الخطأ الشخصي والخطأ المصلحي
لم تعد نظرية الخطأ المصلحي عصية علي النقد بعد ان فقدت التفرقة بين الخطأ الشخصي والخطأ المصلحي اهميتها بالنسبة للادارة – بعد ان طور القضاء الفرنسي النتائج المبنية عليها تطويرا لا يتلائم ومصلحة في كثير من الحالات وسنتناول في نقدنا الموضوع من زاويتين تشمل الاول . معايير التفرقة وتتصرف الثانية الي الاثار المترتبة علي التفرقة .
نقد معايير التفرقة :
لم نتوان في نقد كل مذهب من المذاهب المتقدمة التي حاولت إقامة حاجز فاصل بين الخطأ الشخصي والخطأ المصلحي ، ونحن هنا ننقد المذاهب مجتمعه في إغفالها نوعا هاما من الخطأ المصلحي يسمي عند البعض بخطأ المصلحة عند faute service ذلك ان الخطأ المصلحي اما ان يقع من موظف يكون متسبباً فيه غاية ما هناك أنه يسأل عنه لوقوعه منه اثناء وبسبب الوظيفة ودون وجود قصد لديه للاضرار بشخص من وراء هذا الخطأ ويسمي في هذه الحاله : الخطأ المصلحي faute de service ، وقد يقع الخطأ المصلحي نتيجة سوء تنظيم الإدارة واختلال سيرها ويسمي في هذه الحالة خطأ المصلحة faute de service .
ومن أمثلة هذه الصورة قضية ( انجيه ) سالفة الذكر وقضية ( كليف ) وملخصها أن البوليس قبض علي أحـد المتظاهرين في عيد العمال ( اول مايو ) واودعه احدى الثكنات العسكرية تمهيدا لإستجوابه وهناك اعتدى أحـد الجنود عليه بالضرب المبرح ورغم عدم معرفة المعتدين بالتحديد فقد قضي مجلس الدولة في 13/3/1935 بمسؤلية الادارة لانها باهمالها الرقابة علي الثكنات قد سلمت الفرصة لوقوع الاعتداء . فالخطأ هنا ليس راجعا الي شخص بعينه بل الي الادارة في مجموعها ( سيري 1936 – ح 3 ص 37 ) .
ويعنينا ان نؤكد هنا ان خطا المصلحة وان نسب الي المرفق كله دون ان يلصق باحد عماله بالذات إلا ان هذا لا ينفي انه خطا وان الادارة تؤخذ به كوحدة ولذا يتعين علي المضرور ان يثبت هذا الخطأ وعلي ضوء ما تقدم تتحدد مسؤلية الإدارة عن خطأ المصلحة واضحة ومستقلة عن مسؤليتها من نظرية المخاطر التي تكتفي بالضرر دون الخطأ .
ولازالت حتي يومنا هذا – التفرقة بين الخطئين يعوزها الضابط القاطع – الذي فيه فصل الخطاب ومهما حاول انصار النظرية الإدارية التغطية علي هذا العيب الجوهري بالضرب علي نغمة وجوب انقضاء حل مناسب لكل حاله علي حدة ... فان الامر سيظل مختلفا غامضا . صحيح ان النظريات الادارية تتسم بالليونه والمرونه – ولكن فرق كبير بين المرونه داخل اطار ثابت الاركان معلوم لكل المعنيين بالامر فرق بين هذا وبين ذلك الاضطرب والاضطرام الذي يحلق بسحبه الكشيفة فوق نظريتنا الادارية هذه فيحيلها طلسها مجهلا لا معني له .. بلا اركان ولا اثار ...
ليس في هذا القول غلو ولا اسراف ، واذا ما شخصنا بابصارنا الي القضاء الفرنسي – مهد النظرية واحسسنا في غير جهد ما نقول .
فقد عرضت علي محكمة ديجون المدينة قضية المدرس ( مورزوت ) التي اقامها احد اولياء التلاميذ ضد هذا المدرس الذي كان يعمل بمدرسة ديجون ويلقن تلاميذه دروسا مشبعة بالاحاد والانحلال منها .
