الضوابط الدستورية لنصوص التجريم والعقاب
فى قضاء المحكمة الدستورية العليا
-الجزء الأول-
تأليف
الدكتور أشرف توفيق شمس الدين
أستاذ ورئيس قسم القانون الجنائى - وكيل كلية الحقوق بجامعة بنها
الحائز على جائزة الدولة التشجيعية فى القانون الجنائى
القاضى سابقاً
m
-نسبية فكرة التجريم: عرف المجتمع الإنسانى منذ نشأته أفعالاً أطلق عليها وصف الجرائم ، فمثل هذه الأفعال دخلت منذ وقت بعيد إلى دائرة الاهتمام العام. ويتوقف تحديد مضمون هذه الأفعال وقدرها على نظرة المجتمع والثقافة التى تسوده ، وهو ما يجعلها عرضة للتبدل والتغير فى مضمونها(1). ولذلك فإن مدلول "الفعل المجرم" يمكن أن يختلف بحسب زمان ومكان ومضمون النظام الاجتماعى السائد فى المجتمع ، وهو ما يعنى أن فكرة التجريم هى فكرة نسبية فما كان محلاً للتجريم اليوم فى مجتمع قد لا يكون كذلك غداً فى مجتمع آخر. وفكرة الضرر الاجتماعى بحسبانها معيار التجريم هى فكرة نسبية كذلك ، إذ تتوقف على نظرة كل مجتمع وما يسوده من قيم وثقافات(2). ويثور الخلاف دائما حول تحديد معيار التجريم الواجب إتباعه والذى يضمن سلامة تحديد القيم القانونية المسلم بها فى المجتمع ويحقق الأهداف التى ابتغاها الشارع(3). واختلال معيار التجريم يؤدى إلى نتيجة مؤداها أن القانون لم يعد يعبر عن القيم السائدة فى المجتمع تعبيراً صحيحاً(4). وعلى الرغم من نسبية فكرة التجريم ، فإنه يبقى لها مع ذلك أهميتها باعتبارها أهم الوسائل لتحقيق ضبط السلوك فى المجتمع ، كما أنها تتضمن حصراً للأفعال التى رأى الشارع جدارة تجريمها ، وتبين ماهيتها وتحدد الغرض من العقاب عليها(5).
- مدى حرية السلطة التشريعية فى مجال التجريم والعقاب: يتوقف تجريم فعل معين على مجموعة من الاعتبارات التى تسود كل مجتمع ، كما يتوقف هذا التجريم على نظرة الشارع فى هذه المجتمعات. فالتجريم فى حقيقة الأمر هو صدى لما يسود المجتمع من اعتبارات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية وغيرها. واختيار الشارع لتجريم فعل معين رأى تجريمه دون غيره هو أمر يخرج عن نطاق هذه الدراسة التى تقتصر على تحديد الضوابط والشروط التى يجب توافرها فى نصوص تجريم الفعل الذى يرى الشارع تجريمه والعقاب عليه، دون أن تمتد للبحث عن سبب هذا التجريم. وتفسير ذلك أن هناك مغايرة من حيث التقييد والإطلاق بين حق السلطة التشريعية فى اختيار الفعل المجرم ، وبين التزامها بضوابط تجريم هذا الفعل والعقاب عليه: فبينما تتسم سلطاتها فى انتقاء الفعل المجرم وتقدير عقوبته بسلطة تقديرية واسعة ؛ فإن هذه السلطة تكون مقيدة على نحو كبير فى التزام النص عليه بالضوابط التى أرساها الدستور. فالسلطة التشريعية تتمتع بسلطة تقديرية واسعة فى اختيار الأفعال التى ترى أنها تمس بحقوق ومصالح جديرة من وجهة نظرها بالحماية وفى تقدير عقوبتها كذلك ، وهو ما يجعل هذه السلطة بمنأى فى كثير من الأحيان عن الرقابة الدستورية. فلا تخضع السلطة التشريعية للرقابة الدستورية فيما تصدره من تشريعات إعمالاً لسلطتها التقديرية ، ما لم تخالف بها أهداف الدستور(6). ودور المحكمة الدستورية العليا فى استجلاء المخالفة لأهداف الدستور يفترض أن يكون هذا الإخلال واضحاً ظاهراً جلياً بحيث يكشف عن انتفاء الضرورة أو عدم التناسب فى التجريم والعقاب ، دون أن يحتاج الأمر إلى مراجعة السلطة التقديرية للشارع والتى تقوم على اعتبارات الملاءمة فى اختيار أفضل الوسائل لتحقيق المقاصد التى توخاها الدستور(7).
ويترتب على القاعدة السابقة نتيجة مهمة ، وهى أنه إذا كانت سلطة الشارع فى اختيار الفعل المجرم وتحديد عقوبته تتسم بالتقدير ؛ فإن سلطته فى النص عليه تتسم بالتقييد بوجوب الالتزام بالضوابط الدستورية فى التجريم والعقاب.
-أهمية الدراسة: تثير الدراسة التساؤل عن ماهية الضوابط التى يجب على الشارع الالتزام بها عند وضعه نصوص التجريم والعقاب؟ ، فإذا كانت سلطة الشارع التقديرية فى التدخل بالتجريم والعقاب تتسم بالاتساع ، فإن سلطته فى صياغة هذه النصوص ليست كذلك. وترجع أهمية الدراسة إلى عدة اعتبارات: فمن ناحية فإن الملاحظ هو ازدياد تدخل الشارع بالتجريم والعقاب فى الكثير من المسائل ، وهو ما يمكن أن نطلق عليه الإفراط فى التجريم والعقاب. وهذا المسلك لا يقتصر على القانون الوطنى فحسب ؛ بل إن التشريعات المقارنة قد شهدت توسعاً كبيراً فى مجال التجريم والعقاب. وكثرة تدخل الشارع بالتجريم توجب البحث عن الضوابط التى يجب عليه الالتزام بها عند استخدامه لهذه السلطة.
ومن ناحية ثانية فإن هذا التجريم والعقاب ينال من حقوق الأفراد وحرياتهم على نحو كبير ، ومن شأن عدم وجود ضوابط على سلطة الشارع أو عدم فاعليتها أن يهدد بالافتئات على هذه الحقوق ، وأن يجعل مركز الفرد ضعيفاً تجاه الدولة. ومن جهة أخرى فإن من شأن وجود هذه الضوابط أن تؤدى إلى تدعيم الثقة بين الحكام والحكومين: فالفرد يعلم أن هناك مجالاً محتجزاً لا تستطيع سلطة الدولة أن تتعداه أو أن تتجاوز نطاقه ، وأن هناك ضوابط مصدرها الدستور تتقيد بها سلطة الدولة. والدولة بمراعاة هذه الضوابط تكون قد كفلت احترام مواطنيها وأعملت مبدأ سيادة القانون.
