أعظم ما يقع على عاتق القاضي الجنائي هو تقدير أدلة الإثبات والتحقق والتثبت منها والاقتناع بها ، كما أمر الله تعالي بقوله في الآية 6 من سورة الحجرات[ يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين] وذلك حتى لا يدان بريء ولا يفلت مجرما. فالقاضي قبل أن يصدر حكمه يقوم بالبحث والتثبت حتى يتبين وجه الحق في الدعوى وهو في سبيل ذلك يقوم بفحص الأدلة المختلفة ويطرحها في الجلسة ليتناولها الخصوم بالفحص والتنفيذ سعيا للوصول إلى الحقيقة التي ترضي ضميره ، وتكّون اقتناعه الشخصي لتحقيق العدالة.
وتختلف سلطة القاضي الجنائي في تقدير أدلة الإثبات من دولة إلى أخرى حسب ما تعتنقه كل دولة من الإثبات .
ووفقا لما تكشف عنه الدراسات التاريخية المقارنة للأنظمة الإجرائية فإنه يوجد نظامان للأدلة المقبولة في الإثبات :
1. نظام الإثبات المقيد أو المحدد ويسمي أيضا بنظام الأدلة القانونية وفيه تكون الأدلة محصورة ومحددة سلفا من قبل المشرع ، بل إن قوتها التدليلية محددة ولا يجوز للقاضي أن يخرج عليها أو يبني حكمه على خلافها . ويعني نظام الأدلة القانونية أن الشارع هو الذي يحدد للقاضي الأدلة التي يجوز له أن يقبلها في حالة معينة ، فيحظر عليه أن يقبل أدلة سواها ، وإن كان يجوز له قبول هذه الأخيرة في حالة مختلفة. بالإضافة إلى ذلك ، يحدد الشارع القيمة القانونية للدليل إذا توافرت شروط معينة ، وعندها يلتزم القاضي الجنائي بالأخذ به وليس له رفضه . فإذا ما توافرت عناصر الدليل بالشكل المتطلب قانونا يكون القاضي ملزما بأن يبني اقتناعه ويؤسس حكمه على أساس هذا الدليل حتى وإن لم يكن مقتنعا به شخصيا . وإذا لم تتوافر تلك العناصر فالقاضي يكون على العكس ملزما ببناء اقتناعه وتأسيس حكمه على أساس عدم قيام الدليل على الإدعاء حتى وإن كان بداخله مقتنعا تماما بثبوت الادعاء . فالدليل القانوني وفقا لهذا النظام هو الدليل الذي حدد القانون نوعه وقيمته مسبقا. ويجد هذا النظام له مجالا واسعا في الإثبات المدني ، وساد قديما في بعض أنظمة الإثبات الجنائيةكما هو الحال في الإمبراطورية الرومانية ، وفي أوربا في القرون الوسطي وما بعدها.
2.نظام الأدلة الاقتناعية: ويعرف بالمرحلة الوجدانية أو مرحلة حرية الاقتناع : وفيه لا يحدد الشارع أدلة الإثبات و وسائلة ، بل يترك للقاضي الحرية في أن يؤسس حكمه على أي دليل وفقا لاقتناعه الشخصي دون أن يفرض عليه دليلا بعينه. والاعتراف له بسلطة تقدير قيمة الدليل أو قيمة الأدلة مجتمعة . فهو يقوم على أساس أن القوة الإثباتية " المقنعة " لكل دليل ليست مفروضة على القاضي مقدما من المشرّع ، وإنما هي مرتبطة بما ترتبه من إقناع القاضي بحقيقة واقعة معينة ، وبما يمليه عليه وجدانه وضميره. وكل الأدلة في هذا سواء . ولحرية القاضي الجنائي في الإثبات وفقا لهذا النظام وجهان هما: الأول أن للقاضي الجنائي سلطة قبول أي دليل يمكن أن يتولد معه اقتناعه ، فجميع طرق الإثبات أمام القاضي الجنائي سواء. والثاني أن القاضي الجنائي نفسه هو الذي يقرر حسب اقتناعه الذاتي الداخلي قبول الدليل من عدمه ، بشرط أن يكون استنتاجه لحقيقة الواقعة ، وما كشف عنها من أدلة لا يخرج عن مقتضيات العقل والمنطق ، فثمة قواعد قانونية تحدد أسلوب التنقيب عن الدليل ، وأسلوب تقديمه وهناك طرق للإثبات نص عليها في قانون الإجراءات الجزائية وهي التي تعتبر مشروعة ، و يجوز للقاضي استخلاص الحقيقة منها ، وبالتالي فالحرية التي يتمتع بها القاضي الجنائي في هذا المجال ليست مقررة لكي تتسع سلطته من حيث الإدانة أو البراءة، وإنما هي مقررة له بالنظر إلى صعوبة الحصول على الدليل في المواد الجنائية. فاستنباط الحقيقة من هذا الدليل إنما يتم بمعرفة القاضي ومدى قدرته على الوصول إلى الحقيقة وما حباه الله من علم ومدى توافر حاسة القضاء لديه. ولذلك نجد أن القاضي الجنائي يتمتع دائما بدور إيجابي في الدعوى الجنائية.وهذا النظام هو السائد في التشريعات الجنائية المعاصرة كالتشريع المصري في المادة 302من قانون الإجراءات الجنائية ، والتشريع العماني في المادة 215من قانون الإجراءات الجزائية العماني.
