الذين سمحت لهم ضمائرهم وهانت عليهم مصلحة الأوطان فصوبوا سهامهم المسمومة إلى المحكمة الدستورية العليا، على مرأى ومسمع من الدنيا كلها خدمة لمصالح خاصة زائلة وتصفية لأحقاد وحسابات شخصية فى هجمة ضارية شرسة ظالمة يبتغون منها تشويه سجلها الناصع الذى يسطع بالعدل، وحماية الحقوق والحريات، ودرء الظلم عن الشعب المصرى متوسلين فى ذلك بإطلاق الاتهامات الكاذبة والافتراءات الساقطة وتلطيخ سمعة المحكمة وقضاتها فى الأوحال وإهالة التراب على أحكامها، والزعم السقيم بأن المحكمة كانت أداة طيعة لينة سهلة المقادة فى يد الحاكم يستخدمها وقتما يشاء فى تحقيق مآربه وأهوائه وقهر خصومه، وغير ذلك مما نثره غبار هذه الادعاءات ونشره من مطاعن الذين صنعوا هذا فى غيبة من الأمانة والشرف والموضوعية والإحساس بالمسؤولية، لم ينتبهوا إلى أن قذائفهم قد انحرفت عن مسارها وأنها لم تصب المحكمة الدستورية وقضاتها فقط بل إن سهامهم قد انغرست فى قلب الجسد الأغلى والأعز فى مصر، الكيان الذى يحتضن المحكمة الدستورية فى جزء منه مع بقية جهات القضاء، ونعنى به صرح العدالة الذى ظل طودا شامخا عاليا حصينا فى ربوع هذا الوطن على مر السنين.
فماذا يربح الفاعلون حين يفلحون فى هز ثقة الشعب وفقد إيمانه بقضائه؟ وماذا - يا ترى - يكسبون حين تسقط آخر قلاع العدل والحق، والحرية تحت نير الافتراء والتجريح والتطاول بغير حق أو سند.
المحكمة الدستورية العليا هى أحد الأجنحة الرئيسية للعدالة فى القضاء المصرى، وعندما تسقط فإن قيمة العدل تختل وتترنح وتتصدع كثيرا وعميقا، ويسقط معها الوطن كله.
وماذا يفيد وقتها هؤلاء الذين شوهوا القضاء المصرى فى عيون العالمين ومسخوا صورته وسيرته وحطوا من قدره ومكانته، ذلك القضاء الذى شهد له العالم باستقلاله، واستقامته، وشموخ قامته.
الذين تفجرت فيهم روح الشر والتدمير والعدوان، فانجرفوا إلى الهجوم على المحكمة الدستورية، ورميها بالباطل، وربما لم يقرأ واحد منهم حرفا من تاريخها، إلى هؤلاء وإلى غيرهم ممن يريدون أن يعرفوا نوجز فى سطور قليلة جزءا من هذا التاريخ لعلهم يعون ويعقلون.
حين اتجهت مصر فى فترة من تاريخها إلى تنظيم الرقابة على دستورية القوانين، بعد أن تنازع الاختصاص بها أكثر من جهة قضائية وفى 31 / 8 / 1969 صدر القانون رقم 81 لسنة 1969 بإنشاء المحكمة العليا التى ناط القانون بها وحدها الرقابة على دستورية القوانين، كما نص على وجوب نشر الأحكام الصادرة منها فى الجريدة الرسمية، ثم صدر قانون الإجراءات والرسوم أمام المحكمة العليا بالقانون رقم 22 لسنة 1970 ونص على أن تكون أحكامها ملزمة لجميع جهات القضاء، وأشارت المذكرة الإيضاحية لقانون إنشاء المحكمة العليا إلى أن المشروع قصر ولاية الفصل فى دستورية القوانين على المحكمة العليا دون سواها حتى لا يترك البت فى مسألة على هذا القدر من الخطورة للمحاكم على مختلف مستوياتها حسبما جرى عليها العرف القضائى وحتى لا تتباين وجوه الرأى فيها.
