يمكن وصف ما جرى في واقعة اختفاء وظهور السيدة كاميليا شحاتة، زوجة القسّ تداوس رزق، الكاهن بمدينة "دير مواس"، التابعة لمحافظة المنيا في صعيد مصر بمجرد الكذب، فالكذب قد يختلط ببعض الحقائق، لكن ما جرى يجدر تسميته "حديث الإفك" بامتياز لأن الإفك كله محض اختلاق ولا شيء فيه يمتّ للحقيقة بأي صلة، والإفك هنا مارسه رجال دين رسميون منذ اللحظة الأولى لاختفاء كاميليا حين أصروا على أن الأمر ليس سوى جريمة اختطاف كاملة، حتى قبل تحري الأمر والوقوف على ملابسات الواقعة التي لم يزل يكتنفها الغموض حتى الآن، رغم ظهور الزوجة التي لا يفهم كثيرون حقيقة اختفائها أو ظهورها، وأسباب التزامها الصمت بعد ذلك.
وأعترف أننا جميعًا وقعنا في فخ الكنيسة، فقد كانت هي ورجالها المصدر الأساسي لكل ما نشر من معلومات وتفاصيل عن تلك الواقعة، في ظل حالة من الصمت المريب الذي مارسته أجهزة الأمن، التي يبدو أنها فضلت أن تبحث عن الزوجة المختفية، بعيدًا عن حالة الابتزاز الطائفي الذي حاول البعض في الكنيسة أن يمارسوه، باتهام أجهزة الأمن تارة بأنها مقصرة في البحث عن زوجة الكاهن المختفية، وتارة أخرى بأنها متورطة في عملية الاختطاف.
لكن بمجرد أن ظهرت زوجة الكاهن مساء يوم الجمعة الماضي، بارت تجارة الابتزاز واهتزت بورصة المتاجرة بالاحتقان الطائفي، وبدا تهافت القصة، ولم تجد الكنيسة سبيلاً إلا أن تتوجه بالشكر الرسمي باسم البابا شنودة الثالث لأجهزة الأمن التي بذلت قصارى جهدها للعثور على كاميليا، وفض بكارة الحادث الغامض والملتبس حتى الآن.
أكاذيب وحقائق
الأكاذيب التي كشفتها حقائق الواقع يمكن أن نرصدها على الوجه التالي:
الكذبة الأولى: أن كاميليا لم تختف بمحض إرادتها، إنما ما جرى لها كان عملية اختطاف مُحكمة، لأن المسافة من شقتها بالمساكن الشعبية بدير مواس إلى بيت أسرتها في شارع النهضة لا تزيد عن مائة متر، دون أن ينتبه أي من رجال الكنيسة إن هذا كان دليلاً على أنها اختفت ولم تختطف، فلو أن هناك من دبر أو خطط لاختطافها المزعوم، وأراد تنفيذ ذلك، لفعله بعيدًا عن المنطقة الآمنة التي تسير فيها باستمرار من شقتها إلى بيت والدها، وبخاصة أنها اعتادت أن تبيت عند أهلها عندما يتغيب زوجها عن البيت لسبب أو آخر.
خرجت كاميليا من بيتها، وهي قاصدة بيت إحدى قريباتها، وهو ما يعني أنها خططت للاختفاء ـ مع سبق الإصرار والترصد ـ ولم تعلن ذلك لأي من أقاربها، وهو ما زاد الأمر غموضًا والتباسًا، ولا أدري ما الذي يمكن أن تقوله الكنيسة الآن، بعد أن تأكد أن الحادث كان اختفاءً إراديًا، ولم يكن جريمة اختطاف.
الكذبة الثانية: أصر كل من تحدث عن سيرة كاميليا سواء كان زوجها تداوس أو الأنبا أغابيوس أسقف دير مواس على أن كاميليا كانت تعيش حياة زوجية مستقرة مع زوجها، وأنها لم تشك من شيء، ولا يوجد أي مبرر لتترك بيت زوجها من تلقاء نفسها، إلا إذا كان هناك من حرضها على ذلك أو أجبرها .
لكن ما بدا بالفعل أن كاميليا لم تكن تعيش حياة هادئة ولا مستقرة مع زوجها، بل كانت بينهما مشكلات كثيرة، وأنها أخبرت والدها بها قبل ذلك مرارًا، لكن الأب كان ينصح زوجته بأن تصبر وتتحمل زوجها، لأنها زوجة كاهن يقوم بدور كبير في خدمة الكنيسة، وعليها أن "تحمل صليبها".
هناك ما هو أكثر، ففي يوم الأحد الذي اختفت فيه كاميليا كانت مشاجرة قد نشبت بينها وبين زوجها، ويبدو أنها لم تكن المشاجرة الأولى، رغم أن زوجها وفي عدة تصريحات صحفية أشار إلى أنه عاد إلى بيته وتناول طعام الغداء معها، وأنهما ناما معًا وقت القيلولة وهو ما يعني أن الزوجة تركت بيت الكاهن لأنها لم تطق العيش معه، لأسباب عائلية وشخصية محضة، وليس لسبب آخر.
الكذبة الثالثة: حاول الزوج أن يوحي للجميع أن هناك من حرض زوجته على الهرب، حيث أشار إلى أنه راجع أرقام التليفونات التي تلقتها على هاتفها المحمول، ووجد أن آخر من كلمها كان المدرس الأزهري "المعروف بميوله الإخوانية"، والذي يعمل معها في المدرسة التي انتدبت للعمل بها، وكأنه أراد أن يشير إلى أن هذا المدرس هو الذي حرَّضها على الهرب، وأنه أراد أسلمتها، وبخاصة أن هناك من بين رجال الكنيسة من أشار إلى أن هذا المدرس تحديدًا أبعد عن مدرسة كان يعمل بها لاتهامه بأسلمة فتاة أخرى.
