الخطأ الطبي
بقلم: د. نهاد خوري
المقال هو محاضرة قدّمها الدكتور نهاد خوري في مركز "الأرض" قرب حمص لـ"رابطة أطباء المستقبل" في كنيستنا، بتاريخ 2 تشرين الأول 2008.
(الخطأ الطبي) يخضع الخطأ الطبي للمعيار العام في تحديد الخطأ في المسؤولية المدنية، إلا أن الطبيعة الخاصة والفنية للعمل الطبي وما ينطوي عليه من خطورة تثير التساؤل حول مفهوم الخطأ الطبي وخصائصه من جهة، وصور تطبيقات هذا الخطأ من جهة أخرى.
ماهية الخطأ الطبي ومعياره
يعرف البعض الخطأ بأنه انحراف ايجابي أو سلبي في سلوك المدين ويعرفه الفقيه بلانيول الخطأ، بأنه الإخلال بالتزام سابق، ويحصر الالتزامات التي يعتبر الإخلال بها خطأ في أربعة أنواع، الامتناع عن العنف، الكف عن الغش، الإحجام عن عمل لم تتهيأ له الأسباب من قوة أو مهارة، واليقظة في تأديب واجب الرقابة على الأشخاص والأشياء. ويعرفه سافاتيية بأنه إخلال بواجب تبين لمن اخل به انه اخل بواجب .
ويمكن القول إن الخطأ في المسؤولية التقصيرية هو إخلال بالتزام قانوني، أما الخطأ في المسؤولية العقدية هو إخلال بالتزام عقدي، والالتزام العقدي أما أن يكون بتحقيق نتيجة وإما أن يكون التزام ببذل عناية، أما الالتزام القانوني فهو دائما التزام ببذل عناية وهو أن يصطنع الشخص في سلوكه اليقظة والتبصر والحذر حتى لا يضر بالغير، فإذا انحرف عن هذا السلوك الواجب، وكان من الممكن التمييز انه يدرك انه انحرف، كان هذا الانحراف خطأ يستوجب المسؤولية التقصيرية. وينطوي ركن الخطأ في المسؤولية التقصيرية على ركنين: الركن الأول مادي والذي يتمثل بالانحراف أو التعدي، والركن الآخر معنوي وهو الإدراك والتمييز لذا نجد ان نصوص المواد التي تتعلق بالفعل الضار بالقانون المدني تقتصر على العنصر المادي فقط وهو التعدي، وبالتالي يسأل كل من احدث الضرر حتى ولو كان غير مدرك أو مميز للعمل الذي قام به . يعرف الخطأ الطبي بأنه عدم قيام الطبيب بالالتزامات الخاصة التي فرضتها عليه مهنة الطب، او هو كل تقصير في مسلك الطبيب، وحيث أن الالتزام الذي يقع على عاتق الطبيب من حيث المبدأ هو التزام ببذل عناية، فان مضمون هذا الالتزام هو بذل الجهود الصادقة واليقظة التي تتفق مع الأصول العلمية الثابتة، والتي تتفق مع الظروف القائمة بهدف شفاء المريض وتحسين حالته الصحية، وكل إخلال بهذا الالتزام يشكل خطأ طبيا يثير مسؤولية الطبيب، وكذلك يسأل الطبيب الذي يقوم بالمعالجة عن كل تقصير من جانبه إذا كان ذلك لا يقع من طبيب وسط في نفس مستواه المهني وفي نفس الظروف التي أحاطت بالطبيب المسؤول .
وهذا يعني أن المعيار الذي يقاس به خطأ الطبيب هو معيار موضوعي يقيس الفعل على أساس سلوك معين يختلف من حالة إلى أخرى وهو سلوك الشخص المعتاد، أي أن القاضي في سبيل تقدير خطأ الطبيب في علاج مريض معين يقيس سلوكه على سلوك طبيب آخر من نفس المستوى، سواء طبيب عام أو مختص.
درجات الخطأ
أولا: الخطأ العمد، إرادة الفعل وإرادة النتيجة ويمكن تعريفة بأنه الإخلال بالتزام قانوني بقصد الإضرار بالغير، أي اتجاه الإرادة إلى إحداث الضرر ولا يكفي اتجاهها إلى ارتكاب الفعل لذاته إذا لم تتجه الإرادة لإحداث النتائج الضارة، لذلك فان الخطأ العمدي يتكون من عنصرين الأول مادي وهو الإخلال بالواجب (الالتزام)، والثاني معنوي (نفسي) وهو قصد الإضرار بالغير.
ثانيا: خطأ الإهمال: إرادة الفعل دون النتيجة ويمكن تعريفه بأنه الإخلال بالتزام قانوني دون قصد الإضرار بالغير، وتتفاوت درجات الإهمال فقد يكون خطأ الإهمال خطأ جسيما وقد يكون خطأ يسيرا. والخطأ الجسيم هو الخطأ الذي يقع فيه حتى أكثر الناس إهمالا بحيث لا يقع إلا من شخص شديد الغباء عديم الاكتراث، وعرفة البعض بأنه الإهمال أو عدم التبصر الذي بلغ حدا من الجسامة يجعل له أهمية خاصة، وإذا كان الخطأ العمدي ينطوي على سوء نية، فان الخطأ الجسيم لا ينطوي عليها، ولكن مع ذلك لا يعني إزالة وصف الخطأ الجسيم ويسأل مرتكب الفعل عن خطئه الذي سبب ضررا للغير. وقد يشترك شخصان في الضرر احدهما ارتكب خطأ عمدي والآخر ارتكب خطأ غير عمدي، وفي هذه الحالة فإن الخطأ العمدي يجب الخطأ الغير عمدي، أي أن مرتكب الخطأ العمدي هو المسؤول فقط . ويذهب البعض إلى وجوب التفرقة والتمييز في مزاولة المهنة بين الخطأ العادي والخطأ المهني، فالخطأ العادي هو ما يصدر من الطبيب صاحب المهنة عند مزاولته مهنته دون أن يكون لهذا الخطأ علاقة بالأصول الفنية لهذه المهنة، كإجراء العملية في حالة سكر أو الإهمال في تخدير المريض قبل العملية، ومعيار هذا الخطأ هو معيار الخطأ المعروف وهو الانحراف عن السلوك للرجل العادي. أما الخطأ المهني فهو خطأ يتصل بالأصول الفنية للمهنة كما إذا اخطأ الطبيب في تشخيص المرض.
وقد يجب التفريق بين الخطأ الفني والخطأ العادي للطبيب كخطأ الطبيب الذي لا يأمر بنقل المريض إلى المستشفى في الوقت المناسب إذا لا يسهل وصفه خطأ عادي أو خطأ فني، وكذلك إذا باشر الطبيب عملية جراحية خطيرة لا لغرض علاجي بل لمجرد إزالة عيوب طبيعية لا اثر لها بالصحة إطلاقا.
ونظرا لدقة التفرقة بين نوعي الخطأ العادي والفني وعدم وجود مبرر قوي يسندها، بالإضافة إلى تطور فكرة المسؤولية والميل إلى توفير حماية أكبر للمضرور فان القضاء في فرنسا ومصر قد عدل عن فكرة التفرقة ، فإذا كان الطبيب أو غيره من الرجال الفنيين في حاجة إلى الحماية من الأخطاء الفنية، والواجب اعتبار الرجل الفني مسؤولا عن خطئه المهني مسؤوليته عن خطئه العادي فيسأل في هذا وذاك حتى عن خطئه اليسير، لذا أصبح الطبيب مسؤولا عن خطئه مهما كان نوعه سواء كان فني أو غير فني، جسيما أو يسيرا.
فبالنسبة للقضاء الفرنسي قضت محكمة النقض في احد أحكامها "أن هاتين المادتين (1382، 1383 من القانون المدني الفرنسي) قد قررتا قاعدة عامة إلى قاعدة ضرورة إسناد الخطأ إلى المسؤول لإمكان إلزامه بتعويض الضرر الذي ينشأ عن فعله بل حتى عن مجرد إهماله وعدم تبصره، وان هذه القاعدة تسري على جميع الناس مهما كانت مراكزهم وصناعاتهم دون استثناء، إلا في الحالات التي نص عليها القانون بصفة خاصة، وانه لا يوجد أي استثناء من هذا القبيل بالنسبة للأطباء، وانه مما لا شك فيه أن المحكمة تتطلب من القاضي ألا يوغل في فحص النظريات والأساليب الطبية، وانه توجد قواعد عامة يمليها حسن التبصر وسلامة الذوق وتجب مراعاتها في كل مهنة، وان الأطباء فيما يتعلق بذلك خاضعون للقانون العام كغيرهم من الناس".
وبات الاتجاه في القضاء المصري واضحا حيث "قضت محكمة استئناف مصر بان مسؤولية الطبيب تخضع للقواعد العامة متى تحقق وجود خطأ مهما كان نوعه سواء كان خطأ فني أو غير فني جسيم أو يسير، لهذا فانه يصح الحكم على الطبيب الذي يرتكب الخطأ اليسير ولو أن هذا الخطأ له مسحة طبية ظاهرة ولا يتمتع طبيب بآي استثناء، ويجب على القاضي فقط أن يتثبت من وجود هذا الخطأ وان يكون هذا الخطأ ثابتا ثبوتا كافيا لدية".