ونصوص الدستور التى تتصل بأصول التجريم والعقاب تتسم فى حقيقتها بقلتها وعموميتها ، وبتعدد أوجه تفسيرها. ولذلك فإن دور المحكمة الدستورية العليا فى وضع ضوابط للتجريم والعقاب يتسم بأنه دور خلاق مبدع ، تجاوزت به المحكمة الإطار الضيق لنصوص الدستور، لتستلهم حكمة هذه النصوص ، وأرست قضاء رفيع المستوى عالجت به القصور التشريعى ووضعت سياحاً يحمى الحقوق والحريات. ولا نبالغ فى القول بأن دور المحكمة الدستورية العليا فى مصر يزيد كثيراً عن دور غيرها فى الأنظمة القانونية العريقة.
ويقع على عاتق هذه الدراسة استخلاص أهم الضوابط التى أرستها المحكمة الدستورية العليا والتى يتعين على الشارع أن يلتزم بها عند وضعه نصوص التجريم والعقاب ؛ وإلا صار النص منافياً للدستور.
- تقسيم الدراسة ومنهج البحث فيها:
قسمت الدراسة إلى ثلاثة فصول: يتناول الأول ضوابط النص على الركن المادى للجريمة ، وفى الثانى ضوابط النص على الركن المعنوى لها ، وفى الثالث ضوابط النص على العقوبة.
ومنهج الدراسة يجمع بين التأصيل والتحليل معاً: فهو قد أصل ضوابط التجريم والعقاب بحسب أركان الجريمة والعقوبة عليها ، وحاول استخلاص هذه الضوابط من خلال منهج استقرائى تحليلى لأحكام المحكمة الدستورية العليا. غير أن الدراسة حاولت أن تلقى الضوء أيضاً على نماذج مقارنة للرقابة الدستورية ، أبرزها المحكمة العليا الأمريكية. وقد حاولت الدراسة تطبيق الضوابط التى استخلصتها على نصوص تجريم سارية ، لتبين مدى التزام الشارع فيها بالضوابط الدستورية فى التجريم والعقاب ، وهو عمل فقهى يحتمل الخطأ والصواب ، قصد به بيان ما يمكن أن يسفر عنه تطبيق هذه الضوابط من نتائج.
الفصل الأول
الفعل المادى والدستور
- تقسيم: نتناول فى هذا الفصل بيان أهمية الركن المادى فى الجريمة ، ثم نبين الضوابط التى أرستها المحكمة الدستورية العليا فى شأن النص عليه ، وأخيراً أثر تطبيق هذه الضوابط على بعض نصوص التجريم، كل فى مبحث مستقل.
المبحث الأول
أهمية الفعل المادى وعناصره
- أهمية الفعل المادى: يهتم القانون الجنائى أساساً بالفعل المادى المرتكب ، ولذلك قيل إن "القانون الجنائى هو قانون أفعال" ؛ فإن انتفى وصف الفعل انتفى مبرر تدخل هذا القانون. لا شك فى أن القانون الجنائى يهتم كذلك بالجانى من خلال تقرير مدى جدارته بالعقاب وكيفية تحقيق أغراضه وقدر العقوبة الموقعة عليه وتنفيذها ؛ غير أنه مع ذلك فإن الفعل -لا الفاعل- هو الفكرة الرئيسية التى ينهض عليها القانون الجنائى فى الوقت الحاضر ، ذلك أن انتفاء وجود هذا الفعل يترتب عليه عدم جواز تطبيق أحكام القانون الجنائى(. ويقوم الشارع بتحديد الشروط التى يتطلبها فى الفعل محل التجريم ، والتى إن انتفت لأدى هذا إلى عدم جواز توقيع العقوبة على الجانى(9). ولا تقتصر أهمية الفعل فى مجال التجريم فحسب ؛ بل إن لها أهميتها كذلك فى نطاق قانون الإجراءات الجنائية ؛ إذ لا يجيز الشارع اتخاذ إجراءات تمس الحرية الشخصية ، إلا بافتراض سبق ارتكاب فعل مادى مجرم ، أما مجرد توافر الخطورة مجردة فإنها لا تصلح سبباً للمساس بهذه الحرية(10).
ومن المتفق عليه أن للجريمة -على الأقل-جانبان : مادى ومعنوى (11) ، والجانب المادى من الجريمة هو سلوك بشرى ظهر إلى العالم الخارجى له طبيعة موضوعية جسدية ، أما الجانب المعنوى فإنه يتميز بأنه أمر مضمر فى نفس الجانى وله طبيعة شخصية نفسية(12).
وعلى الرغم من أن مدلول الفعل المجرم ليس محل اتفاق فى الفقه والقضاء المقارنين ؛ إلا أنه من المتفق عليه أن كل جريمة تتطلب فعلاً مادياً (13). فالركن المادى ضرورة فى كل جريمة ، فلا جريمة بغير نشاط مادى(14) ، "فالفكرة الشريرة مهما كان رسوخها فى النفس ، والتصميم الإجرامى الجازم بسبق الإصرار ، لا تقوم بهما جريمة طالما بقيا مجرد ظواهر نفسية لم تتخذ سبيلها إلى التعبير المادى الخارج عن كيان صاحبها"(15). فالقانون الجنائى لا يحفل بالنوايا والأفكار حتى ولو قصد صاحبها بها ارتكاب جريمة ، وذلك ما لم يتم التعبير عنها بسلوك مادى(16). ويعنى هذا أن انتفاء صفة الفعل يؤدى إلى نفى الجريمة ولو توافر الركن المعنوى ، فلا جريمة بغير نشاط مادى ظهر إلى العالم الخارجى وقام الدليل عليه(17).
وترجع أهمية الركن المادى أيضاً إلى اتصاله بأسس التجريم والعقاب ، وبصيانة الحريات ، فضلاً عن اتصاله بأسس الإثبات الجنائى. فتجريم الفعل والعقاب عليه يجد علته فى أن هذا الفعل يتبلور فيه المساس بحق أو مصلحة لها أهمية اجتماعية ، وبغير الفعل فإن النظام الاجتماعى لم يصبه ضرر(18). وهذا المساس يعد واقعة مادية تعبر عن إثم وخطورة الجانى ، ومن ثم يعد الفعل أهم العناصر لتقدير هذه الخطورة. والنوايا والأفكار والرغبات مجردة لا تصلح لأن تكون محلاً للتجريم(19)؛ إذ لا تعطى معياراً واضحاً يمكن بمقتضاه تمييز المسئول جنائياً عن غيره من الأشخاص(20).
ويتصل الركن المادى أيضاً بالحريات العامة ، ذلك أن اشتراط ارتكاب الفعل المادى من شأنه أن يحصر سلطة الدولة فى العقاب فى مجال معقول ، وأن يصون الأفراد عن مؤاخذتهم عما انطوت عليه ضمائرهم وما جال بخواطرهم(21). فتطلب الركن المادى فى الجريمة من شأنه أن يكفل حماية الأفراد من تهديد سلطات الدولة لهم بالعقاب على ما اختلجت به أنفسهم(22). فمحاسبة الأفراد عن النوايا من شأنه أن يعصف بحقوق الأفراد وحرياتهم الخاصة ، وأن يمهد لقيام الدولة الاستبدادية التى تستبيح المساس بحريات الأفراد وأمنهم باتخاذ إجراءات التحرى والاستدلال التى تنال من هذه الحريات بدعوى مخالفتهم للقانون. كما يتيح لها أن تعيد اتهام الشخص أكثر من مرة ، دون أن يستطيع أن يتمسك بسابقة معاقبته عن هذه التهمة(23). كما أنه بفرض توافر قدر من الخطورة الإجرامية لمن تتوافر لديه النية الإجرامية فإن غياب الفعل المادى يجعل من الصعوبة التمييز بين هذه النية الإجرامية الجازمة وبين مجرد بعض الأوهام التى تجول فى نفس صاحبها(24).