وما حدث فعلاً أن هذا المدرس، عندما انفجرت الأزمة، كان يشارك في تشييع جنازة زوجة شقيقه الأكبر، وأنه لم يهتم أبدًا بما قيل له عن اتهامه بتحريض كاميليا على الهرب، لأنه باختصار لا يعرف شيئًا عن الموضوع، ورغم ذلك ألقت مباحث أمن الدولة في دير مواس القبض عليه وحققت معه، ولما لم تجد ما يدينه أطلقت سراحه.
ورطة الكنيسة
غير أنه وفي ظل إصرار الكنيسة على اتهامه بالتورط في القضية، تم إلقاء القبض عليه مرة ثانية، لكن في الغالب تم إطلاق سراحه للمرة الثانية بعد العثور على كاميليا وتم التأكد من أنها اختفت بإرادتها الحرة هروبًا من جحيم معاشرة زوجها، لأسباب شخصية يعلمها طرفا العلاقة وربما بعض المقربين منهما.
الكذبة الرابعة: كانت فيما أشاعته بعض المواقع الإلكترونية القبطية التي يطلقها أقباط المهجر، من أن هناك جماعات إسلامية متطرفة رصدت عدة ملايين لاختطاف كاميليا وإدخالها الإسلام، بل هناك من زعم أن المدرس الأزهري اصطحبها إلى مشيخة الأزهر لتعلن إسلامها هناك، دون أن يكون هناك أي دليل يؤكد ذلك الأمر، بل كانت مجرد تخرصات لا أساس لها من الواقع.
بعد أن ظهرت كاميليا اتضح كذب الكثيرين، ممن يفترض بهم عدم التورط في أكاذيب خطيرة من هذا النوع، فالأمر لم تكن فيه أي جماعات إسلامية، بل إن السيدة كاميليا لم تهرب من بيت زوجها، لأنها كانت تريد أن تعتنق الإسلام، وهو ما أكده عيد لبيب عضو مجلس الشورى عن المنيا، حيث أكد أن جميع ما نشر عن محاولات أسلمة كاميليا كانت كاذبة جملة وتفصيلاً، لكن كان هناك من يريد أن يسبغ على القضية أبعادًا طائفية لإحراج أجهزة الأمن، فيجعلها تبذل قصارى جهدها في البحث عن الزوجة المختفية، مع أن أجهزة الأمن من البداية لم تقصر في واجبها، بل تابعت الأمر بكل اهتمام اعترفت به أسرة الزوجة.
الكذبة الخامسة: كانت من نصيب الزوج القسّ، الذي حاول أن يوحي أن العلاقة بينه وبين زوجته على ما يرام، حتى يؤكد أن هناك من اختطفها، وأخفى القس تداوس شيئًا من المؤكد أنه يعرفه، وهو حقيقة العلاقة بين زوجته ـ لا أحد يعرف طبيعتها ـ وبين ابن خالتها الذي جاء ذكره عرضًا في القضية دون التأكيد عليه، أو إظهاره، وربما حدث ذلك من باب المحافظة على سمعة زوجة الكاهن، التي قرر آلاف الأقباط الاحتفال بعودتها، دون أن يسألوا أنفسهم لماذا اختفت من الأساس، وكيف ظهرت، وأين كانت، وما دوافعها، فالجميع فضلوا الانسياق العاطفي وراء قصة مختلقة، في ظل وجود متهم جاهز.
لقد اجتهد الزوج في إخفاء معالم القصة الحقيقية، فقال إنه عندما عاد إلى البيت يوم الإثنين الماضي، لم يكن هناك ما يشير إلى أن زوجته قررت الاختفاء، رغم أن ما تكشَّف بعد ذلك يؤكد أنها قررت الاختفاء مع سبق الإصرار والترصد، فقد سحبت من رصيدها في دفتر توفير بمكتب بريد دير مواس 43 ألف جنيه، وحصلت على مكافأة الامتحانات كاملة من المدرسة التي تعمل بها، كما أنها قدمت على إجازة من المدرسة لمدة خمسة عشر يومًا.
تخطيط للاختفاء
وهو ما يضع أيدينا على شيء آخر، فالزوجة التي حصلت على إجازة من مدرستها، ربما لم تخطط للاختفاء إلى الأبد، لكنها أرادت فقط أن تلقن زوجها الذي يسيء معاملتها درسًا لا ينساه، أو بالبلدي تفضحه، أو أنها قررت أن تأتي بشيء آخر يكون مبررًا لها أن تطلب منه الطلاق، في ظل معرفتها باستحالة الطلاق إلا لعلة الزنا ـ وهو ما لم يثبت حتى الآن ـ فهي بالتأكيد سيدة فاضلة بشهادة الجميع واعتراف كل من يعرفها من الأقارب والجيران وزملاء العمل!
يقول مراقبون إنه بعيدًا عن التفاصيل التي اكتنفت هذه القصة، فلعل الدرس الأكثر أهمية في الموضوع، أن ما حدث يعد ضربة لموقف الكنيسة التي تصر على رفض الطلاق إلا لعلة الزنا، فها هي زوجة كاهن من الكنيسة لا تطيق العشرة مع زوجها، فماذا ستفعل معها الكنيسة؟ سؤال صعب، أعتقد أن الكنيسة وحدها هي التي يجب أن تجيب عليه، وإن كان هناك شبه إجماع يسود بين جميع المعنيين بملف الاحتقانات الطائفية في مصر، بأن الكنيسة ستفضل التزام الصمت، ولن تجيب عن سؤال من هذا النوع أبدًا.