وقضت محكمة النقض المصرية "بان الطبيب يسأل عن كل تقصير في مسلكه الطبي لا يقع من طبيب يقظ في مستواه المهني وجد في نفس الظروف الخارجية التي أحاطت بالطبيب المسؤول، كما يسأل عن خطئه العادي أياً كانت جسامته".
والمعيار الذي يقاس به الخطأ المهني هو معيار فني موضوعي معيار شخص من أواسط رجال الفن ومثل هذا الشخص لا يجوز له أن يخطئ فيما استقرت علية أصول مهنته، والأصول المستقرة للمهنة وهي ما لم تعد محلا للمناقشة بين أصحاب هذه المهنة بل أن جمهورهم يسلمون بها ولا يقبلون فيها جدالاً، ومن ثم إن الخروج على هذه الأصول المستقرة خطأ يوجب المسؤولية، وتقضي المحاكم بان يسأل الطبيب عن خطئه في العلاج إذا كان الخطأ ظاهرا لا يحتمل نقاشا فنيا تختلف فيه الآراء، فان وجدت مسائل علمية يتجادل فيها الأطباء ويختلفون عليها ورأى الطبيب إتباع نظرية قال بها العلماء ولم يستقر عليها الرأي فلا لوم عليه وعلى القضاء أن يتفادى النظر في المناقشات الفنية عند تقدير مسؤولية الأطباء، اذ ليست مهمة القضاء المفاضلة بين طرق العلاج المختلف عليها، بل إن مهمته قاصرة على التثبت من خطأ الطبيب المعالج .
صور الخطأ الطبي
إن استقصاء صور عملية وتطبيقية للخطأ الطبي تبدو من خلال تتبع العلاقة بين المريض والطبيب منذ بداية العلاقة، فيبدأ الأمر أولا بمعرفة توافر الرضا بصدد العمل الطبي سواء أكان من قبل الطبيب أو المريض ويأتي بعد ذلك مرحلة فحص المريض وتشخيص المرض ووصف العلاج ومباشرته، وقد يستدعي الأمر تدخل جراحي وما ينطوي عليه ذلك من حساسية خاصة بسبب تداخل عدة عوامل كالفحص الأولى والتشخيص والتخدير والطبيعة الفنية للعمل والاستعانة بالكوادر الطبية الأخرى وما إلى ذلك من الأمور التي تعد من لوازم العمل الطبي وسأعرض لبعض صور الخطأ الطبي الأكثر شيوعا في الحياة العملية التي يمكن أن تصدر خلال المراحل والفروض السابقة.
أولاً: امتناع الطبيب عن معالجة المريض إن دعوة الطبيب لعلاج المريض هي أولى مراحل العلاقة بين الطبيب والمريض، ويثور في هذا الصدد مجموعة من التساؤلات، فهل الطبيب ملزم بتلبية دعوة المريض؟ وهل له رفض التعاقد مع المريض؟ وهل تترتب عليه أية مسؤولية في حال رفض تلبية الدعوة؟
الأصل أن الطبيب كسائر المواطنين له كامل الحرية في ممارسة مهنته وبالطريقة التي يحبذ، إذ له الحق في قبول أو رفض الدعوة للعلاج. فالعلاقة بين الطبيب والمريض علاقة تعاقدية يلزم فيها رضا كل من الطرفين، ولا يوجد ما يلزم الطبيب بتقديم العلاج للمرضى الذين يطلبون المساعدة، ولا يعد الشخص مخطئا إلا إذا اخل بواجب يفرضه عليه القانون أو الاتفاق، وهذا ما كان مستقر علية في الفقه والقضاء ، حيث أن الطبيب غير ملزم بتلبية دعوة المريض لمعالجته إذ له الحرية في قبول العلاج أو رفضه، ولا يترتب على امتناعه أي مسؤولية وذلك لانعدام الرابطة السببية بين الضرر والخطأ، علاوة على أن هناك مبدأ هام في التشريعات الجنائية مفاده أن لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، وان مجرد الامتناع لا يرتب مسؤولية ما لم يوجد نص أو عقد يوجب العمل.
والقول بغير ذلك يتنافى مع مبدأ الحرية التي يتمتع بها الطبيب، فكما أن رضا المريض شرط لازم فان الطبيب كذلك لا يعتبر ملزما بالعلاج إلا بعد قبوله، وعليه لا يعد امتناعه سببا لإقامة المسؤولية عن هذا الامتناع، حتى أن القضاء والى عهد قريب كان يقضي بان من حق الطبيب أن يمتنع عن إجابة دعوة المريض دون أي مسؤولية، حتى ولو لم يوجد طبيب آخر يمكن أن يكون بديلا عنه. وكان اجتهاد محكمة شاتورو الفرنسية عام 1908 "أن من حق الطبيب أن يمتنع عن إجابة دعوة المريض دون أن يتعرض إلى أي جزاء جنائي أو مدني لان مهنة الطب هي مهنة حرة، وله مطلق الحرية في اختيار عملائه". وقد كان لهذا الاتجاه آثار سلبية لاسيما في الأرياف حيث لا يوجد في كثير من الأحيان ألا طبيب واحد فإذا رفض معالجة المريض فانه يحرم هذا المريض من العناية الطبية التي يمكن أن تنقذه من الموت. لذلك تراجع الفقه والقضاء عن المبدأ السابق والمتمثل في حرية الطبيب بالامتناع، وظهرت اتجاهات حديثة تنادي في نسبية الحقوق ووظيفتها الاجتماعية، مما كان له اثر فعال في تقييد الحرية المطلقة للطبيب، حيث ان هناك واجب إنساني وأدبي على الطبيب اتجاه المرضى والمجتمع الذي يحيا فيه، تفرضه عليه أصول ومقتضيات العمل الطبي.
فرغم التسليم في حرية الطبيب في مزاولة مهنته إلا انه يجب ألا يستعملها إلا في حدود الغرض الاجتماعي الذي اعترف له بها وإلا يعتبر متعسفا في استعمال حقه، وعليه فان إقرار مسؤولية الطبيب الممتنع متى كان سبب امتناعه يلحق ضرر بالغير، فان هذا الأمر يتطلب وجود نية الإضرار بالغير وهذه النية يمكن استخلاصها من ظروف الحال كوجود المريض في مكان ناء ولا يوجد سوى طبيب معين لإنقاذه وعلاجه، أو إذا طلب المريض العلاج في ساعة متأخرة من الليل ولا يوجد في هذه الساعة غيره، كذلك وجود المريض في حالة خطرة تستدعى التدخل السريع والفوري من الطبيب الحاضر.
اعتبر الفقه والقضاء أن مجرد امتناع الطبيب في مثل هذه الحالات يشكل خطأ يستوجب المسؤولية وتطبق بشأن هذا الخطأ قواعد المسؤولية التقصيرية التي من شروطها ثبوت وجود ضرر نشأ من هذا الامتناع واثبات العلاقة السببية بين الامتناع والضرر. ومن الجدير بالذكر أن الطبيب الذي يعمل في مستشفى عام أو مصلحة حكومية ليس له أن يرفض معالجة المرضى الذين ينبغي عليه معالجتهم، ونفس الحكم بالنسبة للطبيب الذي يتعاقد مع مؤسسة أو رب عمل على علاج العاملين، فامتناع الطبيب عن العلاج هنا يثير مسؤوليته التعاقدية التي لا مناص منها بل والتشدد فيها. خلاصة القول أن مسؤولية الطبيب تثور في حالة الامتناع عن العلاج إذا تم حصول ضرر بسبب هذا الامتناع، ويقع على عاتق المريض إثبات قيام العلاقة السببية بين امتناع الطبيب عن العلاج والضرر الذي لحق به.
كما تقوم مسؤولية الطبيب الجنائية إذا كان الترك أو الامتناع عن تقديم العلاج يشكل خطأ جنائيا، وقد نصت المادة (474) من قانون العقوبات الأردني "انه يعاقب بالحبس حتى شهر واحد والغرامة خمسة دنانير على كل شخص من أصحاب المهن أو أهل الفن إذا امتنع دون عذر عن إغاثة او إجراء عملية" .
كما تنص المادة (343) من نفس القانون على أن "من سبب موت احد عن إهمال أو قلة احتراز أو عدم مراعاة القوانين والأنظمة عوقب بالحبس من ثلاثة شهور إلى ستة سنوات" .
ثانيا: رضاء المريض بالعلاج ان حق المريض في العلاج من الحقوق الإنسانية الأساسية كحقه في الحياة، ويعتبر رضاء المريض في العلاج هو الدافع الأساسي لبدء العلاج أو المرحلة التنفيذية في مباشرة العلاج.
يلزم لقيام الطبيب بالعلاج والعمليات الجراحية الحصول على رضا المريض بذلك وتخلف هذا الرضا قد يجعل الطبيب مخطئا ويحمله تبعة المخاطر الناشئة عن العلاج، ولا يعني رضاء المريض إعفاء الطبيب من المسؤولية، بل انه يسأل طبقا للقواعد العامة عن الخطأ الصادر منة أثناء العلاج.
