والاختبار
الحقيقي لقدرة أية جماعة بشرية أو أمّة على التعلم بشكل جيد من دروس
التاريخ هو موقعها فيما بعد من دروسه، هل تصبح نموذجًا يُحتَذَى، أم عبرة
يتجنب اللاحقون الوقوع في أخطائها..
ولأننا نعيش مرحلة ثورية تستحق
هذا النظر، فإن علينا أن ننظر في ثورات من سبقونا، لكي نتعلم من الأخطاء
التي أفشلت ثورات البعض، والإيجابيات التي أنجحت البعض الآخر..
والحديث اليوم عن الثورة الروسية...
فالدول لا تُقتَل.. الدول تنتحر.. وكذلك الأنظمة..
والنظام
القيصري الإمبراطوري الحاكم في روسيا كان قد سار بإصرار نحو نهايته منذ
سنوات.. منذ هزيمة روسيا أمام اليابان في حرب 1905؛ بسبب إهمال تسليح
الجيش، وعدم توفير الظروف المعيشية المناسبة لجنود يُفتَرَض منهم أن
يدافعوا عن بلادهم، وتكررت تلك الهزيمة في الحرب العالمية الأولى لنفس
الأسباب، إضافة لمعاناة الشعب من تراكمات قرون من الحكم القيصري المتجبر،
الذي أذل الفلاحين والعمال وحاصرهم في ظروف معيشية أدنى حتى من أن توصف
بأنها لا إنسانية..
كان القيصر نيكولاي الثاني يعيش كأنما هو في
معزل عن حقائق معاناة شعبه.. حيث كانت الأرض ورؤوس الأموال محكومة بقبضة
الطبقة الحاكمة، بينما السواد الأعظم من الشعب يعاني الفقر والاستغلال
الفادح. كان العامل يضطر للعمل من 10 : 12 ساعة يوميًا، وهو مهدّد بقطع
الرزق أو حتى بالعقاب البدني إذا امتنع أو تأخر عن العمل، ليتلقى أجرًا أقل
من أن يستطيع أن يعيش به في أدنى المستويات، وليعود بعد نهاية يوم عمل
شاقّ ليجد نفسه محشورًا في غرفة ضيقة بها ستة أشخاص على الأقل، يعيشون دون
تهوية أو مياه نقية أو نظام صرف صحي من الأساس!
في نفس الوقت كانت
الأفكار التحررية تنتقل عبر فرنسا وانجلترا إلى روسيا على يد المثقفين
والمفكرين الثوريين، وكانت الاتحادات العمالية تتحالف وتتكاتف لتكوّن جبهة
قوية تغيّر الأوضاع من خلال مخاطبة القيصر.. وبالفعل توجهت مظاهرة حاشدة
إلى القصر الإمبراطوري بقيادة القس جابون -أحد الناشطين في مجال المطالبة
بحقوق المواطنين- لتقديم عريضة بمطالب الشعب الكادح إلى إمبراطوره.. ولكن
الحرس الإمبراطوري واجه هذه المظاهرة بوحشية، ونفّذ ضدها مذبحة بشعة.. وكان
أقصى رد فعل للقيصر إزاءها هو وصفها بأنها "أمر مؤسف"!
كان هذا سنة
1905.. حيث تصاعد الغضب الشعبي، مما اضطر القيصر لتأسيس مجلس استشاري
إمبراطوري من أبناء الطبقة البرجوازية، هو مجلس الدوما.. وبالفعل سعى
المجلس لإصلاح الأوضاع في البلاد، إلا أنه كان يصطدم بكونه ذا طبيعة
استشارية أمام السلطة اللامحدودة للإمبراطور.. مما جعل الأوضاع تتدهور بشكل
أسوأ وأسرع، ويتصاعد معها الغضب الشعبي، حتى وجه الدوما للقيصر إنذارًا
سنة 1916 بأن البلاد على حافة الانفجار.. لكن القيصر -كعادته- تجاهل
الأمر..
