بحث عن الإعذار فى القانون المدنى المصرى
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ
(المائدة: 1)
( لىُّ الواجد يُحِلّ عرضه وعقوبته ) .. (حديث شريف)
مقـــدمة
إن الالتزام؛ وهو واجب قانونى يقع على عاتق شخص معين يسمى المدين، يوجب عيه القيام بعمل أو بأداء مالى معين أو قابل للتعين لصالح شخص آخر هو الدائن، فالالتزام الواجب التنفيذ هو الالتزام المدنى متى استجمع عنصريه؛ وهما: المديونية والمسئولية، فأثر الالتزام هو وجوب تنفيذه ولو جبراً على المدين، استجابة لعنصر المسئولية فيه. وذلك على العكس من الالتزام الطبيعى حيث يتجرد من عنصر المسئولية، فلا يكون قابلاً لغير التنفيذ الاختيارى، أى متروكاً لضمير المدين.
والأصل هو التنفيذ العينى؛ بأن يَنْصَبُّ على عين ما التزم به المدين تجاه دائنه، فعندما ينشأ الالتزام فغالباً ما يتمسك صاحب الحق بأن يتم التنفيذ فى الوقت المتفق عليه لارتباطه بتحقيق المنفعة المرجوة فى أفضل صورها، ولكى يتم تنفيذ الالتزام عيناً أو بطريق التعويض فيجب على الدائن أن يدعو مدينه لكى يقوم بتنفيذ الالتزام، فإذا ما استحال ذلك بفعل المدين أو خطأه أيًّا كانت صورة ذلك، فإنه لا يكون هناك مجالاً لغير التنفيذ بطريق التعويض، حين يحق للدائن أن يطالب مدينه بتعويض نقدى يقوم مقام التنفيذ العينى، وحينئذ يكون التنفيذ بطريق التعويض قضاءً، وتكون هذه الدعوة باتخاذ الدائن لإجراء شكلى يجب أن تستجمع فيه بعض الشروط حتى يكون صحيحاً من وجهة نظر القانون منتجاً لآثاره.
فإن كان تأخر التنفيذ يرجع لفعل المدين، وبالرغم من ذلك سكت الدائن، فإنه لا يُعتد بتأخر المدين الفعلى، فربما كان تأخره له ما يبرره، أو لأن الدائن قد تسامح فى تنفيذ مدينه لالتزامه. وإنما يعتد بتأخر المدين قانوناً حين يفصح الدائن عن إرادته فى قيام مدينه بالتنفيذ بأن يوجه إليه إنذاراً يخطره فيه بوجوب قيامه بالتنفيذ، وهذا هو الإعذار وجوهره التأخير عن تنفيذ الالتزام دون مسوغ قانونى. وقد يكون التأخر فى التنفيذ يرجع إلى فعل الدائن.
وهذا ما عبّرت عنه مقولة: قد أعذر من أنذر.. حيث أن الإنذار هو وسيلة الإعذار، حين يريد الدائن الحكم على خصمه.
وعلى هذا – بإذن الله – نتناول إعذار المدين فى فصل أول، من تعريفه وشروطه وشكله وآثاره.
ونتناول فى فصل ثان إعذار الدائن من حيث صوره وآثاره.
أولا: إعذار المــــدين
المقصود بالإعذار:
مجرد حلول الأجل دون وفاء المدين بالتزاماته قِبَل دائنه لا يفيد تقصير من جانب المدين، لمظنة تسامح الدائن فى وقت التنفيذ، أو لكون الوفاء كان فى موطن المدين ولم يسع إليه الدائن، والدائن متى أراد من مدينه أن يقوم بتنفيذ التزامه بحلول الأجل المضروب بينهما فى ذلك، فعليه أن يطالب هذا المدين بشكل رسمى تنتفى معه مظنة التسامح ويَوْضَع المدين مَوْضِع المُقَصِّر إذا لم يبادر إلى التنفيذ، فالمشرع قد اشترط الإعذار قبل الشروع فى التنفيذ الجبرى؛ سواء كان عينياً أو بِعِوَض، وقد قضت محكمة النقض فى ذلك بقولها: (الأصل فى التشريع المصرى أن مجرد حلول أجل الالتزام لا يكفى لاعتبار المدين متأخراً فى تنفيذه، إذ يجب للتنفيذ العينى للالتزام، كما يجب للتنفيذ بطريق التعويض إعذار المدين، حتى لا يحمل سكوت الدائن محل التسامح والرضا الضمنى بتأخر المدين فى هذا التنفيذ..)( ).
ولذلك نعرض لإعذار المدين فى ثلاثة مباحث: المبحث الأول نتعرض فيه لماهية الإعذار من حيث تعريفه وشكله وشروطه الموضوعية والغاية منه.
ونعرض فى المبحث الثانى لآثار إعذار المدين وما يترتب عليه فى ذمته، ونعرض فى المبحث الثالث لبعص الحالات التى لا تتطلب ضرورة الإعذار.
مـا هـــو الإعذار؟
إن الإعذار هو تصرف قانونى من خلال إجراء شكلى يقوم به الدائن لدعوة مدينه للقيام بالوفاء بما عليه من دين له، لذا فإن فكرة الإعذار تتجلى من خلال تعريف الإعذار، والغاية منه، والشروط الموضوعية له، وشكله، ونعرض لكل من ذلك فى مطلب مستقل.
تعــريف الإعذار:
ذهب فريق من الفقهاء إلى أن: الإعذار هو تسجيل التأخير على المدين( ) الغرض منه وضع المدين وضع المقصر فى تنفيذ التزامه بإثبات تأخره فى الوفاء به( ).
وذهب فريق آخر إلى تعريف الإعذار بأنه: الحالة التى يوجد فيها المدين الذى أنذره الدائن للوفاء بالتزاماته( ).
وفريق ثالث ذهب فى تعريفه إلى أنه: أمر يوجهه الدائن إلى المدين لينفذ التزامه، يثبت به رسمياً تأخر المدين فى التنفيذ، لسبب راجع إليه(4).
وذهب بعض الفقهاء إلى القول أن: إعذار المدين هو وضعه قانوناً فى حالة المتأخر عن تنفيذ التزامه(5).
من هذه التعريفات يتضح جلياً أن المشرع لا يعتد سوى بالتأخير القانونى، وهو الحالة القانونية التى يوجد فيها المدين غير منفذ لالتزامه من لحظة إعذاره(6).
الغـــــاية منـــــه:
الإعذار يفترض وجود مدين لم ينفذ التزامه بعد إزاء الدائن.. إلا أن المُشَرِّع لا يعتد بالتأخير الفعلى، وذلك مظنة تسامح الدائن فى تأخر مدينه عن تنفيذ التزامه، وهذه المظنة تنتفى بتوجيه الإعذار من الدائن لمدينه بما لا يتصور معه تسامح.
وعلى هذا تكون غاية الإعذار تحقيق كون المدين متأخراً فى تنفيذ التزامه، إذا لم يقم بالوفاء به فور الإعذار.
ففى القانون المدنى المصرى( ) أن مجرد استحقاق الأداء – بحلول الأجل، أو تحقق الشرط- لا يكفى لاعتبار المدين معذراً، بل يجب إفصاح الدائن عن رغبته فى أن يتم التنفيذ على الفور بتوجيه الإعذار إليه حتى يترتب على تأخره فى التنفيذ الآثار القانونية للإعذار.
فى فرنسا ذهب بعض الفقه( ) إلى اعتبار الإعذار أساساً لجعل المدين مخطئاً إذا تأخر فى التنفيذ، استناداً إلى أن وظيفة الإعذار هى اعتبار المدين متأخراً قانوناً وانعقاد مسئوليته عن ذلك، تأسيساً على أن الإعذار فى حد ذاته هو تصرف قانونى بمقتضاه يدعو الدائن مدينه بإجراء شكلى للقيام بالوفاء بما عليه من دين له، وبالتالى جعله عند عدم الوفاء متأخراً قانوناً عن الوفاء.
مما يعنى أن وظيفة وطبيعة الإعذار لا تختلط بالخطأ- الذى هو عنصر من عناصر المسئولية- بل هى اثبات تأخر أو تقصير المدين فى القيام بتنفيذ التزامه، فالأصح أن يُفْصَل بين الإعذار والخطأ، فقد يُعذر الدائن مدينه، ويَثْبُت مع ذلك أن المدين لم يرتكب خطأ بتأخره فى التنفيذ.. وإنما يصبح ملزماً بتنفيذ التزامه، بحيث أنه إذا تأخر عن التنفيذ استحق الدائن التعويض، وألقى عبء إثبات نفى الخطأ على عاتق المدين.
وقد يمكن القول؛ أن الإعذار له غاية ثلاثية الأبعاد:
1) إعلام المدين بمصلحة الدائن فى التنفيذ الفورى للالتزام :
يهدف الإعذار إلى إحاطة المدين علماً بأن الدائن له مصلحة جدية فى التنفيذ الفورى للعقد دون أدنى تأخر من جانب المدين.
حيث أنه بحلول الأجل دون قيام المدين بتنفيذ التزامه أو الوفاء بما عليه من دين إلى دائنه، وسكوت الدائن عن مطالبته بالوفاء، فقد يُعزى هذا إلى تسامح من جانب الدائن عن تأخر مدينه، أو أنه قد ارتضى بأن يُحدد مدينه وقت التنفيذ بما يتناسب مع ظروفه وأحواله، فالأجل يضرب عادة لصالح المدين لا لمصلحة الدائن، فلا يتصور أن مجرد حلول الأجل يكون مدعاة لتسوئ المركز القانونى للمدين.
ففى حالة حلول الأجل وعدم قيام الدائن بتوجيه الإعذار، قد يعتقد معه المدين أن تأخره فى الوفاء بما عليه لا يحقق ضرراً للدائن من جراء ذلك، أو موافقة الأخير على الوفاء فى تاريخ تالى لتاريخ الاستحقاق بمنحه أجلاً ضمنياً للتنفيذ.