اجمع القضاء في فرنسا على أن الإنسان هو الوحيد الذي له حق التصرف في جسمه وفي تقدير ماله من مخاطر، فأقر في هذا النطاق انه يجب على الطبيب أن يطلع المريض بما يترتب على علاجه بنوع معين من الدواء، أو ما قد يحدث من جراء عملية جراحية فيها أي قدر من الخطورة، فانه يجب على الطبيب – كقاعدة عامة عدم لالتجاء إلى علاج مريض أو المساس بجسمه دون الحصول على رضاه سلفا، فهذا الرضاء يقتضيه احترام الشخص لهذا الفرد، إذ لكل إنسان حقوق مقدسة على جسمه لا يجوز المساس بها بغير رضائه ولو كان الدافع إليه لصالح المريض.
وتزداد أهمية الحصول على رضى المريض كلما كان العلاج أو التدخل الجراحي ينطوي على كثير من المخاطر، والتزام الطبيب بالحصول على موافقة المريض لا يقتصر على العلاج الذي يشير به فقط بل يجب على الطبيب أن يحيط المريض بكافة النتائج والمضاعفات التي قد تحدث بسبب ذلك العلاج.
ولا يقصد برضى المريض الإيجاب الصادر عنه بقبول العلاج، لدى طبيب ما أو مستشفى، لانعقاد العقد الطبي بينهما بل إن الرضا المقصود هو الرضاء الخاص، بحيث يكون حصول الإذن بالرضاء مقدما من المريض ذاته، أو من أهله وذويه ممن هم أهلا لتنفيذه وخاصة في حالة إجراء عملية أو علاج خطير أو بتر عضو. ويبرر الفقه ضرورة الحصول على الرضا الخاص، لان المريض إنسان حر، له حقوق مقدسة على جسمه وليس لأحد المساس بجسمه دون رضاه، لذا يجب أن يكون هذا الرضا واضحا وصريحا قبل البدء بالعلاج وان يستمر إلى وقت التدخل العلاجي من الطبيب وفي حالة إذا ما عدل المريض عن رضاه، فان الطبيب يسأل في حالة قيامة بالعلاج دون الحصول على رضى المريض. تنص المادة الثانية من الدستور الطبي الأردني والمتعلقة بواجبات الطبيب تجاه المرضى على أن "كل عمل طبي يجب أن يستهدف مصلحة المريض المطلقة وأن تكون له ضرورة تبرره وان يتم برضائه أو رضاء ولي أمره إن كان قاصرا أو فاقداً لوعيه" .
إن الطبيب لا يعفى من الحصول على الرضى مسبقا إلا في حالات استثنائية وتتمثل في حالات العلاج العاجل كما في حالة المصاب بحادث سير، فعلى المريض هنا ان يتقبل ويتناول ما يقدمه له الطبيب من علاج وتطبيب، وان يرضخ للإجراءات العلاجية التي تستدعيها حالته، كالتصوير بالأشعة والموجات الكهربائية واخذ العينات المخبرية.
وأما عن وقت الرضا فانه يجب أن يكون سابقا للعلاج آو إجرائه وهو إما أن يكون صريحا أو ضمنيا حيث يمكن في حالة العلاج اعتبار دخول المريض إلى عيادة المريض ودفع مقابل الكشفية ليس إلا مظهرا ودليل على القبول والرضى، على الرغم من أن شروط العقد غير مبينة كتابيا لان مواصفات العمل وشروطه وأصول المهنة واعترافها هي التي تحدد مثل هذه الشروط.
ويجب أن لا ننسى في هذا المقام أن الرضى يجب أن يصدر من صاحب العلاقة (المريض نفسه) في حالة إذا ما كان كامل الأهلية وبالغ راشد عاقل، وكانت حالته تسمح له بالتعبير عن رضائه، ويكفي أن يصدر الرضا مما له سلطة قانونية أو من ممثليه القانونيين أو أهله القريبين في حالة أذا ما كان المريض غير أهل للتعبير عن رضائه كأن يكون فاقدا للوعي . وقد جاء في حكم صادر عن محكمة بيروت "يجيز القانون العمليات الجراحية، والعلاجات الطبية المنطبقة على الصول الفن، شرط أن تجرى برضى العليل، آو رضا ممثليهم الشرعيين أو في حالة الضرورة الماسة". وعلى الرغم من كل ما سبق فأننا نؤكد أن رضا المريض لا يعني إعفاء الطبيب من المسؤولية التي تنشأ عن أخطاءه في العلاج أو الجراحة بل يسأل طبقا للقواعد العامة لان الإخلال بالالتزامات المتعلقة بسلامة الجسم البشري هي من النظام العام.
ويقع عبء إثبات الرضى على عاتق الطبيب المباشر للعمل وله أن يستفيد من ظروف الحال وواقع ما جرى معه والقرائن المحيطة ليستطيع استخلاص الرضا وذلك في حالة انتفاء الرضا الصريح، ومن الصور الدالة على الرضا الضمني أن يقوم المريض بدفع أجور العملية أو جزء منها مسبقا أو لاحقا لانتهاء العمل الجراحي.
ثالثا: الخطأ الطبي في التشخيص:
إن التشخيص له أهمية خاصة باعتباره مرحلة تسبق مراحل العلاج وهذه المرحلة من أهم وأدق هذه المراحل جميعا ففيها يحاول الطبيب معرفة ماهية المرض ودرجة خطورته وتاريخه وتطوره مع جميع ما يؤثر فيه من ظروف المريض من حيث ناحيته الصحية وسوابقه المرضية وأثر الوراثة فيه، ثم يقرر بناء على ما يجتمع لديه من كل ذلك، نوع المرض الذي يشكو منه المريض ودرجة تقدمه، ولتحديد الخطأ في التشخيص يستلزم الوقوف على أمرين أولهما: الإهمال في التشخيص، وثانيهما: الغلط العلمي الذي يقع فيه الطبيب.
أولاً: الإهمال في التشخيص إن تشخيص المرض أول أعمال الطبيب فعلى ضوء ذلك يتحدد تعامله مع المريض وطريقة علاجه، وان أي خطأ في تلك المرحلة الهامة والرئيسية يستتبع نتائج قد لا تحمد عقباها، وفي هذه المرحلة بالذات ومنها تبدأ المسؤولية الطبية وان أي تسرع في البت وتقرير حالة المريض قد يوقع الطبيب في خطأ التشخيص. فيجب على الطبيب أثناء قيامه في تشخيص المرض اللجوء إلى الفحوصات العلمية والعملية كالفحص الميكروسكوبي والتحاليل بأنواعها والتصوير بالأشعة، وله أن يستعين بأطباء آخرين من ذوي الاختصاص، فإذا أهمل الطبيب في اتخاذ الاحتياطات الضرورية التي تبعده عن مواطن الخطأ كان مسؤولا عن الأضرار الناجمة عن أخطائه في التشخيص، وفي هذا الصدد ذهبت محكمة السين الابتدائية في فرنسا "بأنه في حالة الشك بالتشخيص يجب الالتجاء إلى الطرق العلمية للتحقق من الحالة المرضية، ويمكن القول أن الطبيب يحاسب عن جميع الأخطاء التي تقع في التشخيص وخاصة إذا كان ذلك الخطأ لا يقع من طبيب معتاد من أواسط رجال الطب وفي الظروف العادية للتشخيص وعلى هذا يلزم الطبيب ببذل أقصى الجهد للتحقق من نوعية المرض والوقوف على حقيقة ما يعانيه المريض، وذلك بعنايته بالتشخيص ويكون ذلك باتباع احدث ما توصل إليه العلم وفن الطب من وسائل كشف مما هو متاح، وإلا فانه يسأل عن أي تقصير في مساعيه بهذا الخصوص فيما إذا كان تشخيصه مخالفا أو بعيدا عن حالة المريض حقيقته. أما الحالات التي لا يمكن أن تساعد فيها الأعراض الظاهرة فيها عن كشف حقيقة المرض، كوجود التهابات يصعب معها تحديد حالة المرض، أو أن الحالة لم تكن ذات جدوى للاستعانة بها فان الطبيب لا يسأل من حيث المبدأ.