كان هذا تزامنًا مع الحربين الخاسرتين لروسيا -الحرب
اليابانية والحرب العالمية الأولى- وما صاحبهما من ارتفاع شديد في الأسعار؛
نتيجة غلاء السلع في زمن الحرب!
في 23 فبراير سنة 1917 انفجرت
الثورة دون تخطيط أو تدبير في العاصمة الروسية آنذاك بطرسبرج، حيث خرج
الواقفون في طوابير الخبز والعمال وعاملات النسيج والموظفون وكل فئات الشعب
في مظاهرات حاشدة تنادي بتوفير الخبز للجائعين.. ولكن الشرطة واجهت تلك
المظاهرات بشراسة، مما استفزّ المتظاهرين وبدأ هتافهم يوجّه ضد النظام.
هل
ترى حتى الآن فارقا بين ما حدث هناك وما حدث هنا في مصر، لذا نحن نسوق
إليك تجارب العالم لنعرف أين نقف وما الذي يواجهنا؛ فالتاريخ كما قلنا يعيد
نفسه..
أدان مجلس الدوما حكومة القيصر وطالبها بسرعة التصرّف،
ولكنها وقفت عاجزة، وزاد الطين بلة أن الشرطة انهارت أمام الضغط الشعبي في
25 مارس، وانضمّت قوات الجيش -بما لديها من مرارات وسخط- لصفوف الثوار،
وأطلقت نيرانها على شرطة القيصر! كانت هذه بداية نهاية النظام المتهاوي
لإمبراطور لم يتمكن من فهم شعب وتلبية مطالبه.. وتسارعت الأحداث حتى اضطر
القيصر للتنازل عن العرش، ثم تلا ذلك القبض عليه وإعدامه مع أفراد أسرته في
17 يوليو 1918.
كانت روسيا وقتها تسير في طريق الحرب الأهلية بسرعة
رهيبة، نتيجة تضارب التيارات المختلفة، وعلى رأسها البلاشفة (الاشتراكيون
المتطرفون) بقيادة لينين، والروس البيض (الموالون للقيصر).. واستمرت تلك
الحرب من 1917 إلى 1923، وسقط فيها مليون ونصف المليون ضحية من الجانبين!
في
النهاية استطاع البلاشفة أن يسيطروا على الحكم بقيادة لينين، وأقاموا دولة
جمهورية شيوعية شمولية قامت على نظام "الحزب الواحد"، واستطاعت التخلص من
خصومها سواء من المواليين للنظام السابق أو المعتدلين من الاشتراكيين..
الثورة
الروسية كانت من أنجح الثورات في التاريخ، واستطاعت -رغم دمويتها- أن تكون
نواة لتأسيس إمبراطورية روسية قوية وعملاقة، قدرت أن تكون قطبا قويا في
الصراع العالمي على السلطة.. بل واستطاعت تصدير ثورتها إلى شعوب ودول أخرى،
حيث أصبح هناك ما يسمى بـ"المد الشيوعي" سواء في الصين أو حتى أمريكا
اللاتينية التي تعتبرها الولايات المتحدة "الساحة الخلفية" الخاصة بها!
وخلال عقود قليلة تمكّنت روسيا في ظل نظامها المنتمي بشدة للثورة أن تصبح
قوة اقتصادية عملاقة -رغم أن النظام الثوري تسلّم من النظام القيصري
اقتصادا منهارا بشدة- وأن يصبح لها ثقل سياسي رهيب يُحسَب له ألف حساب،
فضلاً عن تطوّرها علميًا وثقافيًا، وتفوّقها في السباق مع أمريكا على غزو
الفضاء، الأمر الذي جعل تلك الأخيرة تعيد النظر في كل مناهجها التعليمية..
بل إنها حتى وصلت لمرحلة تنظيم بحوث جادة في مجالات الميتافيزيقا والقوى
العقلية الخارقة للمألوف! إضافة لنهضتها فنيًا وثقافيًا..