بالإضافة إلي هذين النظامين ظهر نظام ثالث وهو نظام الأدلة العلمية ، والذي يقوم على أساس الاستعانة بالأساليب الفنية التي كشف عنها العلم الحديث في إثبات الجريمة ونسبتها التي المتهم ، ويعطي الدور الرئيسي في إثبات الجريمة للخبير، ويجعل أهم الأدلة هي القرائن التي تخضع للفحص العلمي الدقيق ويستخرج منها ما يثبت الإدانة أو البراءة . ولقد لقي هذا النظام رواجا وتحبيذا خاصة من قبل أنصار المدرسة الوضعية الذين تنبأوا له بمستقل كبير من حيث أنه سوف يحل محل نظام الاقتناع القضائي.
و الحقيقة فإننا نرى أن شأن ذلك أن يجعل الخبير هو قاضي الدعوى ويتم حرمان المتهم من ضمانات الحرية الفردية والكرامة الإنسانية التي لا يحسن أن يقررها سوى القاضي بالإضافة أن مباشرة الخبير عمله تفترض تحديد عناصر مهمته وتقدير قيمة تقريره وهما وظيفتان قضائيتان ، أضف إلى ذلك أن الفصل في الدعوى الجنائية يثر مسائل قانونية وشرعية لا يحسن الخبير التعامل معها والبت فيها برأي . فالتطور والتقدم في العلم وإن أثبت جدوى الأساليب الفنية المستحدثة فيما يتعلق بالأدلة ، إلا أن ذلك لا يعني استبعاد نظام الاقتناع القضائي.
وسلطة القاضي الجنائي في قبول الأدلة المستمدة من الإنترنت تعتمد إلى حد كبير على المبادئ الأساسية المقبولة للإثبات في كل دولة ، ولذلك فمن الضروري التمييز بين الأنظمة القانونية المختلفة في هذا المجال.
علما بأن الأدلة المستمدة من الإنترنت ليست على هيئة واحدة وإنما هي متنوعة ويمكن الحصول عليها سواء عن طريق فحص نظام الاتصال بالإنترنت أو فحص مركبات الحاسب الآلي وذلك على النحو التالي:
1.فحص نظام الاتصال بالإنترنت: يتم هذا الفحص إما بتتبع حركة مسار الإنترنت ROUTING ويقصد به الحركة التراسلية للنشاط الممارس من خلال شبكة الإنترنت ، فالحاسب الآلي بمجرد أن يتعرف على المسار يقوم تلقائيا باختيار البرتوكول التراسلي الذي من خلاله يقوم باستدعاء البيانات . ويستخدم في تتبع حركة مسار الإنترنت نظام الفحص الإلكتروني Electronic Trail الذي يطلق عليه علم البصمات المعاصرة أو علم البصمات القرن الحادي والعشرين ، وهو منهج متبع في تتبع الحركة العكسية لمسار الإنترنت ، ولقد تم تطبيقه بنجاح على أكثر من جريمة معلوماتية مثل تتبع مبتكر فيروس مليسيا . ولقد أخذت محكمة باريس في حكم حديث لها بهذا الأسلوب في تحديد مسار العمل الإجرامي.أيضا قد يتم فحص نظام الاتصال بالإنترنت عن طريق فحص النظام الأمني للشبكات فأجهزة الحاسب الآلي المرتبطة فيما بينها عبر شبكات محلية LAN كانت أو عالمية WAN تكون أكثر عرضة لاستخدامها في ارتكاب الجرائم واحتوائها على الأدلة الرقمية . أيضا من الطرق المستخدمة في فحص النظام المشار إليه فحص برتوكول الإنترنت فهذا الأخير يعد الطابع المميز لاستخدام الإنترنت فأي شخص يحصل على برتوكول الإنترنت يمكنه الولوج إليها ليكون عضوا كاملا فيها ، يباشر الحركة خلالها ويحصل على خدماتها ، وتعتبر هذه الطريقة من أهم طرق فحص نظام الاتصال بالإنترنت فمن خلالها يمكن التعرف على جهاز الحاسب الآلي التي تمت مباشرة أو ارتكاب الجريمة من خلاله ، ومن المحاكم التي أخذت بهذه الوسيلة محكمة جنح بروكسل في حكمها الصادر في 22/12/1999 م ، حيث أقامت بنيان أدلة الإثبات على الدليل الناتج عن التعرف على برتوكول الإنترنت الذي سجله جهاز الحاسب الآلي .
