حين يقرر أى مسئول سابق كتابة مذكراته الشخصية، المؤكد أن السؤال الذى سيشغله هو: «أى حقيقة سيذكرها? وهل من الصحيح ذكر كل شىء أم أن هناك أشياء لا يجب الإفصاح عنها؟
السؤال كان محور لقاء جمعنى مؤخرا بالوزير السابق الدكتور ممدوح البلتاجى، الذى تم بواسطة صديقه الكاتب الكبير يوسف الشريف، الذى حضر اللقاء، وبين ضحكة وأخرى تخرج من قلب الدكتور البلتاجى على نكتة يطلقها يوسف الشريف بخفة دمه المعهودة، كانت المعلومات تتسرب حول المذكرات التى يعكف الوزير السابق على كتابتها منذ أن ترك منصبه الوزارى، واختار لها مبدئيا عنوان: «الذاكرة والرؤية»، وأنجز منها حتى الآن نحو مائتى صفحة.
عن أى شىء ستتحدث المذكرات؟ وما دوافع كتابتها؟ وأى أنواع من السير تكتسب مصداقية لدى القراء؟
فرضت هذه الأسئلة نفسها، ونحن نتجاذب أطراف الحديث الذى تعرض إلى سيرة المفكر الراحل الدكتور لويس عوض «أوراق العمر»، باعتبارها أكثر المذكرات الشخصية التى أثارت ضجة كبيرة، لما احتوته من صراحة موجعة فى بعض الأحيان، كما توقفنا عند مذكرات المفكر الدكتور جلال أمين «ماذا علمتنى الحياة؟» والتى صدرت منذ عامين، وأبدى الدكتور البلتاجى إعجابه الشديد بها: «سيرة ممتازة وصادقة.. قرأتها فور صدورها».
حين تخرج مذكرات البلتاجى إلى النور، سيكون الحكم إلى أى نوع تنتمى، لكن مداخل الشخصيات وخصالها الشخصية والعامة، تعطى مؤشرات مسبقة عن طبيعة ومضمون ما ستأتى به، وسمات الدكتور البلتاجى كما وصفها يوسف الشريف فى لقائنا الثلاثى: «الناس الذين يعرفونك يا دكتور، متأكدون من أنك لن تتحدث إلا الصراحة»، ينظر الشريف لى مستكملاً: «طبيعته وسيرته وتفكيره وسجله النظيف، تؤكد أنه لن يتحدث إلا الصراحة»، يرد البلتاجى: «نعم الصراحة هى الأساس فى كتابة المذكرات»، صراحة البلتاجى تعنى الجانب الإيجابى فى الحياة، والسلبى الذى يجب أن نستفيد من النتائج السيئة المترتبة عنه، وفى الإجمال هى تفصيل لما يذكره فى مقدمة ما كتبه: «مر الإنسان بأحداث وخبرات وتجارب وصعب أن أحتفظ بكل ذلك لنفسى، ولا أنقله إلى الآخرين.. إلى الشباب الذين يتعلقون بالأمل».
فى قسم «الذاكرة»، يتحدث البلتاجى عن الطفولة والصبا والشباب منذ ميلاده فى الإسكندرية، فى 21 أبريل 1939، وحتى انتقال الأسرة إلى القاهرة، وأيامه فى مدرسة النقراشى الثانوية، وفيها تكونت مجموعة الأصدقاء التى بقيت معه سنوات العمر، ومنهم من كبار رجال الأعمال محمد نصير، ومحمد شتا، وحسن أبوالمكارم, بالإضافة إلى الدكتور أحمد مرسى، أستاذ الدراسات الشعبية، والمستشار محمود أبوالليل وزير العدل السابق.