ثانيا: الغلط العلمي هناك العديد من النظريات العلمية الطبية لا تزال محل خلاف بين العلماء والأطباء، فإذا ما رجح الطبيب رأى على آخر واخطأ في التشخيص نتيجة لتشابه الأعراض المرضية والتي تستعصي على أكثر الأطباء علما ودراية، ففي هذه الحالات يبقى الطبيب في منأى من المسؤولية متى كان الخطأ الذي وقع فيه بسبب تشابه الأعراض، ويمكن أن يقع في ذلك الطبيب الوسط الذي وجد في نفس الظروف، ولكن هذا لا يعني أن الغلط العلمي في التشخيص يغتفر مهما كان الغلط الصادر من الطبيب، لان اعتماد مبدأ كهذا فيه مخالفة لما قلناه في معيار الخطأ الطبي، وإنما يسأل الطبيب إذا لم يبذل جهودا صادقة يقظة تتفق مع الأصول العلمية الثابتة ماعدا الظروف الاستثنائية وعلى هذا ذهبت إحدى المحاكم الفرنسية إلى القول " بان طبيب الأشعة الذي لا يكشف كسر في رأس عظمة الفخذ الذي اخذ له صورة مع ما أثبته الخبراء من وضوح اثر الكسر في تلك الصورة يدل بذلك على جهل تام بقراءته للصورة العظمية، جهل لا يغتفر على الأخص من طبيب مختص، وعلى ذلك فان الطبيب يسأل كلما اخطأ في تشخيص المرض خطأ يدل على الجهل الفاضح للفن الطبي، مما يستدعي الفصل بين الجهل والرأي العلمي فنحاسب الطبيب في حالات الجهل دون الاجتهاد العلمي. ويمكن إجمال بعض حالات الخطأ في التشخيص في الأمور التالية : 1. إذا كان الخطأ يشكل جهلا واضحا بالمبادئ الأولية للطب المتفق عليها من قبل الجميع والتي تعد الحد الأدنى الذي يتفق مع أصول المهنة. 2. إن الغلط في التشخيص لا يشكل بالضرورة خطأ طبيا، فمثل هذا الغلط يمكن أن يثير مسؤولية الطبيب إذا كان عن جهل في الأوليات أو عن إهمال في الفحص الطبي كأن يتم في طريقة سطحية وسريعة غير كاملة. 3. إذا كان الخطأ في التشخيص غير مغتفر، كما إذا كان علامات وأعراض المرض ظاهرة بحيث لا تفوت على طبيب وسط من نفس مستوى من قام بالتشخيص. إذا كان الخطأ ينطوي على إهمال واضح من قبل الطبيب لا يتفق مع ما جرى عليه العمل في مثل هذه الحالات، حيث يسأل الطبيب إذا كان خطؤه في التشخيص راجعا إلى عدم استعمال الوسائل الطبية الحديثة التي اتفق على استخدامها في مثل هذه الأحوال كالأشعة، والفحوصات المخبرية، 4. ولا يعفي الطبيب من المسؤولية في هذه الحالة إلا أذا كانت حالة المريض لا تسمح باستعمال الوسيلة المتبعة أو كانت الظروف الموجود بها المريض لا تؤهل لذلك. 5. ويٍسأل الطبيب أيضاً إذا كان الخطأ في التشخيص راجعا إلى استخدام الطبيب لوسائل مهجورة وطرق لم يعد يعترف بها علميا في هذا المجال. 6. وأخيراً يسأل الطبيب عن الخطأ في التشخيص إذا كان ذلك راجعا إلى عدم استشارته لزملائه الذين هم أكثر منه تخصصا في المسائل الأولية اللازمة، حتى يتبين طبيعة الحالة.
رابعا: الخطأ في وصف العلاج:
تأتي مرحلة وصف العلاج للمريض بعد تشخيص المرض وتحديد هويته والوقوف على طبيعته بشكل دقيق، فوصف العلاج للمريض يجب أن يستند على نتائج هذه المرحلة حتى يكون ناجحا وملائما للمريض ومن الطبيعي ألا يلتزم الطبيب بنتيجة معينة كشفاء المريض بل يبقى التزامه ببذل عناية، حيث يجب عليه أن يبذل العناية اللازمة لاختيار العلاج والدواء الملائمين لحالة المريض بهدف التوصل إلى شفائه أو تخفيف الآمة، ولا يسأل الطبيب عن نتيجة ذلك لأن الأمر مرجعه إلى مدى فعالية العلاج من جهة ومدى قابلية جسم المريض وحالته لاستيعاب ذلك من جهة أخرى، ويلزم الطبيب بمراعاة الحيطة بوصف العلاج وعليه أن يأخذ بعين الاعتبار الحالة الصحية للمريض وسنه وقوة مقاومته ودرجة احتماله للمواد الكيماوية، وقد قضت إحدى المحاكم الفرنسية في احد أحكامها "أن الطبيب يعتبر مخطئا، إذا أمر بعلاج لم يراعى فيه بنية المريض وسنه وقوة مقاومته، ودرجة احتماله للمواد السامة التي تقدم إليه". إن خطأ الطبيب في مرحلة العلاج يمكن تقسيمه إلى نوعين: 1. خطأ ناتج عن عدم إتباع الأصول العلمية السائدة وقت مباشرة العلاج حيث أن إتباع هذه الأصول هو التزام عام يقع على عاتق الطبيب، إذ يجب عليه أن يبذل للمريض عناية لا من أي نوع كان بل أن يبذل جهودا صادقة يقظة تتفق مع الأصول العلمية الثابتة، وبناء على ذلك فان الطبيب الذي يستخدم فنا قديما في المعالجة مع إمكانية استخدام وسائل طبية حديثة بديلة عن الفن القديم والمهجور يعد مسؤولا عن الأضرار التي يمكن أن تنجم عن فعله" . ومعنى إلزام الطبيب باتباع ما وصل إليه العلم والمعرفة وخاصة في مجالات الطب ليس الجمود والتقوقع والانزواء عن الاستنباط والاستحداث وتجديد والتطور، وإنما القصد انه إذا ما عرض على الطبيب حالة تحكمها القواعد الثابتة المستقرة التي وضع لها العلم حلا، ودلت الخبرة والتجربة على صلاحيته، فان الطبيب ملزم بإتباعه، حتى لا يعرض المريض لأخطار لا مبرر لها. وفي حالة إذا ما عرض على الطبيب حالة لا تدخل في ذاك النطاق وتلك الحدود فلا يوجد ما يمنع من مسايرة الأمور وفق ما تقتضيه تلك الحالة ومصلحة المريض فيختار ما يراه مناسبا ويفاضل بين النظريات الأكثر ملائمة دون أن يكون له حق في الخروج عن الأصول المستقرة الثابتة وإنما له التصرف ضمنها وله أن يحورها بما يناسب مصلحة المريض، فيجري علاج جديد شرط أن لا تكون أخطاره غير متناسبة مع فوائده 2. الخطأ الناتج عن قواعد الحيطة والحذر في وصف العلاج. يجب على الطبيب عند كتابته للوصفة الطبية للمريض أن يراعى جانب الحذر والحيطة واليقظة في وصفة العلاج، حيث يجب أن تصدر الوصفة الطبية عنه مذيلة بتوقيعه وظاهر فيها مقادير الدواء وطريقة استخدامه، وقد نصت المادة ( من الدستور الطبي والمتعلقة بواجبات الطبيب العامة على أن تحوى أوراق الوصفات الطبية المعلومات المسموح بإدراجها في إعلان الصحف واللافتات فقط. ويجب أن يذكر على الوصفة الطبية اسم المريض وعمرة والتاريخ وتوقيع الطبيب وان تكون الوصفة واضحة الخط وحاوية على شروط استعمال العلاج".
فاختيار العلاج بنوعيته ومقدار جرعته وكيفية استخدامه يقتضي من الطبيب منتهى اليقظة والانتباه فإذا ما اخطأ في تقدير الجرعة أو في نسبة تركيب المادة التي تدخل في الدواء ومات المريض نتيجة لذلك فان الطبيب يعد مسؤولا في هذه الحالة نتيجة لخطئه في وصف الدواء، فالطبيب يعتبر مسؤولا إذا اخطأ وتجاوز في تقدير الجرعة التي يحتاجها المريض لدواء ما، وكان الحد والمقدار معلوما ومستقرا عليه في علم الطب والأصول الفنية، أو إن الطبيب قد أعطى المريض دواء غير مناسب لحالته لاعتقاده العكس، فيكون تقديره خاطئ وعلى غير مقتضى أصول الفن الطبي.
وعلى الرغم مما تقدم ليس هناك معيار محدد يمكن من خلاله القول أن الطبيب قد اخطأ أثناء العلاج، لذلك ذهبت أحكام القضاء إلى أن الطبيب يعتبر مسؤولا إذا اثبت أن في اختياره الدواء جهلا واضحا بأصول العلم والفن العلمي أو انه يصف دواء للمريض يحتوي على مواد خطرة دون أن يبين كيفية تناوله ولم يقم بفحص المريض للتأكد من مقدرته على تحمل العلاج.
ورغم ذلك فان الطبيب لا تحجب عنه المسؤولية حتى وان نبه المريض أو ذويه أو المسؤول والقائم على رعايته والعناية به إلى مخاطر العلاج، وذلك إذا لم تكن حالة المريض تستدعي تعريضه لهذه المخاطر أو لم توجد ضرورة لذلك حتى ولو رضي المريض بذلك لان الطبيب يجب أن لا يقبل تعريض مريضة لعلاج لا تكون فوائدة متناسبة مع مخاطره، فعلى الطبيب عند اختيار العلاج أن يوازن بين أخطار العلاج وأخطار المرض، من منطلق انه كلما كان في العلاج المقصود خطر على حياة المريض فيتحتم على الطبيب استبعاده.
وقد تقوم المسؤولية بشكل مشترك بين الطبيب والصيدلي كما في حالة لو وصف الطبيب دواء خطير على الصحة ولم يقم الصيدلي بمراجعته أو إذا اخطأ الطبيب في جرعات الدواء ولم يقم الصيدلي بمراجعة ذلك والتأكد من الجرعات التي تلزم المريض .