ومع إعلان دستور 1971 تضمنت نصوصه إنشاء المحكمة الدستورية العليا لتتولى، حسبما نصت المادة 175 منه دون غيرها الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح وتتولى تفسير النصوص التشريعية، وذلك كله على الوجه المبين بالقانون ونصت المادة 177 منه على أن أعضاء المحكمة الدستورية العليا غير قابلين للعزل وتتولى المحكمة مساءلة أعضائها على الوجه المبين بالقانون، وإعمالا لأحكام الدستور صدر القانون رقم 48 لسنة 1979 بإصدار قانون المحكمة الدستورية العليا، وبدأت المحكمة عملها فى ظله.
وبصدور القانون الخاص بإنشاء المحكمة فى عام 1979 أضيف إليها من اللحظة الأولى لميلادها رصيد ما أنجزته المحكمة العليا فى السنوات العشر السابقة من خبرة فنية رفيعة فى مجال الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح.
رحلة طويلة للقضاء الدستورى قطعتها مصر منذ عام 1969 حتى الآن، وخلال دروب هذه الرحلة كان صرحها القضائى يزداد ارتفاعا وشموخا، مما أرسى تنظيما متطورا للرقابة القضائية على دستورية القوانين وحصد أداء متميزا مرموقا فى ترسيخ السوابق القضائية العريقة والأحكام المستقرة التى اكتسبت حجية مطلقة، وهذه وتلك هى المعين الذى لا ينضب والذى مازالت المحكمة الدستورية تنهل من منابعه.
خلال هذه السنوات فصلت المحكمة العليا ومن بعدها المحكمة الدستورية العليا فى 4385 دعوى دستورية، 959 دعوى تنازع اختصاص وتناقض أحكام، 72 طلب تفسير مقدمة من وزير العدل بناء على طلب رئيس مجلس الوزراء أو رئيس مجلس الشعب أو المجلس الأعلى للهيئات القضائية، كما تتولى المحكمة مباشرة الرقابة القضائية السابقة طبقا للتعديل الدستورى الذى أدخل على دستور 1971 السابق مايو 2005 على خمسة مشروعات قوانين متعلقة بانتخابات رئاسة الجمهورية.
وضمن الدعاوى الدستورية التى فصلت فيها المحكمة فى الفترة الماضية 356 قضية حكمت فيها بعدم دستورية النصوص التشريعية المطعون فيها بما مؤداه أن تلك النصوص قد تم إعدامها أو أنها قد ولدت ميتة لعوار أصابها بسبب مخالفتها لحكم الدستور، وفى جملة أخرى فإن مفاد القضاء بعدم دستورية نص تشريعى ميلاد وضع قانونى جديد مستفاد من إلغاء النص القديم بعد الحكم بعدم دستوريته ويكشف حجم النصوص التشريعية الذى دمغته المحكمة فى أحكامها بعدم الدستورية عن ضعف الأداء التشريعى للمجالس النيابية المتعاقبة مما أوقع هذا الكم من التشريعات فى حمأة مخالفة الدستور.
الأحكام التى صدرت بعدم الدستورية تناولت مختلف مجالات الحياة الأساسية فى مصر: الأحوال الشخصية، الإيجارات، المسائل التجارية - الضرائب - الجمارك - النقابات - المعاشات - التأمين الاجتماعى - عمل المرأة - الإجراءات الجنائية والعقوبات - حرية إصدار الصحف - الانتخابات - السلطة القضائية - الأحزاب - مباشرة الحقوق السياسية - الجامعات - أعمال البناء، وعشرات المجالات الأخرى.
أحكام عدم الدستورية كانت امتثالا لأحكام الدستور والتزاما بنصوصه، بينما توزعت أحكام الدعاوى الدستورية الباقية ما بين الرفض وعدم القبول.
