[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
عبد القادر عودة، علمٌ من أعلام الحركة الإسلامية المعاصرة، وداعية من دعاة الإسلام في العصر الحديث، ومسئول كبير في الإخوان المسلمين، كانت له الكلمة المسموعة، والمكانة المرموقة، لدى الإخوان المسلمين بخاصة، ولدى جماهير الشعب المصري بعامة، وكان له دوره الفاعل والمؤثر في مجرى الأحداث بمصر، بعد استشهاد الإمام حسن البنا في 12/2/1949م حيث حمل العبء مع الأستاذ حسن الهضيبي- المرشد الثاني للإخوان المسلمين.
والأستاذ عبد القادر عودة عالمٌ متمكن، وقاضٍ متمرس، وقانوني ضليع، صدرت له بالإضافة إلى كتابه القيم "التشريع الجنائي في الإسلام" كتب أخرى، نذكر منها: الإسلام وأوضاعنا القانونية، والإسلام وأوضاعنا السياسية، والإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه، والمال والحكم في الإسلام، وغيرها من الكتب والبحوث والدراسات والمقالات التي تكررت طباعتها مرات ومرات وتُرجمت إلى كثير من اللغات، بل إن العديد من طلبة الدراسات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي، قدموا أطروحاتهم للماجستير والدكتوراه، عن مؤلفات القاضي الشهيد عبد القادر عودة باعتباره الرائد في هذا الميدان.
يقول الأستاذ عودة في كتابه (التشريع الجنائي في الإسلام مقارنًا بالقانون الوضعي): ما نصه: ".. حين أقارن بين القانون في عصرنا الحاضر وبين الشريعة، إنما أقارنُ بين قانون متغير متطور يسير حثيثًا نحو الكمال حتى يكاد يبلغه كما يقال، وبين الشريعة التي نزلت منذ ثلاثة عشر قرنًا، ولم تتغير ولم تتبدل فيما مضى، ولن تتغير أو تتبدل في المستقبل، شريعة تأبى طبيعتها التغيير والتبديل، لأنها من عند الله، ولا تبديل لكلمات الله، ولأنها من صنع الله الذي أتقن كل شيء خلقه، فليس ما يخلقه في حاجة إلى إتقان من بعد خلقه.
فنحن-إذن - حين نقارن، إنما نقارن بين أحدث الآراء والنظريات في القانون، وبين أقدمها في الشريعة، أو نحن نقارن بين الحديث القابل للتغيير والتبديل، وبين القديم المستعصي على التغيير والتبديل، وسنرى ونلمس من هذه المقارنة، أن القديم الثابت، خير من الحديث المتغير، وأن الشريعة على قدمها، أجل من أن تقارن بالقوانين الوضعية الحديثة، وأن القوانين الوضعية بالرغم مما انطوت عليه من الآراء، وما استحدث لها من المبادئ والنظريات لا تزال في مستوى أدنى من مستوى الشريعة.
لقد شَعرتُ بأن عليَّ واجبًا، عاجل الأداء، نحو الشريعة، ونحو زملائي، من رجال القانون، ونحو كل من درسوا دراسة مدنية، وهذا الواجب هو أن أعرض على الناس أحكام الشريعة في المسائل الجنائية، في لغة يفهمونها، وبطريقة يألفونها، وأن أصحح لرجال القانون معلوماتهم عن الشريعة، وأن أنشر على الناس الحقائق التي حجبها الجهل عنا زمنًا طويلاً.
إن القانون من صنع البشر، أما الشريعة فمن عند الله، وكلا الشريعة والقانون، يتمثل فيه بجلاء صفات صانعه، فالقانون من صنع البشر، ويتمثل فيه نقص البشر وعجزهم وضعفهم وقلة حيلتهم، ومن ثم كان القانون عرضة للتغيير والتبديل أو ما نسميه التطور، كلما تطورت الجماعة إلى درجة لم تكن متوقعه، أو وجدت حالات لم تكن منتظرة فالقانون ناقص دائمًا، ولا يمكن أن يبلغ حدَّ الكمال ما دام صانعه لا يمكن أن يوصف بالكمال ولا يستطيع أن يحيط بما سيكون وإن استطاع الإلمام بما كان.
أما الشريعة فصانعها هو الله، وتتمثل فيها قدرة الخالق، وكماله وعظمته وإحاطته بما كان وبما هو كائن، ومن ثم صاغها العليم الخبير، بحيث تحيط بكل شيء في الحال والاستقبال حيث أحاط علمه بكل شيء، وأمر -جل شأنه- بألا تغيير ولا تبديل حيث قال: (لا تبديل لكلمات الله) (يونس:64) لأنها ليست في حاجة للتغيير والتبديل، مهما تغيرت الأوطان والأزمان، وتطور الإنسان".
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
ويحدثنا الأستاذ محمود عبد الحليم عن الأستاذ عبد القادر عودة وصلته الوثيقة به وقربه من الإمام الشهيد حسن البنا والإمام حسن الهضيبي، فيقول في كتابه القيم (الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ): "في البداية كان الأستاذ عودة على رأس طائفة من الإخوان تُحسن الظن في جمال عبد الناصر أول الأمر، وتحمل تصرفاته محملاً حسنًا، باعتباره من ضباط الإخوان المسلمين ويجب تأييده.
ولا شك في أن الأستاذ عبد القادر عودة يحتل في قلوب الإخوان سويداءها، حبًا واحترامًا وتقديرًا، ولعلي أكون أكثرهم حبًا واحترامًا وتقديرًا، فقد كان لي الأخ الحبيب والصديق الصدوق، وهو أقرب الإخوان إلى قلبي، وأحظاهم بإعجابي وحبي.