بقلم: د. نهاد خوري
المقال هو محاضرة قدّمها الدكتور نهاد خوري في مركز "الأرض" قرب حمص لـ"رابطة أطباء المستقبل" في كنيستنا، بتاريخ 2 تشرين الأول 2008.
(الخطأ الطبي) يخضع الخطأ الطبي للمعيار العام في تحديد الخطأ في المسؤولية المدنية، إلا أن الطبيعة الخاصة والفنية للعمل الطبي وما ينطوي عليه من خطورة تثير التساؤل حول مفهوم الخطأ الطبي وخصائصه من جهة، وصور تطبيقات هذا الخطأ من جهة أخرى.
ماهية الخطأ الطبي ومعياره
يعرف البعض الخطأ بأنه انحراف ايجابي أو سلبي في سلوك المدين ويعرفه الفقيه بلانيول الخطأ، بأنه الإخلال بالتزام سابق، ويحصر الالتزامات التي يعتبر الإخلال بها خطأ في أربعة أنواع، الامتناع عن العنف، الكف عن الغش، الإحجام عن عمل لم تتهيأ له الأسباب من قوة أو مهارة، واليقظة في تأديب واجب الرقابة على الأشخاص والأشياء. ويعرفه سافاتيية بأنه إخلال بواجب تبين لمن اخل به انه اخل بواجب .
ويمكن القول إن الخطأ في المسؤولية التقصيرية هو إخلال بالتزام قانوني، أما الخطأ في المسؤولية العقدية هو إخلال بالتزام عقدي، والالتزام العقدي أما أن يكون بتحقيق نتيجة وإما أن يكون التزام ببذل عناية، أما الالتزام القانوني فهو دائما التزام ببذل عناية وهو أن يصطنع الشخص في سلوكه اليقظة والتبصر والحذر حتى لا يضر بالغير، فإذا انحرف عن هذا السلوك الواجب، وكان من الممكن التمييز انه يدرك انه انحرف، كان هذا الانحراف خطأ يستوجب المسؤولية التقصيرية. وينطوي ركن الخطأ في المسؤولية التقصيرية على ركنين: الركن الأول مادي والذي يتمثل بالانحراف أو التعدي، والركن الآخر معنوي وهو الإدراك والتمييز لذا نجد ان نصوص المواد التي تتعلق بالفعل الضار بالقانون المدني تقتصر على العنصر المادي فقط وهو التعدي، وبالتالي يسأل كل من احدث الضرر حتى ولو كان غير مدرك أو مميز للعمل الذي قام به . يعرف الخطأ الطبي بأنه عدم قيام الطبيب بالالتزامات الخاصة التي فرضتها عليه مهنة الطب، او هو كل تقصير في مسلك الطبيب، وحيث أن الالتزام الذي يقع على عاتق الطبيب من حيث المبدأ هو التزام ببذل عناية، فان مضمون هذا الالتزام هو بذل الجهود الصادقة واليقظة التي تتفق مع الأصول العلمية الثابتة، والتي تتفق مع الظروف القائمة بهدف شفاء المريض وتحسين حالته الصحية، وكل إخلال بهذا الالتزام يشكل خطأ طبيا يثير مسؤولية الطبيب، وكذلك يسأل الطبيب الذي يقوم بالمعالجة عن كل تقصير من جانبه إذا كان ذلك لا يقع من طبيب وسط في نفس مستواه المهني وفي نفس الظروف التي أحاطت بالطبيب المسؤول .
وهذا يعني أن المعيار الذي يقاس به خطأ الطبيب هو معيار موضوعي يقيس الفعل على أساس سلوك معين يختلف من حالة إلى أخرى وهو سلوك الشخص المعتاد، أي أن القاضي في سبيل تقدير خطأ الطبيب في علاج مريض معين يقيس سلوكه على سلوك طبيب آخر من نفس المستوى، سواء طبيب عام أو مختص.
درجات الخطأ
أولا: الخطأ العمد، إرادة الفعل وإرادة النتيجة ويمكن تعريفة بأنه الإخلال بالتزام قانوني بقصد الإضرار بالغير، أي اتجاه الإرادة إلى إحداث الضرر ولا يكفي اتجاهها إلى ارتكاب الفعل لذاته إذا لم تتجه الإرادة لإحداث النتائج الضارة، لذلك فان الخطأ العمدي يتكون من عنصرين الأول مادي وهو الإخلال بالواجب (الالتزام)، والثاني معنوي (نفسي) وهو قصد الإضرار بالغير.
ثانيا: خطأ الإهمال: إرادة الفعل دون النتيجة ويمكن تعريفه بأنه الإخلال بالتزام قانوني دون قصد الإضرار بالغير، وتتفاوت درجات الإهمال فقد يكون خطأ الإهمال خطأ جسيما وقد يكون خطأ يسيرا. والخطأ الجسيم هو الخطأ الذي يقع فيه حتى أكثر الناس إهمالا بحيث لا يقع إلا من شخص شديد الغباء عديم الاكتراث، وعرفة البعض بأنه الإهمال أو عدم التبصر الذي بلغ حدا من الجسامة يجعل له أهمية خاصة، وإذا كان الخطأ العمدي ينطوي على سوء نية، فان الخطأ الجسيم لا ينطوي عليها، ولكن مع ذلك لا يعني إزالة وصف الخطأ الجسيم ويسأل مرتكب الفعل عن خطئه الذي سبب ضررا للغير. وقد يشترك شخصان في الضرر احدهما ارتكب خطأ عمدي والآخر ارتكب خطأ غير عمدي، وفي هذه الحالة فإن الخطأ العمدي يجب الخطأ الغير عمدي، أي أن مرتكب الخطأ العمدي هو المسؤول فقط . ويذهب البعض إلى وجوب التفرقة والتمييز في مزاولة المهنة بين الخطأ العادي والخطأ المهني، فالخطأ العادي هو ما يصدر من الطبيب صاحب المهنة عند مزاولته مهنته دون أن يكون لهذا الخطأ علاقة بالأصول الفنية لهذه المهنة، كإجراء العملية في حالة سكر أو الإهمال في تخدير المريض قبل العملية، ومعيار هذا الخطأ هو معيار الخطأ المعروف وهو الانحراف عن السلوك للرجل العادي. أما الخطأ المهني فهو خطأ يتصل بالأصول الفنية للمهنة كما إذا اخطأ الطبيب في تشخيص المرض.
وقد يجب التفريق بين الخطأ الفني والخطأ العادي للطبيب كخطأ الطبيب الذي لا يأمر بنقل المريض إلى المستشفى في الوقت المناسب إذا لا يسهل وصفه خطأ عادي أو خطأ فني، وكذلك إذا باشر الطبيب عملية جراحية خطيرة لا لغرض علاجي بل لمجرد إزالة عيوب طبيعية لا اثر لها بالصحة إطلاقا.
ونظرا لدقة التفرقة بين نوعي الخطأ العادي والفني وعدم وجود مبرر قوي يسندها، بالإضافة إلى تطور فكرة المسؤولية والميل إلى توفير حماية أكبر للمضرور فان القضاء في فرنسا ومصر قد عدل عن فكرة التفرقة ، فإذا كان الطبيب أو غيره من الرجال الفنيين في حاجة إلى الحماية من الأخطاء الفنية، والواجب اعتبار الرجل الفني مسؤولا عن خطئه المهني مسؤوليته عن خطئه العادي فيسأل في هذا وذاك حتى عن خطئه اليسير، لذا أصبح الطبيب مسؤولا عن خطئه مهما كان نوعه سواء كان فني أو غير فني، جسيما أو يسيرا.
فبالنسبة للقضاء الفرنسي قضت محكمة النقض في احد أحكامها "أن هاتين المادتين (1382، 1383 من القانون المدني الفرنسي) قد قررتا قاعدة عامة إلى قاعدة ضرورة إسناد الخطأ إلى المسؤول لإمكان إلزامه بتعويض الضرر الذي ينشأ عن فعله بل حتى عن مجرد إهماله وعدم تبصره، وان هذه القاعدة تسري على جميع الناس مهما كانت مراكزهم وصناعاتهم دون استثناء، إلا في الحالات التي نص عليها القانون بصفة خاصة، وانه لا يوجد أي استثناء من هذا القبيل بالنسبة للأطباء، وانه مما لا شك فيه أن المحكمة تتطلب من القاضي ألا يوغل في فحص النظريات والأساليب الطبية، وانه توجد قواعد عامة يمليها حسن التبصر وسلامة الذوق وتجب مراعاتها في كل مهنة، وان الأطباء فيما يتعلق بذلك خاضعون للقانون العام كغيرهم من الناس".
وبات الاتجاه في القضاء المصري واضحا حيث "قضت محكمة استئناف مصر بان مسؤولية الطبيب تخضع للقواعد العامة متى تحقق وجود خطأ مهما كان نوعه سواء كان خطأ فني أو غير فني جسيم أو يسير، لهذا فانه يصح الحكم على الطبيب الذي يرتكب الخطأ اليسير ولو أن هذا الخطأ له مسحة طبية ظاهرة ولا يتمتع طبيب بآي استثناء، ويجب على القاضي فقط أن يتثبت من وجود هذا الخطأ وان يكون هذا الخطأ ثابتا ثبوتا كافيا لدية".
