"لا نريدها مدنية.. نريدها إسلامية!"
هذه
العبارة حلقة جديدة لمسلسل مأساة عدم المعرفة بالمصطلحات والمفاهيم,
والحماسة مهما كانت صادقة ونبيلة فهي عاطفة، يجب أن تقترن بالعِلم
والمعرفة، وهذا ما قصدناه من حملة "من التحرير إلى التغيير"..
...الحديث
عن مصطلح الدولة الإسلامية بالصورة السابقة يعطيه صورة المُضادّ لكل أشكال
الدول الأخرى، مع أن التجارب التاريخية قد أثبتت أن الدولة الإسلامية يمكن
أن تكون مدنية أو دينية، ديمقراطية أو ديكتاتورية، شمولية أو ليبرالية..
هذه صفة عظيمة للإسلام وسياسته قرر البعض انتزاعها منه بالتعصب ورفض الفهم
وإهمال التدبر في المفاهيم والتعبيرات.. فالإسلام لا يرفض أية تطبيقات
لنظام الحُكم ما دام لم تتعارض مع نظامه الشرعي الوارد في الكتاب والسنّة..
الدولة المدنية
أولاً
تعالوا نتأمل: ما معنى الدولة المدنية؟ الدولة المدنية هي الدولة القائمة
على نظام "المؤسسات" التي تربطها علاقة تجمع بين الاستقلالية لكل منها عن
الأخرى، وفي ذات الوقت تبادل التعاون والرقابة، وهي دولة لا ينفرد القرار
فيها لحاكم واحد، أو لحزب واحد، أو لطبقة حاكمة منغلقة، بل يُمارَس الحُكم
عن طريق توزيع السلطات على إدارات ومؤسسات متنوعة، تحترم كل منها تخصص
الأخرى، ويمارس فيها الشعب رقابته على القائمين على إدارة البلاد من خلال
البرلمان والقضاء، وكذلك من خلال نظام انتخابي يشمل المناصب العليا من رئيس
الجمهورية ورؤساء الإدارات والمحافظين ورؤساء الأحياء وعُمَد القُرَى..
فتأتي أصوات الناخبين بمن يرضاه الناس قائمًا بهذا الأمر أو ذاك من أمورهم،
وتخلع من لا يكون أداؤه وفق المطلوب.
والقرارات المصيرية في الدولة
المدنية يجب عرضها على الشعب في استفتاء عام حر، حتى لا يتحمل الناس
مسئولية قرار لم يتخذوه بإرادتهم الحرة.
أما عن مسألة استقلالية
المؤسسات في الدولة المدنية فهي تعني استقلالية القضاء عن الحكومة،
واستقلال الإعلام والصحف والمؤسسات الثقافية، وكذلك استقلال الجامعات،
واستقلال المؤسستين الدينيتين (الأزهر والكنيسة الأرثوذوكسية) عن السلطة
التنفيذية، بالإضافة لتوفّر حرية المواطنين في إطلاق الصحف والقنوات
المرئية والإذاعات، بعيدًا عن تَحَكّم الدولة، ولكن مع الحفاظ على الضوابط
العامة المرتبطة بالنظام العام للدولة وبآدابها العامة وطبيعتها الاجتماعية
والثقافية والدينية.
بقي أن أقول إن الدولة المدنية ليست تعبيرًا
مضادًا للدولة الإسلامية، بل هي تعبير مضاد للدولتين العسكرية والدينية..
وهذا المصطلح الأخير بالذات يحتاج لشرح وتفسير.
الدولة الدينية
الدولة
الدينية هي دولة يقتصر صنع القرار فيها على أحد أو بعض الأفراد، بناء على
عقيدة دينية سياسية تقول إن هذا الحاكم هو مفوّض من الله تعالى لحكم رعيته،
وإن كل قرار يأتي به هو بمثابة الوحي من عند الله عز وجل، مما يجعل
مخالفته خروجًا عن شرع الله، والاعتراض عليه يعدّ اعتراضًا على مضمون الوحي
الإلهي، والخروج عليه كفر بيِّن.. وعادة ما يكون هذا الحاكم فقيهًا
دينيًا، أو أن يربط نفسه بمجلس فقهاء يبيحون ويشرّعون ما يفعل.
هل هذا
من الإسلام في شيء؟ بالطبع لا؛ فحتى الفقهاء الأجلّاء بشر عرضة للصواب
والخطأ، ومهما كان الفقيه أمينًا كفئًا فإنه يسقط إذا أشار لبشر وقال "هذا
لا يخطئ"، فالعصمة لله عز وجل وحده، والعصمة البشرية للرسل والأنبياء فقط،
عليهم الصلاة والسلام.