لذا فعلى الدائن كى ينفى كل هذا الاعتقاد أن يقوم بإجراء شكلى- الإعذار- يعلن فيه صراحة عن إرادته فى قيام مدينه بتنفيذ التزامه والوفاء بما عليه، حتى يقطع فى الدلالة على عدم رغبته فى منح مدينه أية مهلة تكميلية.. وأن مصلحته تتحقق فى الوفاء الفورى لما التزم به المدين، وأن تأخر الأخير عن الوفاء بما عليه يحيق به الضرر ويحمله بنتائج وآثار هذا التأخير وما يؤدى إليه من حكم بالتعويض.
وعلى هذا لا محل للتعويض إلا بوجود الإعذار.. فقد وضع المشرع شرط الإعذار كقرينة تنفى تسامح الدائن ومؤشر قاطع على التمسك بحقه( )، حيث نص القانون المدنى المصرى على أنه: (لا يستحق التعويض إلا بعد إعذار المدين، ما لم ينص القانون على غير ذلك)( ).. وكذلك قد نص: (يجبر المدين بعد إعذاره .... على تنفيذ التزامه تنفيذا عينيا)( ).. أى أن القيام بالإعذار شرط جوهرى فى وجوب التنفيذ وترتيب آثاره فى ذمة المدين.
2) منح المدين فرصة أخيرة للتنفيذ العينى :
يهدف الإعذار إلى إعطاء المدين فرصة أخيرة لتنفيذ التزامه بعين ما انصرفت إرادته إلى الوفاء به من التزام، ففى الفرض الذى يكون فيه المدين- أو أحد خلفاءه- يجهل بحسن نية تاريخ الوفاء، تكون وظيفة الإعذار فى هذا الفرض تعيين تاريخ الوفاء بعين ما التزم به المدين، لذا يستهدف الإعذار منح المدين فرصة أخيرة لتنفيذ التزامه عيناً.
3) إحاطة المدين بشكل رسمى بعدم تنفيذه التزامه
يهدف الإعذار كذلك إلى إحاطة المدين علماً رسمياً بعدم وفاءه بالتزامه، واستظهار مدى إمكان تنفيذ الالتزام.
تلعب هذه الإحاطة دوراً جوهرياً فى تنفيذ الالتزام، فبدون هذه الإحاطة- المتمثلة فى الإعذار- قد يظل المدين على اعتقاده فى موافقة الدائن- بسكوته- على تأخير تنفيذ الالتزام، وينتفى هذا الاعتقاد بطريقة رسمية؛ بمطالبة الدائن مدينه بتنفيذ ما التزم به واحترام العقد المبرم بينهما، وأن هذا التأخير يترتب عليه الضرر للدائن وأحقيته فى التعويض نتيجة هذا التأخير.
وقد ينظر إلى الإعذار من وجهتين؛ إما أن يكون تشدداً من الدائن، وإما أن يكون رأفة بالمدين.
فمن وجه كونه تشدداً من الدائن فيكون ذلك فى إفصاحه جلياً عن المطالبة بحقه وعدم تهاونه فى ذلك، وأنه يضع المدين موضع المخطئ بتأخره عن تنفيذ عين ما التزم به.
ومن وجه آخر.. كونه رأفة بالمدين، أنه بمفهوم المخالفة لما سبق أن الدائن الذى لم يطالب بحقه بامتناعه عن إعذار مدينه إنما يُمَكِّن لاعتقاد المدين بتسامحه معه فى وقت التنفيذ وإمهاله لمدة أخرى، علاوة على أن القانون قد اشترط الإعذار للقول بالتعويض حين نص فى المادة 218 على أن: (لا يستحق التعويض إلا بعد إعذار المدين..)، فهو بهذا قد ترأف بالمدين ولم يوجب فى ذمته التعويض من يوم حلول أجل الوفاء، بل اشترط الإعذار لاستحقاق التعويض، كنوع من الرأفة بالمدين.
وفى بعض القوانين الأخرى اعتبرت أن مجرد حلول الأجل يوجب التنفيذ دون إعذار، وأن التأخر فيه رغم استحقاق الحق يكون مناط الحكم بالتعويض، كما فى القانون المدنى البرتغالى (م711)، واليابانى (م412)، والسويسرى (م102)( ).
ذهب فريق من الفقهاء فى فرنسا إلى أن للإعذار دوراً هاماً فى المجال الجنائى( ) حيث يسمح بتحديد دقيق لتاريخ ارتكاب الجريمة وذلك فى العقود الواردة بالمادة 408 عقوبات فرنسى التى ترد على أشياء مثلية كوديعة أو اقتراض مبلغ نقدى، حيث لن يتحدد التبديد القائم على الغش إلا من يوم قيام الدائن بإعذار المدين برد ما لديه، حيث يكون الإعذار بذلك وسيلة هامة فى تحديد تاريخ ارتكاب جريمة التبديد فى هذه الحالة، وكذلك بدء سريان مدة تقادم الجنحة من تاريخ هذا الإعذار.
شروطه الموضوعية:
تأخر المدين عن الوفاء بحق مشروع محدد المقدار مستحق الأداء هو مدار وجود الإعذار. وعلى هذا فإن للإعذار شروطاً موضوعية يجب أن تتوافر فيه؛ هى:
الشرط الأول : تأخر المدين
التأخير فى هذه الحالة يكون التأخير الفعلى عن تنفيذ الالتزام رغم استحقاقه، ويجب أن يكون هذا التأخير بلا مبرر، وإلا كان الإعذار بلا معنى، من ذلك أن المدين لا يكون متأخراً فى الوفاء بما عليه متى كان أحد الدائنين يطالبه بتسليم مبيع غير قابل للانقسام، وكان هذا المبيع يخص دائنين آخرين معه، وأن التسليم يجب أن يتم لهم جميعاً، وليس لأحدهم فقط.
كذلك يجب أن يكون هذا التأخير راجعاً إلى المدين حتى يتوافر سبباً موضوعياً للإعذار، فمتى كان هذا التأخير راجعاً إلى الدائن، أو لقوة قاهرة فإنه ينتفى موجب الإعذار؛ كأن يتعاقد شخص ما على استئجار عيناُ مملوكة لآخر وحالت قوة قاهرة دون تنفيذ المؤجر لإلتزامه- وهو المدين بتسليم العين للمستأجر- كوقوع زلزال هلكت معه العين المؤجرة، ففى هذا الفرض فإنه لا جدوى من الإعذار.
ورغم ذلك إن قام الدائن بإعذار المدين، فإنه يحق للأخير أن يدفع ذلك بإثبات أن قوة قاهرة قد منعته من التنفيذ.
الشرط الثانى : الحماية القانونية لحق الدائن
يجب أن يكون حق الدائن حق مشروع يحميه القانون بواسطة الدعوى، فلا فائدة من توجيه الإعذار فى دين لا يحميه القانون، كدين قد سقط بالتقادم، أو أنه دين متحصل من طريق غير مشروع ويبطل بطلاناً مطلقاً كدين القمار أو ما أشبهه.
وفى حالة البطلان النسبى فإن الإعذار يؤتى ثماره ويكون صحيحاً، ما لم يتمسك المدين بقابلية الحق للإبطال- كوجود حالة غش أو تدليس أو نقص أهلية- حيث يحتاج البطلان النسبى إلى حكم يقرره.
الشرط الثالث : الدين محدد المقدار ، ومستحق الأداء
يجب أن يكون الدين محدداً ومستحق الأداء، فإن لم يكن محدداً فلا يصح الإعذار، كذلك يجب أن يكون حالّ الأداء، فإن كان معلقاً على شرط واقف، إلا أن هذا الشرط لم يتحقق بعد، فإنه لا يحق للدائن توجيه الإعذار إلى مدينه حيث لم يَحِلّ أجل الوفاء بعد لعدم تحقق الشرط، وكذلك فى حال كون الدين مضافاً لأجل، لا يحق للدائن إعذار مدينه قبل حلول هذا الأجل، لكونه يقع على غير مستحق.
شكل الإعذار:
القانون المدنى الفرنسى هو أساس نظرية الإعذار فى القانون المدنى المصرى، حيث أخذت الشكلية فى الأساس من القانون الرومانى والذى هو أساس نظرية الإعذار فى الشرائع اللاتينية.
وقد نصت المادة 219 مدنى مصرى على كيفية الإعذار حيث أوردت أن: (يكون إعذار المدين بإنذاره أو بما يقوم مقام الإنذار, ويجوز أن يكون الإعذار عن طريق البريد على الوجه المبين فى قانون المرافعات كما يجوز أن يكون مترتباً على اتفاق يقضى بأن يكون المدين معذراً بمجرد حلول الأجل دون الحاجة إلى أى إجراء آخر).
1) الإنذار : فقد نص القانون المدنى على أن الإنذار- وهو ورقة رسمية من أوراق المحضرين( )- هو وسيلة الإعذار، فقد أعذر من أنذر، حيث بالإنذار يطلب الدائن من مدينه سرعة تنفيذ الالتزام الملقى على عاتق الأخير دونما تأخير، فالإنذار الذى يتحقق به الإعذار هو الإنذار- الإعلان- الرسمى على يد محضر الذى يتم إخطار المدين به مباشرة، الأمر الذى تنتفى معه بعد ذلك مظنة التسامح فى التأخير.
- وأما عن جواز الإعذار بطريق البريد، فقد كان ذلك متبعاً فى ظل قانون المرافعات القديم رقم 77 لسنة 1949 والذى أُلغى منه الإعذار بطريق البريد بموجب القانون رقم 100 لسنة 1962، ثم صدر قانون المرافعات الحالى رقم 13 لسنة 1968، وقد كان خلواً من النص على إمكان الإعلان عن طريق البريد، وبذلك لم يعد الإنذار بطريق البريد ممكناً أو معمولاً به( )، ولا يخفى أن هذا الشكل من طرق الإعذار كان فيه الكثير من الإجهاد على قلم المحضرين، فقد أخفق فى أن يخفف عنهم العبء، وترتب عليه فى كثير من الأحيان تعقيد الإجراءات وبطؤها، حيث لم تصل كثير من الرسائل إلى ذويها.