والمعاقبة على النية الإجرامية المتجردة من الفعل المادى من شأنه أن يؤدى إلى اتساع نطاق تطبيق القانون الجنائى وإلى الإفراط فى التجريم لينال مجرد الحالة الذهنية التى تقوم فى نفس صاحبها ، وهو ما ينال أهداف القانون الجنائى ذاتها(25). فلا يكاد يوجد امرئ لم توسوس له نفسه بفكرة شريرة ، ومن شأن تجريم النوايا التى انطوت عليها النفس أن يتعارض مع الطبيعة النفسية التى طبع الإنسان عليها(26) ، بل أن من شأن تجريم النوايا والأفكار المجردة أن يكون كل شخص محلاً للعقاب عليها(27). والفعل المادى هو أداة التمييز بين الجرائم المختلفة والوقوف على طبيعتها ، وعلى العناصر الداخلة فيها(28).
ويتصل الركن المادى للجريمة بأسس الإثبات الجنائى : فإنه إذا كان لا جريمة بغير ركن مادى ؛ فإنه أيضاً لا عقوبة بغير حكم قضائى. والحكم القضائى الصادر بالإدانة يجب أن ينهض على أدلة تثبت وقوع الفعل المجرم ونسبته إلى مرتكبه ، وهو ما لا يتأتى بغير وجود مادى لهذا الفعل(29) ، على نحو يسهل على سلطات التحقيق والمحاكمة التحقق منه وإقامة الدليل عليه. أما محض الظواهر النفسية التى لم يعبر عنها مادياً ، فإنه يكون من العسير إن لم يكن من المستحيل إقامة الدليل عليها ، فلا يمكن العقاب على ما لا يعرف(30). فماديات الفعل هى التى تجعل من السهل الوقوف على حقيقة التهمة المسندة إلى المتهم ، وتكفل قدراً من الحماية من التهم الباطلة(31). ومن ناحية أخرى ، فإن من شأن المحاسبة على النوايا والأفكار أن تجعل من العسير على المتهم أن يدرأ التهمة عن نفسه(32). والفعل محل التجريم هو فى حقيقة الأمر واقعة مادية ظهرت إلى العالم الخارجى. ويتسع مدلول الواقعة ليشمل الفعل الإيجابى والفعل السلبى ، كما يتسع ليشمل ما يأتيه الجانى من أفعال غير عمدية متى كان بالإمكان تفاديها(33).
- العناصر التى ينصرف إليها مدلول الفعل المجرم :
ينصرف مدلول الفعل إلى النشاط المادى الذى يأتيه الجانى ، ومثال ذلك فعل الضرب ، كما قد ينصرف إلى النتيجة الضارة التى يريد الجانى تحقيقها متى كان تحقيق هذا النتيجة عنصراً فى تعريف الجريمة . وبذلك يجب التفرقة بين جرائم السلوك وجرائم النتيجة : ففى الأولى لا يقيم الشارع وزناً للنتيجة التى ترتبت على الفعل ، أما فى الثانية فإن اهتمام الشارع ينحصر أساساً فى النتيجة دون أن يعبأ بصورة الفعل الذى أفضى إلى هذه النتيجة(34) ، ومثال ذلك جريمة القتل ؛ فإزهاق روح المجنى عليه يدخل فى التعريف القانونى لجريمة القتل وهى النتيجة التى يرمى الشارع إلى الحيلولة دون وقوعها (35) ، ومن ثم كان متصوراً أن يساوى بين الأفعال المحدثة لهذه النتيجة ، وهو ما يؤدى إلى التوسع فى مدلول الفعل المحدث لهذه النتيجة. وقد ينصرف مدلول الفعل إلى عناصر أخرى كما هو الحال فى سن المجنى عليها فى جريمة هتك العرض ، متى كان الشارع قد استلزم هذا العنصر فى تعريف الجريمة(36) ، كما يدخل فى مدلول الفعل الظروف المختلفة (37). وإذا كان الأصل أن يقتصر الفعل على العناصر ذات الطبيعة المادية دون العناصر ذات الطبيعة الشخصية والتى تدخل فى نطاق الركن المعنوى ؛ إلا أن هذه القاعدة ليست مطلقة فقد يشتمل الركن المادى على عناصر ذات طبيعة معنوية لشخص آخر خلاف الجانى: فجريمة الاغتصاب على سبيل المثال تنطوى على غياب رضاء المجنى عليها بفعل الاتصال الجنسى غير المشروع ، وانتفاء الرضاء فى هذه الحالة لا يشكل عنصراً فى الركن المعنوى الذى يقتصر فقط على الجانى دون غيره من الأشخاص (38). ولبيان ما إذا كانت هذه العناصر عنصراً فى الفعل يجب الرجوع إلى نص التجريم (39). وقد يتطلب الشارع فى بعض الأحيان وقوع الفعل من شخص له صفة معينة أو على مجنى عليه له مثل هذه الصفة(40).
- مدلول الفعل محل التجريم فى الشريعة الإسلامية :
لا يتدخل الشارع الإسلامى بالعقاب على كل خطيئة أخلاقية، وعلة ذلك إن مثل هذا التجريم يؤدى إلى مساءلة الأفراد جنائيا على مجرد أفكار أو خلجات نفس ، وهو ما يؤدى إلى التنقيب عن القلوب (41) والتدخل فى الحياة الخاصة للأفراد. وأن ما يقترن بتجريم كل خطيئة أخلاقية من أضرار يكون أكثر من النفع الذى يعود من العقاب عليها. والشريعة الإسلامية راعت بذلك أن كشف أسرار الناس وانتهاك حرماتهم يتنافى مع الأخلاق. فالأخلاق تقضى بأن على الفرد أن يفعل كل ما فيه منفعة للمجتمع ولنفسه، ولكن كثيراً من الأفعال النافعة للمجتمع لا يمكن أن يأمر بها الشارع. بل إن هناك أعمالاً ضارة لا يمكن تجريمها وإن منعتها الأخلاق: فالكذب المجرد تحظره الأخلاق ولكن لا يمكن أن تمتد يد العقاب إليه إلا إذا اقترن بفعل معين، وادى إلى إهدار مصلحة محمية. ومنشأ هذه الصعوبة فى التعرف على الجرائم التى تجول فى النفس وصعوبة الوقوف عليها. وإذا كانت القاعدة السابقة تعد من الأصول العامة فى التجريم التى سادت سياسة التجريم فى الشريعة الإسلامية بصفة عامة، فالشريعة الإسلامية قد قررت أن الأفكار والخواطر التى تدور فى مخيلة الجانى ، مهما كانت خطورتها لا يمكن أن تكون محلاً للتجريم (42) وإن منعتها الأخلاق الإسلامية.