1- ان رجال الدين هم مشعلوا الحرب
2- وانهم مجرد طفيليات
3- وان الجنود الفرنسيين جبناء
4- وان الالمان في الحرب السبعينية احسنوا صنعا اذ قتلوا الاطفال
5- وان من يعتقد في وجود الله غبي
6- وعلي الطلبة الا يعترفوا بخطاياهم لرجال الدين بل لهؤلاء الذين يصيبهم ضرر منهم
7- وان الله – سبحانه وتعالي – محفظه نقود مليئة
8- وانه لا اختلاف بين الانسان والبقرة فلكل منهما ذيلا
(أ) حكمت محكمة ديجون بان ارهاصات الدرس المتقدمة ان هي الا مجرد اختلاف في تقدير الامور
(ب) لجا المدعي الي محكمة استئناف ديجون فقضت ان الاقوال (1) و (2) تنطوي علي خطا مصلحي بينما تعد بقية الاقوال خطا شخصيا تختص به المحكمة
(ت) رفع المدير اشكالا الي محكمة التنازع . وراي المفوض ان اقوال المدرس تعتبر خطا جسما عدا القول رقم (6) فهمو نصيحة خلفية .
(ث) قضت محكمة التنازع ان اقوال المدرس جميعها خطا شخصي جسيم .
( انظر في ذلك الدكتور الطماري في مسؤلية الادارة عن اعمالها غير التعاقدية ص 92 وامثلة اخري في هامش ص 94 )
ومهما يكن من امر فان الجهود ان ذهبت ادراج الرياح بصدد تجديد " مبدا الخطأ المصلحي ، فانها قد ادركت قسطا وفيرا من النجاح في تعيين " مدي ذلك الخطأ علي التفصيل الذي اورده دويز في عرض صور الخطأ المصلحي الثلاثة وعلي كل حال فنحن لا نستطيع مجال النظر الي هذه الصور كميعاد لفصل الخطأ المصلحي عن الخطأ الشخصي اذ انها اقرب الي التصنيف منها الي التعريف فضلا عن ان هذه الصور كثيرا ما تتداخل في بعضها فالخطأ الايجابي مثلا في حالة اصابة جندي البوليس لاحد المتظاهرين وقتله قد يعتبر خطأ سلبيا من حيث ان الادارة قد اهملت في اتخاذ الحيطة الازمة في تنفيذ اجراءاتها البوليسية كذا مسؤلية الادارة عن صيواناتها كالاهمال في الاشراف علي خيولها مما يؤدي الي دهسها شخصا ما . ماهو في الواقع خطا سلبي لحمته الامبالاة وعدم الاكثرات
في نقد اثار التفرقة :-
نقسم الكلام في هذه النقطة الي قسمين
(1) في العلاقة بين المضرور , وكل من الادارة والموظف
(2) في العلاقة بين الادارة والموظف
العلاقة بين المضرور . وكل من الادارة والموظف :
درج الفقهاء علي المجاهرة بان المضرور اذا قاضي الادارة مطالبا بالتعويض فانه لا يستطيع اثبات مسئوليتها الا اذا كان الخطأ مصلحيا ومن هنا نبتت الاهمية العملية لهذه التفرقة فان الادارة تستطيع نفي مسؤليتها اذا اقامت الدليل علي ان الخطأ شخصي , لا يسال عنه الا الموظف المتسبب فيه وحدة دون غيره وعلي ذلك اذا جاء القضاء يوما وقال للادارة . انني مسئوله . شخصا سواء كان الخطأ شخصيا او مصلحيا لهزلت – بلا شك – هذه التفرقة ـ واصبحت سفسطة جوفاء لا طائل تحتها وهذا هو الذي حدث فعلا علي النحو الذي عرضناه تفصيلا عند الكلام علي فكرة الجمع بين الخطئين الشخصي والمصلحي والتي انتهت بالامساك بتلايب الادارة عن خطا الموضف الشخصي حتي ذلك الذي ياتيه كالمفروض اصلا ام عن خطا شخصي , حسب تطور القضاء الاداري الفرنسي , غير ان هذا القضاء قد تحفظ بالنسبة للخطا الاخير فجعل المسئولية بصدوره نسبية لا مطلقة كالحال في الاول .