2) الأوراق الرسمية : من نص المادة 219 يتضح أن الإعذار يتم بما يقوم مقام الإنذار، فيقصد بذلك الأوراق الرسمية التى تنطوى على معنى الإعذار( )، أى: كافة الأوراق الرسمية التى تُعبر بوضوح عن رغبة الدائن الأكيدة والصريحة فى تنفيذ المدين لالتزامه، فإذا لم تكن هذه الإرادة واضحة فلا تعد الورقة إعذاراً ولو وجهت إلى المدين، مثال ذلك ما حكمت به محكمة النقص المصرية بأنه: (لا يعد إعذاراً إعلان المشترى بصحيفة دعوى فسخ البيع لإخلاله بتنفيذ التزام من التزاماته، إلا إذا اشتملت صحيفتها على تكليفه بالوفاء بهذا الالتزام)( ). كما قضت فى عبارة شاملة أن: (الإعذار هو وضع المدين موضع المتأخر فى تنفيذ التزامه، والأصل فى الإعذار أن يكون بإنذار المدين على يد محضر بالوفاء بالالتزام، ويقوم مقام الإنذار كل ورقة رسمية يدعو فيها الدائن المدين إلى الوفاء بالتزامه، ويسجل عليه التأخير فى تنفيذه، على أن تعلن هذه الورقة إلى المدين، بناء على طلب الدائن)( ).
ومن أمثلة ذلك: التنبيه الرسمى السابق على التنفيذ، ومحضر الحجز على أموال المدين، والتكليف بالحضور أمام المحكمة ولو كان أمام محكمة غير مختصة.
* التنبيه الرسمى : نصت المادة 401 من قانون المرافعات فى حالة التنفيذ الجبرى على العقار بأن: (يبدأ التنفيذ بإعلان التنبيه بنزع ملكية العقار إلى المدين لشخصه أو لمواطنه مشتملا على البيانات الآتية : 1- بيان نوع السند التنفيذى وتاريخه ومقدار الدين المطلوب الوفاء به وتاريخ إعلان السند . 2- إعذار المدين بأنه إذا لم يدفع الدين يسجل التنبيه ويباع عليه العقار جبراً).. فبنص هذه المادة فإن التنبيه الرسمى السابق على التنفيذ الجبرى على العقار يقوم مقام الإنذار الرسمى.
* صحيفة الدعوى : إن إعلان صحيفة افتتاح الدعوى إذا تضمن تكليف المدين بالوفاء فإنه يقوم مقام الإنذار، فالأصل فى الإعذار أن يكون بورقة رسمية من أوراق المحضرين، يبين الدائن فيها أنه يطلب من المدين تنفيذ الالتزام، ومن ثم فلا يعد إعذاراً إعلان المشترى بصحيفة فسخ البيع لإخلاله بتنفيذ التزام من التزاماته، إلا إذا اشتملت الصحيفة على تكليفه بالوفاء بهذا الالتزام( ).
فكثيراً ما يتم إنذار المدين فى نفس صحيفة الدعوى، فتكون الصحيفة إنذاراً ومطالبة فى نفس الوقت، لكن فى هذه الحالة سوف يتحمل الدائن الدعوى ومصروفاتها متى بادر المدين إلى التنفيذ العينى بناء على الإعذار الضمنى المستفاد من رفع الدعوى، حيث أنه قبل هذا التكليف لم يكن مقصراً فى تنفيذ التزامه لعدم سابقة إعذاره.
إذن فإعلان صحيفة افتتاح الدعوى يحل محل الإنذار، إذ أن مجرد رفع الدعوى يتضمن إعذار المدين( )، وإن شاب التكليف بالحضور فيه بطلان لا يفضى لافتتاح الدعوى سواء لعدم مراعاة مواعيد التكليف بالحضور أو لنقص فى البيانات اللازمة لصحة افتتاحها، وكذلك لو رفعت- كما سبق الإشارة- أمام محكمة غير مختصة.
استثناء :
كما سبق القول بأن صحيفة افتتاح الدعوى تعتبر فى حد ذاتها إعذاراً للمدين متى تضمنت تكليف الدائن له بالوفاء بما عليه من التزام، أى أن الإعذار فى الأصل لا يعد شرطاً لرفع الدعوى من الأساس، إلا أنه يرد استثناءً على حالات يستلزم فيها القانون إعذار المدين أولاً، حتى يتم قبول الدعوى، فهو بذلك يكون شرطاً أساسياً لقبول مثل هذه الدعوى، من ذلك ما أوجبه قانون إيجار الأماكن السكنية رقم 136 لسنة 1981م من ضرورة قيام المؤجر بتكليف المستأجر بالوفاء أولاً حتى يمكن قبول دعواه بالإخلاء أو الطرد: (لا يجوز للمؤجر أن يطلب إخلاء المكان ولو انتهت المدة المتفق عليها فى العقد إلا لأحد الأسباب الآتية : ... (ب) إذا لم يقم المستأجر بالوفاء بالأجرة المستحقة خلال خمسة عشر يوما من تاريخ تكليفه بذلك بكتاب موصى عليه مصحوب بعلم الوصول دون مظروف أو بإعلان على يد محضر...)، فإن وجوب الإعذار فى هذه الحالة يعد استثناء من الأصل فإن انتفى أو كان باطلاً أو تم النزول عنه فإنه يترتب على ذلك عدم قبول دعوى الإخلاء.
* محضر الحجز على أموال المدين : بتوقيع هذا الحجز يكون الدائن قد وضع المدين فى موضع المهمل المقصر فى تنفيذ التزاماته، وبذلك يعتبر إعذاراًً يتحقق به الإنذار.. والقاعدة أن التنفيذ جبراً بواسطة المحضر- حيث أن الحجز من أعمال التنفيذ- لا يكون صحيحاً إلا إذا تم إعلان السند التنفيذى إلى المدين وكان هذا الإعلان مشتملاً على تكليفه بالوفاء( )، فإعلان السند التنفيذى الذى يسبق إجراءات التنفيذ( ) يقوم مقام الإنذار.
* البروتستو : إذا كان البروتستو ورقة رسمية يقوم بإعلانها المحضر إلى المدين فى السند لإثبات امتناعه عن الوفاء، ويتضمن التنبيه الرسمى على المدين بدفع قيمة السند، فإن البروتستو يعتبر إعذاراً للمدين بالمعنى الذى يتطلبه القانون فى الإنذار( ).
- وقد قضت محكمة النقض بأنه: (لا يكفى لترتيب الأثر القانونى للإنذار أن يكون المشترى قد قال فى دعوى أخرى أن البائع قد أنذره، ما دام ذلك القول قد صدر فى وقت لم يكن النزاع على العقد المتنازع فيه مطروحاً، بل يجب تقديم الإنذار حتى يمكن للمحكمة أن تتبين إن كان يترتب عليه الفسخ أم لا؟، وذلك بالرجوع إلى تاريخه وما تضمنه، لأنه قد يكون حاصلاً قبل الميعاد المعين للوفاء أو قبل قيام البائع بتعهداته التى توقفت عليها تعهدات المشترى)( ).. أى: إن مثل هذا القول من المدين لا يعتد به فى كونه يقوم مقام الإنذار، رغم ثبوته فى مستندات رسمية وأمام القضاء ذاته، حتى يتبين لمحكمة الموضوع حقيقة هذا القول وأسانيده بتقديم أصل الإنذار للتعرف منه على توافر شروط استحقاق الحق ونفاذ آثار الإنذار- الإعذار- فى مواجهة المدين.
3) الاتفاق على اعتبار مجرد حلول الأجل إعذاراً : إن التأخير الفعلى عن تنفيذ الالتزام لا يعد إعذاراً بالمفهوم القانونى، بل يشترط الإعذار للقول بالتعويض: (لا يستحق التعويض إلا بعد إعذار المدين , ما لم ينص على غير ذلك)( )، حيث يجب على الدائن القيام بإجراء شكلى يعلن فيه للمدين بوضوح عزمه وإصراره على أن يقوم المدين بتنفيذ ما على عاتقه من التزام دون تأخير.
وقد أوردت المادة 219 من القانون المدنى استثناءً على هذا الأصل حين نصت على أن: (يكون إعذار المدين بإنذاره او بما يقوم مقام الإنذار.... كما يجوز أن يكون مترتبا على اتفاق يقضى بأن يكون المدين معذراً بمجرد حلول الأجل دون الحاجة إلى أى إجراء آخر)..
4) خطاب مسجل أو خطاب عادى أو بإخطار شفوى : الأصل أن مطالبة المدين بورقة غير رسمية؛ كخطاب مسجل، أو برقية، لا تقوم مقام الإنذار، ولا تكفى للقول بحدوث الإعذار، إلا حال وجود اتفاق بين الدائن والمدين على مثل هذه الصور، فإنها وقتها تكفى للقول بالإعذار، حيث يجوز مثل هذا الاتفاق لعدم تعلق وجوب الإعذار بالنظام العام( )، حيث أباحت المادة 219 مدنى الاتفاق على أن يكون المدين معذراً بمجرد حلول الأجل دون حاجة إلى أى إجراء آخر، فمن الأولى جواز الاتفاق بين الدائن والمدين على توجيه الإعذار فى صورة خطاب مسجل أو خطاب عادى أو بإخطار شفوى، إلا أنه يجب على الدائن إثبات حدوث الإعذار على هذا الوجه( ).
5) وفى الأحوال التجارية : إن اشتراط القانون الورقة الرسمية فى الإعذار إنما ينصرف إلى المسائل المدنية، أما المسائل التجارية فتكفى فيها الورقة غير الرسمية( )، حيث يجوز الاتفاق على اعتبار المدين معذراً بمجرد حلول الأجل، لذلك فيكفى أن يكون مكتوباً أيًّا كانت صورة الكتابة( )- كما جاء فى المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدى للقانون المدنى- سواء بخطاب مسجل، أو خطاب عادى.. بل إن حتى التنبيه الشفوى يكفى فى هذه الأحوال متى قضى العرف التجارى بذلك بحسب ما ذهبت إليه محكمة النقض( ).. و تأسيساً على حرية الاثبات فى مجال المعاملات التجارية، إلا أن مجرد التنبيه الشفوى سيكون صعب الإثبات، فالقاعدة العامة أن الدائن ملزم بإثبات حدوثه، فالبينة على من ادعى واليمين على من أنكر.