كيف
صنع الروس هذا؟ الإجابة هي أن الروس استطاعوا الحفاظ على روحهم الثورية
واستثمارها؛ بحيث لا يؤثر فيها سلبًا تقدّم الزمن بها، ومن المعروف أن
الشعوب إذا طال بها البُعد زمنيًا عن ثوراتها، فكثيرًا ما تضعف همّتها
الثورية وتتعامل بطريقة "ليس في الإمكان أفضل مما كان".. كما قد يحدث هنا
في مصر مثلاً.. وتتحول معه الثورة لمجرد ذكرى يغنّي لها الشعب كل عام في
عيد ميلادها!
كذلك تعلّم الروس من عوامل قيام ثورتهم أهمية الاتحاد
خلف "مشروع قومي" يتحول لأجله كل فرد إلى "جندي" في جيش الوطن، يسعى
لخدمة أهدافه بعيدة المدى..
بمعنى أدق، لم يقف الروس عند ثورتهم
ولم ينسوا في خضمّ فرحتهم بها أن أمامهم تحديات داخلية وخارجية قوية،
ينبغي لهم التصدي لها وإلا التهمتهم والتهمت ثورتهم..
النتيجة
إذن: تحوّل كل روسي إلى "ثوري".. بغضّ النظر عما إذا كان قد عاصر الثورة
أم لا، وحتى مع وفاة كل أو معظم من شاركوا فعليًا في الثورة الروسية، فقد
تمّ توارُث تلك الروح من جيل لجيل، حتى بلغت روسيا شأنًا عظيمًا واستحقت
بجدارة وصفها بـ"قوة عظمى".
ولكن لكل شيء نهاية.. ولكل شيء جانبه
المشرق وذلك المظلم.. فبعد حوالي سبعين عامًا من الثورة الروسية التي
أسّست أسطورة الاتحاد السوفيتي، انهار ذلك الأخير تحت وطأة السلبيات التي
تسللت عبر ثغرات أصابت تلك الروح الثورية سالفة الذكر..
تلك
الثغرات تمثّلت في النظام القمعي الذي اتصف به الحكم في روسيا، حيث كان
هناك دائمًا في معتقل سيبيريا الرهيب مكان لمن يعارض أو يقف في وجه غول
الحزب الشيوعي، فضلاً عن اتجاه كثير من القيادات الشيوعية إلى الإغراق في
الترف، بينما هم ينادون في شعبهم بمواجهة ما أسموه بـ"الترف الرأسمالي
العفن".. أي أن ثمة "نفاقا" سياسيا مورس بشكل منهجي، أدى في النهاية
لتغلغل الفساد في الأجهزة الإدارية في روسيا، بشكل كان بطيئًا يبدو غير
ملحوظ، ولكنه تقدم بثقة وثبات حتى أدى في النهاية لإسقاط أشهر دولة ثورية
في التاريخ الحديث..
هذا بالإضافة إلى أن أي نظام شمولي هو نظام
غير طويل العمر، وسبعون عامًا في التاريخ ليست بشيء، والنتيجة الطبيعية
لمثل هذا النظام الشمولي هو استبعاد أهل الكفاءة لحساب أهل الثقة..
كانت
هذه نهاية مؤسفة إذن لتجربة ثورية رائدة -بحق- وبغضّ النظر عن اتفاقنا
مع النظام الشيوعي من عدمه، فإن الشعوب قد تختلف أفكارها وتتنوع، ولكن
عوامل نهوضها وسقوطها تبقى متشابهة في النهاية..
هل كان لروسيا
الثورية إذن أن تعيش عمرًا أطول؟ كان هذا ممكنًا بالفعل لو كانت روسيا قد
انتهجت منهجًا أكثر ديمقراطية وأقلّ شمولية، ولو لم يكن النظام الروسي
السوفيتي قمعيًا بشكل تتضاءل معه -مع الوقت- أية مميزات أخرى..
كانت
تجربة الثورة الروسية إذن درسًا يستحق النظر.. والاحترام والرثاء في
الوقت ذاته.. لكن الأهم أنها تجربة تستحق منا أن نتجنب سلبياتها، وأن
نتعلم من إيجابياتها، لنتجنب سوء مصيرها، ولنكسب مميزاتها..