وعملية البحث في قواعد البيانات لدى مسجلي برتوكول الإنترنت ليس بالمهمة الصعبة إذ يمكن لأي شخص القيام بتحديد حائز هذا أو ذاك البرتوكول عن طرق البحث في قاعدة البيانات WHOIS الخاصة بالمسجلينREGISTRARS ويتم ذلك باستخدام برامج متنوعة ومتوافرة عبر شبكة الإنترنت تقوم على رصد هذا البرتوكول .
كذلك من الطرق المستخدمة في فحص نظام الاتصال بالإنترنت فحص الخادم أو الملقم وهو عبارة عن جهاز حاسب آلي ضخم مهنته تحقيق حركة الاتصال بالمواقع والصفحات التي تتم استضافتها على هيئة رقمية فيه. وهناك من الخوادم ما تكون مهنتها مختصرة فقط على القيام بتحقيق التواصل مع حلقات النقاش والأحاديث المباشرة أو غير المباشرة.
2.فحص مركبات الحاسب الآلي: يقصد بمركبات الحاسب الآلي المكونات المادية "الصلبة" والمعنوية أو المنطقية "البرامج" وهذا يستلزم ضبط وحجز جهاز الحاسب الآلي . ولقد سبق الحديث عن هذا الجانب في القسم الخاص بتفتيش نظم الحاسب الآلي.
- مدى قبول تسجيلات ومخرجات الوسائل الإلكترونية كأدلة
إثبات جنائية:
تذهب التشريعات المقارنة إلى قبول مصادر المعلومات الخاصة بالحساب الآلي أو المتحصل عليها من أنظمته مثل مخرجات نظام المعالجة الآلية للبيانات والبيانات المكتوبة على شاشته، والبيانات المسجلة على دعائم ممغنطة أو المخزنة داخل نظام المعالجة كأدلة يقوم عليها الإثبات الجنائي
وهذه الأدلة المتحصلة من الوسائل الإلكترونية تخضع للسلطة التقديرية للقاضي الجنائي، فإن استراح إليها ضميره ووجدها كافية ومنطقية فيمكنه أن يستمد اقتناعه ويعول عليها في الحكم الذي ينتهي إليه.
ولقد أثيرت في فرنسا مشكلة الإثبات لمحاضر المخالفات التي تتم عن طريق جهاز السينموتر، وانتهى القضاء هناك إلى عدم اعتبار محاضر المخالفات المحررة بإثبات المخالفة حجة بذاتها في الإثبات، وإنما ذهب كل من الفقه والقضاء، إلى أن أي محضر لا تكون له قوة إثباتيه إلا إذا أثبت فيه محرره وقائع تدخل في اختصاصه، وأن يكون قد شاهدها أو سمعها أو تحقق منها بنفسه، وبناء على ذلك فإن المحضر الذي يحرره عقب عملية المراقبة الإلكترونية للسيارات لا يصلح دليلا على ارتكاب الجريمة، حيث أن محرري المحضر لم يتحققوا بأنفسهم من ارتكاب المخالفة.