النموذجان التاريخيان القويان لهذا النظام الحاكم
هما نظام "سلطة البابا الكاثوليكي" في أوروبا القرون الوسطى، ونظام
"الخلافة الفاطمية الشيعية" في المغرب ومصر، والنتيجة التاريخية لمثل هذه
الأنظمة عادة ما تكون كارثية؛ فالنظام البابوي الكاثوليكي السلطوي أفرز
الفكر العلماني المتطرف والتعامل مع الدين باعتباره وباء، والنظام الشيعي
الفاطمي سرعان ما انهار بعد أن أضعف الدولة الإسلامية بشكل سمح بوقوع مأساة
الغزو والاستيطان الصليبي في الشرق. أما النموذج الحاضر للدولة الدينية
فهو في إيران، حيث يؤمن الإيرانيون بالسلطة الإلهية للمرشد الأعلى، وهو
ابتذال لعقل الإنسان الذي كرّمه الله عز وجل.
الدولة الإسلامية المدنية
ولو
نظرنا للسلف الصالح لوجدنا أن دولتهم الإسلامية كانت دولة مدنية، فالخليفة
وإن كان هو صاحب "الإمامة العُظمَى" إلا أنه كان لا يستكمل الشروط الشرعية
لخلافته إلا بأن يحكم بالعدل، ويتولى الخلافة بالبيعة الحُرة في غير إكراه
ولا تدليس، وأن يعمل بالشورى بين الناس، فإن لم يكن كذلك فهو مجرد ملك أو
أمير، ويفقد منصبُه جلالَ "خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في
أمته".. ورغم قدسية مبدأ الخلافة إلا أن السلف الصالح من الخلفاء الراشدين
لم يكونوا يتعاملون باعتبار أوامرهم نصوصًا مقدّسة، فهذا أبو بكر الصديق
يقول: "أطيعوني ما أطعتُ الله"، أي أنه يشرط طاعته بطاعة الله، وهذا
الفاروق عمر يعترف ذات مرة بالخطأ في أحد قراراته فيقول "أصابت امرأة وأخطأ
عمر"، وهذا ذو النورين عثمان بن عفان يقول له عمرو بن العاص في المسجد:
"تب إلى الله يا عثمان"، فيرفع يديه قائلاً: "اللهم إني أول تائب إليك"..
رضي الله عنهم أجمعين..
وأما عن استقلالية المؤسسات في الدولة فقد كانت
الخلافة الإسلامية دولة مؤسسات، فكان الخليفة يعيّن الوالي ويترك له حرية
التصرف شريطة التقيّد بالنظام العام للدولة -وهو الهوية الإسلامية- ولا
يوجه للوالي أمرًا إلا إذا استشاره هذا الأخير، أو إذا جَدّ ما يستدعي
توجيه ذلك الأمر. وكانت الرقابة على أعمال الولاة للشعب، فكان يكفي أن يشكو
أهل ولاية من واليهم ليرسل له الخليفة من يتقصى الحقائق، ويقيم العدل إذا
صحّت الشكوى، وأما عن استقلالية القضاء فقد كان الخليفة نفسه يُستَدعَى إلى
القاضي إذا شكاه شاكٍ.. بحق الله أليست هذه هي الدولة المدنية في أرقى
صورها؟
إننا إذا طبقناها فإننا لن نكون قد أخذنا ما أتانا من الغرب، بل
سنكون قد استعدنا ما علّمناه للغرب ثم فقدناه يوم تولى أمورنا ديكتاتور
طاغية أو انقلابي مغامر أو ملك يدّعي حماية المقدسات وهو يفتح أرضه لأعداء
الإسلام يقيمون فيها القواعد!
"لا نريدها مدنية.. نريدها إسلامية!"
هذه
العبارة حلقة جديدة لمسلسل مأساة عدم المعرفة بالمصطلحات والمفاهيم,
والحماسة مهما كانت صادقة ونبيلة فهي عاطفة، يجب أن تقترن بالعِلم
والمعرفة، وهذا ما قصدناه من حملة "من التحرير إلى التغيير"..
الحديث عن
مصطلح الدولة الإسلامية بالصورة السابقة يعطيه صورة المُضادّ لكل أشكال
الدول الأخرى، مع أن التجارب التاريخية قد أثبتت أن الدولة الإسلامية يمكن
أن تكون مدنية أو دينية، ديمقراطية أو ديكتاتورية، شمولية أو ليبرالية..
هذه صفة عظيمة للإسلام وسياسته قرر البعض انتزاعها منه بالتعصب ورفض الفهم
وإهمال التدبر في المفاهيم والتعبيرات.. فالإسلام لا يرفض أية تطبيقات
لنظام الحُكم ما دام لم تتعارض مع نظامه الشرعي الوارد في الكتاب والسنّة..
