اللغة العربية كأداة اتصال وهوية ثقافية ووطنية
بقلم : نبيل عودة
اشكاليات اللغة العربية اشغلت العديد من الباحثين ، وانا لست منهم ، ولكنها لغتي التي اتواصل عبرها مع القراء ومع الناس . لغة افكر بها واترجم ما افكر به الى آراء ومواقف ، ويهمني ان اصيغ افكاري بكلمات واضحة يسيرة الفهم وسهلة الوصول الى المتلقي ، ولا تفسر على وجهين ، ولا تحتاج الى من يترجم مفرداتها .
اذن ، مشكلة اللغة ليست مجرد قضايا اعراب وقواعد واملاء ، وليست موضوعاً معزولاً عن الحياة وعن الناس. وبالتأكيد لا يمكن نفي علاقة اللغة بالهوية القومية ، ومن البديهي ان اللغة من ابرز مركبات الهوية القومية ، وعندما لا يتقن الانسان لغته ، فهناك مسافة كبيرة تبعده عن هويته القومية ، عن انتمائه الحضاري ، عن ثقافته ، عن مجتمعه وعن واقعة السياسي . اذن للغة مسافة هامة جداً ، تتجاوز البحث المجرد بمفردات اللغة وتراكيبها ، الى مساحة الهوية القومية . وليس هذا فقط ، انما هناك ضرورة قصوى ايضاً لجعل اللغة ، مفتاح يسهل لابنائها التعرف على المواضيع المتعددة التي لا يمكن لانسان عصر العولمة ، ان يعيش حياته دون علاقة متواصلة معها . الادب والفنون هما مجال واحد .. ولكن هناك التكنولوجيا والعلوم بكافة اشكالها . وقصور لغتنا العربية الفاضح ، هو غياب تطوير مفردات قابلة للحياة في العلوم والتكنولوجيا .
في هذه المداخلة ، لفت انتباهي موضوع العلاقة بين الهوية القومية واللغة ، او ما يمكن ان نسميه الجانب السياسي للغة ، ومن يحتاج الى هذا البحث اكثر منا نحن المواطنين العرب في اسرائيل، في ضوء ما نواجهه من تمييز لغوي ، وضعف في برامج تعلم اللغة العربية ، وابتعاد الاجيال الجديدة عن التعامل الثقافي مع لغتهم الام ، وانتشار ظاهرة الابتعاد عن القراءة خارج النصوص المقررة في برامج التعليم ، وهذا يبرز أيضا في أوساط الطلاب الجامعيين ، ويبرز في أوساط الأدباء ( أو مدعي الأدب ) لا يقرأون غير أنفسهم . . وكأن القراءة عقاب . أضيف الى ذلك غرابة المصطلحات المستحدثة في اللغة العربية، وعدم ملائمتها للاستعمال ، وتسرب الاصطلاحات العبرية او اللاتينية للغتنا لسهولة فهمها ، وقربها من المناخ الثقافي والتكنولوجي والعلمي ، وسهولة مطابقة اللغة العبرية مثلاً لسوق العمل ، بينما تعجز لغتنا الجميلة أن تكون لغة صالحة وميسرة . لا أنفي التأثير السلبي في ظل عدم اعتراف المؤسسة الحاكمة بالعرب في اسرائيل كأقلية قومية ، وبالتالي بقاء الاعتراف باللغة العربية كلغة رسمية ثانية في الدولة، مسألة شكلية ، وتظل المسافة بين ان يكون هذا الاعتراف الرسمي حقيقة واقعة ، وبين تحول اللغة العربية الى لغة ثانية رسمية في اسرائيل مسافة شاسعة ،يحول دون ان تتحول اسرائيل حقا الى دولة ثنائية اللغة،حسب صيغة القانون ،على الاقل في المدى المنظور.
لست ممن يتهمون العنصرية اليهودية بالمسؤلية المطلقة . حقا الأقلية العربية واجهت سياسة تجهيل وقمع قومي ، سياسة تفريغ جهاز التعليم من المعلمين الوطنيين .. سياسة تنشئة جيل بلا انتماء ثقافي وبلا انتماء قومي . وقد واجهنا هذا التحدي ، وقلصنا امتداده .. ويبدو ان غياب جيل الطليعة الماركسي العلماني المتنور ، الذي خاض اللجة على جميع الجبهات ، وترك وراءة ، مع الأسف... ورثاء ضحلين ، بلا عمود فقري ثقافي أو سياسي ، بدأ يعكس آثاره السلبية ، التي كانت حلما للمشروع الصهيوني في فترة عنفوانه . ما لم ينجحوا بتحقيقه بالقوة والقمع ، نقدمه لهم بالتخاذل والتفكك ، وتحول نضالنا الى شعارات ، وانتماءات قبلية وطائفية ، حتى صار الفكر القومي نفسه ، بمساحة غير صغيرة منه ، فكرا ضعيفا امام الامتداد الظلامي ، وأحيانا ظلاميا متزمتا مغلقا ، والفكر الشيوعي ( في اسرائيل وأحزاب عربية أخرى في العالم العربي ) لم يتخلف في تزمته وانغلاقه أيضا . توقف على أبواب القرن العشرين (القرن الماضي ) غير قادر على التقدم . وللحقيقة لاأرى ان الفكر الأصولي الظلامي يختلف الا في اختلاف المعبود . بل وما يجرؤ على طرحه الفكر الظلامي المتزمت ، لا يجرؤ على طرح نقيضه من يدعي العلمانية والوطنية والشيوعية والتنور .