وإذا كان الضابط الذي يحرر المخالفة للقيادة بسرعة تزيد عن السرعة المقررة والتي يتم ضبطها عن طريق جهاز الردار طبقا لقانون المرور المصري، لا يكون قد شاهد بنفسه المخالفة وإنما قام بتسجيلها فقط عن طريق الإشارة اللاسلكية التي تكون قد وصلت إليه، ولذلك فإن تقرير مخالفة المرور عن هذه المخالفة لا يمكن أن يحل محل محضر جمع الاستدلالات ولا يصلح لأن يكون دليلا قائما بذاته لإثبات المخالفة.
ولذلك يمكن القول بأن المخرجات المتحصلة من الوسائل الإلكترونية لا تمثل مشكلة في النظام اللاتيني حيث يسود مبدأ حرية القاضي الجنائي في الاقتناع، فالفقه الفرنسي يتناول حجية هذه المخرجات في المواد الجنائية ضمن مسألة قبول الأدلة المتحصلة عن الآلة أو ما يسمى بالأدلة العلمية والتي يجب ألا تقبل كطرق إثبات إلا إذا توافرت الشروط المقررة لذلك.
ويثير قبول الأدلة المتحصلة من الوسائل الإلكترونية مشكلات عديدة في ظل القواعد الأنجلو أمريكية للإثبات الجنائي، والتي تعتنق كمبدأ أساسي الإثبات بالشهادة التي تتعلق بالواقعة محل الإثبات. ولذلك فإن قبول المستندات المطبوعة لمخرجات الوسائل الإلكترونية والتي هي عبارة عن إشارات الكترونية ونبضات ممغنطة، يمثل مشكلة أمام القضاء في هذا النظام، إذ لا يمكن للمحلفين أو القاضي من مناظرة الأدلة المتولدة منها ووضع أيديهم عليها، وهذا يجعلها بمثابة أدلة ثانوية وليست أصلية.
ولقد صدر في إنجلترا قانون للإثبات الجنائي في سنة 1984 وعمل به بدءا من عام 1986 وقد نصت المادة 68 منه على أن: "يقبل الإثبات بالمحررات التي تتعلق بأي غرض من الأغراض إذا توافرت شروط معينة وهي:
1. أن يكون المحرر عبارة عن سجل أو جزء من سجل يعده الشخص بموجب واجب يقع على عاتقه ليثبت فيه معلومات مقدمه إليه من شخص آخر.
2. يمكن قبول إفتراض توافر علمه الشخصي بالأمور المتعلقة بها المعلومات.
3. ألا يكون الشخص التي تستقي منه المعلومات متاح وجوده أو ممكنا تعيينه أو تتبعه أو يكون غير متوقع منه تذكر الأمور المتعلقة بالمعلومات.
ولقد نصت المادة 69 من ذات هذا القانون على أن الناتج من الوسائل الإلكترونية لا يقبل كدليل إذا تبين وجود سبب معقول يدعو إلى الاعتقاد بأن هذا الناتج غير دقيق أو أن بياناته غير سليمة. ويجب كذلك أن يكون الحاسب الناتج منه المخرج الإلكتروني يعمل بكفاءة وبصورة سليمة.
ويلاحظ أن هذه التحفظات الأخيرة لا تطبق إلا إذا كانت مطبوعات الحاسب دليلا حقيقيا أو أصليا وليس مجرد نقل عن الغير.وتجدر الإشارة إلى أن مخرجات الوسائل الإلكترونية تقبل كوسائل إثبات في الولايات المتحدة الأمريكية وذلك بالنسبة للبرامج والبيانات المخزونة فيها، وبالنسبة للنسخ المستخرجة من البيانات التي يحتويها الحاسب.
وهكذا نرى أن الأنظمة القانونية المختلفة قد قبلت الأدلة المتحصلة من الوسائل الإلكترونية كأدلة إثبات، وإن كان النظام الأنجلو أمريكي قد أورد الكثير من الشروط لقبولها كأدلة إثبات نظرا لطبيعة هذا النظام والذي يعتمد في الأصل على النظام الإتهامي القائم على مبدأ التواجهية وإعلائه للإثبات بالشهادة وتحقيق الأدلة أمام القضاء. وعلى الرغم من التسليم بصلاحية هذه الأدلة لتكون أدلة إثبات فإنها لا تصلح لتكون معبرة عن الحقيقة إلا إذا توافرت لها ذات الشروط التي يجب توافرها في أدلة الإثبات الجنائي بحسبان أنها تنتمي إليها، وسنبين فيما يلي هذه الشروط
- شروط قبول مخرجات الوسائل الإلكترونية كأدلة إثبات في المواد الجنائية:إذا كانت الأدلة المتحصلة عن الوسائل الإلكترونية قد توجس منها كل من القضاء والفقه خيفة من عدم تعبيرها عن الحقيقة نظرا لما يمكن أن تخضع له طرق الحصول عليها من التعرض للتزييف والتحريف والأخطاء المتعددة، فإنه ذلك قد تطلب وجوب توافر مجموعة من الشروط التي قد تضفي عليها المصداقية ومن ثم اقترابها نحو الحقيقة وقبولها كأدلة إثبات في المواد الجنائية.