على أنه يجب الانتباه إلى اتصال علم المدين بهذا الإعذار، فمتى كان الظاهر أن المدين لم يعلم بمضمون الخطاب- حال الاتفاق على جعل الإعذار فى صورة خطاب عادى- فإن ذلك لا يرتب آثار الإعذار القانونية فى ذمته.
أما إذا رفض استلام الإعذار– أيًّا كانت صورته- مع علمه بحقيقته، فيمكن القول مع ذلك بحدوث الإعذار حيث أفصح الدائن عن رغبته فى وضوح وجلاء فى أن يقوم المدين بتنفيذ التزامه، وكون المدين قد رفض استلام الإعذار فإن ذلك يرجع إلى فعله هو مع علمه بإرادة الدائن، بما يؤدى إلى ترتب آثار الإعذار فى ذمته.
والشكلية فى الإعذار ليست شكلية انعقاد التصرف- الإعذار- بل إنها شكل إثبات( ). ففى كل الأحوال يجب أن تتوافر بعض الشروط فى الإعذار بصوره المختلفة، بأن تكون إرادة المدين واضحة جلية- بما لا تدع معها مجالاً للشك- فى المطالبة بتنفيذ المدين لالتزامه دون تأخير، وأن يتضح ذلك من مضمون الإعذار ذاته على أى صورة كان، أما إذا لم يفصح الدائن عن إرادته فى تنفيذ الالتزام فلا يعد ذلك إعذاراً. كذلك يجب أن تكون مطالبة الدائن منصبة على حق حالّ الأجل- فإن كان معلقاً على شرط وجب تحقق الشرط قبل توجيه الإعذار-، مستحق الأداء، معين المقدار- فإن كان تعيين المقدار راجعاً إلى المدين فإعذاره صحيح، أما إن رجع تعيينه إلى الغير فيجب على الدائن أن يذكر كذلك رغبته فى إجراء هذا التعيين-.
ومن المستقر قضاءً أن بحث مدى حدوث الإعذار إنما هو مسألة واقع تخضع لرقابة قاضى الموضوع، وليس مسألة قانون خاضعة لرقابة محكمة النقض.
آثار الإعذار:
يترتب على قيام الدائن بإعذار مدينه- إعذاراً يعتد به القانون- عدة نتائج نعرض لكل منها فى مطلب مستقل.
مسئولية المدين عن الضرر الذى يلحق بالدائن:
لقد حدد القانون شرطاً بدونه لا يجوز التعويض، يتأسس على إفصاح الدائن بعمل قانونى- الإعذار- عن رغبته فى وضع المدين موضع المُعْذَر؛ أى: المتأخر قانوناً عن الوفاء بما يثقل كاهله من التزام( ).
لذلك فمتى قام الدائن بإعذار مدينه لتنفيذ الالتزام، فإنه بذلك يكون قد حقق الشرط الذى استوجبه المشرع لكى يستحق التعويض فى نص المادة 218 مدنى: (لا يستحق التعويض إلا بعد إعذار المدين...)، فمنذ وقت الإعذار يكون المدين مسئولاً- نتيجة تأخره فى تنفيذ التزامه- عن تعويض الدائن عما يلحقه من أضرار من جراء هذا التأخير، فالمشرع لا يعتد بالتأخير الفعلى، وإنما يعتد بالتأخير القانونى والذى يتأكد بعد الإعذار حيث يكون المدين معذراً.
ومن نص المادة السالفة، وبمفهوم عكسى يتضح أن المدين لا يلتزم بأى تعويض عن أى أضرار تلحق بالدائن فى مرحلة ما قبل توجيه الدائن للإعذار، وذلك للفكرة السائدة وهى مظنة تسامح الدائن وارتضاءه تأخر المدين فى التنفيذ، وعدم لحوق الضرر به من جراء ذلك، أو مظنة إمهاله للمدين مدة أخرى تالية للتنفيذ.
أما فى مرحلة ما بعد الإعذار، فإن المدين يلتزم بتعويض الدائن عن كل ضرر يلحق به نتيجة التأخر فى تنفيذ الالتزام، فتأخر المدين عن تنفيذ التزامه هو فى حد ذاته خطأ حيث أن سرعة التنفيذ واجب قانونى يترتب على احترام بنود العقد، الذى هو شريعة المتعاقدين( )، وبذلك تتوافر أركان المسئولية الثلاثة الموجبة للتعويض: خطأ المدين والمتمثل فى تأخره عن الوفاء بما فى عليه من التزام، والضرر الذى لحق بالدائن، بسبب هذا التأخير. بما يستوجب معه الحق فى التعويض عما لحقه من خسائر وأضرار بسبب ذلك.
فوائد التأخير :
فالدائن بذلك متى تحقق الضرر من التأخير فى التنفيذ أو عدم التنفيذ من الأساس فإنه يستحق التعويض بعد الإعذار، إلا إذا كان الدين محل الالتزام مبلغ من المال فلا يسرى التعويض القانونى المتمثل فى سريان الفوائد إلا من تاريخ رفع الدعوى( ) والمطالبة القضائية بها( )، حيث لا يكفى مجرد الإعذار فى هذه الحالة، وسند ذلك فى المادة 218 من القانون المدنى حيث نصت على: (لا يستحق التعويض إلا بعد إعذار المدين, ما لم ينص على غير ذلك)، وقد نصت المادة 226 مدنى على: (إذا كان محل الالتزام مبلغا من المال وكان معلوم المقدار وقت الطلب وتأخر المدين فى الوفاء به, كان ملزما بأن يدفع للدائن على سبيل التعويض عن التأخر فوائد قدرها أربعة فى المائة فى المسائل المدنية وخمسة فى المائة فى المسائل التجارية. وتسرى الفوائد من تاريخ المطالبة القضائية بها...).
كما نصت المادة 458/1 على أنه لا حق للبائع فى الفوائد إلا إذا أعذر المشترى: (لا حق للبائع فى الفوائد القانونية عن الثمن إلا إذا اعذر المشترى..).
ورغم تحريم الفوائد فى الشريعة الإسلامية والتى هى المصدر الأساسى للتشريع، إلا أنه لا يمكن القول بعدم سريانها فى ظل التشريع المدنى الحالى، حيث نص فى المادة 226 على سريانها من تاريخ رفع الدعوى كنوع من التشدد ومناهضة للربا قدر الإمكان، فجعل بدء سريانها من تاريخ أكثر تأخراً عن تاريخ الإعذار وهو تاريخ المطالبة القضائية بها، فمن الجائز أن لا يطالب الدائن بهذه الفوائد مكتفياً باقتضائه أصل الدين.
علاقة السببية :
وفى علاقة السببية إذا استطاع المدين أن يثبت أن تأخره فى التنفيذ بعد إعذاره إنما يرجع لسبب أجنبى عنه لا يد له فيه؛ كالقوة القاهرة - حدث غير متوقع ولا يمكن دفعه – أو لفعل الدائن نفسه، أدى إلى تأخره فى التنفيذ أو أدى إلى استحالة التنفيذ، فإنه بذلك ينأى عن انعقاد المسئولية التقصيرية أو العقدية فى ذمته فلا يكون هناك مجالاً للتعويض، حيث تفتقد المسئولية وقتها لأحد أركانها وهو علاقة السببية، فإن كان تأخر المدين هو الخطأ فإن الضرر الذى لحق بالدائن لم يكن نتيجة هذا التأخير بل إن هذا التأخير ذاته لم يقع من المدين بِمَلْكِهِ ولم يكن له يداً فيه، مما تنتفى معه علاقة السببية بين الضرر والخطأ.
رجوع الدائن عن إعذاره :
قد يحدث عملاً أن يقوم الدائن بتوجيه الإعذار إلى المدين فى تاريخ ما، ثم يقوم بعد ذلك فى تاريخ لاحق بتوجيه إعذار ثان إلى المدين يمنحه فيه مهلة للوفاء، مما يعنى معه أن إرادة الدائن قد انصرفت إلى إعطاء المدين مهلة أخرى، ونظرة إلى ميسرة، وحيث أن نفى النفى إثبات، فإن الإعذار هو نفى مظنة التسامح من الدائن فى أجل تنفيذ الالتزام، والمهلة التكميلية بعد الإعذار تكون نفى للإعذار، فهى بذلك تكون إثباتاً لمظنة تسامح الدائن فى وقت وفاء المدين بما على عاتقه من التزام. حيث أن العبرة هنا تكون بالإعذار الثانى وليس بالإعذار الأول.
الوفاء الجزئى :
قد يقوم الدائن بتوجيه الإعذار إلى المدين لتأخره فى التنفيذ، إعذاراً صحيحاً يعتد به القانون، يبادر على إثره المدين بالبدء فى تنفيذ ما عليه من التزام، إلا أنه قد يتوقف بعد هذا البدء عن تكملة تنفيذه لالتزامه، فى هذه الحالة لا يسرى التعويض منذ تاريخ الإعذار السابق على بدء التنفيذ، وإنما يتعين على الدائن أن يقوم بتوجيه إعذار آخر إلى المدين بعد توقفه عن الوفاء حتى يستحق التعويض عن تأخره أو متناعه عن المضى فى الوفاء بالتزامه( ).
رأى :
ذهب جانب من الفقه إلى القول بأنه: (لا يشترط لاستحقاق التعويض عن عدم التنفيذ سبق إعذار المدين، فى معنى أن الدائن سوف يستحق تعويضاً شاملاً عن كافة الأضرار الناتجة من عدم التنفيذ ولو لم يكن قد سبق له أن أعذر مدينه، ولا يسوغ لهذا الأخير أن يزعم بأنه لو كان قد أعذر من قِبَل الدائن برغبته فى التنفيذ لكان قد نفذ، فالواقع العملى أنه لم ينفذ حتى بالرغم من رفع الدعوى عليه) ( ).