الدولة المدنية
أولاً
تعالوا نتأمل: ما معنى الدولة المدنية؟ الدولة المدنية هي الدولة القائمة
على نظام "المؤسسات" التي تربطها علاقة تجمع بين الاستقلالية لكل منها عن
الأخرى، وفي ذات الوقت تبادل التعاون والرقابة، وهي دولة لا ينفرد القرار
فيها لحاكم واحد، أو لحزب واحد، أو لطبقة حاكمة منغلقة، بل يُمارَس الحُكم
عن طريق توزيع السلطات على إدارات ومؤسسات متنوعة، تحترم كل منها تخصص
الأخرى، ويمارس فيها الشعب رقابته على القائمين على إدارة البلاد من خلال
البرلمان والقضاء، وكذلك من خلال نظام انتخابي يشمل المناصب العليا من رئيس
الجمهورية ورؤساء الإدارات والمحافظين ورؤساء الأحياء وعُمَد القُرَى..
فتأتي أصوات الناخبين بمن يرضاه الناس قائمًا بهذا الأمر أو ذاك من أمورهم،
وتخلع من لا يكون أداؤه وفق المطلوب.
والقرارات المصيرية في الدولة
المدنية يجب عرضها على الشعب في استفتاء عام حر، حتى لا يتحمل الناس
مسئولية قرار لم يتخذوه بإرادتهم الحرة.
أما عن مسألة استقلالية
المؤسسات في الدولة المدنية فهي تعني استقلالية القضاء عن الحكومة،
واستقلال الإعلام والصحف والمؤسسات الثقافية، وكذلك استقلال الجامعات،
واستقلال المؤسستين الدينيتين (الأزهر والكنيسة الأرثوذوكسية) عن السلطة
التنفيذية، بالإضافة لتوفّر حرية المواطنين في إطلاق الصحف والقنوات
المرئية والإذاعات، بعيدًا عن تَحَكّم الدولة، ولكن مع الحفاظ على الضوابط
العامة المرتبطة بالنظام العام للدولة وبآدابها العامة وطبيعتها الاجتماعية
والثقافية والدينية.
بقي أن أقول إن الدولة المدنية ليست تعبيرًا
مضادًا للدولة الإسلامية، بل هي تعبير مضاد للدولتين العسكرية والدينية..
وهذا المصطلح الأخير بالذات يحتاج لشرح وتفسير.
الدولة الدينية
الدولة
الدينية هي دولة يقتصر صنع القرار فيها على أحد أو بعض الأفراد، بناء على
عقيدة دينية سياسية تقول إن هذا الحاكم هو مفوّض من الله تعالى لحكم رعيته،
وإن كل قرار يأتي به هو بمثابة الوحي من عند الله عز وجل، مما يجعل
مخالفته خروجًا عن شرع الله، والاعتراض عليه يعدّ اعتراضًا على مضمون الوحي
الإلهي، والخروج عليه كفر بيِّن.. وعادة ما يكون هذا الحاكم فقيهًا
دينيًا، أو أن يربط نفسه بمجلس فقهاء يبيحون ويشرّعون ما يفعل.
هل هذا
من الإسلام في شيء؟ بالطبع لا؛ فحتى الفقهاء الأجلّاء بشر عرضة للصواب
والخطأ، ومهما كان الفقيه أمينًا كفئًا فإنه يسقط إذا أشار لبشر وقال "هذا
لا يخطئ"، فالعصمة لله عز وجل وحده، والعصمة البشرية للرسل والأنبياء فقط،
عليهم الصلاة والسلام.
النموذجان التاريخيان القويان لهذا النظام الحاكم
هما نظام "سلطة البابا الكاثوليكي" في أوروبا القرون الوسطى، ونظام
"الخلافة الفاطمية الشيعية" في المغرب ومصر، والنتيجة التاريخية لمثل هذه
الأنظمة عادة ما تكون كارثية؛ فالنظام البابوي الكاثوليكي السلطوي أفرز
الفكر العلماني المتطرف والتعامل مع الدين باعتباره وباء، والنظام الشيعي
الفاطمي سرعان ما انهار بعد أن أضعف الدولة الإسلامية بشكل سمح بوقوع مأساة
الغزو والاستيطان الصليبي في الشرق. أما النموذج الحاضر للدولة الدينية
فهو في إيران، حيث يؤمن الإيرانيون بالسلطة الإلهية للمرشد الأعلى، وهو
ابتذال لعقل الإنسان الذي كرّمه الله عز وجل.