كان الوالد مستشاراً فى القضاء، وصاحب شخصية قوية ذات مهابة مؤثرة، يرفع لواء العدل عملا وقولا، ولأن ممدوح ولده الوحيد، أعطاه الأب كل الاهتمام فى التربية، ومن سماتها الاعتماد على النفس واستقلال الشخصية، وقيمة أن تكون قائدا، والتفاعل مع قضايا الوطن، فعل الأب ذلك لإعداد الابن للمستقبل، والمستقبل هنا كان يعنى استكمال (ممدوح) لمسيرة الأب فى سلك القضاء، ومن محيط الأسرة أيضا كانت علاقة الزوجة (أم ممدوح) بالأب مدخلا إلى إيمان ابنهما الوحيد بدور المرأة المتقدم فى المجتمع، فهو رأى علاقة بين الأب والأم تقوم على الاحترام والصداقة والود، لم تكن علاقة زوجية نابتة من أرض «سى سيد» كعهد العلاقات التى كانت سائدة فى هذا العصر، وإنما فيها من الاحترام والتشاور والمشاركة، بالدرجة التى أعطت للابن (ممدوح) نظرة متقدمة نحو المرأة، فيها رفض لحشرها بين جدران بيتها بوصفها مربية أبناء ليس أكثر، ورفض لانزوائها باسم فتاوى دينية متخلفة، هبت فيما بعد على المجتمع المصرى، بفعل عوامل كثيرة، حاولت القضاء على شراكتها فى بناء المجتمع.
يسأل يوسف الشريف صديقه ممدوح البلتاجى: «يبدو أن عمل الوالد فى مجال القضاء ترك تأثيرا هاما على تكوينك الشخصى والمهنى»، يرد: «نعم.. كان العدل هو التيمة التى تربيت عليها».
وضع الوالد البذرة لكن الموت اختطفه مبكراً، فأصبح ممدوح مسؤلاً عن الأسرة، وهنا ظهر غرس الأب، ودور الأم فى أن توحد الدور بين الأب الذى راح، والابن الذى يأتيه المستقبل، بمعنى قيام الابن بمهام الأب فى مسئولية إدارة الأسرة، ربما كان ذلك كفيلا بأن يكبر ممدوح أكثر، شأنه فى ذلك شأن الذين ذهب آباؤهم إلى حتفهم مبكرين، قبل أن يستوى عود الأبناء، فى المذكرات ما يشير إلى حزن ممدوح وتأثره بذلك، لكنه كان التأثر الذى سيدفعه إلى تفوق دراسى لافت فى مجال القانون: «أعدّنى والدى لهذه المهمة وأخلصت لها».
إلى سلك النيابة كان الخروج الأول فى محيط العمل لممدوح البلتاجى عام 1958، عمل وكيلا للنيابة، كان أصغر دفعته فى هذا المنصب، وترقياته كانت تتم بسرعة لكفاءته المهنية، وفى هذا الجزء من مذكراته يتعرض لبعض القضايا التى قام بالتحقيق فيها، وأبرزها تحقيقات أمن الدولة مع جماعة الإخوان المسلمين فى موجة الاعتقالات الثانية للجماعة عام 1965، والتى تم فيها الحكم على سيد قطب بالإعدام، حضر البلتاجى التحقيقات فى هذه القضية التى تعد الأكبر فى تاريخ الإخوان بعد الاعتقالات التى تمت لهم عام 1954، والتى جاءت إثر محاولاتهم اغتيال الزعيم الراحل جمال عبدالناصر فى ميدان المنشية بالإسكندرية.
يشير البلتاجى فى المذكرات إلى ما حدث منه فى هذه التحقيقات، مثل قيامه بالتحقيق مع أحد المعتقلين فى القضية داخل زنزانته، لم يترك نفسه لأى خوف طبيعى قد يتسرب إليه لأن زنزانة واحدة تجمعه مع معتقل فى قضية كان السلاح والذخيرة والمفرقعات من ضمن أحرازها، ومن هذه التحقيقات خرج بفهم عميق لتفكير الجماعة، ومسارها السياسى والفكرى.