وقضت محكمة النقض المصرية "بان الطبيب يسأل عن كل تقصير في مسلكه الطبي لا يقع من طبيب يقظ في مستواه المهني وجد في نفس الظروف الخارجية التي أحاطت بالطبيب المسؤول، كما يسأل عن خطئه العادي أياً كانت جسامته".
والمعيار الذي يقاس به الخطأ المهني هو معيار فني موضوعي معيار شخص من أواسط رجال الفن ومثل هذا الشخص لا يجوز له أن يخطئ فيما استقرت علية أصول مهنته، والأصول المستقرة للمهنة وهي ما لم تعد محلا للمناقشة بين أصحاب هذه المهنة بل أن جمهورهم يسلمون بها ولا يقبلون فيها جدالاً، ومن ثم إن الخروج على هذه الأصول المستقرة خطأ يوجب المسؤولية، وتقضي المحاكم بان يسأل الطبيب عن خطئه في العلاج إذا كان الخطأ ظاهرا لا يحتمل نقاشا فنيا تختلف فيه الآراء، فان وجدت مسائل علمية يتجادل فيها الأطباء ويختلفون عليها ورأى الطبيب إتباع نظرية قال بها العلماء ولم يستقر عليها الرأي فلا لوم عليه وعلى القضاء أن يتفادى النظر في المناقشات الفنية عند تقدير مسؤولية الأطباء، اذ ليست مهمة القضاء المفاضلة بين طرق العلاج المختلف عليها، بل إن مهمته قاصرة على التثبت من خطأ الطبيب المعالج .
صور الخطأ الطبي
إن استقصاء صور عملية وتطبيقية للخطأ الطبي تبدو من خلال تتبع العلاقة بين المريض والطبيب منذ بداية العلاقة، فيبدأ الأمر أولا بمعرفة توافر الرضا بصدد العمل الطبي سواء أكان من قبل الطبيب أو المريض ويأتي بعد ذلك مرحلة فحص المريض وتشخيص المرض ووصف العلاج ومباشرته، وقد يستدعي الأمر تدخل جراحي وما ينطوي عليه ذلك من حساسية خاصة بسبب تداخل عدة عوامل كالفحص الأولى والتشخيص والتخدير والطبيعة الفنية للعمل والاستعانة بالكوادر الطبية الأخرى وما إلى ذلك من الأمور التي تعد من لوازم العمل الطبي وسأعرض لبعض صور الخطأ الطبي الأكثر شيوعا في الحياة العملية التي يمكن أن تصدر خلال المراحل والفروض السابقة.
أولاً: امتناع الطبيب عن معالجة المريض إن دعوة الطبيب لعلاج المريض هي أولى مراحل العلاقة بين الطبيب والمريض، ويثور في هذا الصدد مجموعة من التساؤلات، فهل الطبيب ملزم بتلبية دعوة المريض؟ وهل له رفض التعاقد مع المريض؟ وهل تترتب عليه أية مسؤولية في حال رفض تلبية الدعوة؟
الأصل أن الطبيب كسائر المواطنين له كامل الحرية في ممارسة مهنته وبالطريقة التي يحبذ، إذ له الحق في قبول أو رفض الدعوة للعلاج. فالعلاقة بين الطبيب والمريض علاقة تعاقدية يلزم فيها رضا كل من الطرفين، ولا يوجد ما يلزم الطبيب بتقديم العلاج للمرضى الذين يطلبون المساعدة، ولا يعد الشخص مخطئا إلا إذا اخل بواجب يفرضه عليه القانون أو الاتفاق، وهذا ما كان مستقر علية في الفقه والقضاء ، حيث أن الطبيب غير ملزم بتلبية دعوة المريض لمعالجته إذ له الحرية في قبول العلاج أو رفضه، ولا يترتب على امتناعه أي مسؤولية وذلك لانعدام الرابطة السببية بين الضرر والخطأ، علاوة على أن هناك مبدأ هام في التشريعات الجنائية مفاده أن لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، وان مجرد الامتناع لا يرتب مسؤولية ما لم يوجد نص أو عقد يوجب العمل.
والقول بغير ذلك يتنافى مع مبدأ الحرية التي يتمتع بها الطبيب، فكما أن رضا المريض شرط لازم فان الطبيب كذلك لا يعتبر ملزما بالعلاج إلا بعد قبوله، وعليه لا يعد امتناعه سببا لإقامة المسؤولية عن هذا الامتناع، حتى أن القضاء والى عهد قريب كان يقضي بان من حق الطبيب أن يمتنع عن إجابة دعوة المريض دون أي مسؤولية، حتى ولو لم يوجد طبيب آخر يمكن أن يكون بديلا عنه. وكان اجتهاد محكمة شاتورو الفرنسية عام 1908 "أن من حق الطبيب أن يمتنع عن إجابة دعوة المريض دون أن يتعرض إلى أي جزاء جنائي أو مدني لان مهنة الطب هي مهنة حرة، وله مطلق الحرية في اختيار عملائه". وقد كان لهذا الاتجاه آثار سلبية لاسيما في الأرياف حيث لا يوجد في كثير من الأحيان ألا طبيب واحد فإذا رفض معالجة المريض فانه يحرم هذا المريض من العناية الطبية التي يمكن أن تنقذه من الموت. لذلك تراجع الفقه والقضاء عن المبدأ السابق والمتمثل في حرية الطبيب بالامتناع، وظهرت اتجاهات حديثة تنادي في نسبية الحقوق ووظيفتها الاجتماعية، مما كان له اثر فعال في تقييد الحرية المطلقة للطبيب، حيث ان هناك واجب إنساني وأدبي على الطبيب اتجاه المرضى والمجتمع الذي يحيا فيه، تفرضه عليه أصول ومقتضيات العمل الطبي.
فرغم التسليم في حرية الطبيب في مزاولة مهنته إلا انه يجب ألا يستعملها إلا في حدود الغرض الاجتماعي الذي اعترف له بها وإلا يعتبر متعسفا في استعمال حقه، وعليه فان إقرار مسؤولية الطبيب الممتنع متى كان سبب امتناعه يلحق ضرر بالغير، فان هذا الأمر يتطلب وجود نية الإضرار بالغير وهذه النية يمكن استخلاصها من ظروف الحال كوجود المريض في مكان ناء ولا يوجد سوى طبيب معين لإنقاذه وعلاجه، أو إذا طلب المريض العلاج في ساعة متأخرة من الليل ولا يوجد في هذه الساعة غيره، كذلك وجود المريض في حالة خطرة تستدعى التدخل السريع والفوري من الطبيب الحاضر.
اعتبر الفقه والقضاء أن مجرد امتناع الطبيب في مثل هذه الحالات يشكل خطأ يستوجب المسؤولية وتطبق بشأن هذا الخطأ قواعد المسؤولية التقصيرية التي من شروطها ثبوت وجود ضرر نشأ من هذا الامتناع واثبات العلاقة السببية بين الامتناع والضرر. ومن الجدير بالذكر أن الطبيب الذي يعمل في مستشفى عام أو مصلحة حكومية ليس له أن يرفض معالجة المرضى الذين ينبغي عليه معالجتهم، ونفس الحكم بالنسبة للطبيب الذي يتعاقد مع مؤسسة أو رب عمل على علاج العاملين، فامتناع الطبيب عن العلاج هنا يثير مسؤوليته التعاقدية التي لا مناص منها بل والتشدد فيها. خلاصة القول أن مسؤولية الطبيب تثور في حالة الامتناع عن العلاج إذا تم حصول ضرر بسبب هذا الامتناع، ويقع على عاتق المريض إثبات قيام العلاقة السببية بين امتناع الطبيب عن العلاج والضرر الذي لحق به.
كما تقوم مسؤولية الطبيب الجنائية إذا كان الترك أو الامتناع عن تقديم العلاج يشكل خطأ جنائيا، وقد نصت المادة (474) من قانون العقوبات الأردني "انه يعاقب بالحبس حتى شهر واحد والغرامة خمسة دنانير على كل شخص من أصحاب المهن أو أهل الفن إذا امتنع دون عذر عن إغاثة او إجراء عملية" .
كما تنص المادة (343) من نفس القانون على أن "من سبب موت احد عن إهمال أو قلة احتراز أو عدم مراعاة القوانين والأنظمة عوقب بالحبس من ثلاثة شهور إلى ستة سنوات" .
ثانيا: رضاء المريض بالعلاج ان حق المريض في العلاج من الحقوق الإنسانية الأساسية كحقه في الحياة، ويعتبر رضاء المريض في العلاج هو الدافع الأساسي لبدء العلاج أو المرحلة التنفيذية في مباشرة العلاج.
يلزم لقيام الطبيب بالعلاج والعمليات الجراحية الحصول على رضا المريض بذلك وتخلف هذا الرضا قد يجعل الطبيب مخطئا ويحمله تبعة المخاطر الناشئة عن العلاج، ولا يعني رضاء المريض إعفاء الطبيب من المسؤولية، بل انه يسأل طبقا للقواعد العامة عن الخطأ الصادر منة أثناء العلاج.