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ
(المائدة: 1)
( لىُّ الواجد يُحِلّ عرضه وعقوبته ) .. (حديث شريف)
مقـــدمة
إن الالتزام؛ وهو واجب قانونى يقع على عاتق شخص معين يسمى المدين، يوجب عيه القيام بعمل أو بأداء مالى معين أو قابل للتعين لصالح شخص آخر هو الدائن، فالالتزام الواجب التنفيذ هو الالتزام المدنى متى استجمع عنصريه؛ وهما: المديونية والمسئولية، فأثر الالتزام هو وجوب تنفيذه ولو جبراً على المدين، استجابة لعنصر المسئولية فيه. وذلك على العكس من الالتزام الطبيعى حيث يتجرد من عنصر المسئولية، فلا يكون قابلاً لغير التنفيذ الاختيارى، أى متروكاً لضمير المدين.
والأصل هو التنفيذ العينى؛ بأن يَنْصَبُّ على عين ما التزم به المدين تجاه دائنه، فعندما ينشأ الالتزام فغالباً ما يتمسك صاحب الحق بأن يتم التنفيذ فى الوقت المتفق عليه لارتباطه بتحقيق المنفعة المرجوة فى أفضل صورها، ولكى يتم تنفيذ الالتزام عيناً أو بطريق التعويض فيجب على الدائن أن يدعو مدينه لكى يقوم بتنفيذ الالتزام، فإذا ما استحال ذلك بفعل المدين أو خطأه أيًّا كانت صورة ذلك، فإنه لا يكون هناك مجالاً لغير التنفيذ بطريق التعويض، حين يحق للدائن أن يطالب مدينه بتعويض نقدى يقوم مقام التنفيذ العينى، وحينئذ يكون التنفيذ بطريق التعويض قضاءً، وتكون هذه الدعوة باتخاذ الدائن لإجراء شكلى يجب أن تستجمع فيه بعض الشروط حتى يكون صحيحاً من وجهة نظر القانون منتجاً لآثاره.
فإن كان تأخر التنفيذ يرجع لفعل المدين، وبالرغم من ذلك سكت الدائن، فإنه لا يُعتد بتأخر المدين الفعلى، فربما كان تأخره له ما يبرره، أو لأن الدائن قد تسامح فى تنفيذ مدينه لالتزامه. وإنما يعتد بتأخر المدين قانوناً حين يفصح الدائن عن إرادته فى قيام مدينه بالتنفيذ بأن يوجه إليه إنذاراً يخطره فيه بوجوب قيامه بالتنفيذ، وهذا هو الإعذار وجوهره التأخير عن تنفيذ الالتزام دون مسوغ قانونى. وقد يكون التأخر فى التنفيذ يرجع إلى فعل الدائن.
وهذا ما عبّرت عنه مقولة: قد أعذر من أنذر.. حيث أن الإنذار هو وسيلة الإعذار، حين يريد الدائن الحكم على خصمه.
وعلى هذا – بإذن الله – نتناول إعذار المدين فى فصل أول، من تعريفه وشروطه وشكله وآثاره.
ونتناول فى فصل ثان إعذار الدائن من حيث صوره وآثاره.
أولا: إعذار المــــدين
المقصود بالإعذار:
مجرد حلول الأجل دون وفاء المدين بالتزاماته قِبَل دائنه لا يفيد تقصير من جانب المدين، لمظنة تسامح الدائن فى وقت التنفيذ، أو لكون الوفاء كان فى موطن المدين ولم يسع إليه الدائن، والدائن متى أراد من مدينه أن يقوم بتنفيذ التزامه بحلول الأجل المضروب بينهما فى ذلك، فعليه أن يطالب هذا المدين بشكل رسمى تنتفى معه مظنة التسامح ويَوْضَع المدين مَوْضِع المُقَصِّر إذا لم يبادر إلى التنفيذ، فالمشرع قد اشترط الإعذار قبل الشروع فى التنفيذ الجبرى؛ سواء كان عينياً أو بِعِوَض، وقد قضت محكمة النقض فى ذلك بقولها: (الأصل فى التشريع المصرى أن مجرد حلول أجل الالتزام لا يكفى لاعتبار المدين متأخراً فى تنفيذه، إذ يجب للتنفيذ العينى للالتزام، كما يجب للتنفيذ بطريق التعويض إعذار المدين، حتى لا يحمل سكوت الدائن محل التسامح والرضا الضمنى بتأخر المدين فى هذا التنفيذ..)( ).
ولذلك نعرض لإعذار المدين فى ثلاثة مباحث: المبحث الأول نتعرض فيه لماهية الإعذار من حيث تعريفه وشكله وشروطه الموضوعية والغاية منه.
ونعرض فى المبحث الثانى لآثار إعذار المدين وما يترتب عليه فى ذمته، ونعرض فى المبحث الثالث لبعص الحالات التى لا تتطلب ضرورة الإعذار.
مـا هـــو الإعذار؟
إن الإعذار هو تصرف قانونى من خلال إجراء شكلى يقوم به الدائن لدعوة مدينه للقيام بالوفاء بما عليه من دين له، لذا فإن فكرة الإعذار تتجلى من خلال تعريف الإعذار، والغاية منه، والشروط الموضوعية له، وشكله، ونعرض لكل من ذلك فى مطلب مستقل.
تعــريف الإعذار:
ذهب فريق من الفقهاء إلى أن: الإعذار هو تسجيل التأخير على المدين( ) الغرض منه وضع المدين وضع المقصر فى تنفيذ التزامه بإثبات تأخره فى الوفاء به( ).
وذهب فريق آخر إلى تعريف الإعذار بأنه: الحالة التى يوجد فيها المدين الذى أنذره الدائن للوفاء بالتزاماته( ).
وفريق ثالث ذهب فى تعريفه إلى أنه: أمر يوجهه الدائن إلى المدين لينفذ التزامه، يثبت به رسمياً تأخر المدين فى التنفيذ، لسبب راجع إليه(4).
وذهب بعض الفقهاء إلى القول أن: إعذار المدين هو وضعه قانوناً فى حالة المتأخر عن تنفيذ التزامه(5).
من هذه التعريفات يتضح جلياً أن المشرع لا يعتد سوى بالتأخير القانونى، وهو الحالة القانونية التى يوجد فيها المدين غير منفذ لالتزامه من لحظة إعذاره(6).
الغـــــاية منـــــه:
الإعذار يفترض وجود مدين لم ينفذ التزامه بعد إزاء الدائن.. إلا أن المُشَرِّع لا يعتد بالتأخير الفعلى، وذلك مظنة تسامح الدائن فى تأخر مدينه عن تنفيذ التزامه، وهذه المظنة تنتفى بتوجيه الإعذار من الدائن لمدينه بما لا يتصور معه تسامح.
وعلى هذا تكون غاية الإعذار تحقيق كون المدين متأخراً فى تنفيذ التزامه، إذا لم يقم بالوفاء به فور الإعذار.
ففى القانون المدنى المصرى( ) أن مجرد استحقاق الأداء – بحلول الأجل، أو تحقق الشرط- لا يكفى لاعتبار المدين معذراً، بل يجب إفصاح الدائن عن رغبته فى أن يتم التنفيذ على الفور بتوجيه الإعذار إليه حتى يترتب على تأخره فى التنفيذ الآثار القانونية للإعذار.
فى فرنسا ذهب بعض الفقه( ) إلى اعتبار الإعذار أساساً لجعل المدين مخطئاً إذا تأخر فى التنفيذ، استناداً إلى أن وظيفة الإعذار هى اعتبار المدين متأخراً قانوناً وانعقاد مسئوليته عن ذلك، تأسيساً على أن الإعذار فى حد ذاته هو تصرف قانونى بمقتضاه يدعو الدائن مدينه بإجراء شكلى للقيام بالوفاء بما عليه من دين له، وبالتالى جعله عند عدم الوفاء متأخراً قانوناً عن الوفاء.
مما يعنى أن وظيفة وطبيعة الإعذار لا تختلط بالخطأ- الذى هو عنصر من عناصر المسئولية- بل هى اثبات تأخر أو تقصير المدين فى القيام بتنفيذ التزامه، فالأصح أن يُفْصَل بين الإعذار والخطأ، فقد يُعذر الدائن مدينه، ويَثْبُت مع ذلك أن المدين لم يرتكب خطأ بتأخره فى التنفيذ.. وإنما يصبح ملزماً بتنفيذ التزامه، بحيث أنه إذا تأخر عن التنفيذ استحق الدائن التعويض، وألقى عبء إثبات نفى الخطأ على عاتق المدين.
وقد يمكن القول؛ أن الإعذار له غاية ثلاثية الأبعاد:
1) إعلام المدين بمصلحة الدائن فى التنفيذ الفورى للالتزام :
يهدف الإعذار إلى إحاطة المدين علماً بأن الدائن له مصلحة جدية فى التنفيذ الفورى للعقد دون أدنى تأخر من جانب المدين.
حيث أنه بحلول الأجل دون قيام المدين بتنفيذ التزامه أو الوفاء بما عليه من دين إلى دائنه، وسكوت الدائن عن مطالبته بالوفاء، فقد يُعزى هذا إلى تسامح من جانب الدائن عن تأخر مدينه، أو أنه قد ارتضى بأن يُحدد مدينه وقت التنفيذ بما يتناسب مع ظروفه وأحواله، فالأجل يضرب عادة لصالح المدين لا لمصلحة الدائن، فلا يتصور أن مجرد حلول الأجل يكون مدعاة لتسوئ المركز القانونى للمدين.
ففى حالة حلول الأجل وعدم قيام الدائن بتوجيه الإعذار، قد يعتقد معه المدين أن تأخره فى الوفاء بما عليه لا يحقق ضرراً للدائن من جراء ذلك، أو موافقة الأخير على الوفاء فى تاريخ تالى لتاريخ الاستحقاق بمنحه أجلاً ضمنياً للتنفيذ.