منذ التحاقه بالعمل فى النيابة، تأثر ممدوح البلتاجى بمجتمع القضاة: «تعلمت منهم وتأثرت بهم»، ويتحدث فى مذكراته عن القيم الشامخة التى تحكم هذا المجتمع، وبينما كان يعكف على عمله بتفان وقعت نكسة 5 يونيو 1967، تركت النكسة تأثيرها الدامى والعميق ليس على مصر فقط، بل على كل المنطقة العربية، وأحدثت شرخاً فى وجدان الجيل الذى اعتبر نفسه ابن الثورة، وممدوح البلتاجى كان واحدا منه، طرح الكل أسئلته: «ماذا حدث؟ ولماذا؟ هل ضاع كل شئ؟ وماذا يمكن أن نفعل من أجل استرداد الأرض؟ امتدت الأسئلة على كل المستويات بدءاً من القيادة السياسية وانتهاء بالجماهير، وبدأت المبادرات الفردية والجماعية فى الإجابة، سأل البلتاجى نفسه: «ماذا أفعل؟»، وكانت إجابته: «فليكن التطوع من أجل القتال ضد إسرائيل»، جاء التطوع ضمن مجموعة من أصدقائه، نذروا أنفسهم للثأر، وإعادة الاعتبار للجيش المصرى، ومن ضمن هذه المجموعة، الدكتور أحمد مرسى أستاذ الدراسات الشعبية، والمستشار محمود أبوالليل وزير العدل السابق، وحصل المتطوعون على تدريبات شاقة ورفيعة لمدة شهر فى مدرسة المشاة بمنطقة «ها يكستب»، وبعد ذلك تم تفريقهم لأسباب ربما تكون سياسية ومذهبية، بمعنى الخوف من أن يكونوا يساريين.
مضت الأحداث بعد النكسة ما بين محاولات التصحيح، والترميم للأوضاع التى أدت إلى الزلزال الكبير، وتدرج البلتاجى فى السلم القضائى، حتى وصل إلى درجة مستشار بمحكمة استئناف القاهرة، وهنا يجىء الحديث فى المذكرات عن مذبحة القضاة والتى وقعت فى 31 أغسطس عام 1969، وتم فيها عزل 128 قاضيا، كان من ضمنهم المستشار عادل يونس رئيس محكمة النقض، والمستشار ممتاز نصار بمحكمة النقض ورئيس نادى القضاة، والمستشار يحيى الرفاعى سكرتير نادى القضاة، والمستشار فتحى نجيب، والمستشار ممدوح البلتاجى، وفريد الديب، وفى وقت لاحق عاد هؤلاء إلى الخدمة بعد أن كسبوا أحكاما قضائية، أكدت على شموخ القضاء المصرى، ومنهم من شق طريقه فى العمل السياسى بعد خروجه إلى المعاش، مثل ممتاز نصار الذى صار زعيما للأغلبية الوفدية فى البرلمان فى الثمانينيات، كما دخل البرلمان عام 1977 وكان من المعارضين الكبار للرئيس أنور السادات، وعاد يحيى الرفاعى، وفتحى نجيب الذى أصبح رئيسا للمحكمة الدستورية، وترك فريد الديب سلك القضاء ليكون أحد نجوم مهنة المحاماة، واختار البلتاجى طريق الدراسات الأكاديمية فسافر إلى فرنسا للحصول على الدكتوراة من جامعة السوربون، فحصل على اثنتين الأولى فى «العلوم الاقتصادية» عام 1973، والثانية دكتوراة الدولة فى العلوم السياسية
عام 1975.
كانت فترة باريس وكما تشير المذكرات شعلة نشاط للبلتاجى، فهو لم يكتف بالتفرغ للدراسات الأكاديمية، وإنما نشط فى مقاومة النشاط الصهيونى فى فرنسا، وجمع التبرعات لصالح مصر أثناء حرب الاستنزاف، وتواصل دوره فى حرب أكتوبر عام 1973 بشراء الأمصال من فرنسا وإرسالها، كان ذلك يتم بالتنسيق مع الأجهزة فى مصر، وفى قمة الدولة كان الرئيس السادات يراقب، مع اهتمامه الكبير وقتئذ بالدور الفرنسى فى القضية، وتوج ذلك باختيار البلتاجى وزيرا مفوضا إعلاميا بسفارة مصر فى فرنسا عام 1975 .
