يعملون بتفانٍ حتى ينفقوا على أولادهم. كان من الممكن أن تستمر حياتهم
بطريقة طبيعية، لكن القدر ادخر لهم مصيرا مختلفا: ذات ليلة قبيل الفجر
استيقظ السكان على صراخ وإطلاق رصاص. خرجوا إلى الشرفات. كانت الضجة تنبعث
من شقة حسن الخردواتي في آخر الشارع. كان حسن عريسا جديدا وكانت زوجته
باهرة الجمال.. هدأت الضجة وعندما طلع الصبح وجدوا جثة حسن الخردواتي ملقاة
في عرض الشارع، وقد علقت على صدره ورقة مكتوب عليها بخط كبير:
- هذا جزاء من يعصى المعلم "أبو شامة".
سرعان
ما انتشرت الحكاية: ملثمون مسلحون هاجموا حسن يريدون زوجته، ولما دافع
عنها قتلوه ثم اغتصبها زعيمهم "أبو شامة".. سرت حالة من الفزع بين السكان
وهرعوا إلى نقطة البوليس القريبة من الشارع. استقبلهم رئيس النقطة، ضابط
طيب في أواخر الأربعينيات يتمتع بثقة الأهالي الذين اختبروه مرارا من قبل
فوجدوه شجاعا وأمينا. طمأنهم الضابط إلى أنه سوف يقبض على "أبو شامة" خلال
يوم أو اثنين على أقصى تقدير.. في اليوم التالي تكرر الأمر بتفاصيله مع فرج
الحلاق. دخلوا عليه وحبسوا أطفاله الثلاثة بعد أن قيدوهم وكمموا أفواههم
ثم هجم "أبو شامة" على زوجة فرج الذي ما إن دافع عنها حتى قتلوه وألقوا به
في الشارع وعلى صدره ورقة مكتوب عليها نفس الجملة:
- هذا جزاء من يعصى المعلم "أبو شامة"..
تكررت
الحادثة بنفس التفاصيل مرة وراء أخرى.. الزوج يقاوم فيقتل والزوجة تغتصب.
ظل "أبو شامة" يقتل الأزواج ويغتصب الزوجات. وفي كل مرة يشيّع السكان جنازة
زوج شهيد يهرعون إلى ضابط النقطة ويتوسلون إليه أن يفعل شيئا.. بعد أن زاد
إلحاح الأهالي اضطر ضابط النقطة إلى مصارحتهم بالحقيقة فقال:
هذا
النوع من الجرائم يصعب منعه.. أنا لا أعرف الضحية المقبلة وليس لدي أفراد
لحماية كل زوجة في الشارع. هؤلاء المجرمون يجيدون استعمال السلاح كما أنهم
ليسوا من المنطقة ولا أعرف أماكنهم.
كانت ذروة المأساة عندما أدرك
الأهالي أن الشرطة عاجزة عن حمايتهم.. أحسوا أنهم في كابوس مرعب حتى إن
بعضهم ترك الشارع، لكن معظمهم لم يكن يملك الاختيار، من أين يأتون بشقق
جديدة وهم يعيشون بالكاد، اضطروا إلى البقاء في مساكنهم.
ما حدث بعد
ذلك مخجل حقا. فقد استمر اغتصاب الزوجات لكن أحدا من الأزواج لم يُقتل.
كفّ كل زوج عن الدفاع عن زوجته أو ربما كان يبدي دفاعا شكليا حفظا لماء
الوجه ثم يتركها بعد ذلك لـ"أبو شامة" يفعل بها ما يشاء. في البداية كان
الرجل الذي تغتصب زوجته يبدو منكس الرأس لا يجرؤ على محادثة الناس أو حتى
النظر إليهم. شيئا فشيئا قل إحساس الرجال بالعار من اغتصاب زوجاتهم.. ربما
بفعل العادة وربما لأن البلاء وقع عليهم جميعا.. تقبل رجال كثيرون اغتصاب
زوجاتهم واعتبروه جزءا من حياتهم وانصرفوا إلى أداء أعمالهم بل إن بعضهم
حمدوا ربنا علنا على أن "أبو شامة" يغتصب الزوجات ولا يغتصب البنات العذارى
حتى لا يفسد فرصهن في الزواج.. الزوجات المغتصبات تناقلن همسا في حكاياتهن
السرية أن قدرة "أبو شامة" الجنسية خارقة لم تعرفها امرأة منهن من قبل حتى
اللاتي تزوجن أكثر من مرة. المغتصبات لم يرين وجه "أبو شامة" لأنه لا يرفع
اللثام مطلقا عن وجهه لكنهن جميعا وصفن شامة سوداء كبيرة بين أسفل عنقه
وأعلى صدره.