أولا :- الخطأ المصلحي
هنا تلتزم الادارة وتلتزم وحها دون الموظف , فالموظف غير مسئول سواء امام المضرور او الادارة ومعني ذلك ان مسؤلية الادارة مطلقة وهذا مسلم به قضاء ونستقي من الاحكام قضية ( بورسين ) حيث تبين لمجلس الدولة ان ضابطا خلال الحرب العالمية الاولي اعدم شخصا رميا بالرصاص لجريمة اعتقد انه قد ارتكبها ثم ظهرت براءته بعد ذلك واعترفت وزارة الحربية بخطئها في ذلك ومنحت ورثة المجني عليه تعويضا قدره 40 الف فرنك , غير ان وزير الحربية حاول الرجوع بالطريق الاداري علي الضابط واقتضاء مبلغ التعويض منه فالغي مجلس الدولة في 28 مارس 1924 قرار الرجوع هذا مقررا عدم جواز مساءلة الموظف في حالة الخطأ المصلحي ( داللوز 1924 – ح3 – ص 49 )
ثانيا – خطا المصلحة المفروض ان الخطأ هنا ناجم عن اضطراب سير المرفق الاداري عموما وان المتسبب فيه غير معلوم لهذا يكون من المنطقي بل من المحتم عدم امكان رجوع الادارة علي المتسبب في الخطأ
ثالثا :- الخطأ الشخصي .
هنا مسئولية الادارة نسبية بمعني ان التزامها بالتعويض زاء المضرور لا يمنع من رجوعها علي الموظف ولا يكون في هذا الموقف اي تناقض او غرابة . فان حكمة تقرير مسئولية الادارة عن اخطاء لم يكن لها دخل في حدوثها هي الاخذ بيد المضرور ومسح الامه عن طريق تيسير مورد التعويض له فملاءه الدولة مضمونه خلاف الموظف المحدود الدخل سند اذن اجتماعي لا قانوني واساسها اقرب الي فكرة تحمل التبعية منها الي الخطأ وهذه الحكمة تنتقي في العلاقة بين الادارة والموظف فلما ان تقتطع منه ما دفعته عنه , والقول بعكس ذلك فيه افساح لموجه الاهمال والاستهانة بين الموظفين ما دام لن يصيبهم ضر اذا ما حادوا عن جادة الصواب وما دام الموظف يخطا والدولة تدفع
غير اننا نري رجوع الادارة علي الموظف عديم الفائدة في اغلب الاحوال والادلة التالية شهود علي ذلك .
اولا - وجوب كون الخطأ شخصيا بحثا فلو كان مزدوج الصفة لامتنع الرجوع في حدود " مصلحية " الخطأ علي الاقل ولما كان الاتجاه الغالب الان في اعتبار الخطأ الشخصي قرينة علي الخطأ المصلحي لذلك يحب التحرز من تقرير الرجوع في كل الاحوال صحيح ان هذه القرينة بسيطة يمكن اثبات عكسها الا اننا ينبغي ان عبء الاثبات ملقي علي كاهل الادارة
ثانيا :- اشتراط اخفاظ الادارة في حلولها محل المضرور في الرجوع بالتعويض علي الموظف في الدعوي المرفوعة من المضرور علي الادارة واعتبار هذا الحل جوهريا في نظر الكثير من الفقهاء لامكان الرجوع وبذلك تضيع كثير من الفرص من يد الادارة نتيجة عدم اشتراطها ذلك عن جهل او عن سهو .
ثالثا – عسر الموظف المرجوع عليه : فالموظف المتسبيب في الخطأ عادة من صغار المستخدمين وهم عماد جهاز المرافق العامة التي يكثر تعامل الافراد معها واحتكاكهم بها ووقوع الخطأ من جراء ذلك الاحتكاك لهذا يبدو مقاضاة مثل هذا الموظف مضيعة للجهد وللمال ( المصروفات القضائية ) وتشتيتا لوقت المحاكم دون جدوي .