ولقد كان الأستاذ عبد القادر من أحب الإخوان إلى الأستاذ الإمام الشهيد حسن البنا، وكثيرًا ما كان يذكره لنا بالفخر والاعتزاز، وظل الأستاذ عودة يشغل منصبه في القضاء، فلما تولى الأستاذ حسن الهضيبي منصب المرشد العام للإخوان المسلمين، كان الأستاذ عبد القادر عودة أقرب الإخوان إلى قلبه، ولعله هو الذي أوحى إليه، أن يترك منصبه في القضاء ليكون بجانبه كوكيل للإخوان المسلمين".
حرب الإنجليز
وعن جهوده في حرب الإنجليز في قناة السويس وتبني قيادة الإخوان المسلمين للعمل الجهادي ضدهم، كتب الأستاذ كامل الشريف في كتابه القيم (المقاومة السرية في قناة السويس) يقول: "وفي منتصف شهر أكتوبر 1951م وردت إلي في بلدي البعيدة برقية مقتضبة بتوقيع الأستاذ عبد القادر عودة، الوكيل العام للإخوان المسلمين، تدعوني لمقابلته في القاهرة لأمر مهم، فركبت القطار متوجهًا إلى القاهرة، وفي منزل عبد القادر عودة، جرى الحديث عن الوضع الراهن ومتطلباته، وأبلغني أن الإخوان المسلمين قرروا تبني المعركة في قناة السويس، وكلفني بدراسة الوضع في منطقة القناة وإعداد تقرير شامل.
ثم بعد أيام جاءتني مخابرة تليفونية، تدعوني لحضور اجتماع مهم في الزقازيق، يحضره الأستاذ عبد القادر عودة، والأستاذ محمود عبده، وبعض قادة النظام الخاص، وفور وصولنا اجتمعنا بالأستاذ عبد القادر عودة الذي أخبرنا أن الأستاذ محمود عبده قد عُين قائدًا للمعركة وأن علينا أن نتلقى تعليماتنا منه".
وحين احتدم الخلاف بين الإخوان المسلمين وضباط الانقلاب، وفَجَر عبد الناصر في خصومته وأكاذيبه، وتنكر لكل عهوده ومواثيقه، وخان الأمانة وغدر بالإخوان المسلمين، أصدر الأستاذ عبد القادر عودة باعتباره الوكيل العام للإخوان المسلمين، البيان التاريخي ردًا على مزاعم عبد الناصر وأكاذيبه واتهاماته وأباطيله وكان بعنوان (هذا بيان للناس) نورد مقتطفات منه:[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
"إن الدعوة تمر اليوم بأحداث جسام لها أثرها في مستقبل الدعوة، وفي مستقبل الأجيال القادمة، ومن حقكم أن تبصروا بكل ما يواجه الدعوة من أحداث، وما يحيط بكم وبالدعوة من ظروف لتكونوا على بينة من أمركم ولتكون تصرفاتنا جميعًا على هدى الحق والواقع.
وإذا كان من حقكم على قيادتكم أن تبصركم وتوجهكم، فإن من حق الدعوة عليكم أن تأخذوا أنفسكم بآدابها، وأن تقيدوا أنفسكم بحدودها وأن تُخضعوا تفكيركم لسلطانها، فلا تُفكّروا إلا من خلال الإسلام، ولا تقولوا إلا ما يحبه لكم الإسلام ولا تعملوا إلا في حدود الإسلام، فإن فعلتم ذلك ربطتم أنفسكم بكتاب ربكم، وسنة نبيكم، واستكملتم إيمانكم، وما يستكمل المؤمن إيمانه، حتى يقول لله ويعمل لله، في رضاه وغضبه، وحبه وبغضه وفي جميع حالاته (من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان).
أيها الإخوان الكرام، لسنا بغاة: فإن الإسلام يحرم علينا البغي، ولسنا دعاة فتنة، فإنها أشد من القتل، وما ينبغي للمؤمن أن يكون فتانًا ولا لعانًا، ولكنا نسير على آثار محمد عليه الصلاة والسلام، ندعو إلى الخير بالحكمة والموعظة الحسنة، وندرأ بالحسنة السيئة، وندفع بالتي هي أحسن، في أدب المؤمن وصبره، ويقينه بنصر ربه، لقد حُلت جماعة الإخوان المسلمين مرة ثانية، واعتُقل الكثيرون من أعضائها، ونسبت إليهم التهم، وخاضت فيهم الصحف، وإنه لابتلاء جديد، وامتحان يبشر برضاء الله عن هذه الجماعة، فإن سنة الله في الجماعات، أن يمحصها، وأن يميز خبيثها من طيبها (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب) [آل عمران:149]
وغدًا تخرج الجماعة على الناس، وهي أشد مضاء، وأقوى عزيمة، وأصلب عودًا لأن هذا الابتلاء المتكرر، دليل على قوة إيمان الجماعة وقربها من الله، وصدق رسول الله : (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في البلاء).