الملاحظ في اسرائيل ان اللغة الروسية ، لغة اكثر من مليون ونصف المليون مهاجر جديد وصلوا البلاد ، اخذت مكانها كلغة ثانية ،بفعل الارتباط الثقافي للمهاجرين . وفي مجالات كثيرة تحتل اللغة الروسية مكان اللغة الاساسية ، اللغة العبرية ، فهي ( الروسية ) لغة مستعملة في المؤسسات الرسمية والشعبية ، وحيث نتوجه ، نلتقي متحدثين بالروسية لتسهيل مشؤون الناطقين بها ، ولكننا لا نجد متحدثين باللغة العربية ، والعربي الذي لا يتقن اللغة العبرية يقع في اشكالية . ونجد عدة صحف يومية واسبوعية ناطقة بالروسية ، ومحطة تلفزة روسية واذاعات بالروسية ، ودور نشر باللغة الروسية ، وهذا ما نفتقده بهذه الكثافة والنوعية في الوسط العربي ، رغم أن تعداد العرب في اسرائيل بدون القدس العربية ، يقارب المليون والنصف مليون عربي . نحن اذن امام اشكاليات "غير لغوية " ، جانب منها سياسي يتعلق باستراتيجيات السياسة الاسرائيلية ، ومنها ما يتعلق بقدرتنا كأقلية قومية عربية على ايجاد الصيغة المناسبة ، سياسياً ايضاً ... لمواجهة التحدي المفروض عبر تطوير لغتنا ، وتعميق دورها في حياتنا ، وهو يقتضي سلسلة من الخطوات العملية ، التي من المفروض اقرارها ، على المستوى السياسي الوطني اولا ، كجزء من التمسك بهويتنا الوطنية وثقافتنا .
هذا لا يعني العداء لأية لغة اخرى او ثقافة اخرى . ومن الاهمية بمكان فهم العلاقة بين تطوير اللغة العربية ، وتعميق معرفة ابناء لغة الضاد بها ، واتقانهم لها ، وافتخارهم بها ، وموضوع تطور الوعي العام للاقلية العربية بكل جوانبه ،الوعي السياسي والوعي الثقافي والوعي الاجتماعي والوعي العلمي .. الخ ، ورؤية ذلك كرافعة للتقدم على المستوى الشخصي والجماعي لمجتمعنا.
وبالضبط هنا في هذا المجال نحن امام اشكالية ، لا اعرف اذا كان مجمع اللغة العربية الذي أنشئ وبدأ نشاطه على المستوى العربي في اسرائيل ، قادر على التعامل مع هذه الطروحات والقضايا الملحة التي تحمل طابعا سياسيا ، الى جانب الطابع اللغوي المجرد . ربما لا نستطيع الحديث عن "أمية" في مجتمعنا ، واذا وجدت فهي بنسبة ضئيلة للغاية ، ولكن هل نستطيع حقاً ان نقول اننا مجتمع بلا اميين ؟! وهل مفهوم الامية يعني تحديداً من لا يعرف ان يقرأ ويكتب ؟! الا يعتبر العاجز عن فهم المقروء او المسموع اميا؟! الا يعتبر كل من لا يعتمد على نفسه في ادارة شؤون حياته ، من رسائل وتعبئة نماذج باللغة العربية امياً ؟! هل حقاً لا توجد في مجتمعنا "امية مقنعة" وبنسبة عالية جداً ؟! خبراء التنمية في العالم العربي ، يربطون بين محو الامية والتنمية الاقتصادية الاجتماعية والانسانية ، والوصول الى مجتمع مدني ديموقراطي ، ويحددون مثلاً ان عدد الاميين في العالم العربي يصل الى 100 مليون شخص( أي 45% من السكان – وبين النساء 70% ) . ولكن ابحاثهم تشير الى موضوع اكثر خطورة ، وهي "الامية المقنعة" وهو الانسان الذي لا يفهم المقروء او حتى المسموع ولا يستطيع ان يدير شؤون حياته بالاعتماد على "لغته " ، واللغة الرسمية المستعملة ( اللغة البسيطة – أو لغة الصحافة ) غريبة عنه ، وبالتالي هو خارج الفعل الاجتماعي والسياسي لمجتمعه أو دولته . واذا حسبنا الامية المقنعة نصل الى 70% - 80-% من المواطنين في العالم العربي ، اميين تماماً او "اميين مقنعين " ؟!
