبي بكر
رضي الله عنهن جميعا..
رحـــــــــلات
ثم
يتأمل الشيخ رحلة الحج ومناسكه ويحلق بك في أجواء رحبة ومعاني رائعة
مستخلصا الحكمة من كل هذه الحركات والسكنات مبينا مراد الله منها.. ثم
يختتمها بقوله: "الحج عبادة تقيمها قلوب ساجدة وأيد مجاهدة.. فهل نحسن الحج
أم نذهب ونعود ونحن لا ندري؟!!
ثم يطوف بنا في رحلة أخرى سماها
"رحلة من العلم إلى الإيمان" مؤكدا أن العقل المستقيم لا بد وأن يصل إلى
الله، وتفكيره الجيد لن يبعده عن الله أبدا مهما طال المدى.. ثم يورد
مقالات ومواقف لأساطين العلم المادي –كما سماهم هو- وكيف رآها صادقة
فأوردها غائصا كعادته -رحمه الله- فيها مستخلصا الحكمة ومبينا خفي مشاعر
أصحابها..
ثم في رحلة أكثر قدسية يرحل بنا الشيخ الغزالي إلى الله
مبينا أنه جل شأنه هو الحقيقة كلها من خلال تأمل مفردات حياتنا وتصريف الله
العظيم للكائنات.. ويخوض في عالم المادة والروح والعلم والعمل.. ولا يبعد
كثيرا حين يناقش قضية التعليم الديني في بلادنا وكيف أنه لم يتطور ولم يرقَ
للدرجة المطلوبة متسائلا بلهجة شكوى مريرة: "فهل يستيقظ رعاة التعليم
الديني قبل أن يفوت الأوان".
أسرار وراء تخلفنا
ويغوص
الغزالي في قلب الجرح كاشفا النقاب عن "أسرار وراء تخلفنا"، فيبدأ بضرب
هذا المثل: "لقد بدأت صناعة الطيران في مصر والهند في سنة واحدة كما بدأت
بحوث الذرّة تقريبا في السنة نفسها.. وأكبّ علماء البلدين على القيام
بأعمالهم.. والاستفادة من التقدم الأوروبي في هذا المجال.. وبعد ربع قرن
نجح الهنود في إنتاج طائرة هندية كما نجحوا في تصنيع قنبلة ذرية.. أما
عندنا فقد توقف مصنع الطيران بعد سنوات معدودة وتجمد العمل في وكالة الطاقة
الذرية وإلى الآن لم نخط خطوة إلى الأمام".. ثم يرجع الشيخ هذا السبب لا
إلى تفوق العقل الهندي على العقل المصري بل إلى "استقرار الحريات في الهند
الذي أتاح لكل ذي كفاءة أن يعمل وأن ينجح.. وأن النظام الديمقراطي السائد
أقام سباقا لا حواجز فيه بين أصحاب المواهب، فانطلقوا يخدمون أمتهم
ويتبارون في إعلاء شأنها"، ويضرب مثلا بسقوط الحكومة المستولية على السلطة
في ظل انتخابات عادلة تأتي بالسيدة المعارضة "أنديرا غاندي" لتحكم البلاد..
وينطلق الشيخ من مصر إلى غيرها من أخواتها مبينا كيف أن الاستبداد خلّفها
عن ركب الحضارة أزمنة مديدة.
ويمضي يعدد التنكيل الذي لحق بالمسلمين
في تلك الحقبة فيتحدث عن مجزرة بيروت وعن حال المسلمين في الفلبين
وماليزيا وغيرها ثم يؤكد على مسئولية العرب خاصة إزاء مسلمي العالم؛ لأن
أصول الإسلام والتراث الإسلامي اكتمل بلغتهم وتفجر من منابعهم وامتد مع
التاريخ بلسانهم فهم مسئولون عن حمايته ورعايته.
أمة ورسالة
ثم
يبين الشيخ وظيفة المسلم فيؤكد أن الإسلام: أمة، ورسالة.. الرسالة هي
الوحي الإلهي الذي يخط الطريق المستقيم.. والأمة هي المجموع الذي ينقل هذا
الوحي من ميدان النظر إلى ميدان التطبيق؛ أي تفهم الوحي، وتطبقه، وتدعو إلى
اعتناقه.. ويؤكد أن هذه الأمة لا بد أن تكون صورة حسنة لرسالتها وكيف أن
هذه الدعوة لا بد أن تستند لعلم ثابت وفقه حقيقي لا دعوات حماسية تفتقد
العلم والمعرفة.
وهاهو الشيخ الغزالي يهتف في حرارة أننا في حاجة
إلى مراجعة تفكيرنا الديني وأساليب حكمنا على الأشياء والبحث والتحليل في
حقائق الأمور..
وعن الصوم يتحدث الشيخ الغزالي.. فيحكي عن استغراب
الحضارة الحديثة لعبادة الصوم وإنكارها لفلسفته إذ إن حضارة تعبد الجسد
وتلبي رغباته ولا تمد بصرها إلى ما بعد الحياة وانتهاز فرصة الوجود.. كيف
تفهم هذا الحرمان المادي... بل إن هذه الموجة المادية تعصف بنا كذلك..
استمع إليه يقول: "إن سعارا ماديا محرقا يجتاح المدن والقرى ليباعد الناس
عن ربهم وعلى المؤمنين أن يطفئوا هذا السعار وأن يحموا حقيقة الشهر المبارك
وأن يجعلوا من الصيام المفروض تجليا للروحانية المقبلة على الله المؤملة
في رضاه".
وهكذا استعرض الشيخ الغزالي بعض العلل والآفات التي أصابت
مجتمعنا المسلم، وأرجعها إلى فساد الفطرة وعدم تفهم الوحي الإلهي، ووضع
علاجها في ملء القلوب بالله عز وجل وملء الشعور بعظمته ورقابته، مؤكدا أنه
إذا أصيب القلب ولم يتبع روح الإسلام لم تنفع الأوامر الجزئية في تقويم
السلوك، كما أن تعليمات المرور لا تفيد السائق الأعمى .