وسند ذلك قول النى صلى الله عليه وسلم "من هم بحسنة فلم يفعلها كتبت له حسنة، ومن هم بسيئة فلم يفعلها لم يكتب له شئ". وقوله "إن الله تعالى تجاوز لأمتى فيما وسوست او حدثت به نفسها ما لم تعمل به او تتكلم". وعلة هذا المبدأ هو الخشية من أن يكون من شأن محاسبة الناس على نواياهم التى لم يعبروا عنها بسلوك خارجى محسوس اجتماعياً العصف بحرياتهم. ولئن كان الشارع الإسلامى قد أمر بنفى المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء ، فهو لم يخرج عن القاعدة الأصولية سالفة الذكر، ذلك أن مثل هؤلاء قد نسب إليهم سلوك مادى ظهر إلى حيز الوجود وقام الدليل عليه (43) والعناصر المادية التى أقام عليها الشارع الإسلامى حكمه فى نفى المخنثين والمترجلات علته أن سلوك هؤلاء يدخل فى عداد جرائم الخطر .
المبحث الثانى
الضوابط الدستورية لتجريم الفعل
- الدستور والفعل المادى: إن النظام القانونى يجب أن تسوده مبدأ الوحدة ، فلا تتعارض نصوصه أو تتنافر فيما بينها ، ونصوص الدستور تساهم فى تحقيق الانسجام والترابط فى بنيان النظام القانونى(44). وقد يحمى القانون الجنائى حقوقاً يقررها الدستور ، وعلى العكس من ذلك فقد يرفع الدستور بعض القواعد الجنائية إلى مرتبة المبادئ الدستورية(45). وإذا كان القانون الجنائى قد قرر أهمية الفعل بحسبانه يرسم الحد الفاصل لتدخل الشارع بالتجريم ، فإن الدستور نص -حال تقريره لمبدأ عدم رجعية النصوص الجنائية على الماضى- على أنه لا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون (المادة 66 فى فقرتها الثانية). ومفاد ذلك أنه لا يصلح فى نظر الدستور للتجريم ما هو دون الفعل . وقد حرصت المحكمة الدستورية العليا على تأكيد هذه القاعدة بقولها : إن الدستور نص فى المادة 66 منه على أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون ، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لصدور القانون الذى ينص عليها ، وكان الدستور قد دل بهذه المادة على أن لكل جريمة ركناً مادياً لا قوام لها بغيره ، يتمثل أساساً فى فعل أو امتناع وقع بالمخالفة لنص عقابى مفصحاً بذلك عن أن ما يركن إليه القانون الجنائى ابتداء فى زواجره ونواهيه - هو مادية الفعل المؤاخذ على ارتكابه إيجابياً كان هذا الفعل أم سلبياً(46).
1- الصفة المادية الإرادية فى الفعل
إذا تجرد الفعل من صفته المادية الإرادية انتفى عنه وصف الفعل ، ولم يعد بذلك جديراً بالتجريم. وإذا كان القول السابق يبدو بديهياً ؛ إلا أنه أثار فى التطبيق الكثير من الصعوبات.
- تجريم الحالة الدالة على خطورة إجرامية: نظرت المدرسة الوضعية إلى الجانى باعتباره مصدر الخطورة على المجتمع ، فليس مصدر هذا الخطر الجريمة التى وقعت ؛ وإنما هى الشخصية الإجرامية بما تنطوى عليه من تهديد إلى العود للجريمة(47) ، وأنه يجب أن يتاح للمجتمع مكنة الدفاع عن نفسه وأن يؤاخذ الجانى إذا بدت منه بادرة تدل على خطورته الإجرامية ، ولو لم يرتكب فعلاً معيناً(48). وقد أثار تجريم "الحالة" خلافاً كبيراً فى الفقه المقارن : فجرائم الحالة Status Offense لا تنطوى فى حقيقتها على فعل غير مشروع -إيجابياً أو سلبياً -يرتبط بسلوك الشخص ، ومثال ذلك إدمان الخمر أو المخدرات أو التواجد فى حالة سكر فى مكان عام أو الاشتهار بارتكاب جرائم معينة(49). وتكمن الاعتراضات على تجريم "الحالة" فى أنها قد لا تنطوى على الصفة الإرادية التى يتعين توافرها فى الفعل المجرم ، فالجانى فيها قد لا يملك القدرة على تغيير هذه الحالة ، والنتيجة التى تترتب على عدم توافر هذه الصفة الإرادية هو انتفاء الفعل بمدلوله القانونى ، وهو ما يتنافى كذلك مع أمر الدستور الذى يحظر العقاب إلا على الأفعال المادية. ويضيف أنصار هذا الاتجاه حجة أخرى هى أن القانون الجنائى يهتم بما يفعله المرء لا بما هو عليه من حال. وأن من شأن الأخذ بتجريم الحالة أن يشجع أنصار الفكر الشمولى ، وأن ينال بالتجريم مجموعات من الأفراد تمثل أقليات غير مرغوب فيها فى المجتمع لأسباب ترجع إلى أعراقهم أو دينهم أو ثقافتهم أو توجهاتهم السياسية(50). كما أن الحالة لا تنطوى فى حقيقة الأمر على فعل مادى ملموس ، ومن ثم فإن تجريمها يخالف أسس التجريم والعقاب(51).
