مات الرئيس.. خبر من كلمتين «مات مبارك» او سيموت اليوم أو بعد شهر أو بعد
عام لاشئ يدعو للدهشة فهو ميت ونحن ميتون ايضا لكنها جنازة صامتة ليس
احتراما لجلال الموت وإنما لأن الميت حرم نفسه من لقب الرئيس السابق وأصر
أن يكون «مخلوعا» ولنا أن نتخيل شخصا عنيدا عدوا لنفسه يقاتل لآخر لحظة من
أجل محو تاريخه لكن الآن مات ولايجوز علي الميت إلا الرحمة ولاتصح الشماتة
بالموتي ولا الثأر منهم اللهم إلا ما يخص التاريخ وقد مات الرجل وأصبح
تاريخا من حقنا أن نسائله ونحكم عليه ولكن هذا ليس من حقنا الآن وسيفعله
مؤرخون في فترات لاحقة وليس في يوم الرحيل.
يحتار التليفزيون أي مادة يمكن أن تذاع لابد من حشود ولكن حشود الجنازات
لعبد الحليم وأم كلثوم مثلا لم تبلغ عشر معشار جنازة عبدالناصر، وقد شاركت
فيها بنفسي وكنت في مهد حياتي صبيا لم أبلغ الخامسة وطاف النعش قريتنا
والناس خلفه ينتحبون وكنت أثق أن بداخله عبدالناصر شخصيا، في حين كانت
جنازة السادات أقل جلالا لم يشارك فيها الشعب بل رؤساء وفود بعض الدول
واقطاب الكيان الصهيوني من قتلة إخواننا في حروب 48، 56، 67، 73 وما تلاها
من ضحايا علي الحدود المصرية الفلسطينية فأي الحشود يذيعها التليفزيون
لجنازة مبارك لاشئ غير المليونيات التي كان يضيق بها ميدان التحرير خلال
ثورة 25يناير أيام الجمعة والأحد والثلاثاء،
ولكن اللافتات والشعارات تحمل طابعا عدائيا للرئيس ومونتاج هذه اللقطات
لكي تبدو مناسبة للحدث- صعب فنيا ومكلف ماليا أما المظاهرات المؤيدة له
خلال الثورة، في ميدان مصطفي محمود وأمام ماسبيرو فهي هزيلة وتخلو من
الحرارة اللائقة بجنازة رئيس ومن الافضل ألا يفتعل التليفزيون - أي
تليفزيون- حشودا بل ينزل إلي الشارع ويسير وراء الجنازة ويرصد وجوه
المشيعين- يصعب علي التليفزيون في ظل الحرمة الخاصة بنزلاء سجن طرة أن ينقل
مباشرة من هناك ردود فعل أركان نظام مبارك ومن يشاهدون الجنازة يحصون عدد
المشيعين وهذا بالطبع سهل فهم قليلون ولكن لاشئ يشغلهم إلا الانتهاء من هذا
العبء،
والهروب من كاميرا الفضائيات التي ترصد انفعالاتهم ولايدرون أن اركان
النظام تابعوا من محبسهم الفخم وقائع الجنازة، ضرب زكريا عزمي كفا بكف
وقال: «دا تهريج بالذمة حد يصدق أن دي جنازة رئيس؟!» طبعا هو رفض كما يقول
الرواة في روايات بعضها مبالغ فيه وملحون أن ينزل معه أحمد نظيف وقال: أن
من غير اللائق أن يتساوي «رئيس حكومة» مع رئيس ديوان رئيس الجمهورية» ويقصد
بالطبع أن يساوي 2 أحمد نظيف مع الاحتفاظ لنظيف بحقه في الطول اذ زاده
الله فيه بسطة ثم إنه رئيس فقط ولكن لقب زكريا تتكرر فيه كلمة «رئيس» مرتين
ولكن كلام زكريا اعتراف متأخر لنظيف بأنه كان بالفعل «رئيس مجلس الوزراء»
وهو منصب لم يصدفه أحمد نظيف منذ اختياره للمنصب حتي اقتياده للسجن ففي
اليوم الأول صرح بأنه «مالوش في السياسة» وشهد بهذا زملاء له في كلية
الهندسة منهم أحمد بهاء الدين شعبان، ولكن الرجل وجد نفسه متورطا برئاسة
الوزارة فلم يشفق منها وتمادي حتي وقع في التهلكة.
وخرج أنيس منصور للمشاركة رشيقا خفيفا غير عابئ بسبعة وثمانين ربيعا ونحن
في الربيع والجو بديع لكن لن يقفل علي أي مواضيع فأخيرا تنهد بعمق ورصدت
الكاميرا زفيره واستراحته وتوقع أركان النظام المعتقلون أن يقول كلاما
قاسيا علي الرئيس وعليهم وحتي أن السيدة سوزان ستندهش مساء، وهي تتابع
إعادة لجانب من مشاهدالجنازة وتري أنيس مستريحا وقد ازيح من علي قلبه هم
كبير، وسوف يكشف حوارات السادات معه وفيها الكثير عن حسني مبارك وأنيس
لاتعنيه ذاكرة الناس، ولا ذاكرته هو فبعد مرور أسبوعين علي وفاة عبدالناصر
لم يكن قد استرد وعيه مثل توفيق الحكيم وكتب في «مواقف» يوم 13/10/1970 أن
عبدالناصر ليس ماضيا ..