الصبر على البلاءفعلى الإخوان أن يقابلوا البلاء بالصبر، فإن الصبر كما يقول الرسول نصف الإيمان وليتأسوا بمن قبلهم، مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى إذا استيأسوا، جاءهم نصر الله، ولقد شكا بعض أصحاب الرسول إليه فقالوا: يا رسول الله ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا، قال: (إن من كان قبلكم، كان أحدهم يوضع المنشار على مفرقه فيخلص إلى قدميه، لا يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد، ما بين لحمه وعظمه، لا يصرفه ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم قوم تستعجلون) ولا تقنطوا أيها الأخوة من رحمة ربكم، وأحسنوا الظن بالله، فإن رحمته أقرب مما تظنون، وأسرع مما تنتظرون، واذكروا ما روي (عجب ربك من قنوط عباده وقرب غيثه فينظر إليهم قنطين (يائسين) فيظل يضحك يعلم أن فرجهم قريب) والتوجيه الأخير للإخوان، أن يحسنوا صلتهم بالله وبإخوانهم، وأن يترابطوا على أمر الله، وأن يتعاونوا على البر والتقوى، وأن يصبروا ويصابروا وأن يعلموا أن جماعة الإخوان المسلمين لا تُحل على الورق، ولا بغلق الدور، وإنما تحل بانحلال ترابطهم، وفراغ قلوبهم من حب إخوانهم، وحب الدعوة، ولن يكون حل ما دامت تنبض بحب الدعوة قلوبهم، وتخفق مع ذكر الله مشاعرهم، وما داموا قد وهبوا أنفسهم لها، يحيون فيها، ويعيشون بها ولها، ويضحون في سبيلها.
ولن يضر الدعوة شيئًا أن تغلق دورها وتعطل منابرها، ما دام كل منكم قد جعل للدعوة من قلبه دارًا، ومن نفسه حصنًا، ومن كان قادرًا على القول فكل مكان له منبر.
وستظل الدعوة بإذن الله، حية قوية، لها اعتبارها ولها كرامتها، ما دمتم متماسكين، مترابطين متحابين، صابرين، مصابرين (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون) (آل عمران: 200) والله أكبر ولله الحمد. (أخوكم عبد القادر عودة- الوكيل العام للإخوان المسلمين).
بهذه الثقة بالله والاعتماد عليه وبمثل هذا التوجيه الكريم والأسلوب العف النبيل، خاطب الأستاذ عبد القادر عودة الإخوان المسلمين وذكرهم بما يجب عليهم نحو هذا البلاء المسلط عليهم من الفراعنة الطغاة، تنفيذًا لأوامر الأسياد من اليهود والصليبيين والشيوعيين والمستعمرين.
يقول الأستاذ عباس السيسي في كتابه القيم (في قافلة الإخوان المسلمين): "وجدير بالذكر أن السبب الحقيقي في محاكمة الأستاذ عبد القادر عودة هو الانتقام والخلاص منه بسبب الموقف الرهيب الذي وقفه إلى جوار الرئيس محمد نجيب في شرفة قصر عابدين، حين طلب منه الرئيس محمد نجيب الصعود إلى الشرفة؛ لتهدئة الجماهير الغفيرة المحتشدة في الميدان الفسيح، ومطالبتها بالانصراف، فما كان من الأستاذ عودة إلا أن طالبهم بالانصراف حتى انصرفوا جميعًا في الحال، بكل طاعة وهدوء ونظام، وقد أغاظ هذا الموقف عبد الناصر فأسرها في نفسه، وأدرك خطورة عبد القادر عودة الذي تأتمر الجماهير بأمره". انتهى.
المرشد الثالث
أما المرشد الثالث لجماعة الإخوان المسلمين الأستاذ عمر التلمساني، فيقول عن القاضي الشهيد عبد القادر عودة: "إن عبد القادر عودة من الأعلام الذين لا تنطوي ذكراهم، ولا تخفى معالم حياتهم، ولا تدع للنسيان سبيلاً يزحف منه على جلائل أعمالهم، ومواقفهم من أجل الحق وفي سبيل الخير، رجال انفردوا بسجايا وخصال، وعاشوا على مستوى المثل والقيم، وشقوا في الحياة طريقًا على مبادئ وأصول، لقوا الموت في سبيلها أو تحملوا صنوف العذاب من أجلها.
لقد وقف عبد القادر عودة على حبل المشنقة فازداد على الحق إصرارًا، ورأى الموت بعينيه فأسرع للقياه، ولم تكن جريمته إلا أنه قال كما قال من سبقوه على الطريق: (ربيَّ الله) ولم تكن فعلته إلا أنه أنكر على الظالم ظلمه للناس، وأبت عليه نفسه أن يسكت على صنوف الذل والهوان للأمة، فمضى شهيدًا، بعد أن سطر على صفحات التاريخ سطورًا لا تنمحي، وحفر في القلوب والأذهان ذكرى على مر الأيام تنمو وتزدهر.
ولي عبد القادر عودة أعمال القضاء، فكان المنارة الزاهية بين القضاة، لأنه أَبَى إلا أن يطبّق قانون السماء ما وجد إلى ذلك سبيلاً، ورفض أن يقيد نفسه بقوانين الأرض التي عجزت أن توفر لبني البشر، أمنًا يفتقدونه وهدوءًا يبحثون عنه، وحبًا يتوقون إليه.
كان جريئًا في الحق ولو خالفته الدنيا بأسرها، لأنه كان يحرص على مرضاة ربه قبل أن يفكر في إرضاء الناس.
وقف إلى جوار حركة 23 يوليو 1952م ظنًا منه أن عبد الناصر، سيحقق الخير الذي أعلنه على الناس، وقد أغضب في ذلك الكثير من إخوانه ومحبيه، ولما تكشفت أمامه النيات وبدأت تظهر الحقائق، سلك الطريق الذي ألزم به نفسه في حياته طريق الحق والصدق قال له عبد الناصر: "إنني سأقضى على كل من يعترض طريقي" فأجابه الشهيد عبد القادر عودة في صراحة المؤمنين (ولكن من يبقون منهم، سيقضون بدورهم على الطغاة والظالمين).
في يوم 28 فبراير 1954م خرجت جموع الأمة، تطالب الحكام بالإقلاع عن الظلم، وتنحية الظالمين، وزحفت الآلاف إلى ميدان عابدين، تطالب الرئيس محمد نجيب بالإفراج عن المعتقلين، وتنحية الباطش، ومعاقبة الذين قتلوا المتظاهرين عند كوبري قصر النيل، وتطبيق شرع رب العالمين.