ويرى الرأى الآخر من الفقه أنه لا يتنافى مع فكرة الفعل محل التجريم أن يقوم الشارع بتجريم "مجرد حالة" كالتشرد والاشتباه ، أو "محض وضع " كالحيازة ، أو أن يعاقب على الاتفاق الجنائى أو التهديد ، وسند هذا الرأى أنه فى جميع هذه الحالات توجد ثمة عناصر مادية احتجزها الشارع ، وأقام بها الركن المادى للجريمة التى عاقب عليها . وعلى سبيل المثال فالحيازة هى سيطرة مادية على شئ ، وفى الاتفاق الجنائى أو التهديد عبر الجانى عن تصميمه الإجرامى بقول أو فعل أو إيماء(52). ويرى أنصار هذا الرأى إن هناك تطبيقاً هاماً لجرائم الحالة مجاله الجريمة المنظمة ، أو الانضمام إلى عضوية إحدى التنظيمات غير المشروعة أو تولى مركزاً بها ، ففى هذه الأحوال تبدو فكرة تقرير المسئولية عن ارتكاب فعل محدد أو امتناع صعبة التحقيق ، ويكون البديل لذلك هو إقامة دعائم هذه المسئولية على "الحالة الخطرة" وصلة الفرد بالتنظيم(53). وقد توسع بعض أنصار هذا الرأى إلى القول بأنه يجوز معاقبة من تثبت خطورته الإجرامية ولو لم يرتكب فعلاً يعد جريمة ، وذلك تأسيساً على أن الخطورة الإجرامية هى مجرد
فى قضاء المحكمة الدستورية العليا
-الجزء الأول-
تأليف
الدكتور أشرف توفيق شمس الدين
أستاذ ورئيس قسم القانون الجنائى - وكيل كلية الحقوق بجامعة بنها
الحائز على جائزة الدولة التشجيعية فى القانون الجنائى
القاضى سابقاً
m
-نسبية فكرة التجريم: عرف المجتمع الإنسانى منذ نشأته أفعالاً أطلق عليها وصف الجرائم ، فمثل هذه الأفعال دخلت منذ وقت بعيد إلى دائرة الاهتمام العام. ويتوقف تحديد مضمون هذه الأفعال وقدرها على نظرة المجتمع والثقافة التى تسوده ، وهو ما يجعلها عرضة للتبدل والتغير فى مضمونها(1). ولذلك فإن مدلول "الفعل المجرم" يمكن أن يختلف بحسب زمان ومكان ومضمون النظام الاجتماعى السائد فى المجتمع ، وهو ما يعنى أن فكرة التجريم هى فكرة نسبية فما كان محلاً للتجريم اليوم فى مجتمع قد لا يكون كذلك غداً فى مجتمع آخر. وفكرة الضرر الاجتماعى بحسبانها معيار التجريم هى فكرة نسبية كذلك ، إذ تتوقف على نظرة كل مجتمع وما يسوده من قيم وثقافات(2). ويثور الخلاف دائما حول تحديد معيار التجريم الواجب إتباعه والذى يضمن سلامة تحديد القيم القانونية المسلم بها فى المجتمع ويحقق الأهداف التى ابتغاها الشارع(3). واختلال معيار التجريم يؤدى إلى نتيجة مؤداها أن القانون لم يعد يعبر عن القيم السائدة فى المجتمع تعبيراً صحيحاً(4). وعلى الرغم من نسبية فكرة التجريم ، فإنه يبقى لها مع ذلك أهميتها باعتبارها أهم الوسائل لتحقيق ضبط السلوك فى المجتمع ، كما أنها تتضمن حصراً للأفعال التى رأى الشارع جدارة تجريمها ، وتبين ماهيتها وتحدد الغرض من العقاب عليها(5).
- مدى حرية السلطة التشريعية فى مجال التجريم والعقاب: يتوقف تجريم فعل معين على مجموعة من الاعتبارات التى تسود كل مجتمع ، كما يتوقف هذا التجريم على نظرة الشارع فى هذه المجتمعات. فالتجريم فى حقيقة الأمر هو صدى لما يسود المجتمع من اعتبارات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية وغيرها. واختيار الشارع لتجريم فعل معين رأى تجريمه دون غيره هو أمر يخرج عن نطاق هذه الدراسة التى تقتصر على تحديد الضوابط والشروط التى يجب توافرها فى نصوص تجريم الفعل الذى يرى الشارع تجريمه والعقاب عليه، دون أن تمتد للبحث عن سبب هذا التجريم. وتفسير ذلك أن هناك مغايرة من حيث التقييد والإطلاق بين حق السلطة التشريعية فى اختيار الفعل المجرم ، وبين التزامها بضوابط تجريم هذا الفعل والعقاب عليه: فبينما تتسم سلطاتها فى انتقاء الفعل المجرم وتقدير عقوبته بسلطة تقديرية واسعة ؛ فإن هذه السلطة تكون مقيدة على نحو كبير فى التزام النص عليه بالضوابط التى أرساها الدستور. فالسلطة التشريعية تتمتع بسلطة تقديرية واسعة فى اختيار الأفعال التى ترى أنها تمس بحقوق ومصالح جديرة من وجهة نظرها بالحماية وفى تقدير عقوبتها كذلك ، وهو ما يجعل هذه السلطة بمنأى فى كثير من الأحيان عن الرقابة الدستورية. فلا تخضع السلطة التشريعية للرقابة الدستورية فيما تصدره من تشريعات إعمالاً لسلطتها التقديرية ، ما لم تخالف بها أهداف الدستور(6). ودور المحكمة الدستورية العليا فى استجلاء المخالفة لأهداف الدستور يفترض أن يكون هذا الإخلال واضحاً ظاهراً جلياً بحيث يكشف عن انتفاء الضرورة أو عدم التناسب فى التجريم والعقاب ، دون أن يحتاج الأمر إلى مراجعة السلطة التقديرية للشارع والتى تقوم على اعتبارات الملاءمة فى اختيار أفضل الوسائل لتحقيق المقاصد التى توخاها الدستور(7).
ويترتب على القاعدة السابقة نتيجة مهمة ، وهى أنه إذا كانت سلطة الشارع فى اختيار الفعل المجرم وتحديد عقوبته تتسم بالتقدير ؛ فإن سلطته فى النص عليه تتسم بالتقييد بوجوب الالتزام بالضوابط الدستورية فى التجريم والعقاب.
-أهمية الدراسة: تثير الدراسة التساؤل عن ماهية الضوابط التى يجب على الشارع الالتزام بها عند وضعه نصوص التجريم والعقاب؟ ، فإذا كانت سلطة الشارع التقديرية فى التدخل بالتجريم والعقاب تتسم بالاتساع ، فإن سلطته فى صياغة هذه النصوص ليست كذلك. وترجع أهمية الدراسة إلى عدة اعتبارات: فمن ناحية فإن الملاحظ هو ازدياد تدخل الشارع بالتجريم والعقاب فى الكثير من المسائل ، وهو ما يمكن أن نطلق عليه الإفراط فى التجريم والعقاب. وهذا المسلك لا يقتصر على القانون الوطنى فحسب ؛ بل إن التشريعات المقارنة قد شهدت توسعاً كبيراً فى مجال التجريم والعقاب. وكثرة تدخل الشارع بالتجريم توجب البحث عن الضوابط التى يجب عليه الالتزام بها عند استخدامه لهذه السلطة.
ومن ناحية ثانية فإن هذا التجريم والعقاب ينال من حقوق الأفراد وحرياتهم على نحو كبير ، ومن شأن عدم وجود ضوابط على سلطة الشارع أو عدم فاعليتها أن يهدد بالافتئات على هذه الحقوق ، وأن يجعل مركز الفرد ضعيفاً تجاه الدولة. ومن جهة أخرى فإن من شأن وجود هذه الضوابط أن تؤدى إلى تدعيم الثقة بين الحكام والحكومين: فالفرد يعلم أن هناك مجالاً محتجزاً لا تستطيع سلطة الدولة أن تتعداه أو أن تتجاوز نطاقه ، وأن هناك ضوابط مصدرها الدستور تتقيد بها سلطة الدولة. والدولة بمراعاة هذه الضوابط تكون قد كفلت احترام مواطنيها وأعملت مبدأ سيادة القانون.