لذا فعلى الدائن كى ينفى كل هذا الاعتقاد أن يقوم بإجراء شكلى- الإعذار- يعلن فيه صراحة عن إرادته فى قيام مدينه بتنفيذ التزامه والوفاء بما عليه، حتى يقطع فى الدلالة على عدم رغبته فى منح مدينه أية مهلة تكميلية.. وأن مصلحته تتحقق فى الوفاء الفورى لما التزم به المدين، وأن تأخر الأخير عن الوفاء بما عليه يحيق به الضرر ويحمله بنتائج وآثار هذا التأخير وما يؤدى إليه من حكم بالتعويض.
وعلى هذا لا محل للتعويض إلا بوجود الإعذار.. فقد وضع المشرع شرط الإعذار كقرينة تنفى تسامح الدائن ومؤشر قاطع على التمسك بحقه( )، حيث نص القانون المدنى المصرى على أنه: (لا يستحق التعويض إلا بعد إعذار المدين، ما لم ينص القانون على غير ذلك)( ).. وكذلك قد نص: (يجبر المدين بعد إعذاره .... على تنفيذ التزامه تنفيذا عينيا)( ).. أى أن القيام بالإعذار شرط جوهرى فى وجوب التنفيذ وترتيب آثاره فى ذمة المدين.
2) منح المدين فرصة أخيرة للتنفيذ العينى :
يهدف الإعذار إلى إعطاء المدين فرصة أخيرة لتنفيذ التزامه بعين ما انصرفت إرادته إلى الوفاء به من التزام، ففى الفرض الذى يكون فيه المدين- أو أحد خلفاءه- يجهل بحسن نية تاريخ الوفاء، تكون وظيفة الإعذار فى هذا الفرض تعيين تاريخ الوفاء بعين ما التزم به المدين، لذا يستهدف الإعذار منح المدين فرصة أخيرة لتنفيذ التزامه عيناً.
3) إحاطة المدين بشكل رسمى بعدم تنفيذه التزامه
يهدف الإعذار كذلك إلى إحاطة المدين علماً رسمياً بعدم وفاءه بالتزامه، واستظهار مدى إمكان تنفيذ الالتزام.
تلعب هذه الإحاطة دوراً جوهرياً فى تنفيذ الالتزام، فبدون هذه الإحاطة- المتمثلة فى الإعذار- قد يظل المدين على اعتقاده فى موافقة الدائن- بسكوته- على تأخير تنفيذ الالتزام، وينتفى هذا الاعتقاد بطريقة رسمية؛ بمطالبة الدائن مدينه بتنفيذ ما التزم به واحترام العقد المبرم بينهما، وأن هذا التأخير يترتب عليه الضرر للدائن وأحقيته فى التعويض نتيجة هذا التأخير.
وقد ينظر إلى الإعذار من وجهتين؛ إما أن يكون تشدداً من الدائن، وإما أن يكون رأفة بالمدين.
فمن وجه كونه تشدداً من الدائن فيكون ذلك فى إفصاحه جلياً عن المطالبة بحقه وعدم تهاونه فى ذلك، وأنه يضع المدين موضع المخطئ بتأخره عن تنفيذ عين ما التزم به.
ومن وجه آخر.. كونه رأفة بالمدين، أنه بمفهوم المخالفة لما سبق أن الدائن الذى لم يطالب بحقه بامتناعه عن إعذار مدينه إنما يُمَكِّن لاعتقاد المدين بتسامحه معه فى وقت التنفيذ وإمهاله لمدة أخرى، علاوة على أن القانون قد اشترط الإعذار للقول بالتعويض حين نص فى المادة 218 على أن: (لا يستحق التعويض إلا بعد إعذار المدين..)، فهو بهذا قد ترأف بالمدين ولم يوجب فى ذمته التعويض من يوم حلول أجل الوفاء، بل اشترط الإعذار لاستحقاق التعويض، كنوع من الرأفة بالمدين.
وفى بعض القوانين الأخرى اعتبرت أن مجرد حلول الأجل يوجب التنفيذ دون إعذار، وأن التأخر فيه رغم استحقاق الحق يكون مناط الحكم بالتعويض، كما فى القانون المدنى البرتغالى (م711)، واليابانى (م412)، والسويسرى (م102)( ).
ذهب فريق من الفقهاء فى فرنسا إلى أن للإعذار دوراً هاماً فى المجال الجنائى( ) حيث يسمح بتحديد دقيق لتاريخ ارتكاب الجريمة وذلك فى العقود الواردة بالمادة 408 عقوبات فرنسى التى ترد على أشياء مثلية كوديعة أو اقتراض مبلغ نقدى، حيث لن يتحدد التبديد القائم على الغش إلا من يوم قيام الدائن بإعذار المدين برد ما لديه، حيث يكون الإعذار بذلك وسيلة هامة فى تحديد تاريخ ارتكاب جريمة التبديد فى هذه الحالة، وكذلك بدء سريان مدة تقادم الجنحة من تاريخ هذا الإعذار.
شروطه الموضوعية:
تأخر المدين عن الوفاء بحق مشروع محدد المقدار مستحق الأداء هو مدار وجود الإعذار. وعلى هذا فإن للإعذار شروطاً موضوعية يجب أن تتوافر فيه؛ هى:
الشرط الأول : تأخر المدين
التأخير فى هذه الحالة يكون التأخير الفعلى عن تنفيذ الالتزام رغم استحقاقه، ويجب أن يكون هذا التأخير بلا مبرر، وإلا كان الإعذار بلا معنى، من ذلك أن المدين لا يكون متأخراً فى الوفاء بما عليه متى كان أحد الدائنين يطالبه بتسليم مبيع غير قابل للانقسام، وكان هذا المبيع يخص دائنين آخرين معه، وأن التسليم يجب أن يتم لهم جميعاً، وليس لأحدهم فقط.
كذلك يجب أن يكون هذا التأخير راجعاً إلى المدين حتى يتوافر سبباً موضوعياً للإعذار، فمتى كان هذا التأخير راجعاً إلى الدائن، أو لقوة قاهرة فإنه ينتفى موجب الإعذار؛ كأن يتعاقد شخص ما على استئجار عيناُ مملوكة لآخر وحالت قوة قاهرة دون تنفيذ المؤجر لإلتزامه- وهو المدين بتسليم العين للمستأجر- كوقوع زلزال هلكت معه العين المؤجرة، ففى هذا الفرض فإنه لا جدوى من الإعذار.
ورغم ذلك إن قام الدائن بإعذار المدين، فإنه يحق للأخير أن يدفع ذلك بإثبات أن قوة قاهرة قد منعته من التنفيذ.
الشرط الثانى : الحماية القانونية لحق الدائن
يجب أن يكون حق الدائن حق مشروع يحميه القانون بواسطة الدعوى، فلا فائدة من توجيه الإعذار فى دين لا يحميه القانون، كدين قد سقط بالتقادم، أو أنه دين متحصل من طريق غير مشروع ويبطل بطلاناً مطلقاً كدين القمار أو ما أشبهه.
وفى حالة البطلان النسبى فإن الإعذار يؤتى ثماره ويكون صحيحاً، ما لم يتمسك المدين بقابلية الحق للإبطال- كوجود حالة غش أو تدليس أو نقص أهلية- حيث يحتاج البطلان النسبى إلى حكم يقرره.
الشرط الثالث : الدين محدد المقدار ، ومستحق الأداء
يجب أن يكون الدين محدداً ومستحق الأداء، فإن لم يكن محدداً فلا يصح الإعذار، كذلك يجب أن يكون حالّ الأداء، فإن كان معلقاً على شرط واقف، إلا أن هذا الشرط لم يتحقق بعد، فإنه لا يحق للدائن توجيه الإعذار إلى مدينه حيث لم يَحِلّ أجل الوفاء بعد لعدم تحقق الشرط، وكذلك فى حال كون الدين مضافاً لأجل، لا يحق للدائن إعذار مدينه قبل حلول هذا الأجل، لكونه يقع على غير مستحق.
شكل الإعذار:
القانون المدنى الفرنسى هو أساس نظرية الإعذار فى القانون المدنى المصرى، حيث أخذت الشكلية فى الأساس من القانون الرومانى والذى هو أساس نظرية الإعذار فى الشرائع اللاتينية.
وقد نصت المادة 219 مدنى مصرى على كيفية الإعذار حيث أوردت أن: (يكون إعذار المدين بإنذاره أو بما يقوم مقام الإنذار, ويجوز أن يكون الإعذار عن طريق البريد على الوجه المبين فى قانون المرافعات كما يجوز أن يكون مترتباً على اتفاق يقضى بأن يكون المدين معذراً بمجرد حلول الأجل دون الحاجة إلى أى إجراء آخر).
1) الإنذار : فقد نص القانون المدنى على أن الإنذار- وهو ورقة رسمية من أوراق المحضرين( )- هو وسيلة الإعذار، فقد أعذر من أنذر، حيث بالإنذار يطلب الدائن من مدينه سرعة تنفيذ الالتزام الملقى على عاتق الأخير دونما تأخير، فالإنذار الذى يتحقق به الإعذار هو الإنذار- الإعلان- الرسمى على يد محضر الذى يتم إخطار المدين به مباشرة، الأمر الذى تنتفى معه بعد ذلك مظنة التسامح فى التأخير.
- وأما عن جواز الإعذار بطريق البريد، فقد كان ذلك متبعاً فى ظل قانون المرافعات القديم رقم 77 لسنة 1949 والذى أُلغى منه الإعذار بطريق البريد بموجب القانون رقم 100 لسنة 1962، ثم صدر قانون المرافعات الحالى رقم 13 لسنة 1968، وقد كان خلواً من النص على إمكان الإعلان عن طريق البريد، وبذلك لم يعد الإنذار بطريق البريد ممكناً أو معمولاً به( )، ولا يخفى أن هذا الشكل من طرق الإعذار كان فيه الكثير من الإجهاد على قلم المحضرين، فقد أخفق فى أن يخفف عنهم العبء، وترتب عليه فى كثير من الأحيان تعقيد الإجراءات وبطؤها، حيث لم تصل كثير من الرسائل إلى ذويها.