السؤال كان محور لقاء جمعنى مؤخرا بالوزير السابق الدكتور ممدوح البلتاجى، الذى تم بواسطة صديقه الكاتب الكبير يوسف الشريف، الذى حضر اللقاء، وبين ضحكة وأخرى تخرج من قلب الدكتور البلتاجى على نكتة يطلقها يوسف الشريف بخفة دمه المعهودة، كانت المعلومات تتسرب حول المذكرات التى يعكف الوزير السابق على كتابتها منذ أن ترك منصبه الوزارى، واختار لها مبدئيا عنوان: «الذاكرة والرؤية»، وأنجز منها حتى الآن نحو مائتى صفحة.
عن أى شىء ستتحدث المذكرات؟ وما دوافع كتابتها؟ وأى أنواع من السير تكتسب مصداقية لدى القراء؟
فرضت هذه الأسئلة نفسها، ونحن نتجاذب أطراف الحديث الذى تعرض إلى سيرة المفكر الراحل الدكتور لويس عوض «أوراق العمر»، باعتبارها أكثر المذكرات الشخصية التى أثارت ضجة كبيرة، لما احتوته من صراحة موجعة فى بعض الأحيان، كما توقفنا عند مذكرات المفكر الدكتور جلال أمين «ماذا علمتنى الحياة؟» والتى صدرت منذ عامين، وأبدى الدكتور البلتاجى إعجابه الشديد بها: «سيرة ممتازة وصادقة.. قرأتها فور صدورها».
حين تخرج مذكرات البلتاجى إلى النور، سيكون الحكم إلى أى نوع تنتمى، لكن مداخل الشخصيات وخصالها الشخصية والعامة، تعطى مؤشرات مسبقة عن طبيعة ومضمون ما ستأتى به، وسمات الدكتور البلتاجى كما وصفها يوسف الشريف فى لقائنا الثلاثى: «الناس الذين يعرفونك يا دكتور، متأكدون من أنك لن تتحدث إلا الصراحة»، ينظر الشريف لى مستكملاً: «طبيعته وسيرته وتفكيره وسجله النظيف، تؤكد أنه لن يتحدث إلا الصراحة»، يرد البلتاجى: «نعم الصراحة هى الأساس فى كتابة المذكرات»، صراحة البلتاجى تعنى الجانب الإيجابى فى الحياة، والسلبى الذى يجب أن نستفيد من النتائج السيئة المترتبة عنه، وفى الإجمال هى تفصيل لما يذكره فى مقدمة ما كتبه: «مر الإنسان بأحداث وخبرات وتجارب وصعب أن أحتفظ بكل ذلك لنفسى، ولا أنقله إلى الآخرين.. إلى الشباب الذين يتعلقون بالأمل».
فى قسم «الذاكرة»، يتحدث البلتاجى عن الطفولة والصبا والشباب منذ ميلاده فى الإسكندرية، فى 21 أبريل 1939، وحتى انتقال الأسرة إلى القاهرة، وأيامه فى مدرسة النقراشى الثانوية، وفيها تكونت مجموعة الأصدقاء التى بقيت معه سنوات العمر، ومنهم من كبار رجال الأعمال محمد نصير، ومحمد شتا، وحسن أبوالمكارم, بالإضافة إلى الدكتور أحمد مرسى، أستاذ الدراسات الشعبية، والمستشار محمود أبوالليل وزير العدل السابق.