وأدرك القائمون على الأمر يومئذ، خطورة الموقف، وطلبوا من المتظاهرين الثائرين أن ينصرفوا، ولكن بلا مجيب، فاستعان محمد نجيب بالشهيد عبد القادر عودة لتهدئة الموقف متعهدًا بإجابة الأمة إلى مطالبها.
ومن شرفة عابدين وقف الشهيد عودة، يطلب من الجماهير الثائرة أن تنصرف في هدوء لأن الرئيس نجيب وعد بإجابة مطالبها، فإذا بهذا البحر الزاخر من البشر ينصرف في دقائق معدودة، وبمنطق الحكم الدكتاتوري الذي كان يهيمن على البلد حينذاك، كان لابد أن يصدر قرار بشأن عبد القادر عودة، فإذا كان الشهيد قد استطاع أن يصرف الجموع الحاشدة التي جاءت محتجة، تطالب بإطلاق الحريات وإفساح المجال للحياة الدستورية، السليمة الأصيلة، والوفاء بالوعود وتأدية الأمانات، فهو يمثل خطورة على هذا الحكم الذي كان مفهومه لدى الحاكم، أن يضغط على الأجراس فيلبَّى نداؤه، وعلى الأزرار فتتحرك الأمة قيامًا وقعودًا.
ومن هنا كانت مظاهرة عابدين هي أول وأخطر حيثيات الحكم على الشهيد عبد القادر عودة بعد ذلك بالإعدام، لذلك لم يكن غريبًا أن اعتُقل مع الكثيرين من أصحابه في مساء اليوم نفسه ووقفوا على أرجلهم في السجن الحربي من الرابعة صباحًا حتى السابعة صباحًا، يضربهم ضباط السجن وعساكره في وحشية وقسوة.
وقُدم عبد القادر عودة في تهمة لا صلة له بها ولا علم، وحكموا على الشهيد بالإعدام، ظنًا منهم أن قتل عبد القادر عودة سيمضي كحدث هين لا يهتم به أحد، ولكن حاكم ذلك العهد عبد الناصر، لما رفعت له التقارير من جواسيسه عن أثر ذلك الإعدام في نفوس الناس، قال في حديث نشرته الصحف في وقته: "عجبت لأمر هذا الشعب، لا يرضى بالجريمة، ولكن إذا عوقب المجرم، ثار عطفه على المجرمين" ولكن ثورة العواطف عند الشعب لم تكن من أجل المجرمين فما كان في الموقف واحد منهم ولكن الشعب ثار عاطفيًا كراهية منه للظلم ووفاء منه للأبرياء". انتهى.
لقد وقف أستاذنا عبد القادر عودة أمام المحكمة الهزلية متحديًا وقال: أنا متهم بتهم لو صحت لكنت أنا الجاني وأنتم المجني عليكم، ولم أعرف حقًا للمجني عليه في محاكمة الذي جنى عليه، إنني لا أجد في الدنيا قانونًا يبيح مثل هذه المحاكمة، فكيف يعقل أن يكون القاضي هو الخصم وهو الحكم؟!.
وقد استجاب الله دعاءه فكان دمه لعنة عليهم، فلم يفلت أحد من الظالمين من انتقام الله في الدنيا، حيث توالت عليهم النكبات، فهذا جمال سالم رئيس المحكمة يصاب بمرضٍ عصبي، وأخوه صلاح سالم تتوقف كليتاه ويحتبس بوله ويموت بالتسمم، وشمس بدران يُحكم عليه بالمؤبد، والمشير عبد الحكيم عامر يموت منتحرًا أو مسمومًا، وحمزة البسيوني تصدمه شاحنة فيتناثر لحمه في العراء، والعسكري غنيم يُعثر عليه قتيلاً بين الحقول، والصول ياسين هاجمه جمل له وقضم رقبته فقتله وكثيرون غيرهم من الظلمة وأعوان الظلمة الذين اضطهدوا الإخوان المسلمين، أرانا الله فيهم عجائب قدرته، أما كبيرهم ورأس الشر فيهم عبد الناصر فقد كانت حياته كلها رعبًا وفزعًا في اليقظة والمنام، بل طفحت المجاري على قبره فكان عبرة لمن يعتبر، والله غالب على أمره.
لقد شاهدنا بأعيننا آيات الله في الظالمين الذين جنوا على الإخوان المسلمين، فقد ضرب فاروق الإخوان عام 1948م فكان خلعه وطرده عام 1952م، وضرب عبد الناصر الإخوان عام 1954م فكان الاعتداء الثلاثي على مصر واحتلال إسرائيل لسيناء وبور سعيد، ثم ضربهم مرة ثانية عام 1965م فكانت هزيمته ونكبته عام 1967م وهلاك عبد الحكيم عامر ثم هلاكه من بعده، فسبحان من يمهل ولا يهمل.
رحم الله العالم العامل والقاضي الفقيه والمجاهد الشهيد الأستاذ عبد القادر عودة وألحقنا الله وإياه بالأنبياء والصالحين والصديقين والشهداء.
عبد القادر عودة، علمٌ من أعلام الحركة الإسلامية المعاصرة، وداعية من دعاة الإسلام في العصر الحديث، ومسئول كبير في الإخوان المسلمين، كانت له الكلمة المسموعة، والمكانة المرموقة، لدى الإخوان المسلمين بخاصة، ولدى جماهير الشعب المصري بعامة، وكان له دوره الفاعل والمؤثر في مجرى الأحداث بمصر، بعد استشهاد الإمام حسن البنا في 12/2/1949م حيث حمل العبء مع الأستاذ حسن الهضيبي- المرشد الثاني للإخوان المسلمين.