2) الأوراق الرسمية : من نص المادة 219 يتضح أن الإعذار يتم بما يقوم مقام الإنذار، فيقصد بذلك الأوراق الرسمية التى تنطوى على معنى الإعذار( )، أى: كافة الأوراق الرسمية التى تُعبر بوضوح عن رغبة الدائن الأكيدة والصريحة فى تنفيذ المدين لالتزامه، فإذا لم تكن هذه الإرادة واضحة فلا تعد الورقة إعذاراً ولو وجهت إلى المدين، مثال ذلك ما حكمت به محكمة النقص المصرية بأنه: (لا يعد إعذاراً إعلان المشترى بصحيفة دعوى فسخ البيع لإخلاله بتنفيذ التزام من التزاماته، إلا إذا اشتملت صحيفتها على تكليفه بالوفاء بهذا الالتزام)( ). كما قضت فى عبارة شاملة أن: (الإعذار هو وضع المدين موضع المتأخر فى تنفيذ التزامه، والأصل فى الإعذار أن يكون بإنذار المدين على يد محضر بالوفاء بالالتزام، ويقوم مقام الإنذار كل ورقة رسمية يدعو فيها الدائن المدين إلى الوفاء بالتزامه، ويسجل عليه التأخير فى تنفيذه، على أن تعلن هذه الورقة إلى المدين، بناء على طلب الدائن)( ).
ومن أمثلة ذلك: التنبيه الرسمى السابق على التنفيذ، ومحضر الحجز على أموال المدين، والتكليف بالحضور أمام المحكمة ولو كان أمام محكمة غير مختصة.
* التنبيه الرسمى : نصت المادة 401 من قانون المرافعات فى حالة التنفيذ الجبرى على العقار بأن: (يبدأ التنفيذ بإعلان التنبيه بنزع ملكية العقار إلى المدين لشخصه أو لمواطنه مشتملا على البيانات الآتية : 1- بيان نوع السند التنفيذى وتاريخه ومقدار الدين المطلوب الوفاء به وتاريخ إعلان السند . 2- إعذار المدين بأنه إذا لم يدفع الدين يسجل التنبيه ويباع عليه العقار جبراً).. فبنص هذه المادة فإن التنبيه الرسمى السابق على التنفيذ الجبرى على العقار يقوم مقام الإنذار الرسمى.
* صحيفة الدعوى : إن إعلان صحيفة افتتاح الدعوى إذا تضمن تكليف المدين بالوفاء فإنه يقوم مقام الإنذار، فالأصل فى الإعذار أن يكون بورقة رسمية من أوراق المحضرين، يبين الدائن فيها أنه يطلب من المدين تنفيذ الالتزام، ومن ثم فلا يعد إعذاراً إعلان المشترى بصحيفة فسخ البيع لإخلاله بتنفيذ التزام من التزاماته، إلا إذا اشتملت الصحيفة على تكليفه بالوفاء بهذا الالتزام( ).
فكثيراً ما يتم إنذار المدين فى نفس صحيفة الدعوى، فتكون الصحيفة إنذاراً ومطالبة فى نفس الوقت، لكن فى هذه الحالة سوف يتحمل الدائن الدعوى ومصروفاتها متى بادر المدين إلى التنفيذ العينى بناء على الإعذار الضمنى المستفاد من رفع الدعوى، حيث أنه قبل هذا التكليف لم يكن مقصراً فى تنفيذ التزامه لعدم سابقة إعذاره.
إذن فإعلان صحيفة افتتاح الدعوى يحل محل الإنذار، إذ أن مجرد رفع الدعوى يتضمن إعذار المدين( )، وإن شاب التكليف بالحضور فيه بطلان لا يفضى لافتتاح الدعوى سواء لعدم مراعاة مواعيد التكليف بالحضور أو لنقص فى البيانات اللازمة لصحة افتتاحها، وكذلك لو رفعت- كما سبق الإشارة- أمام محكمة غير مختصة.
استثناء :
كما سبق القول بأن صحيفة افتتاح الدعوى تعتبر فى حد ذاتها إعذاراً للمدين متى تضمنت تكليف الدائن له بالوفاء بما عليه من التزام، أى أن الإعذار فى الأصل لا يعد شرطاً لرفع الدعوى من الأساس، إلا أنه يرد استثناءً على حالات يستلزم فيها القانون إعذار المدين أولاً، حتى يتم قبول الدعوى، فهو بذلك يكون شرطاً أساسياً لقبول مثل هذه الدعوى، من ذلك ما أوجبه قانون إيجار الأماكن السكنية رقم 136 لسنة 1981م من ضرورة قيام المؤجر بتكليف المستأجر بالوفاء أولاً حتى يمكن قبول دعواه بالإخلاء أو الطرد: (لا يجوز للمؤجر أن يطلب إخلاء المكان ولو انتهت المدة المتفق عليها فى العقد إلا لأحد الأسباب الآتية : ... (ب) إذا لم يقم المستأجر بالوفاء بالأجرة المستحقة خلال خمسة عشر يوما من تاريخ تكليفه بذلك بكتاب موصى عليه مصحوب بعلم الوصول دون مظروف أو بإعلان على يد محضر...)، فإن وجوب الإعذار فى هذه الحالة يعد استثناء من الأصل فإن انتفى أو كان باطلاً أو تم النزول عنه فإنه يترتب على ذلك عدم قبول دعوى الإخلاء.
* محضر الحجز على أموال المدين : بتوقيع هذا الحجز يكون الدائن قد وضع المدين فى موضع المهمل المقصر فى تنفيذ التزاماته، وبذلك يعتبر إعذاراًً يتحقق به الإنذار.. والقاعدة أن التنفيذ جبراً بواسطة المحضر- حيث أن الحجز من أعمال التنفيذ- لا يكون صحيحاً إلا إذا تم إعلان السند التنفيذى إلى المدين وكان هذا الإعلان مشتملاً على تكليفه بالوفاء( )، فإعلان السند التنفيذى الذى يسبق إجراءات التنفيذ( ) يقوم مقام الإنذار.
* البروتستو : إذا كان البروتستو ورقة رسمية يقوم بإعلانها المحضر إلى المدين فى السند لإثبات امتناعه عن الوفاء، ويتضمن التنبيه الرسمى على المدين بدفع قيمة السند، فإن البروتستو يعتبر إعذاراً للمدين بالمعنى الذى يتطلبه القانون فى الإنذار( ).
- وقد قضت محكمة النقض بأنه: (لا يكفى لترتيب الأثر القانونى للإنذار أن يكون المشترى قد قال فى دعوى أخرى أن البائع قد أنذره، ما دام ذلك القول قد صدر فى وقت لم يكن النزاع على العقد المتنازع فيه مطروحاً، بل يجب تقديم الإنذار حتى يمكن للمحكمة أن تتبين إن كان يترتب عليه الفسخ أم لا؟، وذلك بالرجوع إلى تاريخه وما تضمنه، لأنه قد يكون حاصلاً قبل الميعاد المعين للوفاء أو قبل قيام البائع بتعهداته التى توقفت عليها تعهدات المشترى)( ).. أى: إن مثل هذا القول من المدين لا يعتد به فى كونه يقوم مقام الإنذار، رغم ثبوته فى مستندات رسمية وأمام القضاء ذاته، حتى يتبين لمحكمة الموضوع حقيقة هذا القول وأسانيده بتقديم أصل الإنذار للتعرف منه على توافر شروط استحقاق الحق ونفاذ آثار الإنذار- الإعذار- فى مواجهة المدين.
3) الاتفاق على اعتبار مجرد حلول الأجل إعذاراً : إن التأخير الفعلى عن تنفيذ الالتزام لا يعد إعذاراً بالمفهوم القانونى، بل يشترط الإعذار للقول بالتعويض: (لا يستحق التعويض إلا بعد إعذار المدين , ما لم ينص على غير ذلك)( )، حيث يجب على الدائن القيام بإجراء شكلى يعلن فيه للمدين بوضوح عزمه وإصراره على أن يقوم المدين بتنفيذ ما على عاتقه من التزام دون تأخير.
وقد أوردت المادة 219 من القانون المدنى استثناءً على هذا الأصل حين نصت على أن: (يكون إعذار المدين بإنذاره او بما يقوم مقام الإنذار.... كما يجوز أن يكون مترتبا على اتفاق يقضى بأن يكون المدين معذراً بمجرد حلول الأجل دون الحاجة إلى أى إجراء آخر)..
4) خطاب مسجل أو خطاب عادى أو بإخطار شفوى : الأصل أن مطالبة المدين بورقة غير رسمية؛ كخطاب مسجل، أو برقية، لا تقوم مقام الإنذار، ولا تكفى للقول بحدوث الإعذار، إلا حال وجود اتفاق بين الدائن والمدين على مثل هذه الصور، فإنها وقتها تكفى للقول بالإعذار، حيث يجوز مثل هذا الاتفاق لعدم تعلق وجوب الإعذار بالنظام العام( )، حيث أباحت المادة 219 مدنى الاتفاق على أن يكون المدين معذراً بمجرد حلول الأجل دون حاجة إلى أى إجراء آخر، فمن الأولى جواز الاتفاق بين الدائن والمدين على توجيه الإعذار فى صورة خطاب مسجل أو خطاب عادى أو بإخطار شفوى، إلا أنه يجب على الدائن إثبات حدوث الإعذار على هذا الوجه( ).
5) وفى الأحوال التجارية : إن اشتراط القانون الورقة الرسمية فى الإعذار إنما ينصرف إلى المسائل المدنية، أما المسائل التجارية فتكفى فيها الورقة غير الرسمية( )، حيث يجوز الاتفاق على اعتبار المدين معذراً بمجرد حلول الأجل، لذلك فيكفى أن يكون مكتوباً أيًّا كانت صورة الكتابة( )- كما جاء فى المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدى للقانون المدنى- سواء بخطاب مسجل، أو خطاب عادى.. بل إن حتى التنبيه الشفوى يكفى فى هذه الأحوال متى قضى العرف التجارى بذلك بحسب ما ذهبت إليه محكمة النقض( ).. و تأسيساً على حرية الاثبات فى مجال المعاملات التجارية، إلا أن مجرد التنبيه الشفوى سيكون صعب الإثبات، فالقاعدة العامة أن الدائن ملزم بإثبات حدوثه، فالبينة على من ادعى واليمين على من أنكر.