كان الوالد مستشاراً فى القضاء، وصاحب شخصية قوية ذات مهابة مؤثرة، يرفع لواء العدل عملا وقولا، ولأن ممدوح ولده الوحيد، أعطاه الأب كل الاهتمام فى التربية، ومن سماتها الاعتماد على النفس واستقلال الشخصية، وقيمة أن تكون قائدا، والتفاعل مع قضايا الوطن، فعل الأب ذلك لإعداد الابن للمستقبل، والمستقبل هنا كان يعنى استكمال (ممدوح) لمسيرة الأب فى سلك القضاء، ومن محيط الأسرة أيضا كانت علاقة الزوجة (أم ممدوح) بالأب مدخلا إلى إيمان ابنهما الوحيد بدور المرأة المتقدم فى المجتمع، فهو رأى علاقة بين الأب والأم تقوم على الاحترام والصداقة والود، لم تكن علاقة زوجية نابتة من أرض «سى سيد» كعهد العلاقات التى كانت سائدة فى هذا العصر، وإنما فيها من الاحترام والتشاور والمشاركة، بالدرجة التى أعطت للابن (ممدوح) نظرة متقدمة نحو المرأة، فيها رفض لحشرها بين جدران بيتها بوصفها مربية أبناء ليس أكثر، ورفض لانزوائها باسم فتاوى دينية متخلفة، هبت فيما بعد على المجتمع المصرى، بفعل عوامل كثيرة، حاولت القضاء على شراكتها فى بناء المجتمع.
يسأل يوسف الشريف صديقه ممدوح البلتاجى: «يبدو أن عمل الوالد فى مجال القضاء ترك تأثيرا هاما على تكوينك الشخصى والمهنى»، يرد: «نعم.. كان العدل هو التيمة التى تربيت عليها».
وضع الوالد البذرة لكن الموت اختطفه مبكراً، فأصبح ممدوح مسؤلاً عن الأسرة، وهنا ظهر غرس الأب، ودور الأم فى أن توحد الدور بين الأب الذى راح، والابن الذى يأتيه المستقبل، بمعنى قيام الابن بمهام الأب فى مسئولية إدارة الأسرة، ربما كان ذلك كفيلا بأن يكبر ممدوح أكثر، شأنه فى ذلك شأن الذين ذهب آباؤهم إلى حتفهم مبكرين، قبل أن يستوى عود الأبناء، فى المذكرات ما يشير إلى حزن ممدوح وتأثره بذلك، لكنه كان التأثر الذى سيدفعه إلى تفوق دراسى لافت فى مجال القانون: «أعدّنى والدى لهذه المهمة وأخلصت لها».
إلى سلك النيابة كان الخروج الأول فى محيط العمل لممدوح البلتاجى عام 1958، عمل وكيلا للنيابة، كان أصغر دفعته فى هذا المنصب، وترقياته كانت تتم بسرعة لكفاءته المهنية، وفى هذا الجزء من مذكراته يتعرض لبعض القضايا التى قام بالتحقيق فيها، وأبرزها تحقيقات أمن الدولة مع جماعة الإخوان المسلمين فى موجة الاعتقالات الثانية للجماعة عام 1965، والتى تم فيها الحكم على سيد قطب بالإعدام، حضر البلتاجى التحقيقات فى هذه القضية التى تعد الأكبر فى تاريخ الإخوان بعد الاعتقالات التى تمت لهم عام 1954، والتى جاءت إثر محاولاتهم اغتيال الزعيم الراحل جمال عبدالناصر فى ميدان المنشية بالإسكندرية.
يشير البلتاجى فى المذكرات إلى ما حدث منه فى هذه التحقيقات، مثل قيامه بالتحقيق مع أحد المعتقلين فى القضية داخل زنزانته، لم يترك نفسه لأى خوف طبيعى قد يتسرب إليه لأن زنزانة واحدة تجمعه مع معتقل فى قضية كان السلاح والذخيرة والمفرقعات من ضمن أحرازها، ومن هذه التحقيقات خرج بفهم عميق لتفكير الجماعة، ومسارها السياسى والفكرى.