ولذلك فإنه لقبول هذه الأدلة كأساس تشيد عليه الحقيقة في الدعوى الجنائية سواء أكان الحكم الصادر فيها بالإدانة أم بالبراءة فإنه يلزم أن تتوافر فيها الشروط الآتية:
1.يجب أن تكون هذه الأدلة يقينية:
وهذا يستوجب أن تقترب نحو الحقيقة الواقعية قدر المستطاع وأن تبتعد عن الظنون والتخمينات. ويترتب على ذلك أن كافة مخرجات الوسائل الإلكترونية من مخرجات ورقية أو إلكترونية أو أقراص مغناطيسية أو مصغرات فيلمية تخضع لتقدير القاضي الجنائي، ويجب أن يستنتج منها الحقيقة بما يتفق مع اليقين ويبتعد عن الشك والاحتمال.
والقاضي يمكنه أن يصل إلى يقينية المخرجات المتقدم ذكرها عن طريق: المعرفة الحسية التي تدركها الحواس من خلال معاينته لهذه المخرجات وفحصها، وعن طريق المعرفة العقلية عن طريق ما يقوم به من استقراء واستنتاج ليصل إلى الحقيقة التي يهدف إليها ويحبب أن يصدر حكمه استنادا إليها
2.يتعين مناقشة مخرجات الوسائل الإلكترونية تطبيقا لمبدأ شفوية المرافعة: فإذا كانت مخرجات الوسائل الإلكترونية تعد أدلة إثبات قائمة في أوراق الدعوى التي ينظرها القاضي، فإنه يجب عليه مناقشتها أمام الخصوم. ويترتب على ذلك أن هذه المخرجات سواء كانت مطبوعة أم بيانات معروضة على شاشة الحاسب ، أم كانت بيانات مدرجة في حاملات، أم اتخذت شكل أشرطة وأقراص ممغنطة أو ضوئية أو مصغرات فيلمية، تكون محلا للمناقشة عند الاعتماد عليها كأدلة أمام المحكمة.فإذا كان القاضي الجنائي يحكم بإقتناعه هو وليس بإقتناع غيره، فإنه يجب عليه أن يعيد تحقيق كافة الأدلة القائمة في الأوراق لكي يتمكن من تكوين اقتناع بقربه نحو الحقيقة الواقعية التي يصبو إليها كل قاض عادل ومجتهد. ويترتب على هذا المبدأ أن القاضي لا يمكنه أن يحكم في الجرائم الإلكترونية استنادا إلى علم شخصي له. أو استنادا إلى رأي للغير، إلا إذا كان الغير من الخبراء وقد ارتاح ضميره إلى التقرير المحرر منه فقرر الاستناد إليه ضمن باقي الأدلة القائمة في أوراق الدعوى المعروضة عليه، بحيث أن الاقتناع الذي يكون قد أصدر حكمه بناء عليه يكون متولدا من عقيدته هو وليس من تقرير الخبير.
3.يجب أن تكون الأدلة المتحصلة من الوسائل الإلكترونية مشروعة:من المقرر أن الإدانة في أي جريمة لا بد وأن تكون مبنية على أدلة مشروعة حصل عليها وفق قواعد الأخلاق والنزاهة واحترام القانون، فمبدأ مشروعية الدليل الجنائي بالنسبة لمخرجات الوسائل الإلكترونية يتطلب ضرورة اتفاق إجراءات الحصول على هذه المخرجات بما يتفق والقواعد القانونية والأنظمة الثابتة في وجدان المجتمع المتحضر.
ويترتب على ذلك أن إجراءات جمع الأدلة المتحصلة من الوسائل الإلكترونية إذا خالفت القواعد الإجرائية التي تنظم كيفية الحصول عليها، فإنها تكون باطلة ولا تصلح لأن تكون أدلة تبنى عليها الإدانة في المواد الجنائية.