والأستاذ عبد القادر عودة عالمٌ متمكن، وقاضٍ متمرس، وقانوني ضليع، صدرت له بالإضافة إلى كتابه القيم "التشريع الجنائي في الإسلام" كتب أخرى، نذكر منها: الإسلام وأوضاعنا القانونية، والإسلام وأوضاعنا السياسية، والإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه، والمال والحكم في الإسلام، وغيرها من الكتب والبحوث والدراسات والمقالات التي تكررت طباعتها مرات ومرات وتُرجمت إلى كثير من اللغات، بل إن العديد من طلبة الدراسات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي، قدموا أطروحاتهم للماجستير والدكتوراه، عن مؤلفات القاضي الشهيد عبد القادر عودة باعتباره الرائد في هذا الميدان.
يقول الأستاذ عودة في كتابه (التشريع الجنائي في الإسلام مقارنًا بالقانون الوضعي): ما نصه: ".. حين أقارن بين القانون في عصرنا الحاضر وبين الشريعة، إنما أقارنُ بين قانون متغير متطور يسير حثيثًا نحو الكمال حتى يكاد يبلغه كما يقال، وبين الشريعة التي نزلت منذ ثلاثة عشر قرنًا، ولم تتغير ولم تتبدل فيما مضى، ولن تتغير أو تتبدل في المستقبل، شريعة تأبى طبيعتها التغيير والتبديل، لأنها من عند الله، ولا تبديل لكلمات الله، ولأنها من صنع الله الذي أتقن كل شيء خلقه، فليس ما يخلقه في حاجة إلى إتقان من بعد خلقه.
فنحن-إذن - حين نقارن، إنما نقارن بين أحدث الآراء والنظريات في القانون، وبين أقدمها في الشريعة، أو نحن نقارن بين الحديث القابل للتغيير والتبديل، وبين القديم المستعصي على التغيير والتبديل، وسنرى ونلمس من هذه المقارنة، أن القديم الثابت، خير من الحديث المتغير، وأن الشريعة على قدمها، أجل من أن تقارن بالقوانين الوضعية الحديثة، وأن القوانين الوضعية بالرغم مما انطوت عليه من الآراء، وما استحدث لها من المبادئ والنظريات لا تزال في مستوى أدنى من مستوى الشريعة.
لقد شَعرتُ بأن عليَّ واجبًا، عاجل الأداء، نحو الشريعة، ونحو زملائي، من رجال القانون، ونحو كل من درسوا دراسة مدنية، وهذا الواجب هو أن أعرض على الناس أحكام الشريعة في المسائل الجنائية، في لغة يفهمونها، وبطريقة يألفونها، وأن أصحح لرجال القانون معلوماتهم عن الشريعة، وأن أنشر على الناس الحقائق التي حجبها الجهل عنا زمنًا طويلاً.
إن القانون من صنع البشر، أما الشريعة فمن عند الله، وكلا الشريعة والقانون، يتمثل فيه بجلاء صفات صانعه، فالقانون من صنع البشر، ويتمثل فيه نقص البشر وعجزهم وضعفهم وقلة حيلتهم، ومن ثم كان القانون عرضة للتغيير والتبديل أو ما نسميه التطور، كلما تطورت الجماعة إلى درجة لم تكن متوقعه، أو وجدت حالات لم تكن منتظرة فالقانون ناقص دائمًا، ولا يمكن أن يبلغ حدَّ الكمال ما دام صانعه لا يمكن أن يوصف بالكمال ولا يستطيع أن يحيط بما سيكون وإن استطاع الإلمام بما كان.
أما الشريعة فصانعها هو الله، وتتمثل فيها قدرة الخالق، وكماله وعظمته وإحاطته بما كان وبما هو كائن، ومن ثم صاغها العليم الخبير، بحيث تحيط بكل شيء في الحال والاستقبال حيث أحاط علمه بكل شيء، وأمر -جل شأنه- بألا تغيير ولا تبديل حيث قال: (لا تبديل لكلمات الله) (يونس:64) لأنها ليست في حاجة للتغيير والتبديل، مهما تغيرت الأوطان والأزمان، وتطور الإنسان".
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
ويحدثنا الأستاذ محمود عبد الحليم عن الأستاذ عبد القادر عودة وصلته الوثيقة به وقربه من الإمام الشهيد حسن البنا والإمام حسن الهضيبي، فيقول في كتابه القيم (الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ): "في البداية كان الأستاذ عودة على رأس طائفة من الإخوان تُحسن الظن في جمال عبد الناصر أول الأمر، وتحمل تصرفاته محملاً حسنًا، باعتباره من ضباط الإخوان المسلمين ويجب تأييده.
ولا شك في أن الأستاذ عبد القادر عودة يحتل في قلوب الإخوان سويداءها، حبًا واحترامًا وتقديرًا، ولعلي أكون أكثرهم حبًا واحترامًا وتقديرًا، فقد كان لي الأخ الحبيب والصديق الصدوق، وهو أقرب الإخوان إلى قلبي، وأحظاهم بإعجابي وحبي.
ولقد كان الأستاذ عبد القادر من أحب الإخوان إلى الأستاذ الإمام الشهيد حسن البنا، وكثيرًا ما كان يذكره لنا بالفخر والاعتزاز، وظل الأستاذ عودة يشغل منصبه في القضاء، فلما تولى الأستاذ حسن الهضيبي منصب المرشد العام للإخوان المسلمين، كان الأستاذ عبد القادر عودة أقرب الإخوان إلى قلبه، ولعله هو الذي أوحى إليه، أن يترك منصبه في القضاء ليكون بجانبه كوكيل للإخوان المسلمين".