وربما يكون مناسبا فى هذا السياق أن نوقد بعض ومضات خاطفة لعلها تنير للمبصرين الذين يريدون أن يروا الحقيقة، وتداوى من فى قلبه مرض ليبرأ من أسقامه، ونستعرض بعض موضوعات هذه الأحكام.
عدم دستورية القرار بقانون رقم 72 لسنة 1963 الخاص بتأميم بعض الشركات والمنشآت، عدم دستورية القرار بقانون رقم 134 لسنة 1964 الخاص بالتعويض عن الممتلكات المؤممة، عدم دستورية قانون مباشرة الحقوق السياسية الذى أباح تعيين غير القضاة فى الإشراف على الانتخابات، عدم دستورية قانون الجامعات، عدم دستورية قانون الجمعيات، عدم دستورية قانون الإيجارات، عدم دستورية فرض ضريبة على مرتبات العاملين المصريين فى الخارج، عدم دستورية قانون المحاماة، عدم دستورية قانون التأمين الاجتماعى، عدم دستورية قانون النقابات العمالية، عدم دستورية ما نص عليه قانون العقوبات من معاقبة رئيس التحرير بصفته فاعلا أصليا للجرائم التى ترتبك بواسطة صحيفته، عدم دستورية المادة 48 من قانون العقوبات التى تؤثم الاتفاق الجنائى، عدم دستورية قوانين الاشتباه، عدم دستورية اشتراط موافقة مجلس الوزراء لإصدار الصحف، عدم دستورية قانون تنظيم الجامعات فيما تضمنه من قيد زمنى لإجازة مرافقة الزوج، عدم دستورية قانون الأحزاب السياسية بشأن مسؤولية رئيس الحزب عما ينشر فى صحيفة الحزب، عدم دستورية وضع حد أقصى للمقابل النقدى لرصيد الإجازات السنوية للعاملين بالدولة، عدم دستورية وضع حد أقصى لزيادة المعاش، عدم دستورية قصر استحقاق المعاش والدخل من العمل على أرملة المحامى دون أرمل المحامية.. ومئات أخرى من الأحكام بعدم دستورية نصوص تشريعية كانت تطبق على المواطنين بالمخالفة الدستورية.
هذه الأحكام التى نطقت بها المحكمة الدستورية ضد الدولة وفى مواجهتها وليس هذا مقام حصرها أو سردها صححت بها أوضاعا خاطئة جائرة واستردت فيها حقوقا مستلبة، وذادت عن حريات منتهكة، ولم تبتغ فيما فعلت إلا مرضاة الله، ومنح الرضا لضمائر قضاتها، وحماية الدستور الذى أقسم أعضاؤها على احترامه، وأداء المهمة النبيلة التى اضطلعت بها، وأشهد أن المحكمة لم تصدر حكما واحدا فى تاريخها خضعت فيه لمشيئة حاكم أو هيئة أو مسؤول أو صاحب نفوذ أو خالفت فيه ما استقر فى وجدانها أنه حق، وأنها درجت دوما على أن تجهر بقولها الفصل ثم تصمت وتمضى تواصل عملها لا تأبه بعد ذلك لما تخلفه هذه الأحكام من غبار المعارك الكلامية تعليقا عليها.