الدولة الإسلامية المدنية
ولو
نظرنا للسلف الصالح لوجدنا أن دولتهم الإسلامية كانت دولة مدنية، فالخليفة
وإن كان هو صاحب "الإمامة العُظمَى" إلا أنه كان لا يستكمل الشروط الشرعية
لخلافته إلا بأن يحكم بالعدل، ويتولى الخلافة بالبيعة الحُرة في غير إكراه
ولا تدليس، وأن يعمل بالشورى بين الناس، فإن لم يكن كذلك فهو مجرد ملك أو
أمير، ويفقد منصبُه جلالَ "خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في
أمته".. ورغم قدسية مبدأ الخلافة إلا أن السلف الصالح من الخلفاء الراشدين
لم يكونوا يتعاملون باعتبار أوامرهم نصوصًا مقدّسة، فهذا أبو بكر الصديق
يقول: "أطيعوني ما أطعتُ الله"، أي أنه يشرط طاعته بطاعة الله، وهذا
الفاروق عمر يعترف ذات مرة بالخطأ في أحد قراراته فيقول "أصابت امرأة وأخطأ
عمر"، وهذا ذو النورين عثمان بن عفان يقول له عمرو بن العاص في المسجد:
"تب إلى الله يا عثمان"، فيرفع يديه قائلاً: "اللهم إني أول تائب إليك"..
رضي الله عنهم أجمعين..
وأما عن استقلالية المؤسسات في الدولة فقد كانت
الخلافة الإسلامية دولة مؤسسات، فكان الخليفة يعيّن الوالي ويترك له حرية
التصرف شريطة التقيّد بالنظام العام للدولة -وهو الهوية الإسلامية- ولا
يوجه للوالي أمرًا إلا إذا استشاره هذا الأخير، أو إذا جَدّ ما يستدعي
توجيه ذلك الأمر. وكانت الرقابة على أعمال الولاة للشعب، فكان يكفي أن يشكو
أهل ولاية من واليهم ليرسل له الخليفة من يتقصى الحقائق، ويقيم العدل إذا
صحّت الشكوى، وأما عن استقلالية القضاء فقد كان الخليفة نفسه يُستَدعَى إلى
القاضي إذا شكاه شاكٍ.. بحق الله أليست هذه هي الدولة المدنية في أرقى
صورها؟
إننا إذا طبقناها فإننا لن نكون قد أخذنا ما أتانا من الغرب، بل
سنكون قد استعدنا ما علّمناه للغرب ثم فقدناه يوم تولى أمورنا ديكتاتور
طاغية أو انقلابي مغامر أو ملك يدّعي حماية المقدسات وهو يفتح أرضه لأعداء
الإسلام يقيمون فيها القواعد!
الدولة المدنية حماية للنظام الإسلامي
في
الدولة المدنية إذن وقاية للنظام الإسلامي من السقوط، فاستقلالية المؤسسات
تعطي الأزهر الشريف قوة في مواجهة خروج المؤسسة الرئاسية على الشريعة
الإسلامية، وتعطي القضاء استقلاليته اللازمة ليقوم بمهمته المقدسة في حماية
حقوق الناس، وتعطي المشرّع استقلاليته عن السلطة التنفيذية مما يمكّنه من
صياغة قوانين تحترم الشريعة الإسلامية، وليست مفصلة على مقاس هذا الحاكم أو
ذاك، وتعطي الإعلام استقلاليته وحريته في أن يمارس خير الجهاد بقول كلمة
الحق في وجه السلطان إذا جار.. وتسمح للتيارات المختلفة -ومنها التيار
الديني- أن تكون لها مؤسساتها الإعلامية والدعائية؛ لتعبر عن آرائها
ومواقفها بحرية دون تهديد مستمر بالمصادرة والإغلاق والتكميم.. وتعطي
المسجد حريته ليكون مدرسة تخرّج التوعية والدعوة السمحة.. وتحترم مختلف
التخصصات فتطبق الأمر الإلهي بالرجوع لأهل الذكر في كل مجال، وتفتح الباب
للاجتهاد في العلوم ومنها العلوم الدينية، وتجعل من كل منا رقيبا على
محيطه، وتجعلنا شهداء على أنفسنا كما أمرنا الله... فكيف بعد ذلك نرفض
الدولة المدنية؟
ومن قال إن المطالبة بالدولة المدنية تعني أخذ شكلها
الغربي وتطبيقه هنا؟ بحق الله، الشرق شرق.. والغرب غرب، قد يلتقيان لكنهما
لا يتطابقان، ولكل مجتمع ظروفه الاجتماعية والثقافية التي تحدد توجهاته،
فعلى أساس جسد المجتمع نفصّل الثوب، لا العكس، ودعونا لا ننسى حقيقة حاول
الطغاة والمستعمرون طمسها: الدولة المدنية هي بضاعتنا رُدّت إلينا..
وتطبيقها عندنا بطريقتنا ووفق شريعتنا هو أكبر رد على تطرف كل من
العلمانيين، والمتمسحين بأهداب الدين، على حَد سواء.. وعلى كل من يحاول
تحويلنا لقطيع ينتظر أول عصا ليحني ظهره!
