عن كلية الحقوق جامعة المنصورة
محاضرة المحاماة في نظر القاضي
نص المحاضرة التي ألقاها حضرة القاضي محمد مختار عبد الله على المحامين تحت التمرين بقاعة محكمة الاستئناف الأهلية يوم 10 ديسمبر سنة 1931
تفضل سعادة النقيب في محاضرته الأخيرة بتوجيه الدعوة إلى القضاء ليساهم في هذا البحث الممتع عن مهنة المحاماة وقد أقدمت على الاستجابة لتلك الدعوة وأنا عالم بخطورة الموضوع ولولا العلاقة الوثيقة المتجددة التي تربط القضاة والمحاماة والتي تجعل القاضي والمحامي كاهنين يقوم كل منهما بما خصصته الهيئة الاجتماعية لكليهما من طقوس في هيكل العدالة ذلك الهيكل المفتح الأبواب للجميع والذي يقصده الجميع على اختلاف العقيدة والرأي والمثل الأعلى، لولا ذلك يا حضرات السادة لترددت كثيرًا، بل لا حجمت عن قبول الدعوة، والواقع أن القضاء، وإن سبق المحاماة في الظهور وكان في ولادته مرتبطًا بجلال الملك ومظهره حيث كان دوامًا بيد صاحب التاج والصولجان إلا أن المحاماة كانت وليدة عاطفة نبيلة في الهيئة الاجتماعية تبغي تحقيق المساواة بين الخصوم وتمكين الضعيف من الوقوف في نفس المستوى الذي يسهل على القوي الوصول إليه أمام منصة القضاء فترون إذن أن ما امتاز به القضاء من حيث طيب الذوق قد عادله ما اختصت به المحاماة من حيث نبل المولد وشرف المطمح، وقد عاشت الهيئتان بعد ذلك سويًا وكما أسلفت القول انتهى الأمر إلى توثيق تلك العلاقة الشريفة بينهما حتى جعلت من كليهما دعامة أساسية لهيكل العدالة .
وأريد أن أقرر هنا أن ذلك الهيكل أصبح من ضروريات النظام الاجتماعي بل هو من دعائمه المكينة، وهو مفتوح على مصراعيه ليقصده كل ذي ظلامة متقدمًا بما كسبت يداه ويخرج منه وقد حلت السكينة في قلبه محل الخوف لعلمه أن كهنة الهيكل لا يصدرون إلا عن عقيدة هم مسؤولون أمامها فقط، ننتقل بعد ذلك إلى تعريف المحامي فنجد العلامة جارسونيه نقول عنه بأنه الشخص الذي بعد أن حصل على إجازة ليسانس الحقوق وقام بأداء القسم الذي يفرضه القانون مع الاشتراطات الأخرى الواردة باللوائح يتولى الدفاع شفويًا وكتابةً أمام المحاكم عن شرف مواطنيه وحياتهم وحرياتهم وأموالهم (جارسونيه جزء 1 صـ 412)، وهذا التعريف يشمل المحامي بمصر طبعًا من حيث طبيعة عمله ومؤهلاته المتطلبة - في الوقت الحاضر - وإن كان المحامي لا يؤدي قسمًا وحبذا لو اتبع هذا النظام ويقول لابر بير la bruyére في صدد أعمال المحامي (أنه يتكلم في يوم واحد أمام محاكم مختلفة في دعاوى مختلفة وليس منزله ملجأ لراحته ولا بعاصم له عن مضايقة المتقاضين إذ يقصده كل من يريد أن يحمله أعباء مشاكله وشكوكه ولا ينتهي المحامي من خطاب طويل إلا ليعالج مذكرات أطول فكل عمله محصور في تنويع المتاعب والمشاكل وأجرأ على القول بأنه بين مواطنيه يمثل الرجال الأولين الذين قاموا بتبليغ الرسالة الإلهية) (جارسونيه جزء 1 صـ 413)، وقد يكون من الأنسب أن آتي بتعريف أحد أعلام القضاء القديم في فرنسا لتلك المهنة أقصد المستر agusseau حيث قال (بين أحكام تلك الظروف ظهر نظام قديم كالقضاء نبيل كالفضيلة لازم كالعدالة يتميز بصفة اختص بها دون غيره فهو وحده في جميع الظروف يحتفظ دوامًا في غبطة وهدوء باستقلاله وهو في حريته جزيل الفائدة للوطن مكرس نفسه لخدمة الجمهور بدون أن يكون عبدًا له...، ومهنة المحاماة في تجردها عن القيود تسمو إلى أرفع منزلة بدون أن تفقد شيئًا من حريتها الأولى وهي كالفضيلة في ترفعها عن التبرج تستطيع أن تجعل المرء نبيلاً بغير ولادة غنيًا بلا مال رفيعًا من غير حاجة إلى لقب، سعيدًا بغير ثروة) آبلتون مهنة المحاماة صـ 21 .