رابعا- تقييد الحجز علي راتب الموظف بنسب ضئيلة ( الربع عادة) ففضلا عن تفاهة مرتب الموظف – كما تقدم – فان نسبة اباحته مالا طليقا للادارة لتستادي حقها نسبة متواضعة لا تذكر بجانب التعويضات الطائلة التي يسخو بها القضاء الاداري مدفوعا وراء البواعث الاجتماعية والانسانية .
والخلاصة ان مسئولية عن خطا الموظف الشخصي تكاد تكون من الناحية العملية مطلقة شانها في ذلك شان مسؤليتها عن الخطأ المصلحي فقد اصبحت مسؤليتها كاملة تجاه المضرورين من جهة – وتعذر او تعسر عليها استرداد ما دفعته من الموظف المتسبب من جهة اخري وبذلك تكون التفرقة بين الخطأ المصلحي قد تضخمت ثم تمخصت عن ............ لا شيء
الراي الذي نقول به
هل يمكننا ان نقرر – بعد كل ما تقدم – ان النظرية المدنية القائمة علي اساس مسؤلية المتبوع ( الادارة ) عن فعل التابع ( الموظف ) نفضل النظرية الادارية المستوحاة من فكرة التفرية بين الخطأ الشخصي والخطأ المصلحي
هذا ما سنحاول التدليل عليه الان :-
( أولا ) في الاختصاص :-
مؤدي الاخذ بالنظرية الادارية اختصاص القضاء الاداري بنظر ما يسمي بالخطأ المصلحي في حين تقتصر ولاية القضاء المدني علي الخطأ الشخصي ولما كانت المحكمة الادارية لا تتقيد بتقدير ونكييف المحكمة المدنية للوقائع فان رفع النزاع الي القضاء المدني ووصف الاخير للخطا بانه شخصي لا يمنح القضاء الاداري اذا اثير الموضوع امامه من اعتباره ذات الخطأ مصلحيا انسياقا وراء ضوابط غير محدة تتلوي و تتلون وفقا لكل حالة ( قضية انجية المتقدمة) .
وقد يحدث العكس فتري المحكمة المدنية ان الخطأ المطروح امامها خطا مصلحي , بينما تعارضها المحكمة الادارية مقررة انه خطا شخصي وهذا ما رايناه فعلا في قضية المدرس ( مورزوت ) ودروسه بمدرسة ديجون .
ولا يخفي مافي هذا التناقض من اشاعة للغموض واضاعة للجهود والوقت والمال
ولعل هذا المأخذ يزداد وضوحا عندنا في مصر حيث المحاكم المدنية – لا مجلس الدولة هي صاحبة الاختصاص العام في قضايا الادارة فمجلس الدولة حتي يومنا هذا لا يختص الا بالتعويض عن اعمال الادارية التي تقارب في ننطاقها احكام النظريتين المدنية والادارية (1) وحتي هذه يزاحمه في نظرها القضاء المدني بالشروط المنصوص عليها في 8 و9 من ق 165 سنة 1955 " فيمكنه التعويض عنها بل والغائها اذا هوي بها العيب الذي يشوبها الي درك الغضب المادي
ففي هذا المجال - وما اضيفه يعمل مجلس الدولة وحتي في تلك الشقة الضيقة تري من العسير اقحام النظرية فالقانون المدني الحالي صدر بعد مولد مجلس الدولة المصري ولم يورد في موادده سيما المنظمة المسؤلية التقصيرية تحفظا او استدراكا ما بشان القواعد الواجية التطبيق علي الاختصاص المتقدم ومعني هذا اعمال النظرية المدنية في كل الحالات ولو اختص مجلس الدولة ببعضها وقد يرد علي هذا بان طبيعة مجلس الدولة في فرنسا اذ ان القانون المدني هناك لا يحكم العلاقات بين الافراد والاشخاص المعنوية العامة – عكس الحال في مصر – وبالتالي فهو لا يخاطب المحاكم الادارية ويحق لها بذلك ان تخرج عن سلطانه .