هذه
العبارة حلقة جديدة لمسلسل مأساة عدم المعرفة بالمصطلحات والمفاهيم,
والحماسة مهما كانت صادقة ونبيلة فهي عاطفة، يجب أن تقترن بالعِلم
والمعرفة، وهذا ما قصدناه من حملة "من التحرير إلى التغيير"..
...الحديث
عن مصطلح الدولة الإسلامية بالصورة السابقة يعطيه صورة المُضادّ لكل أشكال
الدول الأخرى، مع أن التجارب التاريخية قد أثبتت أن الدولة الإسلامية يمكن
أن تكون مدنية أو دينية، ديمقراطية أو ديكتاتورية، شمولية أو ليبرالية..
هذه صفة عظيمة للإسلام وسياسته قرر البعض انتزاعها منه بالتعصب ورفض الفهم
وإهمال التدبر في المفاهيم والتعبيرات.. فالإسلام لا يرفض أية تطبيقات
لنظام الحُكم ما دام لم تتعارض مع نظامه الشرعي الوارد في الكتاب والسنّة..
الدولة المدنية
أولاً
تعالوا نتأمل: ما معنى الدولة المدنية؟ الدولة المدنية هي الدولة القائمة
على نظام "المؤسسات" التي تربطها علاقة تجمع بين الاستقلالية لكل منها عن
الأخرى، وفي ذات الوقت تبادل التعاون والرقابة، وهي دولة لا ينفرد القرار
فيها لحاكم واحد، أو لحزب واحد، أو لطبقة حاكمة منغلقة، بل يُمارَس الحُكم
عن طريق توزيع السلطات على إدارات ومؤسسات متنوعة، تحترم كل منها تخصص
الأخرى، ويمارس فيها الشعب رقابته على القائمين على إدارة البلاد من خلال
البرلمان والقضاء، وكذلك من خلال نظام انتخابي يشمل المناصب العليا من رئيس
الجمهورية ورؤساء الإدارات والمحافظين ورؤساء الأحياء وعُمَد القُرَى..
فتأتي أصوات الناخبين بمن يرضاه الناس قائمًا بهذا الأمر أو ذاك من أمورهم،
وتخلع من لا يكون أداؤه وفق المطلوب.
والقرارات المصيرية في الدولة
المدنية يجب عرضها على الشعب في استفتاء عام حر، حتى لا يتحمل الناس
مسئولية قرار لم يتخذوه بإرادتهم الحرة.
أما عن مسألة استقلالية
المؤسسات في الدولة المدنية فهي تعني استقلالية القضاء عن الحكومة،
واستقلال الإعلام والصحف والمؤسسات الثقافية، وكذلك استقلال الجامعات،
واستقلال المؤسستين الدينيتين (الأزهر والكنيسة الأرثوذوكسية) عن السلطة
التنفيذية، بالإضافة لتوفّر حرية المواطنين في إطلاق الصحف والقنوات
المرئية والإذاعات، بعيدًا عن تَحَكّم الدولة، ولكن مع الحفاظ على الضوابط
العامة المرتبطة بالنظام العام للدولة وبآدابها العامة وطبيعتها الاجتماعية
والثقافية والدينية.
بقي أن أقول إن الدولة المدنية ليست تعبيرًا
مضادًا للدولة الإسلامية، بل هي تعبير مضاد للدولتين العسكرية والدينية..
وهذا المصطلح الأخير بالذات يحتاج لشرح وتفسير.
الدولة الدينية
الدولة
الدينية هي دولة يقتصر صنع القرار فيها على أحد أو بعض الأفراد، بناء على
عقيدة دينية سياسية تقول إن هذا الحاكم هو مفوّض من الله تعالى لحكم رعيته،
وإن كل قرار يأتي به هو بمثابة الوحي من عند الله عز وجل، مما يجعل
مخالفته خروجًا عن شرع الله، والاعتراض عليه يعدّ اعتراضًا على مضمون الوحي
الإلهي، والخروج عليه كفر بيِّن.. وعادة ما يكون هذا الحاكم فقيهًا
دينيًا، أو أن يربط نفسه بمجلس فقهاء يبيحون ويشرّعون ما يفعل.
هل هذا
من الإسلام في شيء؟ بالطبع لا؛ فحتى الفقهاء الأجلّاء بشر عرضة للصواب
والخطأ، ومهما كان الفقيه أمينًا كفئًا فإنه يسقط إذا أشار لبشر وقال "هذا
لا يخطئ"، فالعصمة لله عز وجل وحده، والعصمة البشرية للرسل والأنبياء فقط،
عليهم الصلاة والسلام.