هذه المهنة هي التي حمل لواءها قديمًا بريكليس وديموستين وشيشرون وغيرهم من العظماء والتي تخرج للدول دوامًا وفي كل العصور زعماء قادرين وقادة نابهين ولذا كانت بحق في طليعة المهن المنتجة الشريفة نستطيع بعد ذلك الانتقال إلى مسابرة المحامي في طريقه الطويل المنهك للقوى لنرى ما يجب أن يتزود به ذلك الرحالة حتى يصل من مرحلته إلى منتهاها وبدء الرحلة على ما أعتقد تكون في معهد الدراسة القانونية حيث يتلقى الطالب المعلومات القانونية وهي الخامات التي يحتاج إليها المحامي في صناعته ولئن كانت مستلزمات الحياة العملية تستدعي موادًا أخرى غير هذه الخامات فإنه مما لا شك فيه أن محصول الطالب في معهد القانون إن كان طيبًا يسهل عليه الحصول على المواد الأخرى ويجعلها أقرب إلى متناوله بحيث يستطيع أن يقوم بإتمام النسيج اللازم لصناعته في وقت أقصر وبطريقة أكثر إتقانًا، ومعهد الدراسة بطبيعة الحال يلقن الطلبة المعلومات النظرية والحلول العلمية التي يستنبطها المشتغلون بالقانون من الفقهاء وقد تكون هذه النظريات في مآخذها بعيدة عن الاعتبارات العملية لتلك الاعتبارات التي تصدم جماعة المشتغلين بتطبيق القانون والمترافعين أمامهم .
وقد يكون حرص المعهد على حشو رؤوس الطلبة بشتى الدراسات مانعًا لهم عن التزود من الدراسة التي هي ألزم لهم في حياتهم العملية وقد يكون جو المعهد النظري بعيدًا عن جو الهيكل العملي كل ذلك نسلم به ولكننا نريد للطالب الذي يبغي الاشتغال بالمحاماة أن يغادر معهده وقد ألم تمام الإلمام بالوسائل التي يلجأ إليها لمعالجة مشكلة قانونية بحيث يستطيع إبان حياته العملية الرجوع إليها بسهولة وسرعة وبديهي أنه لا يتيسر له معرفة تلك الوسائل إلا إذ كان على علم تام بأسماء المؤلفات القانونية والموسوعات العلمية والقضائية نريد له وقد عرضت له مشكلة ما أن يعرف أين يصل إلى أعماقها وكيف يتيسر له التنقيب على الحلول التي وجدت لها إن كانت قد عرضت من قبل والتي قد تستنبط إن لم تكن قد عرضت نريده على ثقة من طريق يسلكه مباشرةً بدون أن يضل بين الموسوعات بحيث يمد يده حالاً إلى ما يريده من عديد المجلدات وهذا ما لا يتأتى لكل طالب إذ لا يستطيعه قارئ المذكرات والمختصرات العديدة التي في متناول الطلبة بل يستطيعه