منذ التحاقه بالعمل فى النيابة، تأثر ممدوح البلتاجى بمجتمع القضاة: «تعلمت منهم وتأثرت بهم»، ويتحدث فى مذكراته عن القيم الشامخة التى تحكم هذا المجتمع، وبينما كان يعكف على عمله بتفان وقعت نكسة 5 يونيو 1967، تركت النكسة تأثيرها الدامى والعميق ليس على مصر فقط، بل على كل المنطقة العربية، وأحدثت شرخاً فى وجدان الجيل الذى اعتبر نفسه ابن الثورة، وممدوح البلتاجى كان واحدا منه، طرح الكل أسئلته: «ماذا حدث؟ ولماذا؟ هل ضاع كل شئ؟ وماذا يمكن أن نفعل من أجل استرداد الأرض؟ امتدت الأسئلة على كل المستويات بدءاً من القيادة السياسية وانتهاء بالجماهير، وبدأت المبادرات الفردية والجماعية فى الإجابة، سأل البلتاجى نفسه: «ماذا أفعل؟»، وكانت إجابته: «فليكن التطوع من أجل القتال ضد إسرائيل»، جاء التطوع ضمن مجموعة من أصدقائه، نذروا أنفسهم للثأر، وإعادة الاعتبار للجيش المصرى، ومن ضمن هذه المجموعة، الدكتور أحمد مرسى أستاذ الدراسات الشعبية، والمستشار محمود أبوالليل وزير العدل السابق، وحصل المتطوعون على تدريبات شاقة ورفيعة لمدة شهر فى مدرسة المشاة بمنطقة «ها يكستب»، وبعد ذلك تم تفريقهم لأسباب ربما تكون سياسية ومذهبية، بمعنى الخوف من أن يكونوا يساريين.
مضت الأحداث بعد النكسة ما بين محاولات التصحيح، والترميم للأوضاع التى أدت إلى الزلزال الكبير، وتدرج البلتاجى فى السلم القضائى، حتى وصل إلى درجة مستشار بمحكمة استئناف القاهرة، وهنا يجىء الحديث فى المذكرات عن مذبحة القضاة والتى وقعت فى 31 أغسطس عام 1969، وتم فيها عزل 128 قاضيا، كان من ضمنهم المستشار عادل يونس رئيس محكمة النقض، والمستشار ممتاز نصار بمحكمة النقض ورئيس نادى القضاة، والمستشار يحيى الرفاعى سكرتير نادى القضاة، والمستشار فتحى نجيب، والمستشار ممدوح البلتاجى، وفريد الديب، وفى وقت لاحق عاد هؤلاء إلى الخدمة بعد أن كسبوا أحكاما قضائية، أكدت على شموخ القضاء المصرى، ومنهم من شق طريقه فى العمل السياسى بعد خروجه إلى المعاش، مثل ممتاز نصار الذى صار زعيما للأغلبية الوفدية فى البرلمان فى الثمانينيات، كما دخل البرلمان عام 1977 وكان من المعارضين الكبار للرئيس أنور السادات، وعاد يحيى الرفاعى، وفتحى نجيب الذى أصبح رئيسا للمحكمة الدستورية، وترك فريد الديب سلك القضاء ليكون أحد نجوم مهنة المحاماة، واختار البلتاجى طريق الدراسات الأكاديمية فسافر إلى فرنسا للحصول على الدكتوراة من جامعة السوربون، فحصل على اثنتين الأولى فى «العلوم الاقتصادية» عام 1973، والثانية دكتوراة الدولة فى العلوم السياسية
عام 1975.
كانت فترة باريس وكما تشير المذكرات شعلة نشاط للبلتاجى، فهو لم يكتف بالتفرغ للدراسات الأكاديمية، وإنما نشط فى مقاومة النشاط الصهيونى فى فرنسا، وجمع التبرعات لصالح مصر أثناء حرب الاستنزاف، وتواصل دوره فى حرب أكتوبر عام 1973 بشراء الأمصال من فرنسا وإرسالها، كان ذلك يتم بالتنسيق مع الأجهزة فى مصر، وفى قمة الدولة كان الرئيس السادات يراقب، مع اهتمامه الكبير وقتئذ بالدور الفرنسى فى القضية، وتوج ذلك باختيار البلتاجى وزيرا مفوضا إعلاميا بسفارة مصر فى فرنسا عام 1975 .