ونصوص الدستور التى تتصل بأصول التجريم والعقاب تتسم فى حقيقتها بقلتها وعموميتها ، وبتعدد أوجه تفسيرها. ولذلك فإن دور المحكمة الدستورية العليا فى وضع ضوابط للتجريم والعقاب يتسم بأنه دور خلاق مبدع ، تجاوزت به المحكمة الإطار الضيق لنصوص الدستور، لتستلهم حكمة هذه النصوص ، وأرست قضاء رفيع المستوى عالجت به القصور التشريعى ووضعت سياحاً يحمى الحقوق والحريات. ولا نبالغ فى القول بأن دور المحكمة الدستورية العليا فى مصر يزيد كثيراً عن دور غيرها فى الأنظمة القانونية العريقة.
ويقع على عاتق هذه الدراسة استخلاص أهم الضوابط التى أرستها المحكمة الدستورية العليا والتى يتعين على الشارع أن يلتزم بها عند وضعه نصوص التجريم والعقاب ؛ وإلا صار النص منافياً للدستور.
- تقسيم الدراسة ومنهج البحث فيها:
قسمت الدراسة إلى ثلاثة فصول: يتناول الأول ضوابط النص على الركن المادى للجريمة ، وفى الثانى ضوابط النص على الركن المعنوى لها ، وفى الثالث ضوابط النص على العقوبة.
ومنهج الدراسة يجمع بين التأصيل والتحليل معاً: فهو قد أصل ضوابط التجريم والعقاب بحسب أركان الجريمة والعقوبة عليها ، وحاول استخلاص هذه الضوابط من خلال منهج استقرائى تحليلى لأحكام المحكمة الدستورية العليا. غير أن الدراسة حاولت أن تلقى الضوء أيضاً على نماذج مقارنة للرقابة الدستورية ، أبرزها المحكمة العليا الأمريكية. وقد حاولت الدراسة تطبيق الضوابط التى استخلصتها على نصوص تجريم سارية ، لتبين مدى التزام الشارع فيها بالضوابط الدستورية فى التجريم والعقاب ، وهو عمل فقهى يحتمل الخطأ والصواب ، قصد به بيان ما يمكن أن يسفر عنه تطبيق هذه الضوابط من نتائج.
الفصل الأول
الفعل المادى والدستور
- تقسيم: نتناول فى هذا الفصل بيان أهمية الركن المادى فى الجريمة ، ثم نبين الضوابط التى أرستها المحكمة الدستورية العليا فى شأن النص عليه ، وأخيراً أثر تطبيق هذه الضوابط على بعض نصوص التجريم، كل فى مبحث مستقل.
المبحث الأول
أهمية الفعل المادى وعناصره
- أهمية الفعل المادى: يهتم القانون الجنائى أساساً بالفعل المادى المرتكب ، ولذلك قيل إن "القانون الجنائى هو قانون أفعال" ؛ فإن انتفى وصف الفعل انتفى مبرر تدخل هذا القانون. لا شك فى أن القانون الجنائى يهتم كذلك بالجانى من خلال تقرير مدى جدارته بالعقاب وكيفية تحقيق أغراضه وقدر العقوبة الموقعة عليه وتنفيذها ؛ غير أنه مع ذلك فإن الفعل -لا الفاعل- هو الفكرة الرئيسية التى ينهض عليها القانون الجنائى فى الوقت الحاضر ، ذلك أن انتفاء وجود هذا الفعل يترتب عليه عدم جواز تطبيق أحكام القانون الجنائى(. ويقوم الشارع بتحديد الشروط التى يتطلبها فى الفعل محل التجريم ، والتى إن انتفت لأدى هذا إلى عدم جواز توقيع العقوبة على الجانى(9). ولا تقتصر أهمية الفعل فى مجال التجريم فحسب ؛ بل إن لها أهميتها كذلك فى نطاق قانون الإجراءات الجنائية ؛ إذ لا يجيز الشارع اتخاذ إجراءات تمس الحرية الشخصية ، إلا بافتراض سبق ارتكاب فعل مادى مجرم ، أما مجرد توافر الخطورة مجردة فإنها لا تصلح سبباً للمساس بهذه الحرية(10).
ومن المتفق عليه أن للجريمة -على الأقل-جانبان : مادى ومعنوى (11) ، والجانب المادى من الجريمة هو سلوك بشرى ظهر إلى العالم الخارجى له طبيعة موضوعية جسدية ، أما الجانب المعنوى فإنه يتميز بأنه أمر مضمر فى نفس الجانى وله طبيعة شخصية نفسية(12).
وعلى الرغم من أن مدلول الفعل المجرم ليس محل اتفاق فى الفقه والقضاء المقارنين ؛ إلا أنه من المتفق عليه أن كل جريمة تتطلب فعلاً مادياً (13). فالركن المادى ضرورة فى كل جريمة ، فلا جريمة بغير نشاط مادى(14) ، "فالفكرة الشريرة مهما كان رسوخها فى النفس ، والتصميم الإجرامى الجازم بسبق الإصرار ، لا تقوم بهما جريمة طالما بقيا مجرد ظواهر نفسية لم تتخذ سبيلها إلى التعبير المادى الخارج عن كيان صاحبها"(15). فالقانون الجنائى لا يحفل بالنوايا والأفكار حتى ولو قصد صاحبها بها ارتكاب جريمة ، وذلك ما لم يتم التعبير عنها بسلوك مادى(16). ويعنى هذا أن انتفاء صفة الفعل يؤدى إلى نفى الجريمة ولو توافر الركن المعنوى ، فلا جريمة بغير نشاط مادى ظهر إلى العالم الخارجى وقام الدليل عليه(17).
وترجع أهمية الركن المادى أيضاً إلى اتصاله بأسس التجريم والعقاب ، وبصيانة الحريات ، فضلاً عن اتصاله بأسس الإثبات الجنائى. فتجريم الفعل والعقاب عليه يجد علته فى أن هذا الفعل يتبلور فيه المساس بحق أو مصلحة لها أهمية اجتماعية ، وبغير الفعل فإن النظام الاجتماعى لم يصبه ضرر(18). وهذا المساس يعد واقعة مادية تعبر عن إثم وخطورة الجانى ، ومن ثم يعد الفعل أهم العناصر لتقدير هذه الخطورة. والنوايا والأفكار والرغبات مجردة لا تصلح لأن تكون محلاً للتجريم(19)؛ إذ لا تعطى معياراً واضحاً يمكن بمقتضاه تمييز المسئول جنائياً عن غيره من الأشخاص(20).
ويتصل الركن المادى أيضاً بالحريات العامة ، ذلك أن اشتراط ارتكاب الفعل المادى من شأنه أن يحصر سلطة الدولة فى العقاب فى مجال معقول ، وأن يصون الأفراد عن مؤاخذتهم عما انطوت عليه ضمائرهم وما جال بخواطرهم(21). فتطلب الركن المادى فى الجريمة من شأنه أن يكفل حماية الأفراد من تهديد سلطات الدولة لهم بالعقاب على ما اختلجت به أنفسهم(22). فمحاسبة الأفراد عن النوايا من شأنه أن يعصف بحقوق الأفراد وحرياتهم الخاصة ، وأن يمهد لقيام الدولة الاستبدادية التى تستبيح المساس بحريات الأفراد وأمنهم باتخاذ إجراءات التحرى والاستدلال التى تنال من هذه الحريات بدعوى مخالفتهم للقانون. كما يتيح لها أن تعيد اتهام الشخص أكثر من مرة ، دون أن يستطيع أن يتمسك بسابقة معاقبته عن هذه التهمة(23). كما أنه بفرض توافر قدر من الخطورة الإجرامية لمن تتوافر لديه النية الإجرامية فإن غياب الفعل المادى يجعل من الصعوبة التمييز بين هذه النية الإجرامية الجازمة وبين مجرد بعض الأوهام التى تجول فى نفس صاحبها(24).