من اعتمد على نفسه واتخذ من محاضرات أستاذه عونًا له على البحث والتنقيب بين تلك المجلدات العديدة التي وضعت في متناوله بمكتبة المعهد وبالاختصار يجب على المتطلب للمحاماة أن يغادر المعهد وهو على علم تام بأسماء أمهات الموسوعات والمؤلفات في مختلف القوانين وكيفية بنائها وتركيبها وطريقة الاستعانة بها يجب أن يغادر المعهد وقد كون له عقلية علمية مستقلة يستطيع بها أن ينظر إلى أية مشكلة من جميع زواياها ويوازن بين حجج كل رأي ليستخلص لنفسه ما يراه الحل الصحيح نريد أن تكون تلك العقلية علمية بمعنى ألا ترضخ إلا لما يقوم عليه الدليل غير عابئة بأي اعتبار آخر ومن حُسن حظ المشتغلين بالقانون أن مجال التفكير والاستنباط أكثر اتساعًا أمامهم من غيرهم، فعلم القانون لا يقوم على حقائق حسابية (أي لما تماتيكه) تستلزم التسليم والرضوخ فهو من هذه الوجهة يفسح المجال للرواد بغير أن تشل مجهودهم أو يقلل من دائرة أبحاثهم ومع ذلك كله فمتى تزود الناشئ بذلك فلا يعتقدن أن فيه الكفاية وهنا أترك الكلمة للأستاذ النقيب ألبرت سال albert salle في جلسة افتتاح محاضرات المحامين أمام محكمة باريس بتاريخ 3 ديسمبر سنة 1921 (أن فن المحاماة لمن الصعوبة بمكان فهو لا يكتسب بأداء القسم ولكن بالدراسة الطويلة وبالدأب على العمل مع شيء من الاستعداد الطبيعي ولكن هذا الاستعداد مهما كان عظيمًا فلا يكتفي لأن يقوم مقام علم المتفقهين وأن إجازة الليسانس التي حصلتم عليها تظهر أنكم قلبتم صحائف القوانين وأن عندكم بعض المعلومات العامة عن حقوق الارتفاق وعن العقود وأن لديكم الكفاءة لدراسة بعض المسائل القانونية وهذا على وجه التقريب كل ما تعلمون ولكنكم لا تعرفون أن تفرقوا بين الإنذار والتكليف بالحضور وهيهات أن تكشف لكم صورة الحكم عن أسرارها حيث تضلون بين مجاهل صفات الخصوم ولا تستطيعون أن تستوعبوا الصيغة الخطيرة لمنطوق الحكم) آبلتون صـ 513، وقد مر علينا جميعًا ذلك الدور وأذكر أنني عند ما انتقلت من النيابة إلى القضاء كانت ملفات القضايا المدنية ألغازًا فكم أضعت ثمين الوقت في تقليب الأوراق العديدة لأصل إلى صحيفة الدعوى أو لصحيفة الاستئناف حتى أتفهم محتوياتها وكم كان من العسير أن أصل إلى موقع الأمر بالحجز التحفظي ومحضر حصوله .