النموذجان التاريخيان القويان لهذا النظام الحاكم
هما نظام "سلطة البابا الكاثوليكي" في أوروبا القرون الوسطى، ونظام
"الخلافة الفاطمية الشيعية" في المغرب ومصر، والنتيجة التاريخية لمثل هذه
الأنظمة عادة ما تكون كارثية؛ فالنظام البابوي الكاثوليكي السلطوي أفرز
الفكر العلماني المتطرف والتعامل مع الدين باعتباره وباء، والنظام الشيعي
الفاطمي سرعان ما انهار بعد أن أضعف الدولة الإسلامية بشكل سمح بوقوع مأساة
الغزو والاستيطان الصليبي في الشرق. أما النموذج الحاضر للدولة الدينية
فهو في إيران، حيث يؤمن الإيرانيون بالسلطة الإلهية للمرشد الأعلى، وهو
ابتذال لعقل الإنسان الذي كرّمه الله عز وجل.
الدولة الإسلامية المدنية
ولو
نظرنا للسلف الصالح لوجدنا أن دولتهم الإسلامية كانت دولة مدنية، فالخليفة
وإن كان هو صاحب "الإمامة العُظمَى" إلا أنه كان لا يستكمل الشروط الشرعية
لخلافته إلا بأن يحكم بالعدل، ويتولى الخلافة بالبيعة الحُرة في غير إكراه
ولا تدليس، وأن يعمل بالشورى بين الناس، فإن لم يكن كذلك فهو مجرد ملك أو
أمير، ويفقد منصبُه جلالَ "خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في
أمته".. ورغم قدسية مبدأ الخلافة إلا أن السلف الصالح من الخلفاء الراشدين
لم يكونوا يتعاملون باعتبار أوامرهم نصوصًا مقدّسة، فهذا أبو بكر الصديق
يقول: "أطيعوني ما أطعتُ الله"، أي أنه يشرط طاعته بطاعة الله، وهذا
الفاروق عمر يعترف ذات مرة بالخطأ في أحد قراراته فيقول "أصابت امرأة وأخطأ
عمر"، وهذا ذو النورين عثمان بن عفان يقول له عمرو بن العاص في المسجد:
"تب إلى الله يا عثمان"، فيرفع يديه قائلاً: "اللهم إني أول تائب إليك"..
رضي الله عنهم أجمعين..
وأما عن استقلالية المؤسسات في الدولة فقد كانت
الخلافة الإسلامية دولة مؤسسات، فكان الخليفة يعيّن الوالي ويترك له حرية
التصرف شريطة التقيّد بالنظام العام للدولة -وهو الهوية الإسلامية- ولا
يوجه للوالي أمرًا إلا إذا استشاره هذا الأخير، أو إذا جَدّ ما يستدعي
توجيه ذلك الأمر. وكانت الرقابة على أعمال الولاة للشعب، فكان يكفي أن يشكو
أهل ولاية من واليهم ليرسل له الخليفة من يتقصى الحقائق، ويقيم العدل إذا
صحّت الشكوى، وأما عن استقلالية القضاء فقد كان الخليفة نفسه يُستَدعَى إلى
القاضي إذا شكاه شاكٍ.. بحق الله أليست هذه هي الدولة المدنية في أرقى
صورها؟
إننا إذا طبقناها فإننا لن نكون قد أخذنا ما أتانا من الغرب، بل
سنكون قد استعدنا ما علّمناه للغرب ثم فقدناه يوم تولى أمورنا ديكتاتور
طاغية أو انقلابي مغامر أو ملك يدّعي حماية المقدسات وهو يفتح أرضه لأعداء
الإسلام يقيمون فيها القواعد!
"لا نريدها مدنية.. نريدها إسلامية!"
هذه
العبارة حلقة جديدة لمسلسل مأساة عدم المعرفة بالمصطلحات والمفاهيم,
والحماسة مهما كانت صادقة ونبيلة فهي عاطفة، يجب أن تقترن بالعِلم
والمعرفة، وهذا ما قصدناه من حملة "من التحرير إلى التغيير"..
الحديث عن
مصطلح الدولة الإسلامية بالصورة السابقة يعطيه صورة المُضادّ لكل أشكال
الدول الأخرى، مع أن التجارب التاريخية قد أثبتت أن الدولة الإسلامية يمكن
أن تكون مدنية أو دينية، ديمقراطية أو ديكتاتورية، شمولية أو ليبرالية..
هذه صفة عظيمة للإسلام وسياسته قرر البعض انتزاعها منه بالتعصب ورفض الفهم
وإهمال التدبر في المفاهيم والتعبيرات.. فالإسلام لا يرفض أية تطبيقات
لنظام الحُكم ما دام لم تتعارض مع نظامه الشرعي الوارد في الكتاب والسنّة..