وإذا كان قانون المحكمة الدستورية العليا الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979 قد نص فى مادته الخامسة على أن يعين رئيس المحكمة بقرار من رئيس الجمهورية، ويعين أعضاؤها بقرار منه أيضا بعد أخذ رأى المجلس الأعلى للهيئات القضائية فقد كان تعيين رئيسها يتم من داخل المحكمة منذ إنشائها حتى عام 2001 حين تم تعيين بعض رؤسائها من خارجها وهم جميعا من شيوخ القضاة الذين حملوا وراءهم تاريخا ثريا من تجربة العمل القضائى، ولم يؤثر هذا الاختيار على التزام المحكمة وقضاتها بالمنهج القضائى الرهين العادل الذى سارت عليه فقد حاول البعض أن يثير الشكوك والريب بغير حق حول اختيار رؤساء المحكمة فى هذه الفترة، لكن فى أعقاب ثورة 25 يناير المجيدة صدر المرسوم بقانون رقم 48 لسنة 2011 بتعديل بعض أحكام قانون المحكمة الدستورية العليا الذى استبدل بالنص المذكور نصا جديدا يقضى بأن يعين رئيس المحكمة بقرار من رئيس الجمهورية من بين أقدم ثلاثة نواب لرئيس المحكمة بعد موافقة الجمعية العامة للمحكمة، ويعين نائب رئيس المحكمة بقرار من رئيس الجمهورية بعد موافقة الجمعية العامة للمحكمة، وبذلك زالت سلطة رئيس الجمهورية تماما ونهائيا فى تعيين رئيس المحكمة وأعضائها وانعقد الاختصاص بها للجمعية العامة للمحكمة، التى أصبح اختيارها لهم ملزما لرئيس الجمهورية.
هذا هو تاريخ القضاء الدستورى فى مصر.. سنوات فخر ومجد وعزة وصلابة بما توج هامته من أحكام مضيئة تختزن فى سطورها طاقات نور ساطع، تمثل تحولا فارقا فى مسيرة النظام القضائى المصرى، انتصارا للحق، وانتصافا للمظلوم وإعلاء لسيادة الدستور، وحفاظا على حقوق الإنسان، ورعاية للمصالح القومية للبلاد.
فى 7 مارس سنة 2009 احتفلت المحكمة الدستورية العليا فى منتدى عالمى بمرور أربعين عاما على إنشاء القضاء الدستورى فى مصر، وشاركها احتفالها أربعون محكمة دستورية وعليا ومجلس دستورى من الدول ذات الأنظمة القضائية المتقدمة، وشهده أكثر من مائة قاض من رؤساء وأعضاء هذه المحاكم فضلا على ثلاث منظمات قضائية دولية، وناقش الاحتفال ضمن فعالياته موضوعين ذوى صلة باهتمامات القضاء فى مختلفة أنظمته هما: الضمانات الدستورية للحقوق والحريات السياسية، والحماية الدستورية لمبدأ العدالة الاجتماعية.
ومازالت أصداء هذا الاحتفال تتردد فى جنبات المحافل القضائية، متمثلة فى الاتصالات والمكاتبات التى استمرت مع المحكمة الدستورية المصرية حتى الآن والتى تحتل مركزا متصدرا فى قائمة المحاكم الدستورية بين دول العالم كله.
ويبقى فى النهاية أن المحكمة الدستورية العليا مدينة بالفضل والامتنان والعرفان لجموع الشعب المصرى منحتها ثقتها وتأييدها وإعزازها بدورها، ولتكن كلمتها فى النهاية.. حفظ الله الوطن ورعى شعبه وحمى محكمته الدستورية العليا.
فماذا يربح الفاعلون حين يفلحون فى هز ثقة الشعب وفقد إيمانه بقضائه؟ وماذا - يا ترى - يكسبون حين تسقط آخر قلاع العدل والحق، والحرية تحت نير الافتراء والتجريح والتطاول بغير حق أو سند.
المحكمة الدستورية العليا هى أحد الأجنحة الرئيسية للعدالة فى القضاء المصرى، وعندما تسقط فإن قيمة العدل تختل وتترنح وتتصدع كثيرا وعميقا، ويسقط معها الوطن كله.
وماذا يفيد وقتها هؤلاء الذين شوهوا القضاء المصرى فى عيون العالمين ومسخوا صورته وسيرته وحطوا من قدره ومكانته، ذلك القضاء الذى شهد له العالم باستقلاله، واستقامته، وشموخ قامته.
الذين تفجرت فيهم روح الشر والتدمير والعدوان، فانجرفوا إلى الهجوم على المحكمة الدستورية، ورميها بالباطل، وربما لم يقرأ واحد منهم حرفا من تاريخها، إلى هؤلاء وإلى غيرهم ممن يريدون أن يعرفوا نوجز فى سطور قليلة جزءا من هذا التاريخ لعلهم يعون ويعقلون.