ثم كم كان من الشاق أن أصل إلى حصر النزاع بين الخصوم داخل حدوده وأن أجرده من الحواشي العديدة المرتبطة به وأذكر أنه عرضت على الهيئة التي جلست فيها لأول مرة قضية استئنافية عن دعوى استحقاق عقارية وكان النزاع حول ميعاد الاستئناف وهو يتوقف طبعًا على ما إذا كانت الدعوى فرعية أوقفت الإجراءات أم لا ولما رجعت إلى الدوسيه وتعلمون حضراتكم أنه يكون منتفخ الأوداج عادةً في قضايا تثبيت الملكية فبالأولى إذا أضيف إلى النزاع أخيرًا دعوى استحقاق ضللت طريقي فتفضل زميلي القديم بحمله عبء الدوسيه عني ولشد ما كانت دهشتي عند ما وجدته كالطبيب الماهر عثر حالاً بين صحائف محاضر الجلسات العديدة المكتوبة بخط عسر القراءة على تدخل المستحق أثناء إجراءات البيع ودفعه للأمانة المتطلبة حتى ترتب على ذلك إيقاف البيع، هذا مثل لبعض الصعوبات المادية التي تجابه المحامي في بدء اشتغاله وكثير مثلها وإن كانت من نوع آخر تقابله عندما يضطر إلى تكييف النزاع الذي عهد به موكله إليه وإلباسه الثوب القانوني متقدمًا إلى القضاء ليطلب موافقته على صلاحية الثوب وكم يجب عليه من اليقظة خشية أن يلج خصمه من ناحية قد تكون فضفاضة في الثوب وهذه الخبرة التي يكتسبها المحامي قد يتلقاها بين أعمدة هيكل العدالة وقد يتلقاها من مناقشة زملائه أمام منصة القضاء وقد يتلقاها في بطون المؤلفات القانونية وبين صفحات المجلات القضائية والزمن له حكمه في إتمام الإنضاج، ومن العبث وضع قواعد عامة يستطيع المبتدئ أن يصل إلى النجاح في مهمته إذا راعاها فلا بد أن يكون لديه شيء من الاستعداد الفطري ولنحاذر المغالاة في ذلك، فلقد قطعت المحاماة منذ أمد بعيد وعلى الأقل في المسائل المدنية الشوط الذي كانت فيه فصاحة التعبير كل شيء وأصبحت الآن تعتمد في معظم الأحوال على المذكرات الكتابية حيث يكون القول الفصل للحجة القانونية مهما وضعت في عبارة سقيمة ومهما كانت بعيدة عن طلاوة التعبير وسهولة الأداء، ويمكن أن نجمل شروط النجاح في أربعة مجاراةً للأستاذ النقيب آبلتون (صـ 515 ).
محاضرة المحاماة في نظر القاضي
نص المحاضرة التي ألقاها حضرة القاضي محمد مختار عبد الله على المحامين تحت التمرين بقاعة محكمة الاستئناف الأهلية يوم 10 ديسمبر سنة 1931
تفضل سعادة النقيب في محاضرته الأخيرة بتوجيه الدعوة إلى القضاء ليساهم في هذا البحث الممتع عن مهنة المحاماة وقد أقدمت على الاستجابة لتلك الدعوة وأنا عالم بخطورة الموضوع ولولا العلاقة الوثيقة المتجددة التي تربط القضاة والمحاماة والتي تجعل القاضي والمحامي كاهنين يقوم كل منهما بما خصصته الهيئة الاجتماعية لكليهما من طقوس في هيكل العدالة ذلك الهيكل المفتح الأبواب للجميع والذي يقصده الجميع على اختلاف العقيدة والرأي والمثل الأعلى، لولا ذلك يا حضرات السادة لترددت كثيرًا، بل لا حجمت عن قبول الدعوة، والواقع أن القضاء، وإن سبق المحاماة في الظهور وكان في ولادته مرتبطًا بجلال الملك ومظهره حيث كان دوامًا بيد صاحب التاج والصولجان إلا أن المحاماة كانت وليدة عاطفة نبيلة في الهيئة الاجتماعية تبغي تحقيق المساواة بين الخصوم وتمكين الضعيف من الوقوف في نفس المستوى الذي يسهل على القوي الوصول إليه أمام منصة القضاء فترون إذن أن ما امتاز به القضاء من حيث طيب الذوق قد عادله ما اختصت به المحاماة من حيث نبل المولد وشرف المطمح، وقد عاشت الهيئتان بعد ذلك سويًا وكما أسلفت القول انتهى الأمر إلى توثيق تلك العلاقة الشريفة بينهما حتى جعلت من كليهما دعامة أساسية لهيكل العدالة .