والمعاقبة على النية الإجرامية المتجردة من الفعل المادى من شأنه أن يؤدى إلى اتساع نطاق تطبيق القانون الجنائى وإلى الإفراط فى التجريم لينال مجرد الحالة الذهنية التى تقوم فى نفس صاحبها ، وهو ما ينال أهداف القانون الجنائى ذاتها(25). فلا يكاد يوجد امرئ لم توسوس له نفسه بفكرة شريرة ، ومن شأن تجريم النوايا التى انطوت عليها النفس أن يتعارض مع الطبيعة النفسية التى طبع الإنسان عليها(26) ، بل أن من شأن تجريم النوايا والأفكار المجردة أن يكون كل شخص محلاً للعقاب عليها(27). والفعل المادى هو أداة التمييز بين الجرائم المختلفة والوقوف على طبيعتها ، وعلى العناصر الداخلة فيها(28).
ويتصل الركن المادى للجريمة بأسس الإثبات الجنائى : فإنه إذا كان لا جريمة بغير ركن مادى ؛ فإنه أيضاً لا عقوبة بغير حكم قضائى. والحكم القضائى الصادر بالإدانة يجب أن ينهض على أدلة تثبت وقوع الفعل المجرم ونسبته إلى مرتكبه ، وهو ما لا يتأتى بغير وجود مادى لهذا الفعل(29) ، على نحو يسهل على سلطات التحقيق والمحاكمة التحقق منه وإقامة الدليل عليه. أما محض الظواهر النفسية التى لم يعبر عنها مادياً ، فإنه يكون من العسير إن لم يكن من المستحيل إقامة الدليل عليها ، فلا يمكن العقاب على ما لا يعرف(30). فماديات الفعل هى التى تجعل من السهل الوقوف على حقيقة التهمة المسندة إلى المتهم ، وتكفل قدراً من الحماية من التهم الباطلة(31). ومن ناحية أخرى ، فإن من شأن المحاسبة على النوايا والأفكار أن تجعل من العسير على المتهم أن يدرأ التهمة عن نفسه(32). والفعل محل التجريم هو فى حقيقة الأمر واقعة مادية ظهرت إلى العالم الخارجى. ويتسع مدلول الواقعة ليشمل الفعل الإيجابى والفعل السلبى ، كما يتسع ليشمل ما يأتيه الجانى من أفعال غير عمدية متى كان بالإمكان تفاديها(33).
- العناصر التى ينصرف إليها مدلول الفعل المجرم :
ينصرف مدلول الفعل إلى النشاط المادى الذى يأتيه الجانى ، ومثال ذلك فعل الضرب ، كما قد ينصرف إلى النتيجة الضارة التى يريد الجانى تحقيقها متى كان تحقيق هذا النتيجة عنصراً فى تعريف الجريمة . وبذلك يجب التفرقة بين جرائم السلوك وجرائم النتيجة : ففى الأولى لا يقيم الشارع وزناً للنتيجة التى ترتبت على الفعل ، أما فى الثانية فإن اهتمام الشارع ينحصر أساساً فى النتيجة دون أن يعبأ بصورة الفعل الذى أفضى إلى هذه النتيجة(34) ، ومثال ذلك جريمة القتل ؛ فإزهاق روح المجنى عليه يدخل فى التعريف القانونى لجريمة القتل وهى النتيجة التى يرمى الشارع إلى الحيلولة دون وقوعها (35) ، ومن ثم كان متصوراً أن يساوى بين الأفعال المحدثة لهذه النتيجة ، وهو ما يؤدى إلى التوسع فى مدلول الفعل المحدث لهذه النتيجة. وقد ينصرف مدلول الفعل إلى عناصر أخرى كما هو الحال فى سن المجنى عليها فى جريمة هتك العرض ، متى كان الشارع قد استلزم هذا العنصر فى تعريف الجريمة(36) ، كما يدخل فى مدلول الفعل الظروف المختلفة (37). وإذا كان الأصل أن يقتصر الفعل على العناصر ذات الطبيعة المادية دون العناصر ذات الطبيعة الشخصية والتى تدخل فى نطاق الركن المعنوى ؛ إلا أن هذه القاعدة ليست مطلقة فقد يشتمل الركن المادى على عناصر ذات طبيعة معنوية لشخص آخر خلاف الجانى: فجريمة الاغتصاب على سبيل المثال تنطوى على غياب رضاء المجنى عليها بفعل الاتصال الجنسى غير المشروع ، وانتفاء الرضاء فى هذه الحالة لا يشكل عنصراً فى الركن المعنوى الذى يقتصر فقط على الجانى دون غيره من الأشخاص (38). ولبيان ما إذا كانت هذه العناصر عنصراً فى الفعل يجب الرجوع إلى نص التجريم (39). وقد يتطلب الشارع فى بعض الأحيان وقوع الفعل من شخص له صفة معينة أو على مجنى عليه له مثل هذه الصفة(40).
- مدلول الفعل محل التجريم فى الشريعة الإسلامية :
لا يتدخل الشارع الإسلامى بالعقاب على كل خطيئة أخلاقية، وعلة ذلك إن مثل هذا التجريم يؤدى إلى مساءلة الأفراد جنائيا على مجرد أفكار أو خلجات نفس ، وهو ما يؤدى إلى التنقيب عن القلوب (41) والتدخل فى الحياة الخاصة للأفراد. وأن ما يقترن بتجريم كل خطيئة أخلاقية من أضرار يكون أكثر من النفع الذى يعود من العقاب عليها. والشريعة الإسلامية راعت بذلك أن كشف أسرار الناس وانتهاك حرماتهم يتنافى مع الأخلاق. فالأخلاق تقضى بأن على الفرد أن يفعل كل ما فيه منفعة للمجتمع ولنفسه، ولكن كثيراً من الأفعال النافعة للمجتمع لا يمكن أن يأمر بها الشارع. بل إن هناك أعمالاً ضارة لا يمكن تجريمها وإن منعتها الأخلاق: فالكذب المجرد تحظره الأخلاق ولكن لا يمكن أن تمتد يد العقاب إليه إلا إذا اقترن بفعل معين، وادى إلى إهدار مصلحة محمية. ومنشأ هذه الصعوبة فى التعرف على الجرائم التى تجول فى النفس وصعوبة الوقوف عليها. وإذا كانت القاعدة السابقة تعد من الأصول العامة فى التجريم التى سادت سياسة التجريم فى الشريعة الإسلامية بصفة عامة، فالشريعة الإسلامية قد قررت أن الأفكار والخواطر التى تدور فى مخيلة الجانى ، مهما كانت خطورتها لا يمكن أن تكون محلاً للتجريم (42) وإن منعتها الأخلاق الإسلامية.