اجمع القضاء في فرنسا على أن الإنسان هو الوحيد الذي له حق التصرف في جسمه وفي تقدير ماله من مخاطر، فأقر في هذا النطاق انه يجب على الطبيب أن يطلع المريض بما يترتب على علاجه بنوع معين من الدواء، أو ما قد يحدث من جراء عملية جراحية فيها أي قدر من الخطورة، فانه يجب على الطبيب – كقاعدة عامة عدم لالتجاء إلى علاج مريض أو المساس بجسمه دون الحصول على رضاه سلفا، فهذا الرضاء يقتضيه احترام الشخص لهذا الفرد، إذ لكل إنسان حقوق مقدسة على جسمه لا يجوز المساس بها بغير رضائه ولو كان الدافع إليه لصالح المريض.
وتزداد أهمية الحصول على رضى المريض كلما كان العلاج أو التدخل الجراحي ينطوي على كثير من المخاطر، والتزام الطبيب بالحصول على موافقة المريض لا يقتصر على العلاج الذي يشير به فقط بل يجب على الطبيب أن يحيط المريض بكافة النتائج والمضاعفات التي قد تحدث بسبب ذلك العلاج.
ولا يقصد برضى المريض الإيجاب الصادر عنه بقبول العلاج، لدى طبيب ما أو مستشفى، لانعقاد العقد الطبي بينهما بل إن الرضا المقصود هو الرضاء الخاص، بحيث يكون حصول الإذن بالرضاء مقدما من المريض ذاته، أو من أهله وذويه ممن هم أهلا لتنفيذه وخاصة في حالة إجراء عملية أو علاج خطير أو بتر عضو. ويبرر الفقه ضرورة الحصول على الرضا الخاص، لان المريض إنسان حر، له حقوق مقدسة على جسمه وليس لأحد المساس بجسمه دون رضاه، لذا يجب أن يكون هذا الرضا واضحا وصريحا قبل البدء بالعلاج وان يستمر إلى وقت التدخل العلاجي من الطبيب وفي حالة إذا ما عدل المريض عن رضاه، فان الطبيب يسأل في حالة قيامة بالعلاج دون الحصول على رضى المريض. تنص المادة الثانية من الدستور الطبي الأردني والمتعلقة بواجبات الطبيب تجاه المرضى على أن "كل عمل طبي يجب أن يستهدف مصلحة المريض المطلقة وأن تكون له ضرورة تبرره وان يتم برضائه أو رضاء ولي أمره إن كان قاصرا أو فاقداً لوعيه" .
إن الطبيب لا يعفى من الحصول على الرضى مسبقا إلا في حالات استثنائية وتتمثل في حالات العلاج العاجل كما في حالة المصاب بحادث سير، فعلى المريض هنا ان يتقبل ويتناول ما يقدمه له الطبيب من علاج وتطبيب، وان يرضخ للإجراءات العلاجية التي تستدعيها حالته، كالتصوير بالأشعة والموجات الكهربائية واخذ العينات المخبرية.
وأما عن وقت الرضا فانه يجب أن يكون سابقا للعلاج آو إجرائه وهو إما أن يكون صريحا أو ضمنيا حيث يمكن في حالة العلاج اعتبار دخول المريض إلى عيادة المريض ودفع مقابل الكشفية ليس إلا مظهرا ودليل على القبول والرضى، على الرغم من أن شروط العقد غير مبينة كتابيا لان مواصفات العمل وشروطه وأصول المهنة واعترافها هي التي تحدد مثل هذه الشروط.
ويجب أن لا ننسى في هذا المقام أن الرضى يجب أن يصدر من صاحب العلاقة (المريض نفسه) في حالة إذا ما كان كامل الأهلية وبالغ راشد عاقل، وكانت حالته تسمح له بالتعبير عن رضائه، ويكفي أن يصدر الرضا مما له سلطة قانونية أو من ممثليه القانونيين أو أهله القريبين في حالة أذا ما كان المريض غير أهل للتعبير عن رضائه كأن يكون فاقدا للوعي . وقد جاء في حكم صادر عن محكمة بيروت "يجيز القانون العمليات الجراحية، والعلاجات الطبية المنطبقة على الصول الفن، شرط أن تجرى برضى العليل، آو رضا ممثليهم الشرعيين أو في حالة الضرورة الماسة". وعلى الرغم من كل ما سبق فأننا نؤكد أن رضا المريض لا يعني إعفاء الطبيب من المسؤولية التي تنشأ عن أخطاءه في العلاج أو الجراحة بل يسأل طبقا للقواعد العامة لان الإخلال بالالتزامات المتعلقة بسلامة الجسم البشري هي من النظام العام.
ويقع عبء إثبات الرضى على عاتق الطبيب المباشر للعمل وله أن يستفيد من ظروف الحال وواقع ما جرى معه والقرائن المحيطة ليستطيع استخلاص الرضا وذلك في حالة انتفاء الرضا الصريح، ومن الصور الدالة على الرضا الضمني أن يقوم المريض بدفع أجور العملية أو جزء منها مسبقا أو لاحقا لانتهاء العمل الجراحي.
ثالثا: الخطأ الطبي في التشخيص:
إن التشخيص له أهمية خاصة باعتباره مرحلة تسبق مراحل العلاج وهذه المرحلة من أهم وأدق هذه المراحل جميعا ففيها يحاول الطبيب معرفة ماهية المرض ودرجة خطورته وتاريخه وتطوره مع جميع ما يؤثر فيه من ظروف المريض من حيث ناحيته الصحية وسوابقه المرضية وأثر الوراثة فيه، ثم يقرر بناء على ما يجتمع لديه من كل ذلك، نوع المرض الذي يشكو منه المريض ودرجة تقدمه، ولتحديد الخطأ في التشخيص يستلزم الوقوف على أمرين أولهما: الإهمال في التشخيص، وثانيهما: الغلط العلمي الذي يقع فيه الطبيب.
أولاً: الإهمال في التشخيص إن تشخيص المرض أول أعمال الطبيب فعلى ضوء ذلك يتحدد تعامله مع المريض وطريقة علاجه، وان أي خطأ في تلك المرحلة الهامة والرئيسية يستتبع نتائج قد لا تحمد عقباها، وفي هذه المرحلة بالذات ومنها تبدأ المسؤولية الطبية وان أي تسرع في البت وتقرير حالة المريض قد يوقع الطبيب في خطأ التشخيص. فيجب على الطبيب أثناء قيامه في تشخيص المرض اللجوء إلى الفحوصات العلمية والعملية كالفحص الميكروسكوبي والتحاليل بأنواعها والتصوير بالأشعة، وله أن يستعين بأطباء آخرين من ذوي الاختصاص، فإذا أهمل الطبيب في اتخاذ الاحتياطات الضرورية التي تبعده عن مواطن الخطأ كان مسؤولا عن الأضرار الناجمة عن أخطائه في التشخيص، وفي هذا الصدد ذهبت محكمة السين الابتدائية في فرنسا "بأنه في حالة الشك بالتشخيص يجب الالتجاء إلى الطرق العلمية للتحقق من الحالة المرضية، ويمكن القول أن الطبيب يحاسب عن جميع الأخطاء التي تقع في التشخيص وخاصة إذا كان ذلك الخطأ لا يقع من طبيب معتاد من أواسط رجال الطب وفي الظروف العادية للتشخيص وعلى هذا يلزم الطبيب ببذل أقصى الجهد للتحقق من نوعية المرض والوقوف على حقيقة ما يعانيه المريض، وذلك بعنايته بالتشخيص ويكون ذلك باتباع احدث ما توصل إليه العلم وفن الطب من وسائل كشف مما هو متاح، وإلا فانه يسأل عن أي تقصير في مساعيه بهذا الخصوص فيما إذا كان تشخيصه مخالفا أو بعيدا عن حالة المريض حقيقته. أما الحالات التي لا يمكن أن تساعد فيها الأعراض الظاهرة فيها عن كشف حقيقة المرض، كوجود التهابات يصعب معها تحديد حالة المرض، أو أن الحالة لم تكن ذات جدوى للاستعانة بها فان الطبيب لا يسأل من حيث المبدأ.