وأريد أن أقرر هنا أن ذلك الهيكل أصبح من ضروريات النظام الاجتماعي بل هو من دعائمه المكينة، وهو مفتوح على مصراعيه ليقصده كل ذي ظلامة متقدمًا بما كسبت يداه ويخرج منه وقد حلت السكينة في قلبه محل الخوف لعلمه أن كهنة الهيكل لا يصدرون إلا عن عقيدة هم مسؤولون أمامها فقط، ننتقل بعد ذلك إلى تعريف المحامي فنجد العلامة جارسونيه نقول عنه بأنه الشخص الذي بعد أن حصل على إجازة ليسانس الحقوق وقام بأداء القسم الذي يفرضه القانون مع الاشتراطات الأخرى الواردة باللوائح يتولى الدفاع شفويًا وكتابةً أمام المحاكم عن شرف مواطنيه وحياتهم وحرياتهم وأموالهم (جارسونيه جزء 1 صـ 412)، وهذا التعريف يشمل المحامي بمصر طبعًا من حيث طبيعة عمله ومؤهلاته المتطلبة - في الوقت الحاضر - وإن كان المحامي لا يؤدي قسمًا وحبذا لو اتبع هذا النظام ويقول لابر بير la bruyére في صدد أعمال المحامي (أنه يتكلم في يوم واحد أمام محاكم مختلفة في دعاوى مختلفة وليس منزله ملجأ لراحته ولا بعاصم له عن مضايقة المتقاضين إذ يقصده كل من يريد أن يحمله أعباء مشاكله وشكوكه ولا ينتهي المحامي من خطاب طويل إلا ليعالج مذكرات أطول فكل عمله محصور في تنويع المتاعب والمشاكل وأجرأ على القول بأنه بين مواطنيه يمثل الرجال الأولين الذين قاموا بتبليغ الرسالة الإلهية) (جارسونيه جزء 1 صـ 413)، وقد يكون من الأنسب أن آتي بتعريف أحد أعلام القضاء القديم في فرنسا لتلك المهنة أقصد المستر agusseau حيث قال (بين أحكام تلك الظروف ظهر نظام قديم كالقضاء نبيل كالفضيلة لازم كالعدالة يتميز بصفة اختص بها دون غيره فهو وحده في جميع الظروف يحتفظ دوامًا في غبطة وهدوء باستقلاله وهو في حريته جزيل الفائدة للوطن مكرس نفسه لخدمة الجمهور بدون أن يكون عبدًا له...، ومهنة المحاماة في تجردها عن القيود تسمو إلى أرفع منزلة بدون أن تفقد شيئًا من حريتها الأولى وهي كالفضيلة في ترفعها عن التبرج تستطيع أن تجعل المرء نبيلاً بغير ولادة غنيًا بلا مال رفيعًا من غير حاجة إلى لقب، سعيدًا بغير ثروة) آبلتون مهنة المحاماة صـ 21 .
هذه المهنة هي التي حمل لواءها قديمًا بريكليس وديموستين وشيشرون وغيرهم من العظماء والتي تخرج للدول دوامًا وفي كل العصور زعماء قادرين وقادة نابهين ولذا كانت بحق في طليعة المهن المنتجة الشريفة نستطيع بعد ذلك الانتقال إلى مسابرة المحامي في طريقه الطويل المنهك للقوى لنرى ما يجب أن يتزود به ذلك الرحالة حتى يصل من مرحلته إلى منتهاها وبدء الرحلة على ما أعتقد تكون في معهد الدراسة القانونية حيث يتلقى الطالب المعلومات القانونية وهي الخامات التي يحتاج إليها المحامي في صناعته ولئن كانت مستلزمات الحياة العملية تستدعي موادًا أخرى غير هذه الخامات فإنه مما لا شك فيه أن محصول الطالب في معهد القانون إن كان طيبًا يسهل عليه الحصول على المواد الأخرى ويجعلها أقرب إلى متناوله بحيث يستطيع أن يقوم بإتمام النسيج اللازم لصناعته في وقت أقصر وبطريقة أكثر إتقانًا، ومعهد الدراسة بطبيعة الحال يلقن الطلبة المعلومات النظرية والحلول العلمية التي يستنبطها المشتغلون بالقانون من الفقهاء وقد تكون هذه النظريات في مآخذها بعيدة عن الاعتبارات العملية لتلك الاعتبارات التي تصدم جماعة المشتغلين بتطبيق القانون والمترافعين أمامهم .