حرب الإنجليز
وعن جهوده في حرب الإنجليز في قناة السويس وتبني قيادة الإخوان المسلمين للعمل الجهادي ضدهم، كتب الأستاذ كامل الشريف في كتابه القيم (المقاومة السرية في قناة السويس) يقول: "وفي منتصف شهر أكتوبر 1951م وردت إلي في بلدي البعيدة برقية مقتضبة بتوقيع الأستاذ عبد القادر عودة، الوكيل العام للإخوان المسلمين، تدعوني لمقابلته في القاهرة لأمر مهم، فركبت القطار متوجهًا إلى القاهرة، وفي منزل عبد القادر عودة، جرى الحديث عن الوضع الراهن ومتطلباته، وأبلغني أن الإخوان المسلمين قرروا تبني المعركة في قناة السويس، وكلفني بدراسة الوضع في منطقة القناة وإعداد تقرير شامل.
ثم بعد أيام جاءتني مخابرة تليفونية، تدعوني لحضور اجتماع مهم في الزقازيق، يحضره الأستاذ عبد القادر عودة، والأستاذ محمود عبده، وبعض قادة النظام الخاص، وفور وصولنا اجتمعنا بالأستاذ عبد القادر عودة الذي أخبرنا أن الأستاذ محمود عبده قد عُين قائدًا للمعركة وأن علينا أن نتلقى تعليماتنا منه".
وحين احتدم الخلاف بين الإخوان المسلمين وضباط الانقلاب، وفَجَر عبد الناصر في خصومته وأكاذيبه، وتنكر لكل عهوده ومواثيقه، وخان الأمانة وغدر بالإخوان المسلمين، أصدر الأستاذ عبد القادر عودة باعتباره الوكيل العام للإخوان المسلمين، البيان التاريخي ردًا على مزاعم عبد الناصر وأكاذيبه واتهاماته وأباطيله وكان بعنوان (هذا بيان للناس) نورد مقتطفات منه:[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
"إن الدعوة تمر اليوم بأحداث جسام لها أثرها في مستقبل الدعوة، وفي مستقبل الأجيال القادمة، ومن حقكم أن تبصروا بكل ما يواجه الدعوة من أحداث، وما يحيط بكم وبالدعوة من ظروف لتكونوا على بينة من أمركم ولتكون تصرفاتنا جميعًا على هدى الحق والواقع.
وإذا كان من حقكم على قيادتكم أن تبصركم وتوجهكم، فإن من حق الدعوة عليكم أن تأخذوا أنفسكم بآدابها، وأن تقيدوا أنفسكم بحدودها وأن تُخضعوا تفكيركم لسلطانها، فلا تُفكّروا إلا من خلال الإسلام، ولا تقولوا إلا ما يحبه لكم الإسلام ولا تعملوا إلا في حدود الإسلام، فإن فعلتم ذلك ربطتم أنفسكم بكتاب ربكم، وسنة نبيكم، واستكملتم إيمانكم، وما يستكمل المؤمن إيمانه، حتى يقول لله ويعمل لله، في رضاه وغضبه، وحبه وبغضه وفي جميع حالاته (من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان).
أيها الإخوان الكرام، لسنا بغاة: فإن الإسلام يحرم علينا البغي، ولسنا دعاة فتنة، فإنها أشد من القتل، وما ينبغي للمؤمن أن يكون فتانًا ولا لعانًا، ولكنا نسير على آثار محمد عليه الصلاة والسلام، ندعو إلى الخير بالحكمة والموعظة الحسنة، وندرأ بالحسنة السيئة، وندفع بالتي هي أحسن، في أدب المؤمن وصبره، ويقينه بنصر ربه، لقد حُلت جماعة الإخوان المسلمين مرة ثانية، واعتُقل الكثيرون من أعضائها، ونسبت إليهم التهم، وخاضت فيهم الصحف، وإنه لابتلاء جديد، وامتحان يبشر برضاء الله عن هذه الجماعة، فإن سنة الله في الجماعات، أن يمحصها، وأن يميز خبيثها من طيبها (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب) [آل عمران:149]
وغدًا تخرج الجماعة على الناس، وهي أشد مضاء، وأقوى عزيمة، وأصلب عودًا لأن هذا الابتلاء المتكرر، دليل على قوة إيمان الجماعة وقربها من الله، وصدق رسول الله : (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في البلاء).
الصبر على البلاءفعلى الإخوان أن يقابلوا البلاء بالصبر، فإن الصبر كما يقول الرسول نصف الإيمان وليتأسوا بمن قبلهم، مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى إذا استيأسوا، جاءهم نصر الله، ولقد شكا بعض أصحاب الرسول إليه فقالوا: يا رسول الله ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا، قال: (إن من كان قبلكم، كان أحدهم يوضع المنشار على مفرقه فيخلص إلى قدميه، لا يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد، ما بين لحمه وعظمه، لا يصرفه ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم قوم تستعجلون) ولا تقنطوا أيها الأخوة من رحمة ربكم، وأحسنوا الظن بالله، فإن رحمته أقرب مما تظنون، وأسرع مما تنتظرون، واذكروا ما روي (عجب ربك من قنوط عباده وقرب غيثه فينظر إليهم قنطين (يائسين) فيظل يضحك يعلم أن فرجهم قريب) والتوجيه الأخير للإخوان، أن يحسنوا صلتهم بالله وبإخوانهم، وأن يترابطوا على أمر الله، وأن يتعاونوا على البر والتقوى، وأن يصبروا ويصابروا وأن يعلموا أن جماعة الإخوان المسلمين لا تُحل على الورق، ولا بغلق الدور، وإنما تحل بانحلال ترابطهم، وفراغ قلوبهم من حب إخوانهم، وحب الدعوة، ولن يكون حل ما دامت تنبض بحب الدعوة قلوبهم، وتخفق مع ذكر الله مشاعرهم، وما داموا قد وهبوا أنفسهم لها، يحيون فيها، ويعيشون بها ولها، ويضحون في سبيلها.