فمشروعية الدليل تتطلب صدقه في مضمونه، وان يكون هذا المضمون قد تم الحصول عليه بطرق مشروعة وتدل على الأمانة والنزاهة من حيث طرق الحصول عليه.
- تقدير أدلة الإثبات المتحصلة عن الوسائل الإلكترونية في ضوء نظم الأدلة الجنائية:
أسلفنا فيما مضى أن نظم الأدلة الجنائية في الإثبات الجنائي تتنوع ، بين التي تأخذ بنظام الأدلة القانونية في الإثبات، وأخرى تعتنق نظام الإثبات الحر القائم على حرية القاضي الجنائي في الاقتناع، وتلك التي تجمع بين النظامين بما يسمى بالنظام المختلط.
وإذا كان التطور العلمي قد أفرز ثورة الاتصالات عن بعد والتي جاءت للبشرية بتكنولوجيا جديدة نراها في مختلف مناحي الحياة، كالتجارة الإلكترونية، وظهور الحاسبات الآلية، وشبكات الاتصال المختلفة، والإدارة الإلكترونية، والتحويلات المصرفية الإلكترونية، وظهور المستندات الإلكترونية، والنقود الإلكترونية، حتى يمكن القول أننا نعيش اليوم عصر الثورة الرقمية التي حلت بالنسبة لها الذبذبات والنبضات محل الأوراق والكتابة والتوقيعات التقليدية.
ولذلك، فإن السؤال الذي يطرح نفسه بالنظر إلى هذه الآثار التي ترتبت على ثورة الإتصالات عن بعد، هل سنشهد نظاما للإثبات الجنائي قد تفرزه أيضا هذه الثورة بحيث يعتمد الإثبات الجنائي على الأدلة العلمية الإلكترونية وتتقيد بالتالي سلطة القاضي في الإقتناع؟
يمكن القول بأن التطور العلمي قد يؤثر بلا شك على نظام الإقتناع القضائي، فقد يعلى هذا التطور من تقارير الخبراء. بالنظر إلى كثرة المسائل الفنية البحتة التي سوف تفرزها تطبيقات ثورة الاتصالات عن بعد، فهذا التطور قد يزيد من دور الخبرة في المسائل الجنائية، بالنظر إلى أن الكثير من الجرائم التي ترتكب كنتيجة لهذه الثورة ستقع على مسائل إلكترونية ذات طبيعة فنية معقدة، أو قد تستخدم هذه الوسائل في ارتكابها، وبالنظر إلى تطور مجالات الخبرة فإنه سوف تتسع مجالات اللجوء إليها.
كذلك فقد توفر التقنية العلمية طرقا دقيقة لجمع الأدلة بحيث يمكن أن يساهم العلم في صنع الدليل، بحيث أن هذا الدليل قد يتمتع بقوة علمية يصعب إثبات عكسها. أيضا فقد يعلو شأن الإثبات بالقرائن كنتيجة لاتساع مجال الإثبات بها نتيجة تطور العلوم، ولقد أصبح هذا الأمر جليا واضحا في الإثبات بالبصمة الوراثية، وببصمة الصوت، وبصمة قزحية العين وببصمة الشفاة. فالقضاء قد قبل الإثبات بالأدلة المتحصلة عنها عن طريق الرادار، التصوير، السينمومتر، كاميرات الفيديو، مسجلات الصوت، الوسائل الإلكترونية في التصنت.
ولا شك في أن ثورة الإتصالات عن بعد في تأثيرها على طبيعة الجرائم التي ترتكب كنتيجة لاستخدام تقنيتها العلمية ستزيد من تعقيد الدليل الجنائي وطرق الوصول إليه، بحيث أن ذلك قد يؤثر على الطرق التقليدية للحصول عليه فتعجز عن الوصول إلى الدليل الذي يكفي لإثبات هذا النوع الجديد من الجرائم. وهذا الأمر يتطلب أن يلحق التطور طرق الحصول على الدليل الجنائي بالنسبة لهذه الجرائم المستجدة لكي يمكن عن طريقها الوصول إليه.
كذلك فإنه يلاحظ أن الكثير من المسائل غير الجنائية التي تدخل عناصر تكوينيه في الجرائم الجنائية ستزداد أهميتها كنتيجة لثورة الإتصالات عن بعد، فهذه المسائل قد تغير مفهومها التقليدي فأصبحنا نسمع اليوم عن الشيكات الإلكترونية، وهذا الأمر سيكون له تأثيره بالنسبة لجريمة الشيك بدون رصيد، ويكون إثباته معتمدا على مسائل فنية لإثبات الشيك كورقة تجارية.