حين اتجهت مصر فى فترة من تاريخها إلى تنظيم الرقابة على دستورية القوانين، بعد أن تنازع الاختصاص بها أكثر من جهة قضائية وفى 31 / 8 / 1969 صدر القانون رقم 81 لسنة 1969 بإنشاء المحكمة العليا التى ناط القانون بها وحدها الرقابة على دستورية القوانين، كما نص على وجوب نشر الأحكام الصادرة منها فى الجريدة الرسمية، ثم صدر قانون الإجراءات والرسوم أمام المحكمة العليا بالقانون رقم 22 لسنة 1970 ونص على أن تكون أحكامها ملزمة لجميع جهات القضاء، وأشارت المذكرة الإيضاحية لقانون إنشاء المحكمة العليا إلى أن المشروع قصر ولاية الفصل فى دستورية القوانين على المحكمة العليا دون سواها حتى لا يترك البت فى مسألة على هذا القدر من الخطورة للمحاكم على مختلف مستوياتها حسبما جرى عليها العرف القضائى وحتى لا تتباين وجوه الرأى فيها.
ومع إعلان دستور 1971 تضمنت نصوصه إنشاء المحكمة الدستورية العليا لتتولى، حسبما نصت المادة 175 منه دون غيرها الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح وتتولى تفسير النصوص التشريعية، وذلك كله على الوجه المبين بالقانون ونصت المادة 177 منه على أن أعضاء المحكمة الدستورية العليا غير قابلين للعزل وتتولى المحكمة مساءلة أعضائها على الوجه المبين بالقانون، وإعمالا لأحكام الدستور صدر القانون رقم 48 لسنة 1979 بإصدار قانون المحكمة الدستورية العليا، وبدأت المحكمة عملها فى ظله.
وبصدور القانون الخاص بإنشاء المحكمة فى عام 1979 أضيف إليها من اللحظة الأولى لميلادها رصيد ما أنجزته المحكمة العليا فى السنوات العشر السابقة من خبرة فنية رفيعة فى مجال الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح.
رحلة طويلة للقضاء الدستورى قطعتها مصر منذ عام 1969 حتى الآن، وخلال دروب هذه الرحلة كان صرحها القضائى يزداد ارتفاعا وشموخا، مما أرسى تنظيما متطورا للرقابة القضائية على دستورية القوانين وحصد أداء متميزا مرموقا فى ترسيخ السوابق القضائية العريقة والأحكام المستقرة التى اكتسبت حجية مطلقة، وهذه وتلك هى المعين الذى لا ينضب والذى مازالت المحكمة الدستورية تنهل من منابعه.
خلال هذه السنوات فصلت المحكمة العليا ومن بعدها المحكمة الدستورية العليا فى 4385 دعوى دستورية، 959 دعوى تنازع اختصاص وتناقض أحكام، 72 طلب تفسير مقدمة من وزير العدل بناء على طلب رئيس مجلس الوزراء أو رئيس مجلس الشعب أو المجلس الأعلى للهيئات القضائية، كما تتولى المحكمة مباشرة الرقابة القضائية السابقة طبقا للتعديل الدستورى الذى أدخل على دستور 1971 السابق مايو 2005 على خمسة مشروعات قوانين متعلقة بانتخابات رئاسة الجمهورية.
وضمن الدعاوى الدستورية التى فصلت فيها المحكمة فى الفترة الماضية 356 قضية حكمت فيها بعدم دستورية النصوص التشريعية المطعون فيها بما مؤداه أن تلك النصوص قد تم إعدامها أو أنها قد ولدت ميتة لعوار أصابها بسبب مخالفتها لحكم الدستور، وفى جملة أخرى فإن مفاد القضاء بعدم دستورية نص تشريعى ميلاد وضع قانونى جديد مستفاد من إلغاء النص القديم بعد الحكم بعدم دستوريته ويكشف حجم النصوص التشريعية الذى دمغته المحكمة فى أحكامها بعدم الدستورية عن ضعف الأداء التشريعى للمجالس النيابية المتعاقبة مما أوقع هذا الكم من التشريعات فى حمأة مخالفة الدستور.