ولن يضر الدعوة شيئًا أن تغلق دورها وتعطل منابرها، ما دام كل منكم قد جعل للدعوة من قلبه دارًا، ومن نفسه حصنًا، ومن كان قادرًا على القول فكل مكان له منبر.
وستظل الدعوة بإذن الله، حية قوية، لها اعتبارها ولها كرامتها، ما دمتم متماسكين، مترابطين متحابين، صابرين، مصابرين (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون) (آل عمران: 200) والله أكبر ولله الحمد. (أخوكم عبد القادر عودة- الوكيل العام للإخوان المسلمين).
بهذه الثقة بالله والاعتماد عليه وبمثل هذا التوجيه الكريم والأسلوب العف النبيل، خاطب الأستاذ عبد القادر عودة الإخوان المسلمين وذكرهم بما يجب عليهم نحو هذا البلاء المسلط عليهم من الفراعنة الطغاة، تنفيذًا لأوامر الأسياد من اليهود والصليبيين والشيوعيين والمستعمرين.
يقول الأستاذ عباس السيسي في كتابه القيم (في قافلة الإخوان المسلمين): "وجدير بالذكر أن السبب الحقيقي في محاكمة الأستاذ عبد القادر عودة هو الانتقام والخلاص منه بسبب الموقف الرهيب الذي وقفه إلى جوار الرئيس محمد نجيب في شرفة قصر عابدين، حين طلب منه الرئيس محمد نجيب الصعود إلى الشرفة؛ لتهدئة الجماهير الغفيرة المحتشدة في الميدان الفسيح، ومطالبتها بالانصراف، فما كان من الأستاذ عودة إلا أن طالبهم بالانصراف حتى انصرفوا جميعًا في الحال، بكل طاعة وهدوء ونظام، وقد أغاظ هذا الموقف عبد الناصر فأسرها في نفسه، وأدرك خطورة عبد القادر عودة الذي تأتمر الجماهير بأمره". انتهى.
المرشد الثالث
أما المرشد الثالث لجماعة الإخوان المسلمين الأستاذ عمر التلمساني، فيقول عن القاضي الشهيد عبد القادر عودة: "إن عبد القادر عودة من الأعلام الذين لا تنطوي ذكراهم، ولا تخفى معالم حياتهم، ولا تدع للنسيان سبيلاً يزحف منه على جلائل أعمالهم، ومواقفهم من أجل الحق وفي سبيل الخير، رجال انفردوا بسجايا وخصال، وعاشوا على مستوى المثل والقيم، وشقوا في الحياة طريقًا على مبادئ وأصول، لقوا الموت في سبيلها أو تحملوا صنوف العذاب من أجلها.
لقد وقف عبد القادر عودة على حبل المشنقة فازداد على الحق إصرارًا، ورأى الموت بعينيه فأسرع للقياه، ولم تكن جريمته إلا أنه قال كما قال من سبقوه على الطريق: (ربيَّ الله) ولم تكن فعلته إلا أنه أنكر على الظالم ظلمه للناس، وأبت عليه نفسه أن يسكت على صنوف الذل والهوان للأمة، فمضى شهيدًا، بعد أن سطر على صفحات التاريخ سطورًا لا تنمحي، وحفر في القلوب والأذهان ذكرى على مر الأيام تنمو وتزدهر.
ولي عبد القادر عودة أعمال القضاء، فكان المنارة الزاهية بين القضاة، لأنه أَبَى إلا أن يطبّق قانون السماء ما وجد إلى ذلك سبيلاً، ورفض أن يقيد نفسه بقوانين الأرض التي عجزت أن توفر لبني البشر، أمنًا يفتقدونه وهدوءًا يبحثون عنه، وحبًا يتوقون إليه.
كان جريئًا في الحق ولو خالفته الدنيا بأسرها، لأنه كان يحرص على مرضاة ربه قبل أن يفكر في إرضاء الناس.
وقف إلى جوار حركة 23 يوليو 1952م ظنًا منه أن عبد الناصر، سيحقق الخير الذي أعلنه على الناس، وقد أغضب في ذلك الكثير من إخوانه ومحبيه، ولما تكشفت أمامه النيات وبدأت تظهر الحقائق، سلك الطريق الذي ألزم به نفسه في حياته طريق الحق والصدق قال له عبد الناصر: "إنني سأقضى على كل من يعترض طريقي" فأجابه الشهيد عبد القادر عودة في صراحة المؤمنين (ولكن من يبقون منهم، سيقضون بدورهم على الطغاة والظالمين).
في يوم 28 فبراير 1954م خرجت جموع الأمة، تطالب الحكام بالإقلاع عن الظلم، وتنحية الظالمين، وزحفت الآلاف إلى ميدان عابدين، تطالب الرئيس محمد نجيب بالإفراج عن المعتقلين، وتنحية الباطش، ومعاقبة الذين قتلوا المتظاهرين عند كوبري قصر النيل، وتطبيق شرع رب العالمين.
وأدرك القائمون على الأمر يومئذ، خطورة الموقف، وطلبوا من المتظاهرين الثائرين أن ينصرفوا، ولكن بلا مجيب، فاستعان محمد نجيب بالشهيد عبد القادر عودة لتهدئة الموقف متعهدًا بإجابة الأمة إلى مطالبها.