الشيخ عبد الباسط إمام الجامع (الذي اغتصبت زوجته أكثر من مرة) قال في خطبة الجمعة:
- إن الرجل الذي يغتصب أبو شامة زوجته في حكم المضطر؛ لأن مقاومة "أبو شامة" تعني الهلاك المحقق.
العجيب
أن الشيخ عبد البر مع تساهله في موضوع اغتصاب الزوجات، كان متشددا للغاية
في مظاهر الدين فكان يرفض مصافحة النساء ويرفض الحديث مع أي امرأة غير
محجبة.
أما أحمد عبد القادر (المثقف اليساري المعروف الذي ينشر
مقالاته في جرائد عديدة ويظهر أحيانا في التليفزيون) فبعد أن اغتصب "أبو
شامة" زوجته مرارا.. خرج بنظرية راح يرددها على الناس في المقهى:
-
إن إحساس الرجل بالعار عندما تضاجع زوجته شخصا آخر ليس إلا إحساسا رجعيا
بملكية جسد المرأة ورثناه عن الثقافة البورجوازية المتعفنة.
عندما كان أحد الجالسين يعترض كان عبد القادر ينهي المناقشة بثقة وتعال:
- اسمع يا بني. أنا لن أضيع وقتي معك. هل قرأت ديكارت أو نيتشه؟! هل سمعت عن هيجل أو شبينجلر؟!
كانت هذه الأسماء تصيب المستمعين بالرهبة وتلزمهم الصمت، عندئذ يستطرد المثقف الكبير قائلا:
-
اقرأ لهؤلاء الفلاسفة وسوف تدرك أن اغتصاب "أبو شامة" لزوجتك في جوهره ليس
إلا حادثة ارتطام. قطعة لحم دخلت في قطعة لحم أخرى.. لا أكثر ولا أقل.
على
أن موقف الشيخ عبد البر والأستاذ عبد القادر كان أهون من موقف بعض الأزواج
الذين بعد أن يقضي "أبو شامة" وطره من زوجاتهم كانوا يطلبون مالا أو
خدمات، وكان "أبو شامة" يجيبهم إلى طلباتهم لكنه يتعمد أن يثني على مفاتن
زوجاتهم ليستمتع بإذلالهم.
تغيرت أخلاق الناس في الشارع وتحول
معظمهم إلى شخصيات أنانية منافقة كارهة تتوجس من الآخرين وتكره لهم الخير
وتفرح لمصائبهم، كما ساد التطرف بينهم في الاتجاهين.. بعضهم استسلم
للمخدرات والخمر والملذات ربما ليدفن إحساسه بالمهانة، والبعض الآخر تطرف
في فهمه للدين.. فصار الحجاب والنقاب واللحية بالنسبة إليهم علامات الدين
وأوله ومنتهاه، صار هؤلاء المتطرفون دينيا يختلفون على أمور شكلية
فيتبادلون الشتائم المقذعة والاتهامات بالفسق والكفر، ولا يفكر أحدهم أبدا
في أنهم جميعا لا يفعلون شيئا بينما زوجاتهم تغتصب بانتظام.
مر
عامان ونصف العام، ثلاثون شهرا والشارع يعيش في هذا الكابوس حتى تزوج كريم
من جارته مها. كريم ابن الحاج مصيلحي (الذي اغتصب "أبو شامة" زوجته مثل
الجميع).. على أن كريم بمجرد عودته من شهر العسل ذهب لأداء صلاة الجمعة،
ولما تكلم الشيخ عبد البر عن حكم المضطر وقف كريم وقال:
- يا فضيلة الشيخ السكوت على هتك العرض ليس من الدين.
هاج المصلون عليه، لكنه أصر على رأيه ثم أعلن بوضوح:
- إن زوجاتكم تغتصب لأنكم استسلمتم، أما أنا فلن تغتصب زوجتي وأنا على قيد الحياة وسوف ترون.