الأحكام التى صدرت بعدم الدستورية تناولت مختلف مجالات الحياة الأساسية فى مصر: الأحوال الشخصية، الإيجارات، المسائل التجارية - الضرائب - الجمارك - النقابات - المعاشات - التأمين الاجتماعى - عمل المرأة - الإجراءات الجنائية والعقوبات - حرية إصدار الصحف - الانتخابات - السلطة القضائية - الأحزاب - مباشرة الحقوق السياسية - الجامعات - أعمال البناء، وعشرات المجالات الأخرى.
أحكام عدم الدستورية كانت امتثالا لأحكام الدستور والتزاما بنصوصه، بينما توزعت أحكام الدعاوى الدستورية الباقية ما بين الرفض وعدم القبول.
وربما يكون مناسبا فى هذا السياق أن نوقد بعض ومضات خاطفة لعلها تنير للمبصرين الذين يريدون أن يروا الحقيقة، وتداوى من فى قلبه مرض ليبرأ من أسقامه، ونستعرض بعض موضوعات هذه الأحكام.
عدم دستورية القرار بقانون رقم 72 لسنة 1963 الخاص بتأميم بعض الشركات والمنشآت، عدم دستورية القرار بقانون رقم 134 لسنة 1964 الخاص بالتعويض عن الممتلكات المؤممة، عدم دستورية قانون مباشرة الحقوق السياسية الذى أباح تعيين غير القضاة فى الإشراف على الانتخابات، عدم دستورية قانون الجامعات، عدم دستورية قانون الجمعيات، عدم دستورية قانون الإيجارات، عدم دستورية فرض ضريبة على مرتبات العاملين المصريين فى الخارج، عدم دستورية قانون المحاماة، عدم دستورية قانون التأمين الاجتماعى، عدم دستورية قانون النقابات العمالية، عدم دستورية ما نص عليه قانون العقوبات من معاقبة رئيس التحرير بصفته فاعلا أصليا للجرائم التى ترتبك بواسطة صحيفته، عدم دستورية المادة 48 من قانون العقوبات التى تؤثم الاتفاق الجنائى، عدم دستورية قوانين الاشتباه، عدم دستورية اشتراط موافقة مجلس الوزراء لإصدار الصحف، عدم دستورية قانون تنظيم الجامعات فيما تضمنه من قيد زمنى لإجازة مرافقة الزوج، عدم دستورية قانون الأحزاب السياسية بشأن مسؤولية رئيس الحزب عما ينشر فى صحيفة الحزب، عدم دستورية وضع حد أقصى للمقابل النقدى لرصيد الإجازات السنوية للعاملين بالدولة، عدم دستورية وضع حد أقصى لزيادة المعاش، عدم دستورية قصر استحقاق المعاش والدخل من العمل على أرملة المحامى دون أرمل المحامية.. ومئات أخرى من الأحكام بعدم دستورية نصوص تشريعية كانت تطبق على المواطنين بالمخالفة الدستورية.
هذه الأحكام التى نطقت بها المحكمة الدستورية ضد الدولة وفى مواجهتها وليس هذا مقام حصرها أو سردها صححت بها أوضاعا خاطئة جائرة واستردت فيها حقوقا مستلبة، وذادت عن حريات منتهكة، ولم تبتغ فيما فعلت إلا مرضاة الله، ومنح الرضا لضمائر قضاتها، وحماية الدستور الذى أقسم أعضاؤها على احترامه، وأداء المهمة النبيلة التى اضطلعت بها، وأشهد أن المحكمة لم تصدر حكما واحدا فى تاريخها خضعت فيه لمشيئة حاكم أو هيئة أو مسؤول أو صاحب نفوذ أو خالفت فيه ما استقر فى وجدانها أنه حق، وأنها درجت دوما على أن تجهر بقولها الفصل ثم تصمت وتمضى تواصل عملها لا تأبه بعد ذلك لما تخلفه هذه الأحكام من غبار المعارك الكلامية تعليقا عليها.