إنه حاضرنا ومستقبلنا ايضا وكفاحه مرحلة من كفاح أمتنا، رحلة فيها الدموع
والدماء والنار والدخان والمصانع والمؤسسات «الطرق والثروة والكتب والدواء»
وطبعا لم يفوضه أحد ليتحدث باسمنا وكان الأدق أن يقول «الماضي.. الحاضر..
المستقبل»، بدلا من صيغة الجمع التي سارع إليها من دون أن يجبره علي ذلك
أحد.. وفيما بعد سينسي هذا الكلام لأنه مجرد كلام ويكتب أن عبدالناصر خدع
شعبا وضلل أمة.. كانت تراوده أحلام الاسكندر الأكبر «في الوحدة مع سوريا»
عندما نظر إلي السماء فسألوه، قال: ابحث عن مستعمرات جديدة».
و قد بدأ أنيس منصور هجومه علي مبارك بعد أيام من خلعه انتقل من اتهام
الثوار قبل أيام بالعمالة وتلقي اليورو ووجبات كنتاكي- التي لم أر واحدة
منها في الميدان- ثم اكتشف أن إقامة الرجل قبل قرارات استجوابه وحبسه في
مستشفي شرم الشيخ بعيدا هناك في دولة ذات سيادة تعصمه من الخجل فقال أنيس
لمبارك: «لماذا المليارات التي تملأ الجيوب، ياليتك ورثت هذه المليارات
وانما كانت من قوت الشعب ياريس! «29/3/2011»
و لم يقترب محمد حسنين هيكل من أنيس منصور، بل لمحه فتجاهله، وكان أكثر
تأثرا وحزنا علي مبارك، اراه سئ الحظ عاصر هيكل كلا من فؤاد وفاروق ونجيب
وناصر والسادات وكان مبارك الأطول عمرا والأكثر نحسا، حتي إنه عاش ليري
آثاره تمحي وهو حي مطارد بلعنات أهالي الشهداء ولكن هيكل نظر إلي الأمر من
زاوية إنسانية ورآه مثل أبطال التراجيديا الذين يسعون إلي حتفهم وهكذا هم
دائما.
مفيد شهاب وعلي الدين هلال من باب الولاء لمرحلة كان آخر ثمارها مبارك
شاركا في الجنازة هما ابناء التنظيم الطليعي وتحولاته وتقلباته التي كان
آخر تجلياتها لجنة السياسات، هما رائدان لجمال الوريث التعيس لكنهما لم
يجرؤا علي أن يقولا له إن الثمرة معطوبة ومنظورة وفاسدة وستنفجر في وجهك
مثل لغم وكلاهما جاري الوريث ويدينان له بالكثير وسعدا بغيابه وراء سور
السجن وقدما العزاء للا أحد كلاهما صافح صاحبه ولم يجرؤ علي النظر في عينيه
ونظر إليهما اسامة الباز لائما ولم يقل شيئا وخشي شهاب وهلال من نظرات
أسامة وقال كل منهما في سره ليته يتكلم بدلا من نظراته القاتلة سيكون
وراءها ما وراءها وسيخرج أبو الهول عن صمته الأزلي ويتكلم فما يعرفه كثير.
أما أذكاهم «فوزي فهمي» فقد اتصل بجابر عصفور من باب «وذكرهم بأيام مبارك»
ولكن جابر نسي امتداحه لمبارك والسيدة زوجته وأغلق التليفون وظل ملازما
للتليفزيون ورأي وجه فوزي قد التقطته الكاميرا خاليا من الحزن خاليا من أي
تعبير كأنه سماء في يوم قائظ لاسحب ولا مطر وفوزي من الاوفياء وهو صاحب
قديم لمبارك من أيام موسكو في الستينات وكان مبارك يحبه ولولا سطوة فاروق
حسني وقوته ونعومته لاصبح فوزي وزيرا وكان ينتظر ذلك ويحلم وان كانت ملامحه
الخالية من الانفعالات- يوم الوفاة وما سبقها- لاتشي بذلك وفرح فوزي
باقبال فاروق حسني عليه في الجنازة وندائه البقية في حياتك يادكتور ولم يكن
في الجنازة وجه معروف يتلقي العزاء نيابة عن عائلة مبارك وأهله هناك في
كفر المصيلحة في شبه قطيعة ولكن للموت وجها حسنا، بإزالة أسباب الجفوة ثم
إن الرئيس قد مات ولا أحد يجافي الرميم.