ثانيا: الغلط العلمي هناك العديد من النظريات العلمية الطبية لا تزال محل خلاف بين العلماء والأطباء، فإذا ما رجح الطبيب رأى على آخر واخطأ في التشخيص نتيجة لتشابه الأعراض المرضية والتي تستعصي على أكثر الأطباء علما ودراية، ففي هذه الحالات يبقى الطبيب في منأى من المسؤولية متى كان الخطأ الذي وقع فيه بسبب تشابه الأعراض، ويمكن أن يقع في ذلك الطبيب الوسط الذي وجد في نفس الظروف، ولكن هذا لا يعني أن الغلط العلمي في التشخيص يغتفر مهما كان الغلط الصادر من الطبيب، لان اعتماد مبدأ كهذا فيه مخالفة لما قلناه في معيار الخطأ الطبي، وإنما يسأل الطبيب إذا لم يبذل جهودا صادقة يقظة تتفق مع الأصول العلمية الثابتة ماعدا الظروف الاستثنائية وعلى هذا ذهبت إحدى المحاكم الفرنسية إلى القول " بان طبيب الأشعة الذي لا يكشف كسر في رأس عظمة الفخذ الذي اخذ له صورة مع ما أثبته الخبراء من وضوح اثر الكسر في تلك الصورة يدل بذلك على جهل تام بقراءته للصورة العظمية، جهل لا يغتفر على الأخص من طبيب مختص، وعلى ذلك فان الطبيب يسأل كلما اخطأ في تشخيص المرض خطأ يدل على الجهل الفاضح للفن الطبي، مما يستدعي الفصل بين الجهل والرأي العلمي فنحاسب الطبيب في حالات الجهل دون الاجتهاد العلمي. ويمكن إجمال بعض حالات الخطأ في التشخيص في الأمور التالية : 1. إذا كان الخطأ يشكل جهلا واضحا بالمبادئ الأولية للطب المتفق عليها من قبل الجميع والتي تعد الحد الأدنى الذي يتفق مع أصول المهنة. 2. إن الغلط في التشخيص لا يشكل بالضرورة خطأ طبيا، فمثل هذا الغلط يمكن أن يثير مسؤولية الطبيب إذا كان عن جهل في الأوليات أو عن إهمال في الفحص الطبي كأن يتم في طريقة سطحية وسريعة غير كاملة. 3. إذا كان الخطأ في التشخيص غير مغتفر، كما إذا كان علامات وأعراض المرض ظاهرة بحيث لا تفوت على طبيب وسط من نفس مستوى من قام بالتشخيص. إذا كان الخطأ ينطوي على إهمال واضح من قبل الطبيب لا يتفق مع ما جرى عليه العمل في مثل هذه الحالات، حيث يسأل الطبيب إذا كان خطؤه في التشخيص راجعا إلى عدم استعمال الوسائل الطبية الحديثة التي اتفق على استخدامها في مثل هذه الأحوال كالأشعة، والفحوصات المخبرية، 4. ولا يعفي الطبيب من المسؤولية في هذه الحالة إلا أذا كانت حالة المريض لا تسمح باستعمال الوسيلة المتبعة أو كانت الظروف الموجود بها المريض لا تؤهل لذلك. 5. ويٍسأل الطبيب أيضاً إذا كان الخطأ في التشخيص راجعا إلى استخدام الطبيب لوسائل مهجورة وطرق لم يعد يعترف بها علميا في هذا المجال. 6. وأخيراً يسأل الطبيب عن الخطأ في التشخيص إذا كان ذلك راجعا إلى عدم استشارته لزملائه الذين هم أكثر منه تخصصا في المسائل الأولية اللازمة، حتى يتبين طبيعة الحالة.
رابعا: الخطأ في وصف العلاج:
تأتي مرحلة وصف العلاج للمريض بعد تشخيص المرض وتحديد هويته والوقوف على طبيعته بشكل دقيق، فوصف العلاج للمريض يجب أن يستند على نتائج هذه المرحلة حتى يكون ناجحا وملائما للمريض ومن الطبيعي ألا يلتزم الطبيب بنتيجة معينة كشفاء المريض بل يبقى التزامه ببذل عناية، حيث يجب عليه أن يبذل العناية اللازمة لاختيار العلاج والدواء الملائمين لحالة المريض بهدف التوصل إلى شفائه أو تخفيف الآمة، ولا يسأل الطبيب عن نتيجة ذلك لأن الأمر مرجعه إلى مدى فعالية العلاج من جهة ومدى قابلية جسم المريض وحالته لاستيعاب ذلك من جهة أخرى، ويلزم الطبيب بمراعاة الحيطة بوصف العلاج وعليه أن يأخذ بعين الاعتبار الحالة الصحية للمريض وسنه وقوة مقاومته ودرجة احتماله للمواد الكيماوية، وقد قضت إحدى المحاكم الفرنسية في احد أحكامها "أن الطبيب يعتبر مخطئا، إذا أمر بعلاج لم يراعى فيه بنية المريض وسنه وقوة مقاومته، ودرجة احتماله للمواد السامة التي تقدم إليه". إن خطأ الطبيب في مرحلة العلاج يمكن تقسيمه إلى نوعين: 1. خطأ ناتج عن عدم إتباع الأصول العلمية السائدة وقت مباشرة العلاج حيث أن إتباع هذه الأصول هو التزام عام يقع على عاتق الطبيب، إذ يجب عليه أن يبذل للمريض عناية لا من أي نوع كان بل أن يبذل جهودا صادقة يقظة تتفق مع الأصول العلمية الثابتة، وبناء على ذلك فان الطبيب الذي يستخدم فنا قديما في المعالجة مع إمكانية استخدام وسائل طبية حديثة بديلة عن الفن القديم والمهجور يعد مسؤولا عن الأضرار التي يمكن أن تنجم عن فعله" . ومعنى إلزام الطبيب باتباع ما وصل إليه العلم والمعرفة وخاصة في مجالات الطب ليس الجمود والتقوقع والانزواء عن الاستنباط والاستحداث وتجديد والتطور، وإنما القصد انه إذا ما عرض على الطبيب حالة تحكمها القواعد الثابتة المستقرة التي وضع لها العلم حلا، ودلت الخبرة والتجربة على صلاحيته، فان الطبيب ملزم بإتباعه، حتى لا يعرض المريض لأخطار لا مبرر لها. وفي حالة إذا ما عرض على الطبيب حالة لا تدخل في ذاك النطاق وتلك الحدود فلا يوجد ما يمنع من مسايرة الأمور وفق ما تقتضيه تلك الحالة ومصلحة المريض فيختار ما يراه مناسبا ويفاضل بين النظريات الأكثر ملائمة دون أن يكون له حق في الخروج عن الأصول المستقرة الثابتة وإنما له التصرف ضمنها وله أن يحورها بما يناسب مصلحة المريض، فيجري علاج جديد شرط أن لا تكون أخطاره غير متناسبة مع فوائده 2. الخطأ الناتج عن قواعد الحيطة والحذر في وصف العلاج. يجب على الطبيب عند كتابته للوصفة الطبية للمريض أن يراعى جانب الحذر والحيطة واليقظة في وصفة العلاج، حيث يجب أن تصدر الوصفة الطبية عنه مذيلة بتوقيعه وظاهر فيها مقادير الدواء وطريقة استخدامه، وقد نصت المادة ( من الدستور الطبي والمتعلقة بواجبات الطبيب العامة على أن تحوى أوراق الوصفات الطبية المعلومات المسموح بإدراجها في إعلان الصحف واللافتات فقط. ويجب أن يذكر على الوصفة الطبية اسم المريض وعمرة والتاريخ وتوقيع الطبيب وان تكون الوصفة واضحة الخط وحاوية على شروط استعمال العلاج".
فاختيار العلاج بنوعيته ومقدار جرعته وكيفية استخدامه يقتضي من الطبيب منتهى اليقظة والانتباه فإذا ما اخطأ في تقدير الجرعة أو في نسبة تركيب المادة التي تدخل في الدواء ومات المريض نتيجة لذلك فان الطبيب يعد مسؤولا في هذه الحالة نتيجة لخطئه في وصف الدواء، فالطبيب يعتبر مسؤولا إذا اخطأ وتجاوز في تقدير الجرعة التي يحتاجها المريض لدواء ما، وكان الحد والمقدار معلوما ومستقرا عليه في علم الطب والأصول الفنية، أو إن الطبيب قد أعطى المريض دواء غير مناسب لحالته لاعتقاده العكس، فيكون تقديره خاطئ وعلى غير مقتضى أصول الفن الطبي.
وعلى الرغم مما تقدم ليس هناك معيار محدد يمكن من خلاله القول أن الطبيب قد اخطأ أثناء العلاج، لذلك ذهبت أحكام القضاء إلى أن الطبيب يعتبر مسؤولا إذا اثبت أن في اختياره الدواء جهلا واضحا بأصول العلم والفن العلمي أو انه يصف دواء للمريض يحتوي على مواد خطرة دون أن يبين كيفية تناوله ولم يقم بفحص المريض للتأكد من مقدرته على تحمل العلاج.
ورغم ذلك فان الطبيب لا تحجب عنه المسؤولية حتى وان نبه المريض أو ذويه أو المسؤول والقائم على رعايته والعناية به إلى مخاطر العلاج، وذلك إذا لم تكن حالة المريض تستدعي تعريضه لهذه المخاطر أو لم توجد ضرورة لذلك حتى ولو رضي المريض بذلك لان الطبيب يجب أن لا يقبل تعريض مريضة لعلاج لا تكون فوائدة متناسبة مع مخاطره، فعلى الطبيب عند اختيار العلاج أن يوازن بين أخطار العلاج وأخطار المرض، من منطلق انه كلما كان في العلاج المقصود خطر على حياة المريض فيتحتم على الطبيب استبعاده.
وقد تقوم المسؤولية بشكل مشترك بين الطبيب والصيدلي كما في حالة لو وصف الطبيب دواء خطير على الصحة ولم يقم الصيدلي بمراجعته أو إذا اخطأ الطبيب في جرعات الدواء ولم يقم الصيدلي بمراجعة ذلك والتأكد من الجرعات التي تلزم المريض .