هناك ثقافة سياسية خاصة بالأقباط، ونقصد بهم في هذا السياق المسيحيين المصريين؟
بتعبير آخر هل يمكن القول إن هناك ثقافة سياسية خاصة بالأقباط تختلف عن تلك الثقافة السائدة لدى المسلمين؟ يبدو طرح مثل السؤال الآن وسط المناخ الطائفي المحتقن والمتصاعد في مصر تلك الأيام أمرا هامًا بلا شك، رغم أنه يقتحم حقل ألغام، وهو ما حاولت أن تتصدى له دراسة بالغة الأهمية، أجراها باحث قبطى هو سعيد عبد المسيح، وحملت عنوان "الثقافة السياسية للأقباط".
إيمانا منه بالتأثير الواسع للبابا على جمهور الأقباط وغرس القيم فيهم، لجأ الباحث إلى تحليل مضمون كافة خطب البابا شنودة وتكونت مادة تحليل خطب البابا من مجموعة حوارات ومقابلات أجرتها وسائل إعلامية متعددة مع البابا في عدد من المناسبات الدينية، وكتاب لغالي شكري هو في معظمه حوار مع قداسة البابا، وليصل الباحث من خلال هذا التحليل إلى نتيجة مؤداها، نفي الفكرة القائلة بوجود ثقافة سياسية خاصة بالأقباط تختلف عن تلك السائدة بين المسلمين في مصر، وذلك من خلال تركيز الدراسة على بعض قيم الثقافة السياسية، وهي المواطنة والمشاركة والتسامح.
أما فيما يتعلق بقيمة المواطنة فإن الدراسة قامت بمناقشتها من خلال ثلاثة محاور: الأول يتعلق بالانتماء الوطني، والثاني يتناول الانتماء القومي، والثالث يدرس القبطية، بمعنى كل حديث خاص بالأقباط وشؤونهم الخاصة مثل الوظائف العليا في الدولة التي لا يحظى بها الأقباط، وبناء الكنائس، واللغة القبطية.. الخ.
وظهرت قيمة الانتماء الوطني في عدد من الأمور التي تحدث فيها البابا، مثل أحاديثه عن مصر والهجرة والانتماء والوحدة الوطنية، وكلها موضوعات تدور في فلك تدعيم قيمة المواطنة، وعلى سبيل المثال فإن الدراسة ترصد ورود كلمة الهجرة في أحاديث البابا 34 مرة، وهى لا تؤيد هجرة الأقباط إلى خارج مصر، لكنها في هذا السياق تشير وكما تذكر الدراسة: إلى أن الهجرة لا تقتصر على الأقباط فقط، فهناك مسلمون أيضا يهاجرون، أي أن الهجرة ليست سمة تميز الأقباط، فالهجرة لها أسباب عديدة ويصعب وضعها في دائرة الدين، فهي أوسع وأشمل من ذلك.
وفيما يخص كلمة مصر فقد وردت 24 مرة في أحاديث البابا، وإن كان ذلك يدل على شيء فهو وكما تقول الدراسة: يدل على الانتماء لمصر والاعتزاز بها وهى الوطن الأم. ويستدل الباحث من محورية مصر في خطب البابا على أنها أمر يشغل تفكيره.
وفيما يتعلق بالانتماء فقد وردت 15 مرة في أحاديث البابا، وهى تعبير صريح كما تقول الدراسة: عن انتماء الأقباط لمصر والشعور بأنها الوطن الأم، وتقليص أي اتجاهات قد تقلل من هذا الانتماء، أما الحديث عن الوطن فقد شغل جزءًا من أحاديث وكلمات البابا حيث ورد 47 مرة، وحسب الباحث فإن ذلك يعكس مدى الارتباط بتراب الوطن والاعتزاز به.
ولم يكتف البابا بالحديث عن الوطن، بل أكمل ذلك بحديثه عن الوحدة الوطنية، حيث ورد المصطلح 17 مرة في أحاديثه، وهو أمر يشير حسبما تؤكد الدراسة إلى مدى تمسك البابا وتأكيده على أن مصر وحدة واحدة، وأن تعبير الفتنة مصطنع.
ومع ذلك وعلى الرغم مما سبق فإن الباحث يرى أن هناك بعض الموضوعات التي تقلل من قيمة المواطنة لدى الأقباط، ويستدل على ذلك بما قاله البابا في كثير من أحاديثه عن الخط الهمايوني، والذي يتطلب لكى تبني كنيسة، أو حتى مبنى في فناء كنيسة قائمة، تصريحا من رئاسة الجمهورية.
وخلص الباحث من خلال تحليل خطب البابا التي تتضمن الإشارة لهذا الموضوع، إلى أن الأقباط يريدون أن يشعروا بالمساواة في هذا الأمر، وأنهم يتمتعون كمواطنين بكل حقوق المواطنة، وعلى الدولة مراعاة ذلك ومعالجة وضعه، حتى يتعمق مفهوم المواطنة لدى الأقباط.
ومن ذلك ينتقل البابا للحديث عن شؤون الأقباط ، حيث وردت 81 مرة في أحاديثه، وهنا ترصد الدراسة أن ذلك لم يأت في سياق التعصب للأقباط أو الاعتزاز بالقبطية بديلاً عن المصرية، وإنما جاء ذلك في سياق التعبير عن وضع الأقباط في مصر، وكمثال على ذلك تورد الدراسة بعضًا من أقوال البابا في هذا الشأن، من بينها قوله: بابا الفاتيكان ليس له سلطان على الكنيسة القبطية، وكذلك قوله: "إن الأقباط ليسوا وافدين على هذه الديار وأيضا قوله: الأقباط مع المسلمين أبناء وطن واحد"، على حد تعبيره.
هذا كله يصب ـ كما تقول الدراسة ـ في اتجاه أن الأقباط يشعرون بالانتماء لمصر، ولا حديث مطلقا عن قومية قبطية، وإنما كانت هناك عوامل تصب في الاتجاه المضاد، أى تقلل من الشعور بالمواطنة مثل الوظائف التي لا يحصل عليها الأقباط، أو عدم التصريح ببناء كنائس.
وهكذا يتضح مما سبق أن المواطنة على المستويين المحلي والقومي متوطدة لدى الأقباط ، وأن كانت هناك بعض الأمور التي تقلل من هذه القيمة ، مثل حملات التشكيك في العقيدة المسيحية من قبل بعض الدعاة المسلمين، وهذه القضية كما تذكر الدراسة على جانب كبير من الخطورة، نظرا إلى أن المرء في مصر سواء كان مسلما أو مسيحيا لديه حساسية شديدة إزاء الدين.
ويري الباحث أن هذا ينعكس بالسلب على المواطنة، ومع ذلك فهناك العديد من الأمور التي تدعم قيمة المواطنة، منها محاضرات البابا في الخارج عن مصر، ومقولته المرتبطة به "مصر ليست وطنا نعيش فيه، بل وطن يعيش فينا".