وقد يكون حرص المعهد على حشو رؤوس الطلبة بشتى الدراسات مانعًا لهم عن التزود من الدراسة التي هي ألزم لهم في حياتهم العملية وقد يكون جو المعهد النظري بعيدًا عن جو الهيكل العملي كل ذلك نسلم به ولكننا نريد للطالب الذي يبغي الاشتغال بالمحاماة أن يغادر معهده وقد ألم تمام الإلمام بالوسائل التي يلجأ إليها لمعالجة مشكلة قانونية بحيث يستطيع إبان حياته العملية الرجوع إليها بسهولة وسرعة وبديهي أنه لا يتيسر له معرفة تلك الوسائل إلا إذ كان على علم تام بأسماء المؤلفات القانونية والموسوعات العلمية والقضائية نريد له وقد عرضت له مشكلة ما أن يعرف أين يصل إلى أعماقها وكيف يتيسر له التنقيب على الحلول التي وجدت لها إن كانت قد عرضت من قبل والتي قد تستنبط إن لم تكن قد عرضت نريده على ثقة من طريق يسلكه مباشرةً بدون أن يضل بين الموسوعات بحيث يمد يده حالاً إلى ما يريده من عديد المجلدات وهذا ما لا يتأتى لكل طالب إذ لا يستطيعه قارئ المذكرات والمختصرات العديدة التي في متناول الطلبة بل يستطيعه من اعتمد على نفسه واتخذ من محاضرات أستاذه عونًا له على البحث والتنقيب بين تلك المجلدات العديدة التي وضعت في متناوله بمكتبة المعهد وبالاختصار يجب على المتطلب للمحاماة أن يغادر المعهد وهو على علم تام بأسماء أمهات الموسوعات والمؤلفات في مختلف القوانين وكيفية بنائها وتركيبها وطريقة الاستعانة بها يجب أن يغادر المعهد وقد كون له عقلية علمية مستقلة يستطيع بها أن ينظر إلى أية مشكلة من جميع زواياها ويوازن بين حجج كل رأي ليستخلص لنفسه ما يراه الحل الصحيح نريد أن تكون تلك العقلية علمية بمعنى ألا ترضخ إلا لما يقوم عليه الدليل غير عابئة بأي اعتبار آخر ومن حُسن حظ المشتغلين بالقانون أن مجال التفكير والاستنباط أكثر اتساعًا أمامهم من غيرهم، فعلم القانون لا يقوم على حقائق حسابية (أي لما تماتيكه) تستلزم التسليم والرضوخ فهو من هذه الوجهة يفسح المجال للرواد بغير أن تشل مجهودهم أو يقلل من دائرة أبحاثهم ومع ذلك كله فمتى تزود الناشئ بذلك فلا يعتقدن أن فيه الكفاية وهنا أترك الكلمة للأستاذ النقيب ألبرت سال albert salle في جلسة افتتاح محاضرات المحامين أمام محكمة باريس بتاريخ 3 ديسمبر سنة 1921 (أن فن المحاماة لمن الصعوبة بمكان فهو لا يكتسب بأداء القسم ولكن بالدراسة الطويلة وبالدأب على العمل مع شيء من الاستعداد الطبيعي ولكن هذا الاستعداد مهما كان عظيمًا فلا يكتفي لأن يقوم مقام علم المتفقهين وأن إجازة الليسانس التي حصلتم عليها تظهر أنكم قلبتم صحائف القوانين وأن عندكم بعض المعلومات العامة عن حقوق الارتفاق وعن العقود وأن لديكم الكفاءة لدراسة بعض المسائل القانونية وهذا على وجه التقريب كل ما تعلمون ولكنكم لا تعرفون أن تفرقوا بين الإنذار والتكليف بالحضور وهيهات أن تكشف لكم صورة الحكم عن أسرارها حيث تضلون بين مجاهل صفات الخصوم ولا تستطيعون أن تستوعبوا الصيغة الخطيرة لمنطوق الحكم) آبلتون صـ 513، وقد مر علينا جميعًا ذلك الدور وأذكر أنني عند ما انتقلت من النيابة إلى القضاء كانت ملفات القضايا المدنية ألغازًا فكم أضعت ثمين الوقت في تقليب الأوراق العديدة لأصل إلى صحيفة الدعوى أو لصحيفة الاستئناف حتى أتفهم محتوياتها وكم كان من العسير أن أصل إلى موقع الأمر بالحجز التحفظي ومحضر حصوله .