الدولة المدنية
أولاً
تعالوا نتأمل: ما معنى الدولة المدنية؟ الدولة المدنية هي الدولة القائمة
على نظام "المؤسسات" التي تربطها علاقة تجمع بين الاستقلالية لكل منها عن
الأخرى، وفي ذات الوقت تبادل التعاون والرقابة، وهي دولة لا ينفرد القرار
فيها لحاكم واحد، أو لحزب واحد، أو لطبقة حاكمة منغلقة، بل يُمارَس الحُكم
عن طريق توزيع السلطات على إدارات ومؤسسات متنوعة، تحترم كل منها تخصص
الأخرى، ويمارس فيها الشعب رقابته على القائمين على إدارة البلاد من خلال
البرلمان والقضاء، وكذلك من خلال نظام انتخابي يشمل المناصب العليا من رئيس
الجمهورية ورؤساء الإدارات والمحافظين ورؤساء الأحياء وعُمَد القُرَى..
فتأتي أصوات الناخبين بمن يرضاه الناس قائمًا بهذا الأمر أو ذاك من أمورهم،
وتخلع من لا يكون أداؤه وفق المطلوب.
والقرارات المصيرية في الدولة
المدنية يجب عرضها على الشعب في استفتاء عام حر، حتى لا يتحمل الناس
مسئولية قرار لم يتخذوه بإرادتهم الحرة.
أما عن مسألة استقلالية
المؤسسات في الدولة المدنية فهي تعني استقلالية القضاء عن الحكومة،
واستقلال الإعلام والصحف والمؤسسات الثقافية، وكذلك استقلال الجامعات،
واستقلال المؤسستين الدينيتين (الأزهر والكنيسة الأرثوذوكسية) عن السلطة
التنفيذية، بالإضافة لتوفّر حرية المواطنين في إطلاق الصحف والقنوات
المرئية والإذاعات، بعيدًا عن تَحَكّم الدولة، ولكن مع الحفاظ على الضوابط
العامة المرتبطة بالنظام العام للدولة وبآدابها العامة وطبيعتها الاجتماعية
والثقافية والدينية.
بقي أن أقول إن الدولة المدنية ليست تعبيرًا
مضادًا للدولة الإسلامية، بل هي تعبير مضاد للدولتين العسكرية والدينية..
وهذا المصطلح الأخير بالذات يحتاج لشرح وتفسير.
الدولة الدينية
الدولة
الدينية هي دولة يقتصر صنع القرار فيها على أحد أو بعض الأفراد، بناء على
عقيدة دينية سياسية تقول إن هذا الحاكم هو مفوّض من الله تعالى لحكم رعيته،
وإن كل قرار يأتي به هو بمثابة الوحي من عند الله عز وجل، مما يجعل
مخالفته خروجًا عن شرع الله، والاعتراض عليه يعدّ اعتراضًا على مضمون الوحي
الإلهي، والخروج عليه كفر بيِّن.. وعادة ما يكون هذا الحاكم فقيهًا
دينيًا، أو أن يربط نفسه بمجلس فقهاء يبيحون ويشرّعون ما يفعل.
هل هذا
من الإسلام في شيء؟ بالطبع لا؛ فحتى الفقهاء الأجلّاء بشر عرضة للصواب
والخطأ، ومهما كان الفقيه أمينًا كفئًا فإنه يسقط إذا أشار لبشر وقال "هذا
لا يخطئ"، فالعصمة لله عز وجل وحده، والعصمة البشرية للرسل والأنبياء فقط،
عليهم الصلاة والسلام.
النموذجان التاريخيان القويان لهذا النظام الحاكم
هما نظام "سلطة البابا الكاثوليكي" في أوروبا القرون الوسطى، ونظام
"الخلافة الفاطمية الشيعية" في المغرب ومصر، والنتيجة التاريخية لمثل هذه
الأنظمة عادة ما تكون كارثية؛ فالنظام البابوي الكاثوليكي السلطوي أفرز
الفكر العلماني المتطرف والتعامل مع الدين باعتباره وباء، والنظام الشيعي
الفاطمي سرعان ما انهار بعد أن أضعف الدولة الإسلامية بشكل سمح بوقوع مأساة
الغزو والاستيطان الصليبي في الشرق. أما النموذج الحاضر للدولة الدينية
فهو في إيران، حيث يؤمن الإيرانيون بالسلطة الإلهية للمرشد الأعلى، وهو
ابتذال لعقل الإنسان الذي كرّمه الله عز وجل.