وأيضا فقد ظهرت الكيانات غير المادية التي قد تكون محلا لجريمة خيانة الأمانة، وهذا الأمر يتطلب البحث في توافر العقد المدني الذي تسلم الجاني هذا الكيان غير المادي بموجبه، فلكي يتم العقاب على هذه الجريمة في قانون العقوبات المصري "المادة 341" فيجب أن يكون المتهم قد تسلم المال بعقد من العقود المنصوص عليها في هذه المادة.
كذلك فإن الاحتيال الذي تقوم به جريمة النصب، قد تطور كنتيجة لاستخدام التقنية العلمية وأصبح هذا الاحتيال كثير الوقوع في العمليات الإلكترونية، وبالنظر إلى الطبيعة غير المرئية التي يتم بها فقد يصعب إثباته.
وليس بِخافٍ كذلك أن المستندات الورقية كمحل تقع عليه جرائم التزوير قد تغير مفهومها بسبب ثورة الإتصالات عن بعد، فقد ظهرت اليوم المستندات الإلكترونية وأصبحت هذه المستندات تصلح في الكثير من التشريعات لتكون محلا يقع عليه التزوير.
ولا شك في أن ظهور هذه المستندات الرقمية سيغير كثيرا من طرق الإثبات الجنائية بالنسبة للجرائم التي تقع عليها، ذلك أن الطرق التقليدية قد لا تقوى على إثباتها، ومن ثم فإن الأمر يحتاج إلى إثبات جنائي جديد يكون في استطاعته إثبات هذا النوع من التزوير، خاصة بعد أن ظهر التوقيع الإلكتروني وأصبح يتمتع بحجية في الإثبات في الكثير من التشريعات.
وهكذا نرى أن الثورة العلمية في الإتصالات لم تؤثر – فقط – في نوعية الجرائم التي ترتبت عليها وفي نوعية الجناة الذين يرتكبون هذه الجرائم وإنما أثرت تأثيرا كبيرا على الإثبات الجنائي وعلى طرق هذا الإثبات، بحيث يمكن القول أن طرق الإثبات التقليدية قد أصبحت عقيمة بالنسبة لإثبات الجرائم الإلكترونية، وأن الطرق العلمية والفنية للحصول على الدليل قد أصبحت هي المناسبة لإثبات هذا النوع من الجرائم.
وإذا كانت الغلبة بالنسبة لإثبات الجرائم الإلكترونية ستكون للإثبات بالقرائن والخبرة، فإن ذلك سيزيد من أهمية الدليل العلمي في الإثبات الجنائي، وفي ذات الوقت يزيد من أهمية دور القاضي في هذا الإثبات بحيث يظل القاضي متمتعا بسلطة تقديرية في تقدير هذه الأدلة بحسبان أنها قد لا تكون مؤكدة على سبيل القطع ، أو قد تكون مجرد إمارات أو دلالات، أو قد يحوطها الشك، فهنا تظهر أهمية هذه السلطة التقديرية التي يجب أن يظل القاضي متمتعا بها، لأنه من خلالها يستطيع إظهار مواطن الضعف في هذه القرائن، ويستطيع كذلك تفسير الشك لصالح المتهم.
فلا مرية أن الدليل مهما تقدمت طرقه وعلت قيمته العلمية أو الفنية في الإثبات، فإنه يحتاج إلى قاض يتمتع بسلطة تقديرية، لأن هذه السلطة التقديرية تكون لازمة لتنقية الدليل من الغلط أو الخطأ أو الغش، وهي تكون ضرورية أيضا لكي تجعل الحقيقة العلمية حقيقة قضائية.
فالحقيقة تحتاج دائما إلى دليل، وإذا كانت هذه الحقيقة قابلة للتطور، فإن الدليل الذي تقوم به لا بد وأن يكون هو الآخر متطورا لكي يقوى على إثباتها، ويجب ألا يقف هذا التطور عند طرق الحصول على الدليل، بل يلزم أن يتطور أيضا كل من يتعامل مع هذا الدليل من محققين وخبراء وقضاة، لأنه بهذا التطور الأخير تتطور الحقيقة القضائية وتستطيع أن تجعل الحقيقة العلمية حقيقة عادلة
منقوول