وسند ذلك قول النى صلى الله عليه وسلم "من هم بحسنة فلم يفعلها كتبت له حسنة، ومن هم بسيئة فلم يفعلها لم يكتب له شئ". وقوله "إن الله تعالى تجاوز لأمتى فيما وسوست او حدثت به نفسها ما لم تعمل به او تتكلم". وعلة هذا المبدأ هو الخشية من أن يكون من شأن محاسبة الناس على نواياهم التى لم يعبروا عنها بسلوك خارجى محسوس اجتماعياً العصف بحرياتهم. ولئن كان الشارع الإسلامى قد أمر بنفى المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء ، فهو لم يخرج عن القاعدة الأصولية سالفة الذكر، ذلك أن مثل هؤلاء قد نسب إليهم سلوك مادى ظهر إلى حيز الوجود وقام الدليل عليه (43) والعناصر المادية التى أقام عليها الشارع الإسلامى حكمه فى نفى المخنثين والمترجلات علته أن سلوك هؤلاء يدخل فى عداد جرائم الخطر .
المبحث الثانى
الضوابط الدستورية لتجريم الفعل
- الدستور والفعل المادى: إن النظام القانونى يجب أن تسوده مبدأ الوحدة ، فلا تتعارض نصوصه أو تتنافر فيما بينها ، ونصوص الدستور تساهم فى تحقيق الانسجام والترابط فى بنيان النظام القانونى(44). وقد يحمى القانون الجنائى حقوقاً يقررها الدستور ، وعلى العكس من ذلك فقد يرفع الدستور بعض القواعد الجنائية إلى مرتبة المبادئ الدستورية(45). وإذا كان القانون الجنائى قد قرر أهمية الفعل بحسبانه يرسم الحد الفاصل لتدخل الشارع بالتجريم ، فإن الدستور نص -حال تقريره لمبدأ عدم رجعية النصوص الجنائية على الماضى- على أنه لا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون (المادة 66 فى فقرتها الثانية). ومفاد ذلك أنه لا يصلح فى نظر الدستور للتجريم ما هو دون الفعل . وقد حرصت المحكمة الدستورية العليا على تأكيد هذه القاعدة بقولها : إن الدستور نص فى المادة 66 منه على أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون ، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لصدور القانون الذى ينص عليها ، وكان الدستور قد دل بهذه المادة على أن لكل جريمة ركناً مادياً لا قوام لها بغيره ، يتمثل أساساً فى فعل أو امتناع وقع بالمخالفة لنص عقابى مفصحاً بذلك عن أن ما يركن إليه القانون الجنائى ابتداء فى زواجره ونواهيه - هو مادية الفعل المؤاخذ على ارتكابه إيجابياً كان هذا الفعل أم سلبياً(46).
1- الصفة المادية الإرادية فى الفعل
إذا تجرد الفعل من صفته المادية الإرادية انتفى عنه وصف الفعل ، ولم يعد بذلك جديراً بالتجريم. وإذا كان القول السابق يبدو بديهياً ؛ إلا أنه أثار فى التطبيق الكثير من الصعوبات.
- تجريم الحالة الدالة على خطورة إجرامية: نظرت المدرسة الوضعية إلى الجانى باعتباره مصدر الخطورة على المجتمع ، فليس مصدر هذا الخطر الجريمة التى وقعت ؛ وإنما هى الشخصية الإجرامية بما تنطوى عليه من تهديد إلى العود للجريمة(47) ، وأنه يجب أن يتاح للمجتمع مكنة الدفاع عن نفسه وأن يؤاخذ الجانى إذا بدت منه بادرة تدل على خطورته الإجرامية ، ولو لم يرتكب فعلاً معيناً(48). وقد أثار تجريم "الحالة" خلافاً كبيراً فى الفقه المقارن : فجرائم الحالة Status Offense لا تنطوى فى حقيقتها على فعل غير مشروع -إيجابياً أو سلبياً -يرتبط بسلوك الشخص ، ومثال ذلك إدمان الخمر أو المخدرات أو التواجد فى حالة سكر فى مكان عام أو الاشتهار بارتكاب جرائم معينة(49). وتكمن الاعتراضات على تجريم "الحالة" فى أنها قد لا تنطوى على الصفة الإرادية التى يتعين توافرها فى الفعل المجرم ، فالجانى فيها قد لا يملك القدرة على تغيير هذه الحالة ، والنتيجة التى تترتب على عدم توافر هذه الصفة الإرادية هو انتفاء الفعل بمدلوله القانونى ، وهو ما يتنافى كذلك مع أمر الدستور الذى يحظر العقاب إلا على الأفعال المادية. ويضيف أنصار هذا الاتجاه حجة أخرى هى أن القانون الجنائى يهتم بما يفعله المرء لا بما هو عليه من حال. وأن من شأن الأخذ بتجريم الحالة أن يشجع أنصار الفكر الشمولى ، وأن ينال بالتجريم مجموعات من الأفراد تمثل أقليات غير مرغوب فيها فى المجتمع لأسباب ترجع إلى أعراقهم أو دينهم أو ثقافتهم أو توجهاتهم السياسية(50). كما أن الحالة لا تنطوى فى حقيقة الأمر على فعل مادى ملموس ، ومن ثم فإن تجريمها يخالف أسس التجريم والعقاب(51).
ويرى الرأى الآخر من الفقه أنه لا يتنافى مع فكرة الفعل محل التجريم أن يقوم الشارع بتجريم "مجرد حالة" كالتشرد والاشتباه ، أو "محض وضع " كالحيازة ، أو أن يعاقب على الاتفاق الجنائى أو التهديد ، وسند هذا الرأى أنه فى جميع هذه الحالات توجد ثمة عناصر مادية احتجزها الشارع ، وأقام بها الركن المادى للجريمة التى عاقب عليها . وعلى سبيل المثال فالحيازة هى سيطرة مادية على شئ ، وفى الاتفاق الجنائى أو التهديد عبر الجانى عن تصميمه الإجرامى بقول أو فعل أو إيماء(52). ويرى أنصار هذا الرأى إن هناك تطبيقاً هاماً لجرائم الحالة مجاله الجريمة المنظمة ، أو الانضمام إلى عضوية إحدى التنظيمات غير المشروعة أو تولى مركزاً بها ، ففى هذه الأحوال تبدو فكرة تقرير المسئولية عن ارتكاب فعل محدد أو امتناع صعبة التحقيق ، ويكون البديل لذلك هو إقامة دعائم هذه المسئولية على "الحالة الخطرة" وصلة الفرد بالتنظيم(53). وقد توسع بعض أنصار هذا الرأى إلى القول بأنه يجوز معاقبة من تثبت خطورته الإجرامية ولو لم يرتكب فعلاً يعد جريمة ، وذلك تأسيساً على أن الخطورة الإجرامية هى مجرد