ولاينتظر المرشحون للرئاسة المتطلعون إلي المنصب الكبير أن يدعوهم أحد بطلب
رسمي أو بإشارة تعفي أولي الأمر الحاليين مثل هذا الحرج ويبادر عمرو موسي
إلي مهاتفة من البرادعي ثم المستشار هشام البسطويسي وحمدين صباحي ويأتي كل
منهم من طريق ويتفقون علي الالقاء في ميدان التحرير بعيدا عن مبني الجامعة
العربية بالطبع ويتوافدون علي الحديقة الوسطي، ويراهم الناس، فيحتشدون
ويهتفون «عاش الرئيس عاش الرئيس» فيبتسم عمرو موسي ويقول لأقرب واحد من
الجمهور الرئيس مات ونحن في الطريق إلي الجنازة فيقول الرجل:لستم معزين
يالئام بل تريدون أن يتأكدلكم أنه مات وقال صباحي الموتي لايعودون وشغلهم
الناس بأسئلة عن المستقبل عن مصر القادمة ويقولون أنهم لن يدركوا الجنازة،
هكذا تابعوا المشهد في التليفزيون ومصر ابقي من الميت ثم إن أحدا من الأسرة
غير موجود لتلقي العزاء والأقارب من كفر المصيلحة يعزي بعضهم بعضا.
وجاء إلي الجنازة: كمال الجنزوري وأحمد جويلي وكان خالد محيي الدين وزكريا
محيي الدين يتهاتفان وبدا زكريا حزينا وقلقا علي مستقبل البلد في ظل ما
يبلغون به من أخبار من فوضي وفراغ أمني ولكن خالد نقم علي تلميذه مبارك
الذي بخل عليه بمنحه نجمة سيناء أو وسام النيل الذي حرمه منه السادات بحكم
الخلاف الأيديولوجي بينهما ولم يكن لمبارك حجة في حجب التكريم.
والتقطت كاميرا التليفزيون عبدالحليم قنديل يضبط نظارته ويريد اللحاق
بالجنازة، لامه أحدهم ألست القائل إن مبارك يستحق أن يحاكم لا أن يحكم
وهاهو قد حوكم ورأي أولاده ذل الإبل ومات فلماذا تمنحه أهمية المشاركة؟
وقال إنه جاء ليرصد «يتفرج» فقط
وأضاف أن نصف هؤلاء وهم لايزيدون علي خمسة آلاف جاءوا للفرجة لرؤية جنازة
رئاسية وسوف ينصرفون واحدا وراء الآخر وأبدي دهشته لأنه لايري زاهي حواس أو
فاروق حسني أو كل من كانت له علاقة وثيقة بالهانم وقالوا له إن فاروق حسني
موجود جاء يرد بعض الدين لرجل تولي حمايته وقال من بعد عودته مهزوما في
معركة اليونسكو: ارمي ورا ضهرك ولكن انصرف بسرعة بعد أن ضمن التصوير.
وكان عبدالحليم قنديل ينتظر مرشحي الرئاسة ليري كيف يستقبلون كبار المعزين
من الأشقاء العرب وفكر لحظات وقدر أن أحدا لن يأتي أو عددقليل من وزراء
الخارجية ومبعوثي الرؤساء والملوك والسلاطين ولن يفكر القذافي في إرسال
بعوث لأنه مشغول بالسؤال عن جنسية الذبابة التي ضايقته وهو يلقي خطابه
الشهير واضطرته لتكرار كل شئ مرتين دار دار.. زنجة زنجة وبعد فشله في
اصطياد «الجرذان» سوف يركز علي مطاردة الذباب ومع اقتراب الموكب من المقابر
كانت عجوز عائدة من هناك وجلست لتستريح وكانت ترفع لافتة الشهيد مصطفي
سمير الصاوي وتذكرته علي الفور وقد استشهد في جمعة الغضب ومشيت في جنازته
يوم السبت 29/1/2011 من الدقي إلي ميدان التحرير ثم تركت أهله الذين لا
أعرفهم ولا يعرفونني يكملون الرحلة اللي المدافن وظللت في الميدان وقالوا
للعجوز أنها جنازة مبارك فقالت «أعوذ بالله ونهضت وصاحت ناهية إياهم أن
يدفنوه قريبا من حفيدها الشهيد «21 عاما» فقالوا لا إن مقبرته ترد الروح
وتكلفت الملايين وهي مزودة بالكماليات
فقالت بتحد: ولو! حفيدي شهيد وحسني قاتل وكان مدكور ثابت يتابع البث الحي
للجنازة واتصل بأسامة عفيفي واستشاره في تضمين مشهد منها ينهي به فيلمه
شهداء ثورة 25 يناير ولم يسترح أسامة لأن تكون جنازة مبارك هي «الفينالة»
التي لاتغادر ذاكرة المشاهد، واقترح عليه أن يجد لها مكانا آخر.