على أنه يجب الانتباه إلى اتصال علم المدين بهذا الإعذار، فمتى كان الظاهر أن المدين لم يعلم بمضمون الخطاب- حال الاتفاق على جعل الإعذار فى صورة خطاب عادى- فإن ذلك لا يرتب آثار الإعذار القانونية فى ذمته.
أما إذا رفض استلام الإعذار– أيًّا كانت صورته- مع علمه بحقيقته، فيمكن القول مع ذلك بحدوث الإعذار حيث أفصح الدائن عن رغبته فى وضوح وجلاء فى أن يقوم المدين بتنفيذ التزامه، وكون المدين قد رفض استلام الإعذار فإن ذلك يرجع إلى فعله هو مع علمه بإرادة الدائن، بما يؤدى إلى ترتب آثار الإعذار فى ذمته.
والشكلية فى الإعذار ليست شكلية انعقاد التصرف- الإعذار- بل إنها شكل إثبات( ). ففى كل الأحوال يجب أن تتوافر بعض الشروط فى الإعذار بصوره المختلفة، بأن تكون إرادة المدين واضحة جلية- بما لا تدع معها مجالاً للشك- فى المطالبة بتنفيذ المدين لالتزامه دون تأخير، وأن يتضح ذلك من مضمون الإعذار ذاته على أى صورة كان، أما إذا لم يفصح الدائن عن إرادته فى تنفيذ الالتزام فلا يعد ذلك إعذاراً. كذلك يجب أن تكون مطالبة الدائن منصبة على حق حالّ الأجل- فإن كان معلقاً على شرط وجب تحقق الشرط قبل توجيه الإعذار-، مستحق الأداء، معين المقدار- فإن كان تعيين المقدار راجعاً إلى المدين فإعذاره صحيح، أما إن رجع تعيينه إلى الغير فيجب على الدائن أن يذكر كذلك رغبته فى إجراء هذا التعيين-.
ومن المستقر قضاءً أن بحث مدى حدوث الإعذار إنما هو مسألة واقع تخضع لرقابة قاضى الموضوع، وليس مسألة قانون خاضعة لرقابة محكمة النقض.
آثار الإعذار:
يترتب على قيام الدائن بإعذار مدينه- إعذاراً يعتد به القانون- عدة نتائج نعرض لكل منها فى مطلب مستقل.
مسئولية المدين عن الضرر الذى يلحق بالدائن:
لقد حدد القانون شرطاً بدونه لا يجوز التعويض، يتأسس على إفصاح الدائن بعمل قانونى- الإعذار- عن رغبته فى وضع المدين موضع المُعْذَر؛ أى: المتأخر قانوناً عن الوفاء بما يثقل كاهله من التزام( ).
لذلك فمتى قام الدائن بإعذار مدينه لتنفيذ الالتزام، فإنه بذلك يكون قد حقق الشرط الذى استوجبه المشرع لكى يستحق التعويض فى نص المادة 218 مدنى: (لا يستحق التعويض إلا بعد إعذار المدين...)، فمنذ وقت الإعذار يكون المدين مسئولاً- نتيجة تأخره فى تنفيذ التزامه- عن تعويض الدائن عما يلحقه من أضرار من جراء هذا التأخير، فالمشرع لا يعتد بالتأخير الفعلى، وإنما يعتد بالتأخير القانونى والذى يتأكد بعد الإعذار حيث يكون المدين معذراً.
ومن نص المادة السالفة، وبمفهوم عكسى يتضح أن المدين لا يلتزم بأى تعويض عن أى أضرار تلحق بالدائن فى مرحلة ما قبل توجيه الدائن للإعذار، وذلك للفكرة السائدة وهى مظنة تسامح الدائن وارتضاءه تأخر المدين فى التنفيذ، وعدم لحوق الضرر به من جراء ذلك، أو مظنة إمهاله للمدين مدة أخرى تالية للتنفيذ.
أما فى مرحلة ما بعد الإعذار، فإن المدين يلتزم بتعويض الدائن عن كل ضرر يلحق به نتيجة التأخر فى تنفيذ الالتزام، فتأخر المدين عن تنفيذ التزامه هو فى حد ذاته خطأ حيث أن سرعة التنفيذ واجب قانونى يترتب على احترام بنود العقد، الذى هو شريعة المتعاقدين( )، وبذلك تتوافر أركان المسئولية الثلاثة الموجبة للتعويض: خطأ المدين والمتمثل فى تأخره عن الوفاء بما فى عليه من التزام، والضرر الذى لحق بالدائن، بسبب هذا التأخير. بما يستوجب معه الحق فى التعويض عما لحقه من خسائر وأضرار بسبب ذلك.
فوائد التأخير :
فالدائن بذلك متى تحقق الضرر من التأخير فى التنفيذ أو عدم التنفيذ من الأساس فإنه يستحق التعويض بعد الإعذار، إلا إذا كان الدين محل الالتزام مبلغ من المال فلا يسرى التعويض القانونى المتمثل فى سريان الفوائد إلا من تاريخ رفع الدعوى( ) والمطالبة القضائية بها( )، حيث لا يكفى مجرد الإعذار فى هذه الحالة، وسند ذلك فى المادة 218 من القانون المدنى حيث نصت على: (لا يستحق التعويض إلا بعد إعذار المدين, ما لم ينص على غير ذلك)، وقد نصت المادة 226 مدنى على: (إذا كان محل الالتزام مبلغا من المال وكان معلوم المقدار وقت الطلب وتأخر المدين فى الوفاء به, كان ملزما بأن يدفع للدائن على سبيل التعويض عن التأخر فوائد قدرها أربعة فى المائة فى المسائل المدنية وخمسة فى المائة فى المسائل التجارية. وتسرى الفوائد من تاريخ المطالبة القضائية بها...).
كما نصت المادة 458/1 على أنه لا حق للبائع فى الفوائد إلا إذا أعذر المشترى: (لا حق للبائع فى الفوائد القانونية عن الثمن إلا إذا اعذر المشترى..).
ورغم تحريم الفوائد فى الشريعة الإسلامية والتى هى المصدر الأساسى للتشريع، إلا أنه لا يمكن القول بعدم سريانها فى ظل التشريع المدنى الحالى، حيث نص فى المادة 226 على سريانها من تاريخ رفع الدعوى كنوع من التشدد ومناهضة للربا قدر الإمكان، فجعل بدء سريانها من تاريخ أكثر تأخراً عن تاريخ الإعذار وهو تاريخ المطالبة القضائية بها، فمن الجائز أن لا يطالب الدائن بهذه الفوائد مكتفياً باقتضائه أصل الدين.
علاقة السببية :
وفى علاقة السببية إذا استطاع المدين أن يثبت أن تأخره فى التنفيذ بعد إعذاره إنما يرجع لسبب أجنبى عنه لا يد له فيه؛ كالقوة القاهرة - حدث غير متوقع ولا يمكن دفعه – أو لفعل الدائن نفسه، أدى إلى تأخره فى التنفيذ أو أدى إلى استحالة التنفيذ، فإنه بذلك ينأى عن انعقاد المسئولية التقصيرية أو العقدية فى ذمته فلا يكون هناك مجالاً للتعويض، حيث تفتقد المسئولية وقتها لأحد أركانها وهو علاقة السببية، فإن كان تأخر المدين هو الخطأ فإن الضرر الذى لحق بالدائن لم يكن نتيجة هذا التأخير بل إن هذا التأخير ذاته لم يقع من المدين بِمَلْكِهِ ولم يكن له يداً فيه، مما تنتفى معه علاقة السببية بين الضرر والخطأ.
رجوع الدائن عن إعذاره :
قد يحدث عملاً أن يقوم الدائن بتوجيه الإعذار إلى المدين فى تاريخ ما، ثم يقوم بعد ذلك فى تاريخ لاحق بتوجيه إعذار ثان إلى المدين يمنحه فيه مهلة للوفاء، مما يعنى معه أن إرادة الدائن قد انصرفت إلى إعطاء المدين مهلة أخرى، ونظرة إلى ميسرة، وحيث أن نفى النفى إثبات، فإن الإعذار هو نفى مظنة التسامح من الدائن فى أجل تنفيذ الالتزام، والمهلة التكميلية بعد الإعذار تكون نفى للإعذار، فهى بذلك تكون إثباتاً لمظنة تسامح الدائن فى وقت وفاء المدين بما على عاتقه من التزام. حيث أن العبرة هنا تكون بالإعذار الثانى وليس بالإعذار الأول.
الوفاء الجزئى :
قد يقوم الدائن بتوجيه الإعذار إلى المدين لتأخره فى التنفيذ، إعذاراً صحيحاً يعتد به القانون، يبادر على إثره المدين بالبدء فى تنفيذ ما عليه من التزام، إلا أنه قد يتوقف بعد هذا البدء عن تكملة تنفيذه لالتزامه، فى هذه الحالة لا يسرى التعويض منذ تاريخ الإعذار السابق على بدء التنفيذ، وإنما يتعين على الدائن أن يقوم بتوجيه إعذار آخر إلى المدين بعد توقفه عن الوفاء حتى يستحق التعويض عن تأخره أو متناعه عن المضى فى الوفاء بالتزامه( ).
رأى :
ذهب جانب من الفقه إلى القول بأنه: (لا يشترط لاستحقاق التعويض عن عدم التنفيذ سبق إعذار المدين، فى معنى أن الدائن سوف يستحق تعويضاً شاملاً عن كافة الأضرار الناتجة من عدم التنفيذ ولو لم يكن قد سبق له أن أعذر مدينه، ولا يسوغ لهذا الأخير أن يزعم بأنه لو كان قد أعذر من قِبَل الدائن برغبته فى التنفيذ لكان قد نفذ، فالواقع العملى أنه لم ينفذ حتى بالرغم من رفع الدعوى عليه) ( ).