الدولة الإسلامية المدنية
ولو
نظرنا للسلف الصالح لوجدنا أن دولتهم الإسلامية كانت دولة مدنية، فالخليفة
وإن كان هو صاحب "الإمامة العُظمَى" إلا أنه كان لا يستكمل الشروط الشرعية
لخلافته إلا بأن يحكم بالعدل، ويتولى الخلافة بالبيعة الحُرة في غير إكراه
ولا تدليس، وأن يعمل بالشورى بين الناس، فإن لم يكن كذلك فهو مجرد ملك أو
أمير، ويفقد منصبُه جلالَ "خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في
أمته".. ورغم قدسية مبدأ الخلافة إلا أن السلف الصالح من الخلفاء الراشدين
لم يكونوا يتعاملون باعتبار أوامرهم نصوصًا مقدّسة، فهذا أبو بكر الصديق
يقول: "أطيعوني ما أطعتُ الله"، أي أنه يشرط طاعته بطاعة الله، وهذا
الفاروق عمر يعترف ذات مرة بالخطأ في أحد قراراته فيقول "أصابت امرأة وأخطأ
عمر"، وهذا ذو النورين عثمان بن عفان يقول له عمرو بن العاص في المسجد:
"تب إلى الله يا عثمان"، فيرفع يديه قائلاً: "اللهم إني أول تائب إليك"..
رضي الله عنهم أجمعين..
وأما عن استقلالية المؤسسات في الدولة فقد كانت
الخلافة الإسلامية دولة مؤسسات، فكان الخليفة يعيّن الوالي ويترك له حرية
التصرف شريطة التقيّد بالنظام العام للدولة -وهو الهوية الإسلامية- ولا
يوجه للوالي أمرًا إلا إذا استشاره هذا الأخير، أو إذا جَدّ ما يستدعي
توجيه ذلك الأمر. وكانت الرقابة على أعمال الولاة للشعب، فكان يكفي أن يشكو
أهل ولاية من واليهم ليرسل له الخليفة من يتقصى الحقائق، ويقيم العدل إذا
صحّت الشكوى، وأما عن استقلالية القضاء فقد كان الخليفة نفسه يُستَدعَى إلى
القاضي إذا شكاه شاكٍ.. بحق الله أليست هذه هي الدولة المدنية في أرقى
صورها؟
إننا إذا طبقناها فإننا لن نكون قد أخذنا ما أتانا من الغرب، بل
سنكون قد استعدنا ما علّمناه للغرب ثم فقدناه يوم تولى أمورنا ديكتاتور
طاغية أو انقلابي مغامر أو ملك يدّعي حماية المقدسات وهو يفتح أرضه لأعداء
الإسلام يقيمون فيها القواعد!
الدولة المدنية حماية للنظام الإسلامي
في
الدولة المدنية إذن وقاية للنظام الإسلامي من السقوط، فاستقلالية المؤسسات
تعطي الأزهر الشريف قوة في مواجهة خروج المؤسسة الرئاسية على الشريعة
الإسلامية، وتعطي القضاء استقلاليته اللازمة ليقوم بمهمته المقدسة في حماية
حقوق الناس، وتعطي المشرّع استقلاليته عن السلطة التنفيذية مما يمكّنه من
صياغة قوانين تحترم الشريعة الإسلامية، وليست مفصلة على مقاس هذا الحاكم أو
ذاك، وتعطي الإعلام استقلاليته وحريته في أن يمارس خير الجهاد بقول كلمة
الحق في وجه السلطان إذا جار.. وتسمح للتيارات المختلفة -ومنها التيار
الديني- أن تكون لها مؤسساتها الإعلامية والدعائية؛ لتعبر عن آرائها
ومواقفها بحرية دون تهديد مستمر بالمصادرة والإغلاق والتكميم.. وتعطي
المسجد حريته ليكون مدرسة تخرّج التوعية والدعوة السمحة.. وتحترم مختلف
التخصصات فتطبق الأمر الإلهي بالرجوع لأهل الذكر في كل مجال، وتفتح الباب
للاجتهاد في العلوم ومنها العلوم الدينية، وتجعل من كل منا رقيبا على
محيطه، وتجعلنا شهداء على أنفسنا كما أمرنا الله... فكيف بعد ذلك نرفض
الدولة المدنية؟
ومن قال إن المطالبة بالدولة المدنية تعني أخذ شكلها
الغربي وتطبيقه هنا؟ بحق الله، الشرق شرق.. والغرب غرب، قد يلتقيان لكنهما
لا يتطابقان، ولكل مجتمع ظروفه الاجتماعية والثقافية التي تحدد توجهاته،
فعلى أساس جسد المجتمع نفصّل الثوب، لا العكس، ودعونا لا ننسى حقيقة حاول
الطغاة والمستعمرون طمسها: الدولة المدنية هي بضاعتنا رُدّت إلينا..
وتطبيقها عندنا بطريقتنا ووفق شريعتنا هو أكبر رد على تطرف كل من
العلمانيين، والمتمسحين بأهداب الدين، على حَد سواء.. وعلى كل من يحاول
تحويلنا لقطيع ينتظر أول عصا ليحني ظهره!