كثيرون
في الشارع سخروا منه، لكن كثيرين أيدوا منطقه وانضموا إليه، شباب وشيوخ
كانوا ينتظرون من يشجعهم على المقاومة. بالتأكيد وصل خبر كريم وزملائه إلى
"أبو شامة"، ففي اليوم التالي هاجم شقة كريم ليغتصب زوجته ونشأت معركة
رهيبة ترددت أصداؤها في الشارع من أقصاه إلى أقصاه، واستمرت ما يقرب من
ساعة كاملة، وفي النهاية تم إخراج ثلاث جثث لشهداء من زملاء كريم، ولم يلبث
كريم نفسه أن ظهر وهو يجر على الأرض جثة "أبو شامة" الذي انكشف اللثام عن
وجهه الدميم الكريه، بينما قبض الناس على أفراد عصابته وهللوا وكبروا، وجاء
ضابط النقطة ليحتضن كريم ورفاقه واحدا واحدا وقال لهم:
- لقد استرددتم بشجاعتكم شرفنا جميعا.
سادت
حالة من الفرح الغامر بين الأهالي وحدث بينهم نوع من الاتفاق الضمني
بنسيان الماضي. لم يعد أحد من السكان يتذكر ما حدث لزوجته أو زوجات
الآخرين.. استبشر الجميع، أخيرا لكن السرقات بدأت تنتشر بكثافة. سرقات من
كل نوع. بدءا من سرقة أحذية المصلين في الجامع وخطف حقائب السيدات وحليهن
في الشارع حتى سرقة الناس بالإكراه في ساعات الليل المتأخرة.. أحس الأهالي
بخيبة أمل، وبدأ بعضهم يردد أن "أبو شامة" بالرغم من إجرامه كان يحمي
الشارع من اللصوص. ذات ليلة هدد لص حمدي اللبان بمطواة وأخذ حصيلة المحل ثم
فر هاربا على دراجة بخارية كانت تنتظره. ظل حمدي اللبان يستغيث بالناس
ويولول كالنساء وما إن رأى كريم وأصحابه حتى صاح فيهم:
- الله يخرب بيوتكم. ضيعتم الشارع.. إننا نتعرض للسرقة كل يوم عيانا جهارا.. ولا يوم من أيامك يا "أبو شامة".
هنا لم يحتمل كريم فصاح فيه:
- أنت غاضب من أجل بضعة جنيهات، بينما كانت زوجتك تغتصب أمام عينيك وأنت راض!!
كادت
أن تحدث معركة بين كريم وحمدي اللبان لولا تدخل العقلاء. لكن كريم أدرك أن
ما قاله حمدي اللبان يعبر عن رأي بعض الناس في الشارع. أولئك الذين ألفوا
اغتصاب "أبو شامة" لزوجاتهم وتعايشوا معه، ولطالما أخذوا ثمن تفريطهم في
شرفهم. ذهب كريم بصحبة زملائه إلى ضابط النقطة وقال له:
- يجب أن تؤدي واجبك في حماية الناس.
بان الغيظ على وجه الضابط لكنه تمالك نفسه وقال:
- سيعود الأمن قريبا!
- طالما قلت ذلك ولم تفعل شيئا.
- أنا أبذل كل جهدي.
- أنت تعلم أن كل هؤلاء اللصوص من أتباع "أبو شامة" وهم يروعون الناس انتقاما لمقتله.
- ما تقوله بلا دليل.
- بل هو لا يحتاج إلى دليل.
- ماذا تريد يا كريم؟
- هل أنت معنا أم علينا؟
- هل نسيت أنني أول من هنّأك بانتصارك.
- أنت تتكلم ولا تفعل شيئا.
- حاذر في كلامك.
- لقد واجهت الموت واستشهد زملائي أمامي فلن يخيفني تهديدك.
ساد صمت مفعم بالغضب وفجأة طرأت فكرة لكريم، فاقترب حتى صار ملاصقا للضابط ثم صاح:
- افتح قميصك.
بان
الاضطراب على وجه الضابط، وحاول أن ينهض من مكانه، لكن كريم الذي توقع
حركته قبض بيد على رقبته وضغط عليها ليشل حركته، وباليد الأخرى نزع رباط
العنق وفتح ياقة القميص.. عندئذ رأى أسفل عنق الضابط.. شامة سوداء كبيرة.
الديمقراطية هي الحل.
نشر بالمصري اليوم
بتاريخ 2011/7/19