ولشرح اوفى لمفهوم الامية المقنعة اضيف : قبل اكثر من سنة قامت باحثة عربية بتقديم اطروحة لاحدى الجامعات الأمريكية حول اللغة العربية ومكانتها في الدول العربية .. وخرجت بنتائج مثيرة الخصها من ذاكرتي :من الصعب تحديد اللغة الفصحى الرسمية في الدول العربية ، هل هي لغة القرآن؟! ام اللغة الفصحى الكلاسيكية ؟!ام اللغة الفصحى السهلة ؟ وهذا يخلق ارتباكات لغوية ومشاكل في علاقة الدولة والمواطنين . صحيح ان الدول العربية سجلت في دساتيرها ان الاسلام هو دين الدولة . ولكنها لم تحل اشكالية اللغة الرسمية للدولة ، في ظل تعدد "اللغات العربية " وليس فقط اللهجات، التي تشكل لغات قائمة بذاتها . اشترك مع الباحثة ، عدد من المساعدين الامريكيين المتحدثين بالعربية الفصحى البسيطة – او ما نعرفها اليوم بلغة الصحافة .. وهي اللغة الاكثر ممارسة في العالم العربي بل وتمارسها الاذاعات الرسمية ، والصحافة ومؤسسات الدولة ، لكونها اللغة الفصيحة السهلة المعاصرة والاكثر سرعة في التكيف مع الواقع ، والأكثر ملائمة للمناخ الاجتماعي المتوسط ... والاكثر فهماً في المجتمعات العربية . تبين لها ، ان مساعديها المتحدثين بالعربية لم يستطيعوا التحدث مع اوساط واسعة من المواطنين ، وبعد فحص الموضوع تبين لها امراً مذهلاً ، ان اللغة الفصحى البسيطة هي لغة غير مفهومة لنسبة كبيرة جداً من المواطنين ... والسؤال : ماذا يربط اولئك المواطنين مع مجتمعهم وقضاياهم ومع الاحداث التي تدور في العالم العربي ، او في العالم الواسع ؟! . واستنتجت ، وهو المذهل .. ان اولئك المواطنون لا يساهمون بالقضايا السياسية والاجتماعية لدولتهم ولمجتمعهم . هم خارج اللعبة وعلى الاغلب يقعون فريسة "الملقنين " من المنظمات الاصولية والارهابية ،أي الفكر الظلامي . وهو فكر ينمو وينتشر داخل مساحة غير مشغولة من الدولة ومن المجتمع .
حول نفس الموضوع يقول المفكر التونسي الكبير العفيف الاخضر : ان استئصال الفكر الارهابي للاصوليين لا يتم بتغيير مناهج التعليم فقط ، انما بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمجتمع والانسان . وفي تعليق تلفزيوني لاحد المفكرين الاسلاميين المتنورين ، قال ان الدعوة الاسلامية بدأت بالجملة المشهورة "اقرأ باسم ربك " ويتساءل عن مجتمع اكثر من نصفه اميين ، وربعه الثاني يستصعب فهم المقروء .. وبالتالي القراءة لها علاقة مشروطة بالتفكير ايضاً ، أي من لا يقرأ لا يفكر ، فهل اصبحت الدعوة الاسلامية "اسمع .. بدل اقرأ "؟! وفي السمع تلقين بلا تفكير .. ونحن نعرف من يستفيد من هذه الظاهرة .. كما قال !!
من هنا الاهمية اللغوية والسياسية والاجتماعية لموضوع اللغة العربية وتطويرها وجعلها لغة قراءة مفهومة ميسرة لاصحابها فهماً وقراءة وتفكيراً وتعبيراً عن الشخصية الثقافية والقومية . وفي حالتنا السياسية ، للأقلية العربية في اسرائيل ، وليس في اسرائيل فقط ، فالوضع في العالم العربي لآ يبدو أفضل ..
تعتبر اللغة متراسا لصيانة هويتنا القومية ، وبدل ان نتغنى بشعارات عن الهوية بلا مضمون حان الوقت لطرح رؤية تقود الى تطبيق عملي حضاري لمفهوم الهوية القومية .
نبيل عودة – كاتب ، ناقد واعلامي – الناصرة
nabiloudeh@gmail.com