وإذا كان قانون المحكمة الدستورية العليا الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979 قد نص فى مادته الخامسة على أن يعين رئيس المحكمة بقرار من رئيس الجمهورية، ويعين أعضاؤها بقرار منه أيضا بعد أخذ رأى المجلس الأعلى للهيئات القضائية فقد كان تعيين رئيسها يتم من داخل المحكمة منذ إنشائها حتى عام 2001 حين تم تعيين بعض رؤسائها من خارجها وهم جميعا من شيوخ القضاة الذين حملوا وراءهم تاريخا ثريا من تجربة العمل القضائى، ولم يؤثر هذا الاختيار على التزام المحكمة وقضاتها بالمنهج القضائى الرهين العادل الذى سارت عليه فقد حاول البعض أن يثير الشكوك والريب بغير حق حول اختيار رؤساء المحكمة فى هذه الفترة، لكن فى أعقاب ثورة 25 يناير المجيدة صدر المرسوم بقانون رقم 48 لسنة 2011 بتعديل بعض أحكام قانون المحكمة الدستورية العليا الذى استبدل بالنص المذكور نصا جديدا يقضى بأن يعين رئيس المحكمة بقرار من رئيس الجمهورية من بين أقدم ثلاثة نواب لرئيس المحكمة بعد موافقة الجمعية العامة للمحكمة، ويعين نائب رئيس المحكمة بقرار من رئيس الجمهورية بعد موافقة الجمعية العامة للمحكمة، وبذلك زالت سلطة رئيس الجمهورية تماما ونهائيا فى تعيين رئيس المحكمة وأعضائها وانعقد الاختصاص بها للجمعية العامة للمحكمة، التى أصبح اختيارها لهم ملزما لرئيس الجمهورية.
هذا هو تاريخ القضاء الدستورى فى مصر.. سنوات فخر ومجد وعزة وصلابة بما توج هامته من أحكام مضيئة تختزن فى سطورها طاقات نور ساطع، تمثل تحولا فارقا فى مسيرة النظام القضائى المصرى، انتصارا للحق، وانتصافا للمظلوم وإعلاء لسيادة الدستور، وحفاظا على حقوق الإنسان، ورعاية للمصالح القومية للبلاد.
فى 7 مارس سنة 2009 احتفلت المحكمة الدستورية العليا فى منتدى عالمى بمرور أربعين عاما على إنشاء القضاء الدستورى فى مصر، وشاركها احتفالها أربعون محكمة دستورية وعليا ومجلس دستورى من الدول ذات الأنظمة القضائية المتقدمة، وشهده أكثر من مائة قاض من رؤساء وأعضاء هذه المحاكم فضلا على ثلاث منظمات قضائية دولية، وناقش الاحتفال ضمن فعالياته موضوعين ذوى صلة باهتمامات القضاء فى مختلفة أنظمته هما: الضمانات الدستورية للحقوق والحريات السياسية، والحماية الدستورية لمبدأ العدالة الاجتماعية.
ومازالت أصداء هذا الاحتفال تتردد فى جنبات المحافل القضائية، متمثلة فى الاتصالات والمكاتبات التى استمرت مع المحكمة الدستورية المصرية حتى الآن والتى تحتل مركزا متصدرا فى قائمة المحاكم الدستورية بين دول العالم كله.
ويبقى فى النهاية أن المحكمة الدستورية العليا مدينة بالفضل والامتنان والعرفان لجموع الشعب المصرى منحتها ثقتها وتأييدها وإعزازها بدورها، ولتكن كلمتها فى النهاية.. حفظ الله الوطن ورعى شعبه وحمى محكمته الدستورية العليا.