ثم كم كان من الشاق أن أصل إلى حصر النزاع بين الخصوم داخل حدوده وأن أجرده من الحواشي العديدة المرتبطة به وأذكر أنه عرضت على الهيئة التي جلست فيها لأول مرة قضية استئنافية عن دعوى استحقاق عقارية وكان النزاع حول ميعاد الاستئناف وهو يتوقف طبعًا على ما إذا كانت الدعوى فرعية أوقفت الإجراءات أم لا ولما رجعت إلى الدوسيه وتعلمون حضراتكم أنه يكون منتفخ الأوداج عادةً في قضايا تثبيت الملكية فبالأولى إذا أضيف إلى النزاع أخيرًا دعوى استحقاق ضللت طريقي فتفضل زميلي القديم بحمله عبء الدوسيه عني ولشد ما كانت دهشتي عند ما وجدته كالطبيب الماهر عثر حالاً بين صحائف محاضر الجلسات العديدة المكتوبة بخط عسر القراءة على تدخل المستحق أثناء إجراءات البيع ودفعه للأمانة المتطلبة حتى ترتب على ذلك إيقاف البيع، هذا مثل لبعض الصعوبات المادية التي تجابه المحامي في بدء اشتغاله وكثير مثلها وإن كانت من نوع آخر تقابله عندما يضطر إلى تكييف النزاع الذي عهد به موكله إليه وإلباسه الثوب القانوني متقدمًا إلى القضاء ليطلب موافقته على صلاحية الثوب وكم يجب عليه من اليقظة خشية أن يلج خصمه من ناحية قد تكون فضفاضة في الثوب وهذه الخبرة التي يكتسبها المحامي قد يتلقاها بين أعمدة هيكل العدالة وقد يتلقاها من مناقشة زملائه أمام منصة القضاء وقد يتلقاها في بطون المؤلفات القانونية وبين صفحات المجلات القضائية والزمن له حكمه في إتمام الإنضاج، ومن العبث وضع قواعد عامة يستطيع المبتدئ أن يصل إلى النجاح في مهمته إذا راعاها فلا بد أن يكون لديه شيء من الاستعداد الفطري ولنحاذر المغالاة في ذلك، فلقد قطعت المحاماة منذ أمد بعيد وعلى الأقل في المسائل المدنية الشوط الذي كانت فيه فصاحة التعبير كل شيء وأصبحت الآن تعتمد في معظم الأحوال على المذكرات الكتابية حيث يكون القول الفصل للحجة القانونية مهما وضعت في عبارة سقيمة ومهما كانت بعيدة عن طلاوة التعبير وسهولة الأداء، ويمكن أن نجمل شروط النجاح في أربعة مجاراةً للأستاذ النقيب آبلتون (صـ 515 ).