ومن شرفة عابدين وقف الشهيد عودة، يطلب من الجماهير الثائرة أن تنصرف في هدوء لأن الرئيس نجيب وعد بإجابة مطالبها، فإذا بهذا البحر الزاخر من البشر ينصرف في دقائق معدودة، وبمنطق الحكم الدكتاتوري الذي كان يهيمن على البلد حينذاك، كان لابد أن يصدر قرار بشأن عبد القادر عودة، فإذا كان الشهيد قد استطاع أن يصرف الجموع الحاشدة التي جاءت محتجة، تطالب بإطلاق الحريات وإفساح المجال للحياة الدستورية، السليمة الأصيلة، والوفاء بالوعود وتأدية الأمانات، فهو يمثل خطورة على هذا الحكم الذي كان مفهومه لدى الحاكم، أن يضغط على الأجراس فيلبَّى نداؤه، وعلى الأزرار فتتحرك الأمة قيامًا وقعودًا.
ومن هنا كانت مظاهرة عابدين هي أول وأخطر حيثيات الحكم على الشهيد عبد القادر عودة بعد ذلك بالإعدام، لذلك لم يكن غريبًا أن اعتُقل مع الكثيرين من أصحابه في مساء اليوم نفسه ووقفوا على أرجلهم في السجن الحربي من الرابعة صباحًا حتى السابعة صباحًا، يضربهم ضباط السجن وعساكره في وحشية وقسوة.
وقُدم عبد القادر عودة في تهمة لا صلة له بها ولا علم، وحكموا على الشهيد بالإعدام، ظنًا منهم أن قتل عبد القادر عودة سيمضي كحدث هين لا يهتم به أحد، ولكن حاكم ذلك العهد عبد الناصر، لما رفعت له التقارير من جواسيسه عن أثر ذلك الإعدام في نفوس الناس، قال في حديث نشرته الصحف في وقته: "عجبت لأمر هذا الشعب، لا يرضى بالجريمة، ولكن إذا عوقب المجرم، ثار عطفه على المجرمين" ولكن ثورة العواطف عند الشعب لم تكن من أجل المجرمين فما كان في الموقف واحد منهم ولكن الشعب ثار عاطفيًا كراهية منه للظلم ووفاء منه للأبرياء". انتهى.
لقد وقف أستاذنا عبد القادر عودة أمام المحكمة الهزلية متحديًا وقال: أنا متهم بتهم لو صحت لكنت أنا الجاني وأنتم المجني عليكم، ولم أعرف حقًا للمجني عليه في محاكمة الذي جنى عليه، إنني لا أجد في الدنيا قانونًا يبيح مثل هذه المحاكمة، فكيف يعقل أن يكون القاضي هو الخصم وهو الحكم؟!.
عند حبل المشنقة[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
وحين ذهبوا به مع إخوانه الشهداء لتنفيذ حكم الإعدام فيهم، تقدم القاضي الشهيد عبد القادر عودة إلى حبل المشنقة بكل جرأة مقبلاً على الله ربه في تسليم لقضائه، وكانت آخر كلمة قالها قبل أن ينفذ فيه حكم الإعدام وتصعد روحه إلى بارئها: "إن دمي سيكون لعنة على رجال الثورة".
وحين ذهبوا به مع إخوانه الشهداء لتنفيذ حكم الإعدام فيهم، تقدم القاضي الشهيد عبد القادر عودة إلى حبل المشنقة بكل جرأة مقبلاً على الله ربه في تسليم لقضائه، وكانت آخر كلمة قالها قبل أن ينفذ فيه حكم الإعدام وتصعد روحه إلى بارئها: "إن دمي سيكون لعنة على رجال الثورة".
وقد استجاب الله دعاءه فكان دمه لعنة عليهم، فلم يفلت أحد من الظالمين من انتقام الله في الدنيا، حيث توالت عليهم النكبات، فهذا جمال سالم رئيس المحكمة يصاب بمرضٍ عصبي، وأخوه صلاح سالم تتوقف كليتاه ويحتبس بوله ويموت بالتسمم، وشمس بدران يُحكم عليه بالمؤبد، والمشير عبد الحكيم عامر يموت منتحرًا أو مسمومًا، وحمزة البسيوني تصدمه شاحنة فيتناثر لحمه في العراء، والعسكري غنيم يُعثر عليه قتيلاً بين الحقول، والصول ياسين هاجمه جمل له وقضم رقبته فقتله وكثيرون غيرهم من الظلمة وأعوان الظلمة الذين اضطهدوا الإخوان المسلمين، أرانا الله فيهم عجائب قدرته، أما كبيرهم ورأس الشر فيهم عبد الناصر فقد كانت حياته كلها رعبًا وفزعًا في اليقظة والمنام، بل طفحت المجاري على قبره فكان عبرة لمن يعتبر، والله غالب على أمره.
لقد شاهدنا بأعيننا آيات الله في الظالمين الذين جنوا على الإخوان المسلمين، فقد ضرب فاروق الإخوان عام 1948م فكان خلعه وطرده عام 1952م، وضرب عبد الناصر الإخوان عام 1954م فكان الاعتداء الثلاثي على مصر واحتلال إسرائيل لسيناء وبور سعيد، ثم ضربهم مرة ثانية عام 1965م فكانت هزيمته ونكبته عام 1967م وهلاك عبد الحكيم عامر ثم هلاكه من بعده، فسبحان من يمهل ولا يهمل.
رحم الله العالم العامل والقاضي الفقيه والمجاهد الشهيد الأستاذ عبد القادر عودة وألحقنا الله وإياه بالأنبياء والصالحين والصديقين والشهداء.